أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

بالنسبة إلى المستثنى ( وهو زيد ) إذا لم ينصب فيه قرينة ، كما هو المفروض ولو عند العالم بوضعه المشترك ، ومبيّن بالنسبة إلى المستثنى منه وهو العلماء ، وهذا بعينه نظير الصغير والكبير الذين هما أمران إضافيان مع صرف النظر عن جهل الأشخاص وعلمهم ، فإنّ من له عشرون سنة مثلاً صغير بالنسبة إلى من له ثلاثون سنة ، وكبير بالنسبة إلى من له عشر سنوات ، وبالجملة أنّ المعيار في المقام ليس هو جهل الأشخاص وعلمهم بل الميزان ذات اللفظ وطبعه الأوّلي من دون أن ينصب له قرينة.

المقدّمة الثالثة : أنّ الإجمال تارةً يكون في الهيئة واخرى في المادّة ، والأوّل كإجمال فعل المضارع بالإضافة إلى زمان الحال والاستقبال مع فقد القرينة ، والثاني كإجمال لفظ القرء ، حيث إن المعروف فيه إجماله بين الطهر والحيض.

ثمّ إنّ منشأ الإجمال تارةً يكون الاشتراك اللفظي واخرى كون الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينية أو متّصلاً بلفظ مجمل يسري إجماله إليه نحو « أكرم العلماء إلاّبعضهم ».

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا إشكال في حجّية المبيّن لأنّه إمّا نصّ أو ظاهر وكلاهما حجّتان ، كما لا إشكال في عدم حجّية المجمل إلاّ إذا نصبت قرينة عقليّة أو حاليّة أو مقاليّة توجب خروجه من الإجمال وهذا واضح.

إنّما الكلام في موارد من الآيات والرّوايات التي وقع البحث عنها في كلمات القوم في أنّها هل هي مجملة أو مبيّنة؟ وترك البحث عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ومن تبعه ولكن ذكر صاحب الفصول رحمه‌الله عدّة موارد منها وأطال البحث عنها ، والحقّ بالنسبة إلى بعضها مع المحقّق الخراساني رحمه‌الله وتابعيه ، حيث إن البحث عنه ليس من شأن الاصولي كالبحث عن معنى القطع الوارد في قوله تعالى : ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) في أنّه هل المقصود منه مطلق القطع أو القطع مع إنفصال العضو؟ فإنّ هذا ونظيره من بعض الموارد الاخرى التي ليس البحث فيها سارياً في الأبواب المختلفة من الفقه ـ ليس من شأن الاصولي قطعاً ، بل للبحث عنه محلّ آخر وهو تفسير آيات الأحكام كما لا يخفى ، لكن يوجد بينها موردان ساريان في الأبواب المختلفة من الفقه.

أحدهما : الرّوايات التي وردت بصيغة لا النافيّة للجنس نحو « لا صيام لمن لا يبيّت الصّيام من الليل » و « لا صلاة إلاّبطهور » و « لا صلاة إلاّبفاتحة الكتاب » و « لا نكاح إلاّبولي » وغير

٢٠١

ذلك ممّا تعلّق النفي فيه بنفس الفعل.

ثانيهما : آيات التحريم نحو ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) و ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) و ( حُرِّمَتْ عَلَيكُم الخَمرِ ) و ( حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ) ونظائرها من التحريم المضاف إلى الأعيان.

فلا يخفى أنّ البحث عن هذين الموردين من شأن الاصولي لأنّ في كلّ منهما يمكن أن توجد قاعدة كلّية تقع كبرى لاستنباط الحكم الشرعي.

فنقول : أمّا الجمل المشتملة على « لا » النافيّة للجنس فاختلف في أنّها هل هي من المبيّن أو المجمل؟ فعدّها بعض من المجمل ، مستدلاً بأنّ العرف في مثلها يفهم نفي الصحّة تارةً ونفي الكمال ، اخرى وذلك يوجب التردّد الموجب للإجمال ، والأكثر على أنّها مبيّنة فيحمل النفي على نفي الماهيّة إن قلنا بمذهب الصحيحي ، وإن قلنا بمذهب الأعمّي فيحمل على نفي أقرب المجازات بالنسبة إلى الحقيقة المتعذّرة وهو الصحّة ، وإلاّ فإن تعذّر الحمل على نفي الصحّة أيضاً لقيام قرينة عليه مثلاً ، يحمل على نفي الكمال ، كما أنّه من هذا الباب قوله عليه‌السلام « لا صلاة لجار المسجد إلاّفي المسجد ».

أقول : إنّا نوافقهم عليه في أصل المدّعى ، أي كون المورد المذكور من المبيّن لكن لا بالطريق الذي مشى عليه المشهور من كون المستعمل فيه في كلّ مرتبة من المراتب الثلاثة المذكورة في كلامهم غيره في الآخرين ، بل نقول : أنّ المستعمل فيه في جميع المراتب إنّما هو نفي وجود الماهيّة ، إلاّ أنّه في المرتبة الثانية والثالثة يكون بعد تحقّق إدّعاء ، وهو ادّعاء أنّ عدم الصحّة أو عدم الكمال بمنزلة عدم وجود الماهيّة.

وبهذا يظهر الجواب عمّا اورد على مذهب المشهور وذكره في الفصول من أنّ اللغة لا تثبت بالتراجيح العقليّة لأنّا لم نتجاوز عن المعنى اللغوي لكلمة « لا » ( أي نفي وجود الماهيّة والجنس ) بل حملناها عليه في جميع المراتب ، وعليه فلا تصل النوبة إلى ما ذكره صاحب الفصول في مقام الجواب ، هذا كلّه في المورد الأوّل.

أمّا المورد الثاني : وهو التحريم المضاف إلى الأعيان فعدّه بعضهم من المجمل نظراً إلى أنّ إضافة التحريم إلى العين غير معقولة فلا بدّ من إضمار فعل يصلح أن يكون متعلّقاً له ، وحيث إن الأفعال كثيرة ففي مثل صيد البر يحتمل أن يكون المحرّم اصطياده أو أكله فيصير الكلام مجملاً.

٢٠٢

وأجاب عنه المشهور ( الذين يعدّونه من المبيّن ) بأنّ مثله حيثما يطلق يتبادر منه عرفاً نفي الفعل المقصود منه المناس له كالأكل في المأكول والشرب في المشروب واللبس في الملبوس والنكاح في المنكوح إلى غير ذلك ، وهو كافٍ في ترجيح البعض على بعض آخر ، نعم هذا إنّما يصحّ فيما كان الفعل المناسب له واحداً ، وأمّا إذا كان المناسب متعدّداً كما مرّ في مثال صيد البرّ حيث إنّه يقصد فيه كلّ واحد من الاصطياد والأكل فالقول بالإجمال متّجه.

ثمّ إنّ المشهور أرسلوا تقدير الفعل في المقام إرسال المسلّم بزعم أنّ إضافة التحريم إلى العين غير معقولة مع أنّ الحقّ جواز عدم التقدير بلا إشكال ، بل هو المتعيّن لأنّ التحريم بمعنى الممنوعيّة ، ولا ريب في تعلّق جواز المنع على العين فيقال : إنّ العين ( نفسها ) ممنوعة ( والأصل عدم التقدير ) نعم ينصرف هو إلى الأثر الظاهر والمناسب لكن الانصراف غير التقدير.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقصد الخامس من مباحث الاصول ، وبه تمّ الكلام عن الاصول اللفظية ومباحث الألفاظ ، وانتهينا إلى مباحث القطع والأمارات ومباحث الاصول العمليّة.

٢٠٣
٢٠٤

المقصد السادس

الأمارات المعتبرة

في مباحث القطع

في مباحث الظنّ

٢٠٥
٢٠٦

٦ ـ الأمارات المعتبرة

ويقع البحث فيها في المقامات التالية :

المقام الأوّل : في مباحث القطع

ويجري البحث ابتداء في القطع عادةً بعنوان المقدّمة ، كما يبحث فيه عن أمرين قبل الورود في مسائل القطع :

الأمر الأوّل : في أنّ البحث عن أحكام القطع اصولي أو لا؟

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله أنّها أشبه بمسائل الكلام ، ولعلّه يستفاد من كلمات الشيخ أيضاً ، وصرّح في تهذيب الاصول بأنّه بحث اصولي ، وسكت عنه بعض آخر.

وظاهر كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله أنّها خارجة من مسائل الاصول لأنّ الميزان في كون المسألة اصوليّة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي وحدّاً وسطاً في القياس ، وما للقطع من الأحكام ليس من هذا القبيل قطعاً ، فلا يقال مثلاً « هذا مقطوع الخمريّة ، وكلّ مقطوع الخمريّة حرام ، فهذا حرام » أو « هذا مقطوع الوجوب. وكلّ مقطوع الوجوب واجب شرعاً ، فهذا واجب شرعاً ، فإنّ الوجوب أو الحرمة ثابت لنفس الأشياء بما هي هي لا لمقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة.

وأمّا وجه كونها أشبه بمسائل الكلام أنّ البحث في الكلام بحث عن المبدأ والمعاد وعن الثواب والعقاب ، ومباحث القطع أيضاً يرجع في الواقع إلى البحث عن صحّة مؤاخذة المولى وعدم صحّتها ، فالبحث عن القطع المخطىء مثلاً يرجع إلى أنّه إذا وافقه القاطع فهل على المولى أن يثيبه على الانقياد؟ أو إذا خالفه القاطع فهل للمولى أن يعاقبه على التجرّي؟ فالبحث فيه

٢٠٧

بحث عن الثواب والعقاب الذين هما الميزان في كون المسألة كلاميّة.

وقال في تهذيب الاصول : « أنّ الملاك في كون الشيء مسألة اصوليّة هو كونها موجبة لإثبات الحكم الشرعي الفرعي بحيث يصير حجّة عليه ولا يلزم أن يقع وسطاً للإثبات بعنوانه بل يكفي كونه موجباً لاستنباط الحكم كسائر الأمارات العقلائيّة والشرعيّة » (١).

أقول : كيف يمكن كون الشيء حجّة وبرهاناً من دون وجود صغرى أو كبرى في البين ، ومن دون وقوعه وسطاً لإثبات الكبرى للصغرى ، فإنّ هذا لا يخلو من نحو تهافت وتناقض كما لا يخفى.

والصحيح أن يقال : ليس القطع من المسائل الاصوليّة لعدم كونه دليلاً وحجّة على الأحكام التي يقطع بها بل إنّه نتيجة الدليل ، والدليل هو ما يوجب القطع كالخبر المتواتر الذي نتيجته القطع بالحكم المؤدّي له.

وبعبارة اخرى : أنّ القطع هو نفس المقصد ونفس النتيجة لا ما يوصل إليها كما سيأتي بيانه تفصيلاً في البحث عن حجّية القطع إن شاء الله.

نعم يمكن إدخاله في المسائل الاصوليّة لواحد من هذه الوجوه :

الوجه الأوّل : أن لا يكون المقصود من القطع في ما نحن فيه القطع العقلي بل المقصود منه هو القطع العرفي المعبّر عنه بالاطمئنان ، وهو الظنّ القوي المتاخم بالعلم ، والذي لا ينافي وجود احتمال الخلاف ، وهو الموجود في أكثر الآراء العلميّة والنظريات الفلسفيّة ( إلاّ البديهيات أو شبهها ) كما سنشير إليه أيضاً ، حيث إن حجيّة القطع حينئذٍ تحتاج إلى جعل جاعل واعتبار معتبر فيقع وسطاً للإثبات.

الوجه الثاني : أن نلاحظه بالنسبة إلى بعض مسائله الداخلة في المسائل الاصوليّة قطعاً ، وهو خمسة من السبعة التي ذكرها المحقّق الخراساني رحمه‌الله في مباحث القطع وهي عبارة عن : ١ ـ البحث عن القطع الموضوعي ، ٢ ـ البحث عن أخذ القطع في موضوع نفسه ٣ ـ البحث عن الموافقة الالتزاميّة ٤ ـ قطع القطاع ٥ ـ العلم الإجمالي.

وأمّا المسألتان الاخريان ( وهما مسألة حجّية القطع ومسألة التجرّي ) فأوّليهما خارجة

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٠٨

عن الاصول قطعاً ، والثانية لعلّها من المسائل الفقهيّة كما سيأتي إن شاء الله.

الوجه الثالث : أن نلاحظه بالنسبة إلى بعد زواله حيث إنّه وإن لا يقع وسطاً بملاحظة حين وجوده لكنّه بعد زواله يمكن البحث في أنّ القطع السابق مجزٍ أو لا؟ أو أنّه حجّة أو لا؟

الأمر الثاني : تقسيم الشيخ الأعظم رحمه‌الله

وقد قسّم الشيخ الأعظم رحمه‌الله المكلّف الملتفت إلى أقسام وقال : « المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي فيحصل له إمّا الشكّ فيه أو القطع أو الظنّ ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل وتسمّى بالاصول العمليّة ... إلى أن قال : فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الأوّل : في القطع والثاني : في الظنّ والثالث : في الاصول العمليّة التي هي المرجع عند الشكّ ».

وأوردت عليه إشكالات صارت منشأً لعدول المحقّق الخراساني رحمه‌الله عن هذا التقسيم :

أحدها : أنّ جعل عنوان المكلّف مقسماً يستلزم عدم شمول التقسيم للقطع ببعض الأحكام الظاهريّة أي البراءة ، مع أنّ القطع بالحكم الواقعي يشترك في جميع الأحكام.

وجه الملازمة أنّ البراءة وضعت لمجرّد رفع التحيّر في مقام العمل وليس تكليفاً من التكاليف الشرعيّة ، ولا يصدق فيه عنوان المكلّف الذي هو المقسّم في هذا التقسيم.

ثانيها : أنّ ظاهر قوله « إنّ المكلّف إذا التفت إلى الحكم الشرعي » كونه شاملاً لخصوص ما يرجع إلى نفس المكلّف من الأحكام مع أنّ الأحكام المتعلّقة بالحيض والنفاس والاستحاضة وأشباه ذلك ممّا هو خارج عن ابتلاء المجتهد نفسه لا ترجع إلى نفس المكلّف الملتفت ، فلا بدّ من أخذ المقسّم بحيث يعمّ ما يتعلّق بالمكلّف ومقلّديه معاً.

ثالثها : أنّ المقصود من الظنّ في كلامه إمّا الظنّ المعتبر أو غير المعتبر ، فإن كان المراد منه المعتبر فهو ممّا يوجب القطع بالحكم الظاهري الشرعي المجعول على طبقه فليدخل حينئذٍ في القسم الأوّل أي القطع ، وإن كان المراد الظنّ غير المعتبر فيكون مجرى الاصول العمليّة الشرعيّة ويرجع إلى القسم الثالث أي الشكّ ، فالتثليث في كلامه حينئذٍ لا واقع له بل يرجع حقيقة إلى التثنية.

ولهذه الوجوه من الإشكال عدل المحقّق الخراساني رحمه‌الله عمّا مرّ من تقسيم الشيخ وقال « إنّ

٢٠٩

البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه فأمّا أن يحصل له القطع به أو لا ، وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من أتباع الظنّ لو حصل له ، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة ، وإلاّ فالرجوع إلى الاصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى ... إلى أن قال : وكذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه من تثليث الأقسام ».

أقول : الإنصاف أنّ البحث انحرف عن مسيره الأصلي فالمقصود في هذا التقسيم بيان ممثّل لمباحث الكتاب وتنظيم جدول لأبوابه ، وبما أن مباحثه على ثلاثة أبواب حتّى عند المحقّق الخراساني رحمه‌الله في مقام العمل حيث جعلها على ثلاثة مقاصد أيضاً : مقصد القطع ومقصد الظنّ ومقصد الشكّ ، فالأولى ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله لأنّه ينطبق على مقاصد الكتاب ويتناسب مع الترتيب الملحوظ فيها.

أضف إلى ذلك أنّ المهمّ في المقام هو الحالات الواقعيّة للمكلّف الطارئة عليه في الخارج ، وأن يتداخل بعضها مع بعض آخر في الحكم ، ولا يخفى أنّ الحالات العارضة على المكلّف ثلاثة : القطع والظنّ والشكّ ، فليكن المتّبع حينئذٍ هو التثليث ، كما أنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله اكتفى بالتثنية في خصوص مقام التقسيم ، وأمّا في مقام البيان فعدل إلى ما عدل عنه وكرّ إلى ما فرّ عنه ، ومشى على أساس الحالات الثلاثة لا أحكامها ، وعليه فالإشكال الثالث على تقسيم شيخنا العلاّمة رحمه‌الله وهو إشكال التثليث غير وارد. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ الحكم الظاهري يكون في طول الحكم الواقعي ، فإن الموضوع فيه هو الجهل بالحكم الواقعي والشكّ فيه ، وحينئذٍ لا يصحّ جعلهما في عرض واحد ، وعلى هذا يندفع إشكاله الأوّل وهو خروج الأحكام الظاهريّة عن قسم القطع.

ثالثاً : أنّ المقصود من المكلّف في كلام الشيخ الأعظم هو من وضع عليه قلم التكليف لا خصوص من تنجّز عليه التكليف كي لا يصحّ جعله مقسّماً ، وبعبارة اخرى : المراد من المكلّف هو المكلّف الشأني أي الذي من شأنه التكليف لا المكلّف الفعلي الذي تنجّز عليه التكليف كي نحتاج إلى تقييده بقيد الفعلي كما فعله المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

وأمّا الإشكال الثاني فهو مدفوع بإطلاق قوله « المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي » حيث إن إطلاقه يعمّ ما يتعلّق بالمكلّف نفسه وما يتعلّق بمقلّديه.

٢١٠

ثمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة إلى العلم التفصيلي ، وأمّا العلم الإجمالي ( الذي أشار إليه في مقام التقسيم في تهذيب الاصول حيث قال : « والأولى أن يقال : إذا التفت المكلّف إلى حكم كلّي فأمّا أن يحصل له القطع به ولو إجمالاً أو لا ... » ) فله جهتان فمن جهة انطباق عنوان القطع عليه وكونه نوعاً من القطع لابدّ من طرحه في مبحث القطع ، ومن جهة امتزاجه بنوع من الشكّ لابدّ من طرحه في مبحث الشكّ كما فعله هكذا كلّ من العلمين : شيخنا العلاّمة والمحقّق الخراساني رحمهما الله فتكلّما عنه تارةً في مبحث الشكّ.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم أنّ هيهنا مسائل :

المسألة الاولى : في حجّية القطع

وفيها أيضاً جهتان من البحث : الجهة الاولى : في الدليل على حجّية القطع ، والثانية * في أنّ الحجّية ذاتيّة للقطع.

أمّا الجهة الاولى : فأدلّ الدليل على حجّيته الوجدان بحيث لا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، والحجّة ـ كما لا يخفى ـ معناها ما يمكن به أن يحتجّ العبد على مولاه وبالعكس ، وبعبارة اخرى : ما يكون قاطعاً للعذر ، كما قد يكون مسبّب العذر ، فيكون قاطعاً للعذر عند إصابة الواقع ، وعذراً للعبد إذا خالف الواقع ، وهذا ما يسمّى بالمنجزيّة والمعذّريّة.

أمّا الجهة الثانية : فإنّ المعروف أنّ الحجّية من ذاتيات القطع بالوجدان ، والذاتي ليس قابلاً للجعل ، وبتعبير آخر : أنّها من قبيل لوازم الماهيّة التي لا يمكن جعلها بالجعل البسيط ، بل يتّبع جعلها جعل نفس الماهيّة كالإحراق الذي يجعل بتبع جعل النار بسيطاً ، أي إذا وجدت النار وتحقّقت تحقّق الإحراق بتبعها ، كما لا جعل تركيبيّاً بين الشيء ولوازمه الذاتيّة ، وحاصل ما ذكر : أنّه لا يمكن جعل الحجّية للقطع لأنّها من ذاتياته. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ جعلها يستلزم التسلسل لأنّ نفس هذا الجعل أيضاً يثبت بالقطع فننقل الكلام إليه فإن كان حجّيته ذاتيّة فبها ، وإن احتاجت هي أيضاً إلى جعل آخر فهو أيضاً يثبت من طريق القطع ، ثمّ ننقل الكلام إلى هذا القطع وهكذا فإن انتهى في النهاية إلى ما تكون الحجّية

٢١١

ذاتيّة له فبها وإلاّ يتسلسل ، وهذا هو المقصود من القول المعروف : « إنّ كلّ ما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلى ما بالذات » ويتمسّك به في مثل وجود الممكن وعلمه وقدرته ويقال : أنّه يرجع إلى وجود ذاتي وعلم وقدرة ذاتيين.

وثالثاً : أنّ إمكان الجعل يلازم إمكان المنع عن تأثيره مع أنّه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقاداً في صورتي الخطأ والإصابة ، وحقيقة في صورة الإصابة فقط.

بيان ذلك : أنّه إذا قطع المكلّف بوجوب شيء ونهى الشارع عن العمل بقطعه فإن كان قطعه مصيباً لزم اجتماع الضدّين حقيقة فإنّه على حسب قطعه المصيب واجب ، وعلى حسب نهي الشارع عن العمل بقطعه حرام ، وهو اجتماع الضدّين حقيقة ، وإن كان قطعه مخطئاً لزم اجتماع الضدّين في نظر المكلّف فإنّه على حسب قطعه واجب ولو في اعتقاده ، وعلى حسب نهي الشارع عنه حرام غير جائز ، ومن المعلوم أنّ اجتماع الضدّين ولو اعتقاداً محال كاجتماع الضدّين حقيقة فإنّ المحال كما يستحيل وقوعه خارجاً يستحيل أيضاً الاعتقاد بوقوعه خارجاً.

هذه وجوه ثلاثة لإثبات الحجّية الذاتيّة للقطع.

وأورد على هذه الوجوه :

أوّلاً : بأنّه إن كان المراد من الحجّية الطريقيّة والكاشفيّة فهي ليست لا من لوازم الماهيّة ولا من لوازم الوجود لأنّها إذا كانت من إحديهما لا تنفكّ عن ملزومها ولا تفترق عنه ، والقطع قد يصيب وقد لا يصيب ، ومعه كيف يمكن عدّ الكاشفيّة من ذاتياته أو من لوازم وجوده ، وإن كان المراد منها صحّة الاحتجاج بالقطع فإنّ صحّة الاحتجاج من الأحكام العقلائيّة لا من الواقعيات الثابتة للشيء ، فليست الحجّية حينئذٍ أيضاً من لوازم ماهيّة القطع أو من لوازم وجوده (١).

ثانياً : أنّ الردع عن العمل بالقطع كسلب الحجّية غير ممكن ، لكنّه لا للزوم اجتماع الضدّين لما قرّر في محلّه من عدم التضادّ بين الأحكام لأنّها امور اعتباريّة لا حقائق خارجيّة ، بل للزوم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد ، لأنّ الإرادة الحتميّة الإيجابيّة بالنسبة إلى صلاة

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٤ ، طبع مهر.

٢١٢

الجمعة مثلاً لا تجتمع مع الإرادة التحريمية بالنسبة إليها (١).

أقول : قد انحرف البحث هنا أيضاً عن مجراه الواقعي الأصلي لأنّ إثبات الحجّية للقطع من الطرق المذكورة غير صحيح ، والنكتة الأصلية في المقام أنّ القطع حقيقته الوصول إلى الواقع ( ولا أقلّ أنّه كذلك في نظر القاطع ) والأحكام المترتّبة عليه ليست في الواقع من أحكام نفس القطع بل إنّها من أحكام الواقع والخارج المتعلّق للقطع.

وبعبارة اخرى : أنّ القاطع لا يرى قطعه ، وأنّ القطع ليس طريقاً ومرآة للوصول إلى الواقع بل القطع بنفسه مشاهدة للواقع ووصول إليه فهو حينئذٍ نظير النظر إلى الشمس ، حيث لا يقال حين النظر إليها : إنّي قطعت بالشمس ، بل القطع فيه هو نفس إنعكاس الشمس في الذهن ، فكذلك في ما نحن فيه ، فليست الآثار المترتّبة على القطع آثاراً لنفس تلك الحالة النفسانية بل هي آثار للواقع وتترتّب على الواقع ، ولذلك لا يقع القطع وسطاً لإثبات الحكم ولا يقال : « هذا مقطوع الخمريّة وكلّ مقطوع الخمريّة حرام فهذا حرام » بل يقال : « هذا خمر كلّ خمر حرام » نظير قولك : « هذه نار وكلّ نار حارّة » وأيضاً لا يقال في مقام الاحتجاج على العبد فيما إذا سمح بدخول الدار لعدوّ مولاه مثلاً مع قطعه بكونه عدوّاً له : « إنّك قطعت بأنّه عدوّ ولم تعمل بقطعك » بل يقال : « لِمَ سمحت بدخول العدوّ ولم تمنعه ».

فظهر إلى هنا إنّه لا حاجة إلى إثبات حجّية القطع إلى التمسّك بالوجدان أو التسلسل أو غيرهما بل القاطع يعمل بقطعه ويرتّب آثاره من باب وصوله إلى الواقع لا من باب حجّية القطع.

نعم هذا كلّه بالنسبة إلى شخص القاطع حين قطعه ، وأمّا بالنسبة لما بعد زوال القطع وكذلك بالنسبة إلى غير القاطع ( أي الذهن فوق الذهن ) فلما ذكر من النقض والإبرام في مقام الاستدلال لحجّية القطع شأن.

وحينئذٍ نقول : المقبول عندنا من بين الأدلّة التي اقيمت لحجّية القطع وجهان :

أحدهما : التسلسل ، والبيان الأصحّ والأدقّ فيه أن يقال : إنّ جميع الأدلّة الشرعيّة ترجع دليليتها وحجّيتها إلى القطع ، فلو كان مآل حجّية القطع أيضاً شيئاً غير ذاته يلزم الدور أو التسلسل كما لا يخفى.

__________________

(١) راجع تهذيب الأصول : ج ٢ ، ص ٨٥ ، طبع مهر.

٢١٣

ثانيهما : ما مرّ من اجتماع الضدّين ، وإن شئت فعبّر عنه بالتناقض.

إن قلت : اجتماع الضدّين ليس مستحيلاً في الامور الاعتباريّة.

قلت : إنّه كذلك ، ولكنّه قبيح عن الحكيم ، وبعبارة اخرى : علم العبد بعدم صدور القبيح من المولى يوجب إيجاد التناقض في ذهنه ، وحينئذٍ لا حاجة لتتميم الإشكال إلى ارجاعه بالنسبة إلى ذهن المولى وإرادته كما فعل في تهذيب الاصول بل بهذا البيان يتصوّر هو أيضاً بالنسبة إلى ذهن العبد.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : أنّ هذا كلّه في القطع الحقيقي ، أمّا القطع العادي العرفي وهو المسمّى بالاطمئنان والوارد في الآراء العلميّة والنظرات الفلسفية ( غير البديهيات أو شبهها ) فلا يجري فيه هذا الكلام ، فإن كلّ إنسان يحتمل خطأه في بعض آرائه العلميّة النظريّة مع كثرتها ، ولا يوجد إنسان لا يحتمل الخطأ في شيء من آرائه النظريّة أبداً ، وحينئذٍ نقول : كيف يجتمع العلم في كلّ واحد من هذه الآراء مع احتمال الخطأ في بعضها ، وهل تجتمع الموجبة الكلّية مع السالبة الجزئيّة ، وهذا دليل على أنّ ما نسمّيه قطعاً في المسائل العلميّة في الحقيقة من قبيل الاطمئنان لا القطع الحقيقي الذي لا تجتمع مع احتمال الخطأ أبداً ، فلو تأمّلت في ما ذكرنا تعرف أنّ العلم الحاصل لنا في هذه المسائل من قبيل العلم العرفي لا العلم الحقيقي ، فتدبّر جيّداً.

وفي مثل هذا النوع من القطع يمكن أن تكون حجّيته قابلة للجعل لاستقرار بناء العقلاء على حجّيته ، والشارع أيضاً أمضى ذلك إلاّبالنسبة إلى بعض الموارد ولعلّ من هذا البعض باب الطهارة والنجاسة حيث إن الظاهر أنّه اعتبر فيه حصول القطع الحقيقي الحسّي أو كالحسّي ولم يمض الشارع بناءهم هنا ، وإلاّ يشكل الأمر على كثير من الناس في هذا الباب كما لا يخفى على الخبير.

الأمر الثاني : أنّ ما تقدّم من كون القطع منجزاً للتكليف أو معذّراً له إنّما هو فيما إذا كان التكليف المتعلّق به القطع فعليّاً لا إنشائيّاً محضاً ، ولذلك ينبغي الإشارة هنا إلى مراتب الحكم فنقول : قد ذكروا للحكم مراتب أربع :

الاولى : مرتبة الاقتضاء وهي مرتبة الملاك والمصلحة.

٢١٤

الثانية : مرتبة الإنشاء وهي مرتبة جعل القانون وضرب القاعدة من دون أن يكون فيه انفاذ للحكم ولا إعلام به ، وهذا نظير القوانين العرفيّة قبل ابلاغها إلى المأمورين للإجراء.

الثالثة : مرتبة الفعلية وهي مرتبة الانفاذ والابلاغ للمكلّفين والبعث والزجر.

الرابعة : مرتبة التنجّز وهي مرتبة انقطاع عذر المكلّف ببلوغ الحكم إليه وقدرته عليه فإذا علم به وهو متمكّن من امتثاله فقد تنجّز عليه التكليف عقلاً والعقل حاكم باستحقاق العقاب عليه إذا خالفه بلا عذر ، فالحكم قبل أن يبلغ إلى مرتبة التنجّز وقبل حصول شرطيّه وهما العلم والقدرة لا يوجب ترك امتثاله عقاباً للعبد ، والحاكم به العقل ، وإذن ليست هذه المرتبة حقيقة من مراتب الحكم ، كما أنّ عدّ المرتبة الاولى ( وهي مرتبة المصلحة والمفسدة ) من مراتب الحكم أيضاً لا يخلو من مسامحة.

هذا في دائرة القوانين أعمّ من الشرعيّة والعرفيّة ، وأمّا في الأوامر العرفيّة العادية الجارية بين الموالي والعبيد فلا إشكال في أنّ له مرتبة واحدة من هاتين المرتبتين ، وهي مرتبة البعث أو الزجر كما إذا قال : « اسقني ماءً » لعدم تصوّر الإنشاء فيها منفصلاً عن مرحلة البعث والزجر عادةً كما لا يخفى.

المسألة الثانية : في أحكام التجرّي

إذا قطع الإنسان بحرمة شيء وإرتكبه ثمّ إنكشف الخلاف وعدم مطابقة قطعه للواقع ، كما إذا قطع بأنّ هذا المايع خمر فشربه ، ثمّ تبيّن أنّه ليس بخمر ، أو قطع بأنّ هذا غصب فتصرف فيه ، ثمّ تبيّن أنّه ماله فهل فعل حينئذٍ حراماً أو لا؟ وقع البحث فيه بين الأعلام.

ولكن ينبغي ذكر مقدّمتين قبل الورود في أصل المسألة والأقوال الموجودة فيها :

المقدمة الاولى : أنّه تتصوّر في إرتكاب شيء مراحل أربع :

أحدها : النيّة بمراحلها ( سيأتي أنّ للنيّة مراحل عديدة ).

ثانيها : إرتكاب مقدّمات الفعل.

ثالثها : إرتكاب ذي المقدّمة.

رابعها : مرحلة الإصابة للواقع وعدمها ، ولا شكّ في أنّ التجرّي صادق بالنسبة إلى كلّ

٢١٥

مرحلة من هذه المراحل ، فمن نوى ولم يأت بالعمل أو أتى بالمقدّمة ولم يأت بذي المقدّمة أو أتى بذي المقدّمة أيضاً ولكن لم يصب قطعه الواقع أو أصاب قطعه بالواقع أيضاً ، ففي جميع هذه المراحل قد تجرّى على مولاه ، نعم في مصطلح الاصوليين يطلق التجرّي على خصوص المرحلة الثالثة فقط ، أي ما إذا نوى وأتى بالمقدّمة وذي المقدّمة ولم يصب الواقع ، ولا يخفى أنّ نفس هذا الكلام وهذه المراحل بأسرها تجري في الإنقياد أيضاً.

المقدمة الثانية : هل هذه المسألة مسألة اصوليّة أو فقهيّة أو كلاميّة؟

ذهب المحقّق الحائري رحمه‌الله في درره إلى أنّها قابلة لكلّ منها وقال : « أنّ النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة وعدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلاميّة ، ويمكن أن يقع النزاع في أنّ إرتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا؟ فيكون المسألة من المسائل الاصوليّة التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل أعني إرتكاب ما قطع بحرمته مثلاً حراماً شرعاً أو لا؟ فتكون من المسائل الفقهيّة » (١).

أقول : الإنصاف أنّ المسألة فقهيّة ولا غير ، أمّا كونها فقهيّة فلأنّ نتيجتها وهي حرمة التجرّي حكم كلّي فرعي قابل للانطباق على مصاديقه الجزئيّة وحيث يمكن للفقيه أن يكتب في الرسالة العمليّة : أنّ من نوى حراماً وفعل مقدّماته ولم يطابق الواقع فقد فعل حراماً أو لم يفعل حراماً.

وبعبارة اخرى : أنّ نتيجتها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط حتّى تستنتج منها حكماً كلّياً فرعياً بل هي نفسها حكم كلّي فرعيى ، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من كونها من القواعد الفقهيّة.

وأمّا عدم كونها كلاميّة فلأنّ البحث فيها بحث عن صغرى موضوع علم الكلام ، حيث إن موضوعه هو كبرى : أنّ المعصية هل توجب العقاب أو لا؟ بينما البحث في المقام بحث في صغرى المعصية ، أي في أنّ فعل المتجرّي معصية أو لا؟

وإلاّ فإن كانت هذه مسألة كلاميّة يلزم أن يكون كلّ فرع فقهي من مسائل الكلام ، والإنصاف أنّ عدّها من علم الكلام من ناحية هذا المحقّق بعيد من مقامه.

__________________

(١) درر الفوائد : ص ٣٣٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢١٦

وأمّا عدم كونها اصوليّة فلما أشرنا إليه من أنّ المسألة الاصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلّي الفرعي وليست هي بنفسها حكماً كلّياً فرعياً.

وأمّا ما ذكره في توجيه كونها اصوليّة من أنّ البحث فيها بحث عن الحسن والقبح ووجود الملازمة بين حكم العقل والشرع.

ففيه : أنّه أيضاً من الخلط بين الصغرى والكبرى ، حيث إن الاصولي في مسألة الحسن والقبح يبحث في كبرى « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » بينما في ما نحن فيه يبحث في أنّ التجرّي هل يحكم العقل بقبحه حتّى يكون صغرى لتلك الكبرى وتكون النتيجة حرمته عند الشرع أيضاً أو لا؟ وهذا واضح.

وهيهنا كلام للمحقّق النائيني رحمه‌الله : وهو « أنّ الإنصاف أنّ إحراز الشيء لا يكون مغيّراً لما عليه ذلك الشيء من المصلحة والمفسدة ، وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغيّر لجهة حسنه وقبحه لوضوح أنّ العلم بخمريّة ماء وتعلّق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عمّا هو عليه وصيرورته قبيحاً ، فدعوى أنّ الفعل المتجرّي به يكون قبيحاً ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة واضحة الفساد » (١).

أقول : جوابه واضح ، لأنّ القائل بالحرمة لا يقول : أنّ شرب الماء بعنوانه حرام بل لم يقل بحرمته بعنوانه أحد ، بل يقول : إنّ الشارب للماء بنيّة شرب الخمر قد تجرّأ على المولى ، وأوقع نفسه في مقام الهتك عليه فينطبق على شربه عنوان الهتك والجرأة على المولى ، ولذلك أي لأجل هذا الانطباق صار شرب الماء حراماً ، وبعبارة اخرى : أنّ عنوان التجرّي عنوان من العناوين الثانويّة ، وفي كلامه وقع الخلط بينها وبين العناوين الأوّليّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة :

أوّلها : الحرمة ، وذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ومن تبعه.

الثاني : عدم الحرمة ، ومال إليه شيخنا الأعظم في الرسائل.

الثالث : التفصيل بين الحالات المختلفة المتصوّرة في المقام ، وهذا هو الذي اختاره صاحب الفصول رحمه‌الله وسيأتي أنّه ليس بتفصيل ، بل يرجع في الواقع إلى القول بالحرمة مطلقاً.

__________________

(١) درر الفوائد : ج ٣ ، ص ٤١ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢١٧

واستدلّ القائلون بالحرمة بوجوه خمسة :

الوجه الأوّل : الإجماع المستفاد من موارد من الفقه :

منها : باب السفر الحرام ، فإنّ الإجماع قام على حرمة سفر من يخاف على نفسه من الضرر أو الخطر المحتمل وجوده في الطريق وإن انكشف خلافه بعد.

ومنها : باب أوقات الصّلاة ، فالإجماع قام على عدم جواز تأخير الصّلاة لمن يظنّ ضيق الوقت ، فلو تأخّرها عصى وإن تبيّن بعد عدم ضيق الوقت.

وفيه : أوّلاً : أنّ الإجماع في مثل هذه المسألة التي لها مدارك مختلفة ليست بحجّة وكاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام.

ثانياً : الإجماع في الفرع الثاني ليس بثابت ، لذهاب بعض الفقهاء إلى عدم المعصية إذا انكشفت سعة الوقت ، وأمّا الفرع الأوّل فيمكن أن يقال : إنّ موضوع الحرمة فيه هو نفس خوف الضرر والخطر لا الضرر الواقعي ، وحينئذٍ لا يتصوّر كشف الخلاف ، فإن الخوف موجود واقعاً على كلّ حال.

الوجه الثاني : بناء العقلاء على عقاب المتجرّي على المولى.

وجوابه واضح ، لأنّه أوّل الكلام ولا دليل عليه ، نعم أصل المذمّة والحكم بالقبح من ناحيتهم ممّا لا إشكال فيه لكن حكمهم بالعقاب ليس ثابت.

إن قلت : حكم العقلاء من حيث هم عقلاء بالقبح يلازم العقاب الشرعي بقاعدة الملازمة.

قلنا : لا ملازمة بين العقاب الشرعي والقبح العقلي في جميع مراتبه لأنّ للقبح درجات : منها درجة تشبه الكراهة التي لا عقاب على إرتكابها بلا خلاف ، بل الملازمة ثابتة بين العقاب الشرعي والقبح العقلي الذي يحكم العقل بلزوم تركه أيضاً ، كما أنّ الحسن العقلي أيضاً لا يلازم الوجوب الشرعي في جميع مراتبه ، حيث إن للمستحبّات العقليّة أيضاً درجة من الحسن لا تبلغ حدّ الإلزام.

الوجه الثالث : دليل العقل وبيانه : أنّه إذا نوى شخصان شرب الخمر وإرتكبا مقدّماته وشرب كلّ منهما ما قطع بخمريته فأصاب قطع أحدهما بالواقع دون الآخر فالحكم في المسألة حينئذٍ لا يخلو من أحد احتمالات أربعة : فأمّا أن نحكم باستحقاق كليهما للعقاب وهو المطلوب ، أو نقول بعدم استحقاق كليهما له وهو كما ترى ، والاحتمال الثالث استحقاق المخطىء له وعدم

٢١٨

استحقاق المصيب ، وهذا ممّا لا يتفوّه به أحد ، والرابع عكس الثالث وهو يستلزم الترجيح بالإصابة التي هي خارجة عن الاختيار ، وهو محال ، فيتعيّن الاحتمال الأوّل ، وهو استحقاق كلا الفردين للعقاب ، فيثبت حينئذٍ حرمة التجرّي.

وجواب هذا الوجه أيضاً معلوم ، وهو إنّا نختار الاحتمال الرابع ونلتزم بالتفاوت والترجيح المذكور ، فإنّه لا إشكال في أنّ عدم العقاب لأمر غير اختياري ممّا لا استحالة فيه ، نظير عدم العقاب الناشىء من تعطيل مراكز الفساد الخارج عن اختيار المكلّفين ، بل الإشكال ثابت في العقاب لأمر غير اختياري.

الوجه الرابع : روايات سيأتي ذكرها وتدلّ على أنّ نيّة المعصية معصية كما يأتي أيضاً الجواب عنها.

الوجه الخامس : ( ولعلّه العمدة ) الوجدان ، حيث إن الوجدان قاضٍ بأنّ من تجرّى على مولاه فقد هتك حرمة مولاه وخرج عن رسم العبوديّة وهو يوجب الاستحقاق للعذاب.

وجوابه : أنّ التجرّي على قسمين : تارةً يكون المتجرّي في مقام الهتك على المولى ، ولسان حاله أنّي افعل هذا عناداً وهتكاً ومعارضة للمولى ، وهذا قد يكون سبباً للكفر فضلاً عن الفسق.

واخرى ليست نيّته الهتك والمعارضة بل يقول : غلبني هواي ويقرّ ويعترف على تقصيره كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين عليه‌السلام : « إلهي ما عصيتك حين عصيتك وأنا لربوبيتك جاهل ولا لأمرك مستخفّ بل خطيئة عرضت لي وسوّلت لي نفسي وغلبني لي هواي » فإنّ هذا ليس هتكاً قطعاً ، حيث إن الهتك من العناوين القصديّة ، والعاصي في هذه الصورة ليس قاصداً للجرأة على مولاه.

ومن هنا يعلم أنّ من قصد قتل مولاه ولم يقتله كمن صبّ السمّ مثلاً في طعامه ولكن لم يأكله اتّفاقاً فإنّه إنّما يعاقب من باب الهتك والجرأة والمعارضة وانطباق عناوين قصديّة محرّمة على فعله لا من باب التجرّي في مصطلح الاصوليين ، وبعبارة اخرى : موضع النزاع في ما نحن فيه هو المتجرّي في مصطلح الاصوليين أي مطلق من نوى حراماً وأتى بمقدّماته ولم يصبّ الواقع ، لا المتجرّي في اللغة الذي يلازم الجرأة والهتك ، بل أنّه خارج عن محلّ البحث ، وكأنّه وقع الخلط بين المعنيين في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

٢١٩

الوجه السادس : ما نقله المحقّق النائيني رحمه‌الله عن السيّد الشيرازي الكبير سيّد أساتذتنا ، وهو مركّب من أربع مقدّمات :

الاولى : أنّ وظيفة المولى إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ووظيفة العبد وجوب الإطاعة بحكم العقل.

الثانية : أنّه فرق بين حسن الطاعة وقبح المعصية ، وبين حسن الإحسان وقبح الظلم ، لأنّ الأوّلين يرتبطان بسلسلة معاليل الأحكام والأخيرين يرتبطان بسلسلة علّلها.

الثالثة : أنّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو إرتكاب ما يعلم مخالفته للتكليف لا ما يكون مخالفاً واقعاً ، فالمهمّ إذن هو العلم بالتكليف لا إصابة ذلك العلم للواقع وإلاّ لتعطّلت الأحكام حيث لا يمكن إحراز الإصابة في مورد ، وعليه فالمتجرّي والعاصي على حدّ واحد من حيث وجود مناط استحقاق العقوبة فيهما.

الرابعة : أنّ الميزان في استحقاق العقوبة إمّا القبح الفعلي أو الفاعلي ، والأوّل واضح البطلان إذ يلزم استحقاق العقاب على شرب الخمر واقعاً باعتقاد أنّه خلّ ، فيتعيّن الثاني ، وهو في المتجرّي والعاصي على حدّ سواء.

أقول : أوّلاً : لا دخل للمقدّمة الاولى والثانية في المقام مع صحّتهما في أنفسهما كما لا يخفى.

وثانياً : يصلح كلّ من المقدّمة الثالثة والرابعة أن يكون برهاناً مستقلاً على استحقاق المتجرّي للعقاب.

وثالثاً : ( بالنسبة إلى قوله في المقدّمة الثالثة ) المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب ليس هو العلم بالتكليف فقط بل إنّنا نختار أنّ الإصابة للواقع أيضاً شرط ، ولكنّها حاصلة لدى المتجرّي في نظره لأنّ القاطع يرى قطعه مطابقاً للواقع ، فهو دائماً يحرز التكليف ويرى نفسه مستحقّاً للعقاب على تقدير المخالفة فلا يلزم تعطيل الأحكام.

ورابعاً : قوله في المقدّمة الرابعة مبني على انقسام القبح إلى خصوص الفعلي والفاعلي مع إنّا نختار وجهاً ثالثاً ، وهو كون الميزان مجموع القبحين ، فتكون التفرقة بين العاصي والمتجرّي صحيحة بلا لزوم إشكال.

فظهر إلى هنا عدم وجود دليل على حرمة المتجرّي واستحقاق العقاب عليه.

٢٢٠