أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

بشيء ، أو كان المورد من المستحبّات ، فيحمل الخاصّ حينئذٍ على تعدّد المطلوب كما إذا دلّ دليل على أنّ صلاة الليل مستحبّ من نصف الليل إلى آخره ، ونهى دليل آخر عن إتيانها فيما بعد النصف بلا فصل ، أو أمر دليل آخر بإتيانها في آخر الليل ، فبهذين الدليلين لا يخصّص عموم الدليل الأوّل بل كلّ منهما دالّ على مرتبة من المطلوبيّة.

بقي هنا شيء :

وهو التفصيل بين مفهوم كلمة إنّما وغيرها ، فقال بعض : إذا كان الدالّ على المفهوم كلمة إنّما وشبهها فيقدّم على العام وإلاّ فلا ، لكنّه غير تامّ ولا يعدّ تفصيلاً لمحلّ النزاع لأنّ مدلول كلمة إنّما منطوق لا مفهوم كما لا يخفى.

١٤١
١٤٢

الفصل التاسع

الكلام في الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة

فهل هو ظاهر في الرجوع إلى الجميع ، أو إلى خصوص الأخيرة ، أو لا ظهور له أصلاً بل يصير الكلام مجملاً ولابدّ في التعيين من قرينة ، مثل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا ) (١) فهل الاستثناء بقوله « إلاّ الذين تابوا » يرجع إلى جميع الأحكام الثلاثة ، أي الجلد بثمانين جلدة ، وعدم قبول الشهادة أبداً ، والفسق ، فتكون النتيجة حينئذٍ رفع جميعها بالتوبة ، أو يرجع إلى خصوص الأخير فيرفع به خصوص الفسق ، أو الكلام مجمل؟ أقوال ، فقيل بظهوره في الرجوع إلى الكلّ ، وقيل بظهوره في الرجوع إلى خصوص الأخيرة ، وقيل بالإجمال مع كون القدر المتيقّن هو الأخير ، وقيل بما يأتي من التفصيل.

ولنقدّم قبل الورود في بيان الأقوال أمرين :

الأمر الأوّل : قال بعضهم بإستحالة الرجوع إلى الجميع ثبوتاً فلا تصل النوبة إلى البحث عن الوقوع في مقام الإثبات واستدلّ له بوجهين :

أحدهما : أنّ كلمة « إلاّ » من الحروف ، وقد قرّر في محلّه أنّ الموضوع فيها جزئي حقيقي ، وهو يلزم دلالة كلمة « إلاّ » على إخراج واحد لا إخراجات عديدة ، ولازمه الرجوع إلى الأخيرة.

ثانيهما : سلّمنا عدم كون الموضوع له في الحروف جزئياً حقيقياً لكنّه لا إشكال في أنّ المعنى الحرفي آليّ وفانٍ في غيره ، فلا يلحظ مستقلاً بل لابدّ من لحاظه فانياً في غيره ، وحينئذٍ يتعيّن رجوع كلمة الاستثناء إلى الأخيرة لأنّه لا يتصوّر فناء شيء واحد في شيئين.

__________________

(١) سورة النور : الآية ٤.

١٤٣

وكلا الأمرين غير تامّ ، أمّا الأوّل فلما مرّ من أنّ الموضوع له في الحروف كلّي دائماً أو غالباً ، ولو سلّمنا كونه جزئياً لكن الإخراج في ما نحن فيه ليس متعدّداً بل هو واحد وإنّما المخرج متعدّد ، وهذا نظير إنشاء المعاني المتعدّدة بصيغة واحدة نحو « بعت هذا الدار بالف تومان وذاك بالفين وذاك بآلاف ».

وأمّا الثاني : فلأنّه أوّلاً : يمكن لحاظ معانٍ متعدّدة بصورة وحدانية وتصوّرها بنحو جمعي ثمّ إفناء معنى الحرف في جميعها ، كما إذا قيل : « سِرْ من البصرة أو الكوفة وإلى بغداد وإلى عبّادان » فيلحظ معنى الابتدائيّة لكلمة « من » فانياً في جميع الأمكنة المذكورة في المثال بلحاظ واحد.

ثانياً : يمكن كون اللحاظات متعدّدة واستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لما مرّ كراراً من عدم اعتبار آنٍ حقيقي في اللحاظ ، ولا دليل على أنّ اللحاظات آنات حقيقيّة ، بل يمكن احضار معانٍ متعدّدة كسبعين معنى للفظ « عين » مثلاً في الذهن متواليّة واحداً بعد واحد ثمّ استعمال لفظ العين في الجميع ، ولذلك ذهبنا إلى جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، هذا كلّه في الأمر الأوّل.

الأمر الثاني : أنّه لو قلنا بالإجمال وأنّ الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة لا يكون ظاهراً في الرجوع إلى الجميع ولا في الرجوع إلى خصوص الأخيرة بعد صلوحه لكلّ منهما وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقّناً معلوماً فهل يسقط العمومات غير الأخيرة عن الحجّية أو لا؟

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : إنّها ساقطة عن الحجّية ، فلا يكون ما سوى الأخيرة ظاهراً في العموم لاكتنافه بما يصلح للرجوع إليه ، فلا بدّ في محلّ الشكّ من الرجوع إلى الأصل العملي. ففي مثال « أكرم العلماء إلاّ الفسّاق والمخالفين منهم » نرجع في مشكوك الفسق والمخالفة إلى أصل البراءة.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله : بعدم سقوطها عن الحجّيه بل « يحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض ، وأمّا توهّم كون المقام من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية فهو غير صحيح ، لأنّ المولى لو أراد تخصيص الجميع ومع ذلك اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة لكان مخلاً ببيانه » (١).

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٩٧.

١٤٤

أقول : الظاهر أنّ الحقّ مع المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، لأنّ عدم صحّة اكتفاء المولى في بيان مقصوده بالاستثناء المجمل لكونه مخلاً ببيانه يختصّ بما إذا لم يكن نفس الإجمال مقصوداً ، وإلاّ فلا إشكال في الصحّة ، وهذا نظير الاستثناء بكلمة « بعض » ، فإذا قال : « أكرم العلماء إلاّ بعضهم » مع عدم كون الإجمال مقصوداً فقد أخلّ بمقصوده وأمّا إذا كان المقصود هو نفس بيان الحكم مجملاً فلا إشكال حينئذٍ في صحّة الاكتفاء بكلمة « بعض » ، ولا يخفى أنّ للشارع المقدّس أحكاماً يكون المقام فيها مقام الإجمال والإبهام ، وذلك لمصالح تقتضيه ، منها عدم انسداد أبواب بيوت أهل البيت عليهم‌السلام كما صرّح به المحقّق القمي رحمه‌الله في كتابه جامع الشتات في جواب من سأل عن وجه ورود المتشابه في القرآن الكريم.

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل البحث والأقوال الواردة فيه ...

فنقول : أمّا التفصيل الذي وعدنا نقله فهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله وإليك نصّ كلامه : « والتحقيق في ذلك هو التفصيل بأن يقال إنّ من الواضح أنّه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة ، وعليه فإمّا أن يكون عقد الوضع مكرّراً في الجملة الأخيرة كما في مثل الآية المباركة ، أو لا يكون كذلك ، بل يختصّ ذكر عقد الوضع بصدر الكلام كما إذا قيل أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلاّفسّاقهم ، أمّا القسم الثاني أعني به ما لا يكون عقد الوضع مذكوراً فيه إلاّفي صدر الكلام فلا مناصّ فيه عن الالتزام برجوعه إلى الجميع ، لأنّ المفروض أنّ عقد الوضع فيه لم يذكر إلاّفي صدر الكلام ، وقد عرفت أنّه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع فلا بدّ من رجوعه إلى الجميع ، وأمّا كون العطف في قوّة التكرار فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لا يوجب وجود عقد وضع آخر في الكلام ليكون صالحاً لرجوع الاستثناء إليه ، وأمّا القسم الأوّل أعني به ما يكون عقد الوضع فيه مكرّراً فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة لأنّ تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلاً يوجب أخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض » (١).

وقال في حاشية الأجود : « الصحيح في تقريب التفصيل في المقام أن يقال : إنّ تعدّد الجمل

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٩٧.

١٤٥

المتعقّبة بالاستثناء إمّا أن يكون بتعدّد خصوص موضوعاتها أو بتعدّد خصوص محمولاتها أو بتعدّد كليهما ، وعلى الأوّلين فإمّا أن يتكرّر ما بتعدّده تعدّد القضيّة في الكلام أو لا يتكرّر فيه ذلك ، فالأقسام خمسة ، أمّا القسم الأوّل ، أعني به ما تعدّدت فيه القضيّة بتعدّد موضوعاتها ولم يتكرّر فيه عقد الحمل كما إذا قيل : « أكرم العلماء والأشراف والشيوخ إلاّ الفسّاق منهم » فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى الجميع ، لأنّ القضيّة في مثل ذلك وإن كانت متعدّدة صورة إلاّ أنّها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بوجوب إكرام كلّ فرد من الطوائف الثلاث إلاّ الفسّاق منهم ، فكأنّه قيل : أكرم كلّ واحد من هذه الطوائف إلاّمن كان منهم فاسقاً ، وأمّا القسم الثاني ، أعني به ما تعدّدت فيه القضيّة بتعدّد موضوعاتها مع تكرّر عقد الحمل فيه كما إذا قيل : « أكرم العلماء والأشراف وأكرم الشيوخ إلاّ الفسّاق منهم » فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرّر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة على قطع الكلام عمّا قبله ، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام ، فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرّر فيه عقد الحمل إلى دليل آخر مفقود على الفرض ، وأمّا القسم الثالث والرابع ، أعني بهما ما تعدّدت فيه القضيّة بخصوص تعدّد محمولاتها مع تكرّر عقد الوضع في أحدهما وعدم تكرّره في الآخر فيظهر الحال فيهما ممّا افيد في المتن ، وأمّا القسم الخامس ، أعني به ما تعدّدت القضيّة فيه بكلّ من الموضوع والمحمول كما إذا قيل : « أكرم العلماء وجالس الأشراف إلاّ الفسّاق منهم » فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة ويظهر الوجه فيه ممّا تقدّم » (١).

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّ المتّبع في باب الألفاظ هو الظهور العرفي ، وهو يختلف باختلاف المقامات ولا يقبل الاستدلال المنطقي ، وحينئذٍ لو قامت قرينة أوجبت ظهور الكلام في الرجوع إلى الجميع أو إلى الأخيرة فهو ( سواء تكرّر عقد الحمل أو لم يتكرّر ) وإلاّ فيصير الكلام مجملاً مبهماً يؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الرجوع إلى الأخيرة.

وثانياً : أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله وتلميذه المحقّق المقرّر له كلاهما اتّفقا على ظهور العمومات

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٩٧.

١٤٦

غير الأخيرة في عمومها فيما إذا رجع الاستثناء إلى الأخيرة وأنّها ليست مكتنفة بما يصلح للقرينية حتّى تصير مجملة ، وذلك لتوهّم أنّ الإجمال يستلزم الإخلال بالمقصود ، مع أنّه ( كما مرّ ) قد يكون المقصود نفس الإجمال والإهمال ، وكلمة الاستثناء في الأمثلة المذكورة إن لم تكن كافيّة لبيان تمام المقصود تكفي للإجمال.

وقد يقال : إنّ هذا ( التفصيل المزبور ) خلط حقيقة بين أداة الاستثناء التوصيفي وأداة الاستثناء غير التوصيفي ففي القسم الأوّل فحيث أنّه لا يجوز التوصيف للضمير المتّصل يرجع الوصف في مثل « أكرم العلماء وأضفهم إلاّ الفسّاق منهم » أي الشقّ الثاني من التفصيل إلى الجملة الاولى ، أي يصير الوصف وصفاً للعلماء في المثال ، فيخصّص به حكم الإكرام وبتبعه يخصّص أيضاً ما بعده وهو حكم الضيافة في المثال ، وأمّا في القسم الثاني أي الاستثناء غير التوصيفي فيمكن رجوعه إلى الأخيرة كما يمكن رجوعه إلى الجميع ونسبته بالنسبة إلى كلّ واحد منهما سواء وليس ظاهراً في خصوص أحدهما حتّى يصير الكلام مجملاً ، هذا كلّه في الشقّ الثاني من التفصيل ، وأمّا الشقّ الأوّل ، أي ما إذا تكرّر عقد الوضع فادّعاء الظهور في الرجوع إلى الأخيرة مصادرة ودعوى بلا دليل.

أقول : كلامه في كلا شقّي التفصيل صحيح ومقبول ، ولكن الإشكال إنّما هو في أنّ الأمثلة المذكورة في ما نحن فيه ظاهر جميعها الاستثناء غير التوصيفي لأنّ ظاهرها الاستثناء عن الحكم لا الموضوع ، فلا معنى لكونه وصفاً حينئذٍ ، بل الاستثناء التوصيفي لا يأتي إلاّفي موارد خاصّة كباب الأعداد نحو ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ) (١) ، وبالجملة المتبادر من الاستثناء ( إلاّ في بعض الموارد ) هو الاستثناء عن الحكم ، وظاهره حينئذٍ عدم الوصف نحو « أكرم العلماء إلاّ الفسّاق » فليس الظاهر منه « أكرم العلماء المتّصفين بأنّهم غير الفسّاق ».

ثمّ إنّه ينبغي هنا أن نشير إلى نكتة وهي أنّ محلّ النزاع في ما نحن فيه ما إذا لم ـ توجد في البين قرينة مع أنّ المثال المعروف وهو آية القذف المذكورة في صدر المسألة ليس خالياً عنها ، وهي أنّ المشهور على قبول شهادة القاذف إذا تاب بل لعلّه إجماعي كما ذكره الفاضل المقداد حيث قال : « وإن تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعي ، وهو قول أكثر التابعين ، وقال أبو

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية ١٤.

١٤٧

حنيفة لا يقبل شهادته أبداً » (١) ويدلّ عليه أيضاً روايات : منها ما جاء في خبر قاسم بن سليمان عن أبي عبدالله عليه‌السلام « ... وبئس ما قالوا كان أبي يقول إذا تاب ولم يعلم منه إلاّخير جازت شهادته » (٢). فهذه قرينة خارجيّة تقتضي رجوع الاستثناء إلى الجميع ، وفي الآية قرينة اخرى داخلية تقتضي الرجوع إلى الجميع أيضاً حيث إن مقتضى الرجوع إلى الأخيرة عدالة القاذف إذا تاب ومقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع والفهم العرفي قبول شهادته حينئذٍ.

إن قلت : إنّه ينافي ذيل الآية ، أي قوله : « ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ».

قلت : إنّ كلمة « أبداً » بمنزلة عام يكون ظاهراً في الدوام وليس نصّاً فيه ، ولذا لا إشكال في تخصيصه كما ورد في آيات من القرآن الكريم نحو قوله تعالى : ( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) (٣).

__________________

(١) كنز العرفان : ج ٢ ، كتاب الحدود حدّ القذف.

(٢) الوسائل : ج ١٨ ، الباب ٣٦ ، من أبواب الشهادات ، ح ٢.

(٣) سورة هود : الآية ١٠٧.

١٤٨

الفصل العاشر

هل يجوز تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد؟

لا إشكال في جواز تخصيصها بخبر المتواتر ، إنّما الكلام في تخصيصها بخبر الواحد.

المستفاد من كلمات صاحب الفصول أنّ المسألة ذات أقوال ، خلافاً لما إدّعاه المحقّق النائيني رحمه‌الله من الإجماع على الجواز ، فحكي عن جماعة إنكار الجواز مطلقاً ونقل أنّه مذهب السيّد المرتضى رحمه‌الله.

إن قلت : أنّه أنكر حجّية خبر الواحد من أصله. قلت : إنّ إنكاره هنا مبنيّ على تسليمه لحجّية خبر الواحد فكأنّه يقول : لو سلّم حجّية خبر الواحد فلا يجوز تخصيص الكتاب به.

وهنا قول آخر بالجواز مطلقاً ، وهو منقول عن عامّة المتأخّرين ، ومنهم من فصّل بين ما إذا كان العام مخصّصاً سابقاً بدليل قطعي وما إذا لم يكن كذلك فذهب إلى الجواز في الأوّل دون الثاني ، وهنا من توقّف في المسألة ، فظهر إلى هنا أنّ المسألة ليست إجماعيّة ، نعم المتأخّرون منهم أجمعوا على الجواز.

ويستدلّ للجواز بوجهين ذكرهما في الكفاية :

الوجه الأوّل : السيرة المستمرّة من زمن النبي والأئمّة عليهم‌السلام بل وذلك ممّا يقطع به في زمن الصحابة والتابعين فإنّهم كثيراً ما يتمسّكون بالأخبار في قبال عمومات الكتاب ولم ينكر ذلك عليهم.

الوجه الثاني : أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة ، إذ ما من خبر إلاّوهو مخالف لعموم من الكتاب.

أقول : كلّ واحد من الوجهين قابل للجواب ، أمّا السيرة فيمكن المناقشة فيها بأنّ القدر المتيقّن منها ما إذا كانت أخبار الآحاد محفوفة بالقرينة خصوصاً مع النظر إلى كثرة وجود

١٤٩

القرائن في عصر الحضور ، ولو لم نقطع به فلا أقلّ من احتماله.

وأمّا الوجه الثاني : ففيه أنّ في الكتاب عمومات كثيرة لم تخصّص أصلاً حيث إن غالب عمومات الكتاب ليس الشارع فيها في مقام البيان من قبيل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) وهكذا قوله : ( خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) حيث إنّ معناه أنّ جميع ما خلق في الأرض يكون بنفعكم ، وليس مفاده منحصراً في خصوص منفعة الأكل حتّى يخصّص بما ورد من أدلّة حرمة الأكل بالنسبة إلى بعض الأشياء ، وهكذا قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) فإنّه ليس في مقام البيان حتّى ينافيه ويخصّصه ما يدلّ على أنّ الزّكاة في تسعة أشياء.

والأولى في المقام أن يستدلّ بعمومات أدلّة حجّية خبر الواحد كبناء العقلاء ومفهوم آية النبأ ، فإنّها دليل على العمل به ولو في مقابل عمومات الكتاب والسنّة المتواترة.

وأمّا المانعون فاحتجّوا للمنع بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ الكتاب قطعي وخبر الواحد ظنّي ، والظنّي لا يعارض القطعي لعدم مقاومته له فيلغى بالمرّة.

واجيب عنه : بأنّ الدوران والتعارض يقع في الحقيقة بين أصالة العموم في العام الكتابي وبين دليل حجّية الخبر ، لا دلالته ، وحيث إن الخاصّ أقوى دلالة من العام ، فلا شبهة في تقديمه عليه بعد أن ثبتت حجّيته بدليل قطعي ، وببيان آخر : أنّ الخبر بدلالته وسنده صالح عرفاً للقرينية على التصرّف في أصالة العموم بخلاف أصالة العموم فإنّها لا تصلح لرفع اليد عن دليل اعتبار الخبر لأنّ اعتبار أصالة العموم منوط بعدم قرينة على خلافها ، والمفروض أنّ الخبر الخاصّ بدلالته وسنده يصلح لذلك ، فلا مجال لأصالة العموم مع القرينة على خلافها.

هذا هو جواب المشهور عن هذا الوجه ، لكن الأحسن في مقام الجواب أن نرجع إلى ما بيّناه سابقاً في مبحث العام والخاصّ من أنّ العمومات الواردة في الكتاب والسنّة يجوز تخصيصها لحكمة تدريجيّة بيان الأحكام في الشريعة المقدّسة التي جرت عليها عادة الشارع وسيرته ، وفي خصوص الكتاب جرت أيضاً على بيان امّهات الأحكام غالباً وفوّض شرحها وبيان جزئيّاتها إلى سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، فالقرآن حينئذٍ بمنزلة القانون الأساسي ( في يومنا هذا ) الذي بيّنت فيه امّهات المسائل فقط.

الوجه الثاني : أنّ دليل حجّية الخبر وهو الإجماع لبّي ، والمتيقّن منه هو الخبر غير المخالف للكتاب فلا يشمل المخالف.

١٥٠

وجوابه واضح ، وهو أنّ دليل حجّية خبر الواحد ليس منحصراً بالإجماع بل لها أدلّة اخرى منها : السيرة المستمرّة لأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام على العمل بخبر الواحد المخالف للعام الكتابي ومنها : بناء العقلاء على العمل بها مطلقاً سواء كان في مقابله دليل قطعي الصدور أم لا.

الوجه الثالث : أنّه لو جاز التخصيص به لجاز النسخ أيضاً ، والتالي باطل اتّفاقاً فالمقدّم مثله ، بيان الملازمة ، أنّ النسخ نوع من التخصيص فإنّه تخصيص في الأزمان والتخصيص المطلق أعمّ منه ، فلو جاز التخصيص بخبر الواحد لكانت العلّة أولويّة تخصيص العام على إلغاء الخاصّ وهو قائم في النسخ.

واجيب عنه بوجهين :

الأوّل : أنّ الفارق بين النسخ والتخصيص هو الإجماع لاختصاص الإجماع على المنع بالنسخ.

الثاني : أنّ العقل يحكم بتفاوت النسخ عن التخصيص فالنسخ ممّا يتوفّر الداعي بضبطه ، ولذا قلّ الخلاف في موارده ويكون الخبر الدالّ عليه متواتراً غالباً ، فلا نحتاج في تعيين موارده إلى العمل بخبر الواحد ، بخلاف التخصيص كما يشهد لذلك الإرتكاز العقلائي فإنّه إذا قام خبر الواحد تارةً على مجيء أحد الأصدقاء مثلاً واخرى على مجيء شخص عظيم معروف خلف باب المدينة أو على وقوع الزلزلة وانهدام الحرم ومنارته بها فإنّهم يقبلون خبر الواحد في الأوّل ويرتّبون الآثار عليه دون الثاني لمكان الأهميّة ، فيستكشف من هذا أنّ طبيعة بعض الأخبار تتوفّر فيها الدواعي على نقلها وأنّها لو كانت لبانت ، ولعلّ هذا هو أساس اختصاص الإجماع على المنع بالنسخ.

ولنا جواب ثالث عن هذا الوجه ، وهو أنّا ننكر وجود الملازمة بين النسخ والتخصيص ، فإنّ النسخ ليس تخصيصاً في الأزمان للزوم تخصيص الأكثر حينئذٍ ، فلو كان مقتضى إطلاق أدلّة وجوب صلاة الجمعة مثلاً بقاؤه إلى يوم القيامة ولكن طرأ عليه دليل النسخ بعد زمان قصير فبناءً على كون النسخ تخصيصاً أزمانياً يوجب إخراج أكثر الزمان منذ ورود النسخ إلى يوم القيامة ، هذا ـ مضافاً إلى ما سيأتي من أنّه ليس للأحكام عموم أزماني ، فليس معنى قوله « يجب الصّلاة » مثلاً « يجب الصّلاة إلى يوم القيامة » بل الدوام مقتضى طبيعة القانون الشرعي حيث إن من طبعه أن يبقى ببقاء الشرع نظير القوانين العرفيّة العقلائيّة ، فليس معنى قولك :

١٥١

« بعتك هذه الدار » مثلاً « ملّكتك إيّاها إلى الأبد » بل البقاء هو مقتضى طبيعة قانون الملكيّة ، نعم يستثنى من ذلك بعض القوانين كقانون الإجارة ، فليس مقتضى طبيعة الإجارة الدوام والاستمرار بل هو تابع لقصد المؤجر والمستأجر كما لا يخفى.

فالحقّ أنّ النسخ كالفسخ ، فكما أنّ التمليك يوجد الملكية من دون تقيّد بزمان والفسخ يرفعها بدونه أيضاً فكذلك النسخ ، وسيأتي شرح هذا الكلام عند البحث عن حقيقة النسخ.

الوجه الرابع : ( وهو العمدة ) الأخبار الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن باطلة أو يجب طرحها أو غيرهما من المضامين المشابهة ، وهي على طائفتين :

الاولى : طائفة واردة في مورد الخبرين المتعارضين وتجعل موافقة الكتاب من مرجّحات تقدّم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة وهي خارجة عن محلّ النزاع لأنّها ـ كما صرّح به بعضهم ـ يستفاد منها أنّ حجّية الخبر المخالف في نفسه كان مفروغاً عنها وإنّما منع من العمل به وجود الخبر الموافق للكتاب المعارض.

والثانية : طائفة تدلّ على أنّ ما خالف كتاب الله فهو باطل مطلقاً من دون أن يكون في مقام المعارضة وهي كثيرة وصريحة الدلالة على طرح المخالف كما أشار إليه في الكفاية ، ومن حيث اللحن واللسان مختلفة يمكن تقسيمها إلى ثلاث طوائف :

الاولى : ما تدلّ على اشتراط موافقة الخبر للكتاب مثل ما رواه عبدالله بن أبي يعفور قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نطق به ، قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به » (١) وما رواه عبدالله بن بكير عن رجل عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : إذا جاءكم عنّا حديث وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم » (٢).

الثانية : ما تدلّ على أنّ ما خالف الكتاب زخرف ، نحو ما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (٣) وما رواه أيّوب بن الحرّ قال :

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١١.

(٢) المصدر السابق : ح ١٨.

(٣) نفس المصدر : ح ١٢.

١٥٢

سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (١).

الثالثة : ما تدلّ على اشتراطهما جميعاً وهي أربعة نشير هنا إلى بعضها وهو ما رواه جميل بن درّاج عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة ، أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » (٢). وفي معناه ما رواه (٣) جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام وهشام بن الحكم عن أبي عبدالله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) والسكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام (٥).

والظاهر أنّ مقتضى الجمع بين هذه الأخبار كلّها وجوب طرح ما خالف كتاب الله ولا أقلّ من أنّه هو القدر المتيقّن منه ، وهو يكفينا في المقام فلا حاجة إلى البحث عن مدلولها واحدة بعد واحدة.

وكيف كان ، فإنّ هنا صغرى وكبرى ، أمّا الصغرى فهي أنّ خبر الواحد المخصّص لعموم الكتاب مخالف لكتاب الله تعالى ، وأمّا الكبرى فهي « كلّ ما خالف كتاب الله فهو باطل » فتكون النتيجة أنّ خبر الواحد المخالف للكتاب باطل لا يجوز تخصيصه به.

واجيب عن هذا الوجه بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ مخالفة الخاصّ مع العام ليست بمخالفة عرفاً بل يعدّ الخاصّ حينئذٍ بياناً للعام وشرحاً له.

وهذا الجواب حسن بعد ملاحظة ما مرّ منّا سابقاً من أنّ سيرة الشارع وعادته العمليّة إستقرّت على البيان التدريجي للأحكام وإلاّ فمع قطع النظر عن هذه النكتة فقد عرفت أنّ ورود الخاصّ المنفصل بعد العام يعدّ عرفاً معارضاً للعام.

الوجه الثاني : سلّمنا صدق المخالفة عرفاً هنا ، إلاّ أن المراد من المخالفة في الأخبار الآمرة بردّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ١٤ ، ج ١ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ٣٥.

(٣) المصدر السابق : ح ٣٧.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٨ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١٥.

(٥) المصدر السابق : ح ١٠.

١٥٣

المخالف للكتاب هو غير مخالفة العموم والخصوص مطلقاً قطعاً ، وذلك للعلم بصدور أخبار كثيرة مخالفة للكتاب بالعموم والخصوص إجمالاً وجريان السيرة القطعيّة وقيام الإجماع على العمل بها في مقابل عمومات الكتاب ، ولا يكون ذلك إلاّلتخصيص المخالفة التي هي موضوع الأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب بالمخالفة على نحو التباين وإخراج المخالفة بالعموم والخصوص مطلقاً عن المخالفة ، إذن فالأخبار الآمرة بردّ المخالف محمولة على المخالفة على نحو التباين وإلاّ فهي آبية عن التخصيص.

أقول : هذا الجواب أيضاً حسن إلاّ أنّه يرد عليه إشكال أورده شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله وأجاب عنه وسيأتي بيانه.

الوجه الثالث : أنّ المراد من هذه الأخبار أنّهم لا يقولون خلاف القرآن ثبوتاً وواقعاً وأمّا خلافه إثباتاً وظاهراً ولو بنحو التباين الكلّي فضلاً عن العموم والخصوص مطلقاً أو من وجه شرحاً لمرامه تعالى وبياناً لمراده فكثيراً ما يقولون به.

ولكنّه غير تامّ ، لأنّ ظاهر الأخبار أنّ موافقة الكتاب جعلت معياراً لصدق الخبر في مقام الظاهر ، أي بعد عرضه على ظاهر الكتاب ، إذ العرض على واقعه غير ممكن لنا. ولعلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله أشار إليه بعد بيان هذا الوجه بقوله « فافهم ».

ولكن هيهنا إشكالان :

أحدهما : أنّ إخراج المخالفة بالعموم والخصوص المطلق من الأخبار الآمرة بطرح المخالف للكتاب واختصاصها بالمخالفة على نحو التباين يستلزم بقاءها بلا مورد ، لأنّا لم نظفر على خبر مخالف على هذا الوجه.

وأجاب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله عن هذه المشكلة في رسائله بما حاصله : أنّ عدم الظفر على المخالف بالتباين الآن ، أي بعد تنقيح الأخبار وتصفيتها مرّات عديدة بأيدي أكابر أصحاب الحديث وضبطها في الاصول الأربعمائة ثمّ في الاصول الأربعة لا يلازم عدم وجوده فيما قبل.

أقول : بل يوجد الآن أيضاً بين الأخبار روايات في بعض جوامع الحديث كالبحار للعلاّمة

١٥٤

المجلسي رحمه‌الله تخالف الكتاب على نحو التباين أو تخالف بعض المسلّمات والضروريات كالتي تخبر عن وقوع النزاع والمعارضة بين علي عليه‌السلام وفاطمة عليها‌السلام وما ورد من أنّ السادات العاصين لا يدخلون في نار جهنّم كيفما كانت المعصية وعلى أي مقدار ، مع أنّ الأوّل ينافي عصمة الأئمّة عليهم‌السلام وفاطمة عليها‌السلام والثاني يستلزم زيادة الفرع على الأصل حيث إنّه ورد في القرآن الكريم مخاطباً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (١) ، أو قوله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالَيمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (٢) وهكذا ما ورد من أنّ عدد الأئمّة عليهم‌السلام ثلاثة عشر فإنّها أخبار شاذّة نقطع ببطلانها إذا حملت على ظواهرها.

ثانيهما : أنّ هذا كلّه يتصوّر بالنسبة إلى الطائفة الثانية من روايات طرح الخبر المخالف للكتاب ، أمّا الطائفة الاولى وهي الأخبار الدالّة على وجوب الأخذ بالخبر الموافق وطرح الخبر المخالف التي وردت في خصوص باب الخبرين المتعارضين فالمشكلة الموجودة فيها أنّه إذا كانت النسبة بين الخبرين التباين الكلّي فهذه الأخبار إنّما هي في مقام تمييز الحجّة عن اللاّحجّة لا في مقام ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى بموافقتها للكتاب ، لأنّ المخالف للكتاب في هذه الصورة ليست بحجّة حتّى تصل النوبة إلى التعارض بينه وبين الموافق ، وإذن يتعيّن أن يكون مورد هذه الأخبار ما إذا كانت النسبة بين الخبر وكتاب الله العموم والخصوص مطلقاً ، وهذا يستلزم التفكيك في معنى الاختلاف في الطائفتين من الرّوايات مع أنّ الظاهر وحدة المفهوم فيهما.

واجيب عن هذه المشكلة بجوابين :

أحدهما : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في باب التعادل والتراجيح من أنّ الموافقة للكتاب في أخبار التعارض أيضاً لتمييز الحجّة عن اللاّحجّة.

ولكنّه في الواقع في تسليم للإشكال.

ثانيهما : أنّ التفكيك بين الطائفتين غير قادح إذا قامت القرينة ودلّ الدليل عليه كما في المقام.

__________________

(١) سورة الزمر : الآية ٦٥.

(٢) سورة الحاقّة : الآية ٤٦.

١٥٥

بقي هنا امور :

الأوّل : أنّه يمكن أن يقال : إنّ هذه الأخبار أيضاً بنفسها مخالفة لكتاب الله تعالى لأنّها تخالف مفهوم آية النبأ حيث إن مفهومها حجّية خبر الواحد مطلقاً سواء كان مخصّصاً لعمومات الكتاب أو لا يكون ، فيلزم من وجود هذه الأخبار وحجّيتها عدمها لأنّ حجّيتها تقتضي تقييد الكتاب في هذه الآية ، فيصير من قبيل تقييد الكتاب بخبر الواحد وهو ممنوع على الفرض ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّها بالغة إلى حدّ التواتر وليست من أخبار الآحاد فلا إشكال حينئذٍ في جواز تخصيص عموم الكتاب بها.

الثاني : ربّما يقال بأنّ هذا البحث قليل الجدوى لأنّ عمومات الكتاب ليست في مقام البيان فلا يقع تعارض وتخالف بينها وبين أخبار الآحاد.

لكن يردّ هذا : بأنّه وإن كان كثير من العمومات الواردة في الكتاب ، كذلك ولكن نشاهد بينها عدداً كثيراً من العمومات التي تكون في مقام البيان ، نحو عموم قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقوله : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) وقوله : ( وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) وقوله : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) وقوله : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) وقوله في آية الأنفال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) وقوله : ( وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) بناءً على كونه في سياق النفي وقوله : ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ).

الثالث : أنّ أكثر النكات المذكورة بالنسبة إلى عمومات الكتاب تأتي بالنسبة إلى إطلاقاته أيضاً ، فالمطلقات من كتاب الله أيضاً تقيّد بخبر الواحد ، وحينئذٍ يأتي فيه أيضاً أدلّة المثبتين ، وكذلك أدلّة النافين والجواب عنها لأنّ المطلقات بعد تمام مقدّمات الحكمة بحكم العموم.

١٥٦

الفصل الحادي عشر

الكلام في حالات العام والخاصّ

إذا ورد عام وخاصّ فتارةً يكون تاريخ كليهما معلوماً ، واخرى يكون تاريخ أحدهما أو كليهما مجهولاً ، أمّا الأوّل فله صور خمسة :

الصورة الاولى : أن يكون الخاصّ مقارناً للعام ، فإنّه حينئذٍ مخصّص له بلا إشكال نحو ، أكرم العلماء إلاّزيداً.

الصورة الثانية : أن يكون الخاصّ غير مقارن للعام لكن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، كما إذا قال المولى في أوّل الاسبوع : « أكرم العلماء يوم الجمعة » ثمّ قال في وسطه : « لا تكرم زيداً العالم يوم الجمعة » فحكمها التخصيص ولا يجوز فيها النسخ ، لأنّ جواز النسخ من ناحية المولى الحكيم مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ.

الصورة الثالثة : أن يكون الخاصّ غير مقارن للعام وورد بعد حضور وقت العمل به ، كما إذا قال في الاسبوع الأوّل : « أكرم العلماء يوم الجمعة » ثمّ قال في الاسبوع الثاني : « لا تكرم زيداً العالم » ، فذهب القوم إلى كونه ناسخاً لا مخصّصاً لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لكنّا نقول : هذا إذا أحرز أنّ العام قد ورد لبيان الحكم الواقعي ، أمّا إذا متكفّلاً لبيان الحكم الظاهري كما هو الغالب بل هكذا سنّة الشارع وسيرته العمليّة في بيان الأحكام الشرعيّة حيث إنّه من دأبه أن يبيّن الأحكام تدريجاً ، فحينئذٍ يكون الخاصّ مخصّصاً لا ناسخاً لأنّ النسخ في هذه الصورة وإن كان ممكناً ثبوتاً ولكن ندرته وشيوع التخصيص يوجب تقوية ظهور العام في العموم الأزماني وتضعيف ظهوره في العموم الأفرادي ، فيقدّم الظهور في الأوّل على الثاني.

الصورة الرابعة : عكس الثانية ، وهي أن يرد العام بعد الخاصّ غير مقارن له وقبل حضور وقت العمل بالخاصّ ، فحكمها حكم الصورة الثانية لنفس الدليل المذكور فيها ، وهو كون

١٥٧

النسخ قبل العمل قبيحاً للمولى الحكيم ، والمثال واضح.

الصورة الخامسة : أن يكون العام بعد الخاصّ وغيرمقارن له وورد بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، فيدور الأمر فيها بين النسخ والتخصيص لجواز كلّ منهما عند الكلّ ، أمّا التخصيص فلعدم استلزامه تأخير البيان عن وقت الخطاب أو الحاجة ، وأمّا جواز النسخ فلكونه بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، والمشهور على ترجيح التخصيص على النسخ ، فيقدّم عليه وذلك لندرة النسخ وشيوع التخصيص كما مرّ ، وبعبارة اخرى : ظهور الخاصّ في الدوام الأزماني أقوى من ظهور العام في العموم الافرادي.

هذه صور خمسة لما إذا كان تاريخ كلّ من العام والخاصّ معلوماً ، وهناك صورة سادسة وهي ما إذا كان التاريخ مجهولاً من دون أن يكون فرق بين ما إذا كان تاريخ كليهما مجهولاً وما إذا كان تاريخ أحدهما مجهولاً ، ولا يخفى أنّ هذه الصورة تأتي فيها جميع الاحتمالات الخمسة المذكورة ، وبما إن الحكم كان في بعضها النسخ وهو الصورة الثالثة على مبنى القوم ، فيتردّد الأمر في هذا القسم بين النسخ والتخصيص على مبنى القوم ، ويصير الحكم مبهماً من ناحية الاصول اللفظيّة وحينئذٍ ، تصل النوبة إلى الاصول العمليّة.

هذا كلّه بناءً على ما مشى عليه الأعلام فإنّهم تسالموا على ثلاثة اصول في المقام ليست مقبولة عندنا : أحدها : عدم جواز النسخ قبل العمل. ثانيها : عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ثالثها : إنّ دوام الأحكام هو مقتضى العموم الأزماني.

أمّا جواز النسخ قبل العمل فنقول : لا إشكال في جواز النسخ قبل العمل في الأوامر الامتحانية كما وقع في قضيّة ذبح إبراهيم عليه‌السلام ولده إسماعيل عليه‌السلام حيث كان الأمر فيه إمتحانيّاً يحصل بنفس التهيّؤ للعمل فإذا وقع التهيّؤ وحضر وقته يحصل المقصود من الإمتحان ، وحينئذٍ يمكن النسخ ، ولا إشكال في جوازه ، وهو نظير ما إذا كلّف المولى عبدهبالسفر وقد تهيّأ له قبل حضور وقته فحينئذٍ بما أن نفس التهيّؤ يكفي لتحقّق الإمتحان والقبول فيه وبالإمكان أن يتحقّق قبل زمان الفعل يجوز للمولى أن ينسخ حكمه بلا إشكال.

أمّا إذا كانت الأوامر غير إمتحانيّة فإنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قسّمها على ثلاثة أقسام : الأوامر

١٥٨

الصادرة على نهج القضايا الحقيقيّة غيرالموقتة ، والأوامر الصادرة على نهج القضايا الحقيقيّة الموقتة ، والأوامر الصادرة على نهج القضايا الخارجيّة ، وحكم باختصاص جواز النسخ بالقضايا الحقيقيّة غير الموقتة والقضايا الخارجيّة أو القضايا الحقيقيّة الموقتة بعد حضور وقت العمل بها ، وأمّا القضايا الخارجيّة أو الحقيقيّة الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلّق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحكيم الملتفت وقال : في توضيحه : « إنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجيّة من أحكام القضايا الحقيقيّة وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجيّة لصحّ ما ذكروه ، وأمّا إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقيّة الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها كما هو الواقع في أحكام الشريعة المقدّسة فلا مانع من نسخها بعد جعلها ، ولو كان ذلك بعد زمان قليل كيوم واحد أو أقلّ ، لأنّه لا يشترط في صحّة جعله وجود الموضوع له في العام أصلاً إذ المفروض أنّه حكم على موضوع مقدّر الوجود ، نعم إذا كان الحكم المجعول في القضيّة الحقيقيّة من قبيل الموقّتات كوجوب الصّوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجيّة قبل وقت العمل به فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلاً حكماً مولويّاً مجعولاً بداعي البعث أو الزجر » (١).

أقول : الإنصاف أنّه لا فرق بين الأقسام الثلاثة ، فإذا كان الطلب في القضايا الحقيقيّة غير الموقّتة حقيقياً وكان الغرض فيها حصول نفس العمل في الخارج لا الامتحان فرفع الطلب ونسخ الحكم حينئذٍ يوجب كون الحكم لغواً لأنّه وإن لا يشترط في صحّة الجعل فيها وجود الموضوع فعلاً إلاّ أنّه إذا كان الموضوع منتفياً إلى الأبد كما إذا لا يتحقّق مصداق لعنوان المستطيع ( في مثال الحجّ ) أبداً فلا محالة يكون جعل الحكم من المولى الحكيم العالم بذلك لغواً واضحاً.

ثمّ إنّه قلّما يوجد في الأحكام الشرعيّة أوامر امتحانيّة ، نعم قد تكون المصلحة في نفس الإنشاء وذلك لوجود مصلحة في البين كتثبيت المتكلّم موقعيّة نفسه في الموالي العرفيّة

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

١٥٩

وكالتقيّة لحفظ النفس أو المال أو غيرهما في الأوامر الشرعيّة ، وحينئذٍ يجوز النسخ قبل العمل بلا ريب كما لا يخفى.

هذا كلّه في المسألة الاولى من المسائل الثلاثة ، وهي جواز النسخ قبل العمل وعدمه.

المسألة الثانية : وهي تأخير البيان عن وقت الحاجة فالوجه في عدم جوازه يمكن أن يكون واحداً من الثلاثة :

أحدها : الإلقاء في المفسدة كما إذا قال : أكرم العلماء ، ولم يستثن زيداً العالم مع أنّه كان خارجاً عن حكم الإكرام عنده وكان إكرامه ذا مفسدة في الواقع ، فإنّه حينئذٍ يوجب إلقاء العبد في تلك المفسدة.

ثانيها : تفويت المصلحة كما إذا قال : لا تكرم الفسّاق ، وكان إكرام الضيف مثلاً ذا مصلحة في الواقع ولم يستثنه فإنّه يوجب تفويت تلك المصلحة.

ثالثها : الإلقاء في الكلفة كما إذا قال : أكرم جميع العلماء ، ولم يكن إكرام جماعة منهم واجباً مع أنّ إكرامهم يستلزم تحمّل المشقّة الزائدة للعبد.

فبناءً على أحد هذه الامور لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، نعم قد يجوز التأخير فيما إذا كانت هناك مصلحة أقوى كالمصلحة الموجودة في تدريجية الأحكام الشرعيّة فلا إشكال حينئذٍ في أنّ العقل حاكم على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما لا يخفى.

المسألة الثالثة : وهي أنّ الدوام والاستمرار الزماني في الأحكام هل يستفاد من العموم الأزماني للأدلّة ، أو يستفاد من مقدّمات الحكمة ، أو يكون مقتضى أصل عملي وهو الاستصحاب؟ فقال بعض بأنّه لا دليل عليه إلاّ أنّه مقتضى استصحاب بقاء الأحكام ، وحيث إنّه أصل عملي وعموم العام أصلي لفظي فلا يقع تعارض بينهما بل يقدّم العموم على الاستصحاب دائماً ، وعليه إذا ورد العام بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل بالخاصّ يقدّم العام على الخاصّ وتكون النتيجة تقديم النسخ على التخصيص.

لكنّ الإنصاف أنّ الاستمرار الزماني يستفاد من طرق اخرى لفظيّة فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب :

أحدها : مقدّمات الحكمة فيما إذا قال مثلاً : « لله على الناس حجّ البيت » ولم يقيّده بزمان خاصّ فنستفيد من إطلاقه الدوام والاستمرار.

١٦٠