أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

تاريخ ومن أيّ شخص مثلاً بل وضع اللفظ لذوات الأفراد فقط ، وأمّا كلمة زيد فهي وضعت للفرد بما هو فرد وللشخص بما هو متشخّص ومتعيّن عن سائر الافراد ، كذلك في ما نحن فيه ، فإنّ الأسد وضع لذلك الحيوان المتعيّن خارجاً من دون أن يكون لتعيّنه دخل في الموضوع له ، وأمّا الاسامة فإنّها وضعت لذلك المتعيّن بما هو متعيّن وممتار عن سائر الأجناس.

إن قلت : ما هو حكمة الوضع حينئذٍ ، قلنا : لا يبعد أن تكون الحكمة في ذلك أنّه كما أنّا قد نحتاج في الاستعمال أن ننظر إلى ذلك الحيوان المفترس ( مثلاً ) ونلاحظه من دون لحاظ تميّزه عن سائر الحيوانات بل يكون النظر إلى مجرّد الماهيّة ، فلا بدّ من وضع لفظ يدلّ على نفس الماهيّة فقط ، كذلك قد نحتاج إلى النظر إليه بوصف تميّزه عن سائر الأجناس ، فنحتاج حينئذٍ إلى وضع لفظ للماهيّة بوصف تميّزها وتعيّنها ، فتأمّل.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ علم الجنس أيضاً يقع مصبّاً للإطلاق والتقييد كاسم الجنس من دون إشكال.

ثالثها : « المفرد المحلّى باللام »

وقد عرفت في مبحث العام والخاصّ أنّ الألف واللام تارةً تكون لتعريف الجنس ، واخرى للاستغراق وثالثة للعهد ، ولا يخفى أنّه يأتي في القسم الأوّل ما مرّ من السؤال والجواب المذكور في علم الجنس ، ولذلك ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّها للتزيين لا للتعريف ، ولكن بناءً على ما بيّناه في علم الجنس يظهر لك الحكم هيهنا أيضاً لأنّه حينئذٍ يكون الفرق بين « إنسان » و « الإنسان » مثلاً أنّ الأوّل يدلّ على مجرّد ماهيّة الإنسان من دون أن يلاحظ تميّزه عن سائر الأجناس والموجودات ، وأمّا الثاني فإنّه يشار به إلى تلك الماهيّة بوصف كونه متميّزة ومتشخّصة عن غيرها.

وأمّا القسم الأخير وهو لام العهد فلا إشكال في كونها للتعريف ، وهي في مثال الإنسان إمّا أن تكون إشارة إلى الإنسان المذكور في الكلام ، أو الإنسان المعهود في الذهن ، أو الإنسان الحاضر ، وهكذا القسم الثاني أي لام الاستغراق فهي أيضاً للتعريف ، ويدلّ على أقصى مراتب الجمع كما مرّ بيانه في الجمع المحلّى باللام في باب العام والخاصّ لأنّه هو المتعيّن خارجاً بخلاف سائر المراتب كما بيّناه سابقاً.

١٨١

ولا يخفى أنّ ما يكون مصبّاً للإطلاق والتقييد هو القسم الأوّل فقط أي ما هو لتعريف الجنس.

رابعها : النكرة

وهي نفس اسم الجنس إذا دخل عليه تنوين النكرة نحو إنسانٌ ورجلٌ ، فوقع الكلام في تبيين حقيقتها وبيان الفرق بينها وبين اسم الجنس فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى التفصيل بين موارد استعمالها بما حاصله : أنّ الاستعمالات مختلفة فتارةً يكون مثل « جاءني رجلٌ » فيكون مفهوم النكرة حينئذٍ هو الفرد المعيّن في الواقع المجهول في الظاهر ، واخرى يكون مثل « جئني برجل » فيكون مفهومها الطبيعة المقيّدة بالوحدة لا تعيّن لها لا في الواقع ولا في الظاهر لأنّها حينئذٍ صادقة على كثيرين ، ثمّ أضاف وقال : « وليس مفاده الفرد المردّد بين الأفراد وذلك لبداهة كون لفظ « رجل » في « جئني برجل » نكرة مع أنّه يصدق على كلّ من جيء به من الأفراد ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره كما هو قضية الفرد المردّد لو كان هو المراد منها ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو لا هو أو غيره ».

وقال شيخنا المحقّق الحائري رحمه‌الله في درره : « أنّ النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد وأنّه في كليهما جزئي حقيقي ، بيانه : أنّه لا إشكال في أنّ الجزئيّة والكلّية من صفات المعقول في الذهن وهو إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي وإلاّ فكلّي وجزئيّة المعنى في الذهن لا تتوقّف على تصوّره بتمام تشخّصاته الواقعيّة ، ولذا لو رأى الإنسان شبحاً من البعيد وتردّد في أنّه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردّد عن الجزئيّة » (١).

أقول : الإنصاف في المقام هو وجه ثالث ، وهو أن يكون الموضوع له كلّياً في جميع الموارد لكن مع قيد الوحدة ففي « جاءني رجل من أقصى المدينة » أيضاً يكون الموضوع له كلّياً لكنّه ينطبق على فرد خاصّ وتستفاد الجزئيّة من تطبيق الكلّي على الفرد كما في « زيد إنسان » ويكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول ، أي استفيدت الوحدة والجزئيّة من التنوين ، واستفيدت الطبيعة من اسم الجنس الداخل عليه التنوين لا أن تكون الجزئيّة جزءً للموضوع له وإلّإ

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٨٢

يستلزم تغيير الموضوع له في الاستعمالات المختلفة والجمل المستعمل فيها النكرة وهو بعيد جدّاً.

وأمّا ما أورده المحقّق الخراساني رحمه‌الله على كون النكرة بمعنى الفرد المردّد فغير وارد ، لأنّا نسأل ما هو مقصود المولى في مثال « جئني بهذا أو هذا »؟ فأمّا أن يكون المقصود الجزئي الحقيقي المعلوم في علم الله تعالى وما أظنّ أحداً يقول به ، أو يكون المقصود هو مفهوم أحدهما وهو خلاف الظاهر لأنّه يستلزم تبديل « هذا أو هذا » إلى كلّي جامع بينهما ، فيتعيّن أن يكون المقصود في هذا المثال الفرد المردّد ، فليكن كذلك ما هو بمنزلته وهو مثل « جئني برجل » فإنّه بمنزلة أن يقال : جئني بهذا الرجل أو ذاك أو ذاك إلى آخر الأفراد.

إن قلت ( كما قال به المحقّق الخراساني رحمه‌الله ) : أنّ لفظ « رجل » يصدق على كلّ من جيء به من الأفراد بخلاف الفرد المردّد ( وهو مفهوم هذا أو غيره ) لأنّه لا يكاد يكون واحد من الأفراد هذا أو غيره ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو لا هو أو غيره.

قلنا : يكفي في صدق مفهوم الفرد المردّد ( هذا أو غيره ) صدق أحد جانبيه ، لأنّ العطف فيه يكون بكلمة « أو » لا الواو ، ولا إشكال في أنّ مقتضى طبيعة مفهوم « هذا أو غيره » ( لمكان كلمة « أو » ) الصدق على كلّ واحد من الطرفين كما لا يخفى.

نعم ، يرد على الفرد المردّد إشكال آخر ، وهو أنّ المتكلّم إنّما يقصده فيما إذا كانت الأفراد قابلة للاحصاء وإلاّ فلا يمكن أن يكون مقصوداً بل لابدّ حينئذٍ من تصوّر كلّي جامع يكون عنواناً ومرآةً للأفراد إجمالاً ، وهذا الكلّي لا يمكن أن يكون الفرد المردّد لأنّه بمنزلة « هذا أو هذا » فيحتاج فيه إلى تصوّر جميع الافراد تفصيلاً لمكان كلمة « أو » وهو لا يمكن في مثل « جئني برجل » الذي لا يحصى عدد الأفراد فيه. فإنّ هذا هو النكتة الأصليّة في الأشكال على الفرد المردّد لا ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم انطباقه على الخارج.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الموضوع له في النكرة مطلقاً هو الكلّي المقيّد بقيد الوحدة ، وأمّا هل هو قابل لأن يكون مصبّاً للإطلاق والتقييد أو لا؟ فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في كونه كذلك ، فإذا إجتمعت فيها مقدّمات الحكمة دلّ على الشياع والسريان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

١٨٣

المقام الثاني : في أنّ استعمال المطلق في المقيّد حقيقة أو مجاز؟

والأقوال فيه ثلاثة :

الأوّل : ما حكي عن سلطان العلماء ومن تبعه من أنّ استعمال المطلق في المقيّد حقيقة مطلقاً.

الثاني : هو المجاز مطلقاً.

والثالث : التفصيل بين التقييد بالمتّصل والتقييد بالمنفصل ، فحقيقة في الأوّل دون الثاني.

والتحقيق في المقام يستدعي ذكر مقدّمة وهي : أنّ للمطلق معنيين :

أحدهما : المطلق قبل إجراء مقدّمات الحكمة الذي نعبّر عنه بمصبّ الإطلاق والتقييد وهو المفهوم اللاّبشرط.

ثانيهما : المطلق بعد إجراء مقدّمات الحكمة وهو الشائع في جنسه والساري في أفراده ، ولا ريب أنّ محلّ البحث في المقام هو المعنى الأوّل لا الثاني ، لأنّ في المعنى الثاني فرض عدم القيد الذي هو إحدى مقدّمات الحكمة فلا معنى حينئذٍ لأن نبحث في أنّ استعماله في المقيّد هل هو حقيقة أو مجاز؟

ومن هنا يعلم أنّ من أخذ معنى الشيوع والسريان في مفهوم المطلق يحتاج إمّا إلى إجراء مقدّمات الحكمة أو إلى الالتزام بأخذ السريان في مفهوم المطلق بحسب الوضع كما نسب إلى القدماء من الاصوليين ، وإلاّ فقبل جريان المقدّمات ومن دون أخذ السريان في ذات المطلق ووضعه له لا يدلّ على الشيوع والسريان بل أنّه حينئذٍ كما يمكن أن يكون مصبّاً للإطلاق ، فيدلّ على الشيوع ، كذلك يمكن أن يكون مصبّاً للتقييد فلا يدلّ على الشيوع.

وكيف كان ، هل استعمال المطلق في المقيّد حقيقة أو مجاز؟ الحقّ التفصيل بين ثلاث حالات وكونه حقيقة في حالتين منها ومجازاً في حالة اخرى.

الاولى : ما إذا كان استعماله في المقيّد بنحو تعدّد الدالّ والمدلول بأن يراد أصل الطبيعة من المطلق ويراد القيد من قرينة حاليّة أو مقاليّة ، كقوله : « اعتق رقبة مؤمنة » فإنّ الذوق السليم يقضي بأنّ لفظ المطلق وهو « رقبة » في المثال يدلّ على نفس الطبيعة وهو الماهيّة اللاّبشرط ، ولفظ « مؤمنة » يدلّ على القيد لا أنّ الرقبة استعملت في المقيّد وكانت المؤمنة قرينة على ذلك ، وعليه يكون الاستعمال حقيقة.

الثانية : أن يكون من قبيل التطبيق نحو « جاءني رجلٌ » فإنّ المراد فيه رجل خاصّ وفرد

١٨٤

معيّن منه ، وفي هذه الصورة أيضاً يكون الاستعمال حقيقة لأنّ الرجل استعمل في معناه الحقيقي وهو الماهيّة اللاّبشرط ، لكنّه إنطبق على فرد واحد ومصداق واحد وهو لا يوجب المجازيّة بلا إشكال.

الثالثة : استعمال المطلق في المقيّد بأن اريد القيد من نفس المطلق لا من دالّ آخر كما إذا اريد « الرقبة المؤمنة » من لفظ الرقبة فلا إشكال في كونه مجازاً في هذه الصورة من غير فرق في ذلك بين المختار وهو وضع المطلق للماهيّة اللاّبشرط وبين مسلك مشهور القدماء كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أنّ القول المنسوب إلى القدماء يستلزم المجازيّة مطلقاً ( إلاّ في الصورة الثانية ) لأنّ استعمال المطلق في المقيّد حينئذٍ يكون نظير استعمال العام وإرادة الخاصّ ، حيث إن الرقبة مثلاً بناءً على هذا المسلك يكون بمنزلة « أي رقبة » فاستعمالها في خصوص المؤمنة بمنزلة استعمال العلماء مثلاً في خصوص زيد.

المقام الثالث : في دلالة المطلق على الشمول والسريان وبيان مقدّمات الحكمة

نسب إلى مشهور القدماء أنّ دلالته عليه بمقتضى الوضع ، فوضع لفظ الإنسان مثلاً للشمول والسريان في أفراده ، لكن ذهب سلطان العلماء رحمه‌الله إلى أنّه ناشٍ من مقدّمات الحكمة وتبعه مشهور المتأخّرين.

وحاصل ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام عدم صحّة النسبة المذكورة إلى المشهور بل أنّهم أيضاً كانوا يستفيدون الشياع من مقدّمات الحكمة ، ولعلّ وجه هذه النسبة ملاحظة تمسّكهم بالإطلاقات مع قطع النظر عن إحراز كون المتكلّم في مقام البيان بينما الوجه في تمسّكهم هذا أنّ الأصل عندهم فيما إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام المراد أو لا ـ كونه بصدد بيان تمام المراد ، فإنّهم لم يعتبروا هذه المقدّمة اعتماداً على هذا الأصل.

أقول : ويشهد لصحّة هذه النسبة أمران : أحدهما : ما جاء في تعريفهم للمطلق بأنّه ما دلّ على الشياع بنفسه ، فالظاهر من كلمة « ما دلّ » أنّ الدالّ على الشياع هو اللفظ كما لا يخفى.

ثانيهما : ما نسب إليهم من أنّ المطلق مجاز فيما إذا استعمل في المقيّد.

١٨٥

وكيف كان ، فالإنصاف في المسألة بطلان ما نسب إليهم وأنّ الصحيح كون الشياع مستفاداً من مقدّمات الحكمة وذلك لوجهين :

أحدهما : التبادر فإنّ المتبادر من إطلاق اسم الجنس مثل لفظ الإنسان مثلاً صرف الطبيعة مجرّدة عن سريانها في أفرادها ، وكذلك في النكرة كقولك « رأيت إنساناً ».

ثانيهما : أنّ الوضع يستلزم المجاز فيما إذا استعمل المطلق في المقيّد نحو « جئني برجل عالم » مع أنّه خلاف الوجدان.

وأمّا « مقدّمات الحكمة فما هي؟ » فاختلفت كلمات الأصحاب في تعدادها فقيل أنّها أربعة :

أحدها : كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ثانيها : عدم بيان القيد ، ثالثها : عدم الانصراف ، رابعها : عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

والمحقّق الخراساني رحمه‌الله جعلها ثلاث مقدّمات بادغام المقدّمة الثالثة في الثانية. بقوله :

« ثانيها انتفاء ما يوجب التعيين » فإنّ الانصراف أيضاً ممّا يوجب التعيين كالقيد كما لا يخفى.

وحذف المحقّق النائيني رحمه‌الله المقدّمة الأخيرة ( وهي عدم وجود القدر المتيقّن ) فالمقبول من المقدّمات الأربعة عنده اثنتان : إحديهما : كون المتكلّم في مقام البيان ، ثانيهما : انتفاء ما يوجب التعيين ، لكنّه أضاف إليهما مقدّمة اخرى وهي أن يكون متعلّق الحكم أو موضوعه قابلاً للتقييد ، وهو ناظر فيها إلى التقسيمات اللاحقة عن الأمر كانقسام الواجب إلى ما يقصد به امتثال أمره وما يقصد فيه ذلك وإنقسام المكلّف إلى العالم والجاهل بالحكم ، فحيث إنّه لا يمكن مثلاً تقييد متعلّق الأمر بقصد الأمر على رأيه لما هو معروف من إشكال الدور لا يمكن الأخذ بإطلاقه أيضاً.

وهنا مذهب آخر يستفاد من كلمات شيخنا الحائري في الدرر وهو حذف المقدّمة الاولى أيضاً ، فاللازم البحث عن كلّ واحد من هذه المقدّمات الخمسة حتّى يعلم ما يصحّ اعتباره وما لا يصحّ.

فنقول : أمّا المقدّمة الاولى : فهي لازمة بالوجدان حيث إن الوجدان أقوى شاهد على عدم صحّة الأخذ بإطلاق كلام المولى إذا لم يكن في مقام بيان تمام المراد ، فإذا قال مثلاً ، « اشتر لي ثوباً » أو « اشتر أثاثاً للبيت » فلا يصحّ للعبد أن يشتري من السوق لباساً أو أثاثاً أيّاماً كان ويتمسّك عند الاحتجاج بإطلاق كلامه ، نعم إذا شكّ في أنّ المتكلّم هل كان في مقام بيان تمام

١٨٦

المراد أو لا؟ فإنّ الأصل هو كونه بصدد بيان تمام المراد كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله وغيره ، فيكون كونه في مقام الإجمال والإهمال أمراً استثنائياً خلاف الأصل.

لكن شيخنا الحائري رحمه‌الله خالف في ذلك في درره ( بعد قبوله في صدر كلامه ) وإليك نصّ بيانه : « أنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث ، ولا إشكال أنّه لو كان المراد المقيّد يكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة وإنّما ينسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتّحاد ، فنقول : لو قال القائل « جئني بالرجل » أو « برجل » يكون ظاهراً في أنّ الإرادة أوّلاً وبالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد ثمّ أضاف إرادته إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد ، وبعد تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد وهذا معنى الإطلاق » (١).

أقول : توضيح كلامه : أنّ الطبيعة المهملة لا تخلو في الواقع من حالتين ، فإمّا هي مطلقة ، أو مقيّدة لعدم الإهمال في مقام الثبوت ، فإن كان المراد في الواقع مطلقاً فهو المطلوب ، وإن كان مقيّداً فيستلزم كون تعلّق الحكم والإردة بالمطلق تبعيّاً مع أنّ المولى إذا قال : « اعتق رقبة » ولم يقيّده بقيد المؤمنة فإنّ ظاهره أنّ الإرادة تعلّقت بطبيعة الرقبة استقلالاً ، وهذا الظهور يسري إلى تمام الأفراد ، وهذا هو معنى الإطلاق.

لكن يرد عليه أمران :

الأوّل : ( وهو العمدة ) ، أنّ حديث الأصالة والتبعيّة في الإرادة يتصوّر في لوازم الماهيّة كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة فإنّه إذا تعلّقت الإرادة بالأربعة تتعلّق بالزوجيّة تبعاً ، ولا يتصوّر في ما نحن فيه حيث إن طبيعة الرقبة المهملة في المقام متّحدة مع الرقبة المقيّدة بقيد المؤمنة في الخارج فليست إحديهما لازمة للُاخرى كما لا يخفى.

الثاني : ما مرّ من أنّه خلاف الوجدان ، فلا يأخذ عبد بإطلاق كلام مولاه إذا لم يكن في مقام البيان.

أمّا المقدّمة الثانية : ( وهي عدم بيان القيد ) فإنّ لزومها من الواضحات حيث إن المفروض في جواز التمسّك بالإطلاق وعدمه عدم وجود قيد بالنسبة إلى الجهة التي نحاول التمسّك بإطلاق الكلام فيها ، ولذلك لم يتكلّم حولها في عباراتهم ولم ينكر اعتبارها أحد.

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣٤ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٨٧

أمّا المقدّمة الثالثة : ( وهي وجود القابلية للإطلاق والتقييد التي أفادها المحقّق النائيني رحمه‌الله ) فيرد عليها أوّلاً : أنّها ترجع إلى المقدّمة الاولى لأنّ من لم يقدر على التقييد لم يكن في مقام البيان ، ولا فرق في عدم جواز التمسّك بالإطلاق بين أن يكون عدم كون المتكلّم في مقام البيان ناشئاً من عدم حضور وقت البيان أو من استلزامه أمراً محالاً كالدور.

ثانياً : قد مرّ في البحث عن التوصّلي والتعبّدي من أنّ التقسيمات اللاحقة تكون كالتقسيمات السابقة لأنّها وإن كان وجودها لاحقاً عن وجود المتعلّق إلاّ أنّه يمكن تصوّرها سابقاً وأخذها في المتعلّق فنقول : « صلّ مع قصد أمرها » وتمام الكلام في محلّه.

فظهر أنّ المقدّمة الثالثة على حدّها ليست مقدّمة بل إنّها ترجع حقيقة إلى المقدّمة الاولى ، نعم ينبغي التنبيه بها والتوجّه إليها على فرض وجود مصداق لها.

أمّا المقدّمة الرابعة : ( وهي عدم الانصراف ) فنقول في توضيحها : أنّ الانصراف هو أن توجد من ناحية كثرة الاستعمال بين لفظ ومعنى علاقة في الأذهان بحيث توجب انسباق ذلك المعنى من اللفظ حين إطلاقه ، وليس المراد منه صيرورة اللفظ حقيقة ثانويّة في ذلك المعنى ، وهو نظير انصراف كلمة « أهل العلم » في يومنها هذا إلى العالم الديني مع أنّ غيره أيضاً من أهل العلم.

وهو على خمسة أنواع : أحدها : الانصراف البدوي وهو يزول بالتأمّل ، مثل أن يقال : « من المفطّرات الأكل والشرب » الذي ينصرف إلى الأغذيّة والمشروبات المتعارفة ، لكنّه بدوي لا اعتبار به ، ولذا أفتى الأصحاب بحصول الإفطار بالمأكولات غير المتعارفة كأوراق الأشجار.

ثانيها : الانصراف الذي منشأه كثرة الاستعمال وهو لا يزول بالتأمّل كالمثال المتقدّم وهو أهل العلم الذي ينصرف إلى العالم الديني لكثرة استعماله فيه.

ثالثها : الانصراف إلى الفرد الأكمل من أفراد الماهيّة المشكّكة نحو ما مرّ في البحث عن مفهوم الشرط من انصراف العلّية المستفادة من أداة الشرط إلى العلّية المنحصرة لكونها أكمل أفراد العلّية ، ولكن هذا الانصراف غير ثابت بل حيث إن الفرد الأكمل يكون نادراً لا ينصرف إليه اللفظ قطعاً.

رابعها : الانصراف إلى القدر المتيقّن وهذا أيضاً غير ثابت.

خامسها : الانصراف الحاصل من كثرة الاستعمال حيث يكون المعنى السابق مهجوراً

١٨٨

وصار اللفظ حقيقة في المنصرف إليه.

هذا ـ والإنصاف أنّ الانصراف ينقسم في الواقع إلى قسمين بدوي وثابت مستمرّ ، والانصراف البدوي هو ما يزول بالتأمّل ، والثابت ما لا يزول به وأمّا هذه الأقسام الخمسة فالخامس منها خارج عن ما نحن فيه لصيرورة اللفظ فيه حقيقة في المعنى الجديد ، وأمّا الباقي ففي الحقيقة بيان لمنشأ الانصراف.

إذا عرفت هذا فنقول : والذي عدّ من مقدّمات الحكمة هو عدم الانصراف بالمعنى الثاني ، أي عدم الانصراف الثابت ، لكنّ الحقّ أنّ هذه المقدّمة أيضاً ترجع حقيقة إلى المقدّمة الثانية ، وهي انتفاء ما يوجب التعيين حيث إن الانصراف هو ممّا يوجب تعيين المعنى كما لا يخفى.

أمّا المقدّمة الخامسة : ( وهي انتفاء القد المتيقّن في مقام التخاطب ) فحاصل بيان المحقّق الخراساني رحمه‌الله فيها : أنّه إذا كان المتيقّن تمام مراد المولى وهو لم يذكر القيد اعتماداً على ذلك المتيقّن لم يخلُ بغرضه.

والتحقيق في المسألة : أنّ القدر المتيقّن على قسمين : تارةً يكون المتيقّن متيقّناً بحسب مقام التخاطب ، واخرى بحسب الخارج ، فالقسم الأوّل مثل أن يسأل العبد من مولاه : « هل أكرم النحويين؟ » وأجاب المولى بقوله : « أكرم العالم » فلا ريب في أنّ النحويين بقرينة ذلك السؤال هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، بينما القدر المتيقّن بحسب الخارج هو الفقهاء والمجتهدين مثلاً للقطع بوجود الملاك فيهم ، فالميزان في القدر المتيقّن بحسب مقام التخاطب هو وجود سؤال أو قرينة يكون بمنزلة شأن نزول كلام المولى ، والميزان في القدر المتيقّن بحسب الخارج القطع بوجود الملاك.

وكيف كان ، فإنّ المختار في المقام هو عدم اعتبار هذه المقدّمة كما صرّح به جماعة من الأعلام أيضاً.

ويدلّ عليه وجوه ثلاثة : أحدها : استلزامها عدم إمكان التمسّك بكثير من الإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة مع أنّ السيرة العمليّة للفقهاء والمتشرّعين قامت على خلافه فإنّهم لا يعتنون بشأن نزول الآيات ومورد السؤال في الرّوايات إذا كان الجواب مطلقاً.

ثانيها : أنّ وجود القدر المتيقّن ليس من قبيل القيود الإحترازيّة التي يأخذها المتكلّم في كلامه ويكون لها لسان إثبات ولسان نفي ، إثبات الحكم لنفسها ونفي الحكم عن غيرها ، بل

١٨٩

غاية ما يستفاد من وجوده ثبوت الحكم بالنسبة إلى نفسه ، وأمّا عدم ثبوته بالنسبة إلى غيره فهو ساكت عنه وغير مفيد له ، وحينئذٍ لا مانع من التمسّك بالإطلاق وإسراء الحكم إلى ذلك الغير ، وإلاّ يلزم إهمال المولى بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن وسكوته عن بيان حكمه ، مع أنّ المفروض أنّه في مقام بيان تمام المراد.

ثالثها : أنّه لو كان المتيقّن مزاحماً للأخذ بالإطلاق فما هو الفرق بين المتيقّن بحسب التخاطب والمتيقّن بحسب الخارج؟ مع أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في مقام إثبات اعتبار هذه المقدّمة ( وهو أنّ المولى لم يخلّ بغرضه إذا لم يبيّن القيد اعتماداً على القدر المتيقّن ) جارٍ في القسم الثاني أيضاً وهو يستلزم عدم جواز التمسّك بالإطلاق في ما إذا وجد في البين قدر متيقّن بحسب الخارج أيضاً مع أنّ هذا ممّا لا يلتزم به الخصم.

إلى هنا ثبت أنّ المعتبر في الأخذ بالإطلاق بين المقدّمات الخمسة مقدّمتان : إحديهما : كون المتكلّم في مقام البيان ، وثانيهما : انتفاء ما يوجب التعيين.

تنبيهات

الأوّل : في نتيجة مقدّمات الحكمة؟

ذهب المشهور إلى أنّ نتيجتها السريان والشمول فكأنّ المولى أطلق كلامه بعد أن لاحظ القيود إجمالاً ، ويسمّى هذا الإطلاق بالإطلاق اللحاظي ، وسيأتي الفرق بينه وبين العموم إن شاء الله تعالى.

لكن خالف في ذلك بعض الأعاظم وقال : « لا يستفاد السريان من المطلق ولو بعد جريان مقدّمات الحكمة ، بل الإطلاق ليس إلاّ الإرسال عن القيد وعدم دخالة القيد وهو غير السريان والشيوع » وقال في موضع آخر من كلماته : « هذا كلّه على المختار في باب الإطلاق من عدم كون الطبيعة مرآة للأفراد ولا وسيلة إلى لحاظ الخصوصيّات وحالاتها وعوارضها » (١) ، وقد اعتمد على هذا المبنى وبنى عليه في مسائل عديدة ، منها مبحث الترتّب المتقدّم ذكره.

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٦٤ و ٧٢ ، طبع مهر ؛ وكتاب البيع : ج ٤ ، ص ٣٦٥.

١٩٠

أقول : إنّا نسأل : هل المولى الذي يكون في مقام البيان ويجعل مفهوم المطلق متعلّق حكمه ، يلاحظ ويتصوّر الحالات والعوارض الفرديّة وينظر إليها أو لا؟ فإن قلتم أنّه لم يلاحظها ولو إجمالاً ، قلنا : بأنّ هذا خلاف معنى الإطلاق وهو عدم دخالة القيد ومخالف لكون المولى في مقام البيان حيث إن عدم جعل القيد دخيلاً مع كونه في مقام البيان معناه أنّه نظر إلى القيود ولو إجمالاً فلم يرها دخيلة في مقصوده وقال « اعتق الرقبة » مثلاً ، وإن قلتم أنّه نظر إليها ولاحظها ثمّ حكم بعدم دخالتها فليس هذا إلاّ السريان وأنّ المطلق شامل لجميع الأفراد بعد إجراء مقدّمات الحكمة.

والحاصل أنّ كون المطلق تمام المطلوب لا يمكن إلاّبعد لحاظ سائر القيود ولو إجمالاً ونفى دخالتها فإنّ هذا هو المفهوم من لفظ تمام المراد فإنّ مفهومه أنّ المطلوب هو هذا لا غير ، وهذا أمر ظاهر.

الثاني : ما الفرق بين العام والمطلق؟

( لا سيّما على المختار من أنّ المطلق أيضاً يدلّ على الشمول بدليّاً كان أو استغراقياً ).

إنّ الشمول في المطلق يستفاد من مقدّمات الحكمة بينما في العام يستفاد من وضع اللفظ ، ولا يخفى أنّ هذا الفرق مبنيّ على المختار وهو دلالة المطلق أيضاً على الشمول ، وإلاّ فإن قلنا بدلالته على الطبيعة المرسلة فقط فالفرق أوضح ، حيث إن العام يدلّ على الشمول وهو لا يدلّ عليه.

نعم ، يبقى الكلام في ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله وجماعة من أنّ استفادة العموم من العام أيضاً يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمة في مدخوله فحينئذٍ يشكل الفرق بينهما.

الثالث : فيما إذا شكّ في أنّ المولى هل هو في مقام البيان أو لا؟

فما هو مقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة؟

نقول : إنّ مقتضى الأصل اللفظي العقلائي كونه في مقام البيان ويؤيّده السيرة المستمرّة للفقهاء والمجتهدين في التمسّك بالإطلاقات والعمومات مطلقاً إلاّفيما إذا أحرز كونه في مقام الإجمال والإهمال فإنّهم مع فقد هذا الإحراز يأخذون بالإطلاق كما تشهد به سيرتهم العمليّة في أبواب الفقه.

١٩١

ثمّ ليعلم أنّه قد يكون المولى في مقام البيان من جهة ولا يكون في مقام البيان من جهة اخرى ، كما إذا سئل السائل مثلاً عن الإمام عليه‌السلام بـ « أنّ لي أربعين شاة هل فيها زكاة؟ » فأجاب : « في أربعين شاة زكاة » فإنّه عليه‌السلام في هذا البيان إنّما يكون في مقام بيان أصل النصاب فقط وليس في مقام بيان مقدار الزّكاة كما لا يخفى ، فلا يمكن الأخذ بإطلاقه من هذه الجهة ، ومن هنا يظهر أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان.

الرابع : في أنّ المراد من عدم البيان في ما نحن فيه

هو عدم البيان في زمان التخاطب لا عدم البيان إلى الأبد

فإذا كتب المولى مثلاً في رسالة إلى العبد : « اشتر لي قرآناً وأرسله إليّ » وأطلقها ولم يبيّن خصوصيّة للقرآن ، فلا ينتظر العبد إرسال رسالة اخرى يبيّن فيها دخالة قيد خاصّ أو عدمها ، بل يأخذ بإطلاقها ، وكذلك إذا صدرت منه هذه الجملة في مجلس من دون أن يبيّن في ذلك المجلس وذلك المقام ـ وهو مقام التخاطب ـ قيداً خاصّاً.

إن قلت : لو ظفرنا بعد ذلك بالقيد كما إذا صدر المطلق من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ( مثلاً ) والقيد من أحد الأئمّة عليهم‌السلام فهل يستكشف منه عدم كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في مقام البيان وإنّا قد أخطأنا ، أو نلتزم بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخّر البيان عن وقت الحاجة ، أو لا هذا ولا ذاك بل نقول إنّما كان في مقام بيان الحكم الظاهري ، وبيّن الإمام عليه‌السلام القيد بعنوان الحكم الواقعي والتصرّف في الإرادة الجدّية فقط؟

قلنا : الصحيح هو الوجه الثالث لما مرّ في مبحث العام والخاصّ من أنّ مقتضى مصلحة تدريجية الأحكام كون العمومات من قبيل ضرب القانون ووضع القاعدة ، ليعمل بها حتّى يرد المخصّص.

الخامس : في اختلاف نتيجة مقدّمات الحكمة

قد تكون نتيجتها الشمول البدلي ، فمفادها حينئذٍ مفاد كلمة أي ، نحو « جئني برجل » فإنّ معناه « جئني بأي رجل » وقد تكون الشمول الاستغراقي نحو ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وهو الغالب في الأحكام الوضعيّة نظير « الماء إذا بلغ قدر كرّ فلم ينجّسه شيء » و « الأرض يطهّر بعضها بعضاً ». وأمّا العموم المجموعي ، فالظاهر أنّه لا يمكن استفادته إلاّ إذا قامت قرينة على إرادة المجموع من حيث المجموع.

١٩٢

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّه قد يكون المستفاد من مقدّمات الحكمة الفرد بدلاً عن الشمول والسريان ، وهذا مثل ما مرّ في أبواب الأوامر من أنّ مقتضى إطلاق الأمر الوجوب النفسي التعييني العيني.

أقول : لكن الحقّ أنّ كلّ واحد منها مدلول التزامي للأمثلة المذكورة ، أي أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة والمدلول المطابقي لها حقيقة في مثال « صلّ صلاة الظهر يوم الجمعة » مثلاً شمول الوجوب لحالتي إتيان صلاة الجمعة وعدمه ، ولازمه الوجوب التعييني كما يظهر بالتأمّل ، وهكذا بالنسبة إلى الوجوب النفسي والوجوب العيني ، ففي كلّ منهما يكون الإطلاق كسائر المقامات ، وإنّما تكون النفسية والعينية من لوازمه

لا أنّهما مدلولان مطابقيان للإطلاق.

المقام الرابع : فيما إذا ورد مطلق ومقيّد

وفيه ثلاث حالات : الاولى : أن يكون الدليلان مختلفين في النفي والإثبات ، نحو « اعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة كافرة » فلا شكّ في لزوم التقييد فيها لأنّ المطلق ليس ظهوره في الإطلاق أقوى من ظهورالعام في العموم ، فكما أنّ العام يخصّص الدليل الخاصّ بلا إشكال ، كذلك المطلق يقيّد بالدليل المقيّد ، بل التقييد هنا أولى من التخصيص هناك لأنّ ظهور المطلق في الإطلاق مستفاد من مقدّمات الحكمة ، وأمّا الظهور في العام فهو مستفاد من الوضع ، ولا إشكال في أنّ رفع اليد عن الظهور الإطلاقي أخفّ وأسهل من رفع اليد عن الظهور الوضعي.

أضف إلى ذلك ما مرّ في العام والخاصّ من أنّ ورود الخاصّ بعد العام يعدّ نحو تناقض عند العرف بخلاف المقيّد ، فإنّ العرف لا يرى تناقضاً بين « اعتق رقبة » مثلاً و « لا تعتق الرقبة الكافرة » كما لا يخفى.

الثانية : أن يكونا مثبتين أو منفيين مع عدم إحراز وحدة الحكم فيهما فيكون الظاهر حينئذٍ التعدّد إمّا لأجل تعدّد الشرط مثلاً نحو « إن ظاهرت فاعتق رقبة » و « إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة » أو لعدم المنافاة بين الحكمين نحو « أكرم العالم » و « أكرم العالم الهاشمي » ، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في عدم التقييد.

الثالثة : نفس الحالة الثانية مع إحراز وحدة الحكم نحو « إن ظاهرت فاعتق رقبة » و « إن

١٩٣

ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة » أو « صلّ صلاة الظهر » و « صلّ صلاة الظهر إخفاتاً » ، والمشهور في هذه الحالة التقييد كما عليه سيرة الفقهاء في الفقه ، واستدلّ له بثلاثة وجوه :

الأوّل : أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، وهو في المقام يحصل بالتقييد.

لكن يرد عليه : أنّه لا دليل لنا على ثبوت هذه القاعدة في جميع الموارد فليس الجمع أولى من الطرح حتّى فيما إذا كان الجمع جمعاً تبرئياً غير عرفي ، بل الأولويّة ثابتة في باب تزاحم الملاكات ، فإذا ثبت هناك ملاكان لحكمين فمهما أمكن الجمع بين هاتين المصلحتين كان أولى.

الثاني : أنّ الدليل المقيّد وارد على الدليل المطلق ورافع لموضوعه ، وذلك لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة في المطلق هي عدم البيان ، والمقيّد يكون بياناً.

لكنّه أيضاً ممنوع لمامرّ سابقاً من أنّ المراد من عدم البيان في مقدّمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب لا عدم البيان إلى الأبد ، وإلاّ يلزم الخروج عن فرض المسألة حيث إن المفروض في المقام ما إذا ورد مطلق ومقيّد ، أي بعد أن تمّ الإطلاق في دليل المطلق ، وهذا يتمّ بعد تمام مقدّمات الحكمة التي منها عدم بيان القيد في مقام التخاطب.

الثالث : ( وهو الصحيح في المقام ) أن نقول : بأنّ الجمع هنا جمع دلالي عرفي ، وبيانه : أنّ هنا ظهورات ثلاثة متعارضة ظهورين في جانب المطلق وظهوراً في جانب المقيّد ، أمّا الظهوران في جانب المطلق فأحدهما : ظهوره في كون المولى في مقام البيان ، والثاني : ظهوره في تطابق الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعماليّة ، وأمّا الظهور في جانب المقيّد فهو ظهوره في كون المطلوب مقيّداً ، فيدور الأمر حينئذٍ بين التصرّف في أحد الظهورين في جانب المطلق وبين التصرّف في ظهور المقيّد وحمله على الاستحباب مثلاً ، والإنصاف أنّ ظهور المقيّد أقوى منهما ، فلا بدّ أن نرفع اليد من الظهور الأوّل في المطلق ونحكم بأنّ المولى لم يكن في مقام البيان ، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الظهور الثاني كما لا يخفى ، أو نرفع اليد من الظهور الثاني ونحكم بعدم جدّية الإرادة في غير المقيّد.

نعم ، هذا إذا كان المورد من الواجبات ، وأمّا إذا كان من المستحبّات فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى من أنّها محمولة على مراتب الفضل.

هذا تمام الكلام في الصور المتصوّرة بعد ورود المطلق والمقيّد.

١٩٤

تنبيهات

التنبيه الأوّل : أنّه من أين ثبت صغرى الكبرى المذكورة في الصورة الثانية؟ والثالثة أي من أين يحرز وحدة الحكم وتعدّده؟ فنقول : يمكن استفادة الوحدة من عدّة قرائن :

منها : أن تكون الحكمين معلّقين على شرط واحد ، نحو « إن ظاهرت فاعتق رقبة » و « إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ».

ومنها : الإجماع كما أنّه ثابت في مثال صلاة الظهر المتقدّم.

ومنها : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو مبني على امور ثلاثة نذكرها ملخّصاً :

الأوّل : أن يكون الحكم في كلّ من المطلق والمقيّد مرسلاً أو معلّقاً على شيء واحد.

الثاني : أن يكون كلّ من التكليفين إلزامياً وإلاّ لم يكن موجب لرفع اليد عن إطلاق المطلق بحمله على المقيّد منهما ، والوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحكم المتعلّق بالمقيّد غير إلزامي جاز مخالفته فلا يكون منافاة حينئذٍ بينه وبين إطلاق متعلّق الحكم الآخر.

الثالث : أن يكون متعلّق كلّ من الخطابين صرف الوجود الذي ينطبق قهراً على أوّل وجود ناقض للعدم (١).

وحاصل الكلام في الأمر الثالث أنّه إذا كان مطلوب المولى صرف الوجود للرقبة مثلاً أي رقبة كانت ، ثمّ كان مطلوبه أيضاً الرقبة المؤمنة ، فلا مناصّ حينئذٍ من التقييد كما هو ظاهر.

التنبيه الثاني : ( وهو كثير الابتلاء في الفقه ) في أنّ المشهور أنّ المطلق الوارد في المستحبّات لا يحمل على المقيّد بل الدليل المقيّد يحمل على سلسلة مراتب المحبوبيّة وتعدّد المطلوب ، نحو ما إذا ورد مثلاً دليل على استحباب قراءة القرآن مطلقاً ، وورد دليل آخر على استحباب قراءته مع الطهارة ، ودليل ثالث على استحباب قراءته بالترتيل أو مستقبل القبلة ، أو ورد في باب صلاة الليل روايات تدلّ على استحبابها ووردت أيضاً رواية تأمر بإتيانها في الثلث الآخر من الليل ، ورواية اخرى تأمر بالقنوت في صلاة الوتر أوّلاً وبالدعاء لأربعين مؤمناً ثانياً وبالاستغفار سبعين مرّة وطلب العفو ثلاثمائة مرّة ثالثاً ، ونحوه أيضاً أنّه وردت روايات تدلّ على استحباب زيارة الحسين عليه‌السلام ثمّ وردت روايات تدلّ على إستحبابها في خصوص ليلة

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٥٣٧ ـ ٥٣٩.

١٩٥

الجمعة أو يوم عرفة ، إلى غير ذلك من المطلقات والمقيّدات التي وردت في أبواب المستحبّات فإنّ المشهور كما مرّ حملها على تعدّد المطلوب وبيان سلسلة مراتب المطلوبيّة والفضل ، إلاّ إذا قام دليل خاصّ على التقييد ، فالقاعدة الأوّليّة والأصل الأوّلي عندهم في المستحبّات عدم التقييد.

واستدلّ عليه أوّلاً : بما أشار إليه في الكفاية بقوله : « أو أنّه كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيّد وحمله على تأكّد استحبابه من التسامح فيها ».

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه غير تامّ ، لأنّ التسامح في أدلّة السنن ليس إلاّعبارة عن العمل بأخبار من بلغ في المستحبّات ولا إشكال في أنّها ناظرة إلى ضعف السند على القول به لا الدلالة ( كما يأتي في محلّه ) والمقام في ما نحن فيه مقام الدلالة كما لا يخفى.

وثانياً : ( وهو الحقّ الصحيح ) ما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضاً ، وحاصله مع توضيح منّا : أنّ الغالب في باب المستحبّات أن يكون القيد لأجل التأكيد ومزيد المحبوبيّة لا لأجل الإحتراز والدخول في أصل المطلوبيّة كي يحمل المطلق على المقيّد ، وهذه الغلبة توجب ظهور الأوامر فيها في تعدّد المطلوب وتفاوت الافراد بحسب مراتب المحبوبيّة والفضل.

وأورد عليه في المحاضرات بأنّ « مجرّد الغلبة لا يوجب ذلك بعد ما افترض أنّ دليل المقيّد قرينة عرفيّة على تعيين المراد من المطلق ، ضرورة أنّ الغلبة ليست على نحو تمنع عن ظهور دليل المقيّد في ذلك » (١).

لكنّه يردّ : بأنّ الغلبة على قسمين : تارةً يكون المقصود منها ما يقابل الشاذّ والنادر ، واخرى ما يقابل الأغلب فإن كانت من قبيل الثاني ( كما هي كذلك في باب صيغة الأمر ) فلا تمنع عن الظهور فإنّ غلبة استعمال صيغة الأمر في الندب مثلاً لا تمنع عن ظهورها في الوجوب ، وإن كانت من قبيل الأوّل كما في المقام ( حيث إن ورود القيد لأجل الإحتراز والتقييد في باب المستحبّات يكون شاذّاً بالنسبة إلى تعدّد المطلوب ) فلا إشكال في منعها حينئذٍ عن ظهور دليل القيد في التقييد ، وبالجملة أنّ غلبة استعمال المطلق والمقيّد في باب المستحبّات في تعدّد

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ، ص ٣٨٢.

١٩٦

المطلوب توجب ظهور الأوامر فيها في تعدّد المطلوب ، هذا أوّلاً.

وثانياً : سلّمنا ظهورها في وحدة المطلوب لكنّها في التعدّد أقوى وأظهر.

ثمّ إنّ هنا تفصيلاً ذهب إليه في المحاضرات و « هو أنّ الدليل الدالّ على التقييد يتصوّر على وجوه أربعة لا خامس لها :

الأوّل : أن يكون ذات مفهوم بمعنى أن يكون لسانه لسان القضيّة الشرطيّة كما إذا إفترض أنّه ورد في دليل أنّ صلاة الليل مستحبّة وورد في دليل آخر أنّ استحبابها فيما إذا كان المكلّف آتياً بها بعد نصف الليل ، ففي مثل ذلك لا مناصّ من حمل المطلق على المقيّد عرفاً ، نظراً إلى أنّ دليل المقيّد ينفي الاستحباب في غير هذا الوقت من جهة دلالته على المفهوم.

الثاني : أن يكون دليل المقيّد مخالفاً لدليل المطلق في الحكم ، فإذا دلّ دليل على استحباب الإقامة مثلاً في الصّلاة ، ثمّ ورد في دليل آخر النهي عنها في مواضع كالإقامة في حال الحدث أو حال الجلوس أو ما شاكل ذلك ، ففي مثل ذلك لا مناصّ من حمل المطلق على المقيّد ، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الإرشاد إلى المانعية.

الثالث : أن يكون الأمر في دليل المقيّد متعلّقاً بنفس التقييد لا بالقيد كما إذا إفترض أنّه ورد في دليل أنّ الإقامة في الصّلاة مستحبّة وورد في دليل آخر : فلتكن في حال القيام أو في حال الطهارة ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم الثاني ، حيث إن الأمر في قوله : « فلتكن » ظاهر في الإرشاد إلى شرطيّة الطهارة أو القيام لها ، ولا فرق من هذه الناحية بين كون الإقامة مستحبّة أو واجبة.

فما هو المشهور من أنّه لا يحمل المطلق على المقيّد في باب المستحبّات لا أصل له في الأقسام الثلاثة.

الرابع : أن يتعلّق الأمر في دليل المقيّد بالقيد بما هو كما هو الغالب في باب المستحبّات ، مثلاً ورد في استحباب زيارة الحسين عليه‌السلام مطلقات وورد في دليل آخر استحباب زيارته عليه‌السلام في أوقات خاصّة كليالي الجمعة وأوّل ونصف رجب ونصف شعبان وليالي القدر وهكذا ، ففي مثل ذلك الظاهر أنّه لا يحمل عليه لعدم التنافي بينهما بعد فرض عدم إلزام المكلّف بالإتيان بالمقيّد بل لابدّ من حمله على تأكيد الاستحباب وكونه الأفضل ، بخلاف باب الواجبات

١٩٧

لوجود التنافي فيها بين دليل المطلق والمقيّد حيث إن مقتضى إطلاق المطلق ترخيص المكليف في تطبيقه على أي فرد من أفراده شاء في مقام الامتثال وهو لا يجتمع مع كونه ملزماً بالإتيان بالمقيّد » (١).

أقول : لكن الإنصاف أنّ نطاق مقال المشهور أوسع من القسم الأخير في كلامه فإنّه يشمل سائر الأقسام ما عدى القسم الأوّل الذي هو خارج عن محلّ الكلام للتصريح بعدم الصحّة فيه ، وأمّا ظهور الأوامر في الإرشاد إلى الشرطيّة والنواهي في المانعية إنّما هو مسلّم في الواجبات وأمّا في أبواب المستحبّات فهو ممنوع كما عرفت من غلبة كون القيود فيها ناظرة إلى تعدّد مراتب الفضل فلا وجه للتفصيل في المقام.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه إذا ورد المطلق والمقيّد في دليل واحد نحو « اقرأ القرآن مع الطهارة » فهل يحملان أيضاً على تعدّد المطلوب بأن نجعلهما نظير ما إذا ورد كلّ من المطلق والمقيّد في دليل مستقلّ أو لا؟ وهذا ممّا لم يتعرّض له في كلماتهم ، ولكن الظاهر عدم الحمل على مراتب الفضل لأنّ ما بيّناه سابقاً من ظهور القيد في تعدّد المطلوب جارٍ فيما إذا كان هناك مقيّد ومطلق ظاهر في إطلاقه مع أنّ في هذا الفرض لا يحصل للمطلق ظهور في إطلاقه من جهة إتّصال القيد به بل هو ظاهر في وحدة المطلوب ، ولا أقلّ من إجماله ، ونتيجته الأخذ بالمقيّد لأنّه هو القدر المتيقّن.

التنبيه الثالث : أنّ ما ذكرنا من حمل المطلق على المقيّد في باب الواجبات أو المحرّمات إنّما هو فيما إذا لم يكن من باب مفهوم الوصف وإلاّ فلا كلام ولا إشكال في لزوم حمل المطلق على المقيّد حينئذٍ لأنّه يرجع حقيقة إلى الصورة الاولى في المسألة ، أي ما إذا كان المطلق والمقيّد متخالفين الذي قد مرّ حكمه وهو لزوم التقييد بلا إشكال.

التنبيه الرابع : أنّ ما مرّ كان مختصّاً بما إذا كان المطلق والمقيّد من الأحكام التكليفية ، فما هو الحكم في الأحكام الوضعية كما إذا ورد دليل يقول « أحلّ الله البيع » وورد دليل آخر يقول : « نهى النبي عن بيع الغرر »؟

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ، ص ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

١٩٨

الحقّ أنّ في المسألة صوراً :

الصورة الاولى : ما إذا كان المطلق والمقيّد متخالفين في الإثبات والنفي نظير ما مرّ من المثال آنفاً ، فحكمها واضح ، ولا إشكال في لزوم الجمع بينهما بالتقييد كما مرّ في الأحكام التكليفية.

الصورة الثانية : ما إذا كانا مثبتين أو منفيين وهي بنفسها على صورتين :

تارةً يكون القيد في المقيّد إحترازيّاً ، وبتعبير آخر : يكون للتقيّد مفهوم مثل قوله تعالى : ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ) في قبال قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) حيث إن القيد في الأوّل في مقام الإحتراز ، فلا إشكال أيضاً في التقييد كما مرّ في التنبيه السابق أنّهما يرجعان إلى المتخالفين.

واخرى لا يكون القيد في مقام الإحتراز ولا يكون له مفهوم كما إذا ورد دليل يقول : « أحلّ الله البيع بالصيغة العربيّة » وفرضنا عدم كون المقام فيه مقام الإحتراز ، في قبال دليل حلّية بيع المعاطاة ، ففي هذه الصورة قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « إذا علم أنّ مراده إمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاصّ فلا بدّ من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه كما هو ليس ببعيد ، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد ( بخلاف العكس ) بالغاء القيد وحمله على أنّه غالبي أو على وجه آخر » ( مثل إن كان القيد مورداً لابتلاء المكلّف ).

أقول : إنّ مقصوده من قوله : « أمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاصّ » وحدة المطلوب ( كما أشار إليه بعض المحشّين على الكفاية ) أي إذا أحرز وحدة المطلوب فلا بدّ من التقييد ، وهو ممّا لا إشكال فيه ثبوتاً ، لكن المهمّ هنا مقام الإثبات وأنّه من أي طريق يمكن إحراز وحدة الحكم كما كنّا نفهمها في الأحكام التكليفية من تعلّق الطلب بصرف الوجود ، بل يمكن أن يكون النظر فيها إلى جميع الأفراد ، نحو قوله عليه‌السلام : « الدم نجس » وقوله تعالى : ( حَرَّمَ الرِّبَا ) و ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » فإنّ الحكم فيها ( كما لا يخفى ) تعلّق بأي دم وأي قسم من الربا وأي نوع من الماء أو البيع ، أي أنّ الشمول فيها استغراقي لا بدلي كما أنّ الطريقين الآخرين المذكورين في الأحكام التكليفيّة ( وهما إحراز الوحدة من طريق الإماع ووحدة الشرط ) أيضاً لا يوجد لهما مصداق في مثل هذه الموارد أصلاً ، فحينئذٍ ينحصر الدليل على إحراز وحدة الحكم بكون القيد ظاهراً في الإحتراز ، أو قيام دليل آخر على كون القيد ممّا

١٩٩

يكون له مفهوم ، وإلاّ فإنّ مجرّد حلّية البيع على إطلاقه مثلاً وحلّية بيع المعاطاة لا منافاة بينهما.

الكلام في المجمل والمبيّن

ولابدّ فيه من ذكر مقدّمات قبل الورود في أصل الكلام :

المقدّمة الاولى : في أنّه ما هو المراد بالمجمل والمبيّن؟ وما تعريفهما؟

الظاهر أنّ المجمل ( وفي مقابله المبيّن ) على معناه اللغوي وأنّه ليس له اصطلاح خاصّ في الاصول ، وله في اللغة أصلان لكلّ واحد معنى على حدة :

أحدهما : جَمَلَ يجمل ( كنصر ينصر ) جملاً الشيء إذا جمعه ، وهو في الكلام إذا جمعه من غير تفصيل ، ومنه الجملة وجمعه الجُمَل بمعنى الجماعة.

الثاني : جَمُلَ يَجمل ( كشرف يشرف ) جمالاً ، بمعنى الحسن ، وصرّح بعض النحويين أنّه أعمّ من الحسن الظاهري والحسن الباطني.

هذا ـ ويحتمل رجوع المعنيين إلى معنى واحد ، لأنّ الجمال أيضاً يطلق على الإنسان إذا إجتمعت فيه أسباب الحسن.

المقدّمة الثانية : أنّهما ( كالإطلاق والتقييد ) أمران إضافيان نحو هيئة الأمر ، فإنّها مبيّنة من حيث دلالتها على الوجوب ، وهي في نفس الوقت يمكن أن تكون مجملة من حيث الفور والتراخي ، لكنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله قال في المقام : « ثمّ لا يخفى أنّهما وصفان إضافيان ربّما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه ، ومبيّناً لدى الآخر لمعرفته وعدم التصادم بنظره ».

أقول : إنّ هذا خلط بين مقام الثبوت والإثبات ، والبحث في ما نحن فيه بحث في مقام الثبوت والواقع من دون النظر إلى علم الأشخاص وجهلهم وإلاّ يستلزم أن تكون جميع الألفاظ للغة خاصّة مجملة بالإضافة إلى الجاهل بتلك اللغة ، مع أنّ المقصود من الإجمال هو الإجمال بعد فرض التعلّم والرجوع إلى اللغة.

وإن شئت قلت : أنّهما إضافيّان في الواقع ونفس الأمر لا عندنا نظير قولك : « أكرم العلماء إلاّ زيداً » إذا كان لفظ زيد مشتركاً بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر فإنّ هذا الكلام مجمل

٢٠٠