أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

١
٢

٣
٤

٥
٦

المقصد الثالث :

المفاهيم

مفهوم الشرط

مفهوم الوصف

مفهوم الغاية

مفهوم الحصر

مفهوم اللقب

مفهوم العدد

٧
٨

٣ ـ المفاهيم

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من تقديم امور :

الأمر الأوّل : في تعريف المفهوم

المفهوم في اللّغة عبارة عن « ما يفهم ويدرك » ، فإذا اضيف إلى اللفظ كان معناه ما يفهم من اللفظ ، وإذا اضيف إلى الجملة كان معناه ما يفهم من الجملة ، فهو يعمّ حينئذٍ المعنى المصطلح للمفهوم أيّاً ما كان ، حيث إنّه ممّا يفهم من اللفظ كذلك ، فيكون مفهوماً له.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّف في كلمات القوم بتعاريف عديدة :

أحدها : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله وهو : « إنّ المفهوم حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيّة المعنى ( الذي اريد من اللفظ ) بتلك الخصوصيّة ولو بقرينة الحكمة ، وكان يلزمه لذلك ، وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه ».

ولكنّه قد أتعب نفسه الزكيّة حيث لا حاجة إلى كثير من هذه القيود وهي كلمة « إنشائي أو إخباري » وقوله : « ولو بقرينة الحكمة إلى آخره ».

بل لو قلنا : « إنّ المفهوم حكم غير مذكور في الكلام يدلّ عليه المذكور » كان شاملاً لتمام ما أراده من تلك القيود ، حيث إنّ لفظ « الحكم » عام يعمّ الإنشائي والإخباري معاً ، وجملة « غير مذكور في الكلام » شامل لمفهوم الموافقة وغيرها ، وكلمة « المذكور » مخرجة لما يستفاد من مقدّمات الحكمة ؛ لأنّها ممّا يستفاد من بعض المقدّمات العقليّة لا من دلالة وضعية ، وهذا بنفسه تعريف ثانٍ للمفهوم.

ثالثها : ما نقله المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضاً ممّا يكون في جانب التفريط وهو أنّ « المفهوم حكم غير مذكور » حيث لا إشكال في أنّ كلّ حكم مذكور ليس مفهوماً.

٩

رابعها : ما ذكره في تهذيب الاصول وهو « إنّه عبارة عن قضيّة غير مذكورة مستفادة من القضيّة المذكورة عند فرض انتفاء أحد قيود الكلام ».

ويرد عليه أيضاً : أنّه غير جامع لمفهوم الموافقة ؛ لأنّها لا تستفاد من انتفاء أحد قيود الكلام كما لا يخفى ، مضافاً إلى أنّ الأولى هو التعبير بالحكم بدل كلمة « القضيّة » حيث إنّها تعبير منطقي أو فلسفي ، والاصولي يطلب في المسائل الاصوليّة الحكم لا القضيّة.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ظاهر كلمات القوم أنّهم في مقام بيان تعريف حقيقي جامع ومانع ، لا مجرّد شرح الاسم ، ولذلك يتصدّون للنقض والإبرام وإثبات أنّ هذا القيد داخل وأنّ ذاك خارج كما مرّ كراراً ، وحينئذٍ فقول المحقّق الخراساني رحمه‌الله في ما نحن فيه من « أنّه لا موقع لما قد وقع في تعريف المفهوم من النقض والإبرام بين الأعلام ؛ لأنّه من قبيل شرح الاسم » في غير محلّه.

الأمر الثاني : هل البحث في باب المفاهيم عقلي أو لفظي؟

الحقّ أنّ البحث في المفاهيم من أوضح المباحث اللفظيّة ؛ لأنّ المدلول الالتزامي من أقسام الدلالات اللفظيّة ، ومن العجب ما ذكره في المحاضرات من « أنّ للمفاهيم حيثيتين واقعيتين فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاصوليّة العقليّة ، ومن الاخرى تناسب أن تكون من المسائل الاصوليّة اللفظيّة ، وذلك لأنّه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول عند انتفاء العلّة هو العقل فحسب فهي من المسائل الاصوليّة العقليّة ، وبالنظر إلى كون الكاشف عن العلّة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضاً فهي من المسائل الاصوليّة اللفظيّة لفرض أنّ الكاشف عنها هو اللفظ كما عرفت ، فإذن يكون المفهوم مدلولاً للفظ التزاماً » (١) ، مع تصريحه بأنّ دلالة اللفظ على المفهوم إنّما يكون بالالتزام ، والدلالة الالتزاميّة من أقسام الدلالة اللفظيّة.

وإن شئت قلت : كون المدلول الالتزامي بيّناً يوجب ظهوراً عرفيّاً للفظ في المدلول المفهومي الالتزامي ، وحينئذٍ يستظهر المفهوم من اللفظ فهي من المسائل اللفظيّة فقط فتأمّل.

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٥ ، ص ٥٨ ـ ٥٩.

١٠

الأمر الثالث : هل المسألة من المسائل الاصوليّة أو لا؟

المستفاد من بعض الكلمات وجود التسالم على كونها اصوليّة ، ولكن الحقّ أنّها من مبادىء الاصول ؛ لأنّها تبحث عن صغرى الظهور ، وأنّه هل يكون لمنطوق القضيّة الشرطيّة ـ مثلاً ـ ظهور في المفهوم أو لا؟ والمسألة الاصوليّة في الحقيقة إنّما هي حجّية الظواهر ؛ ، لأنّ موضوع علم الاصول هو « الحجّة » والبحث في مسائلها يدور مدار حجّية الدليل ، وأنّه هل يكون هذا الظهور ـ مثلاً ـ حجّة أو لا؟

توضيح ذلك : أنّه لابدّ في فهم معنى خاصّ من لفظ خاصّ والاحتجاج به على المقصود من طيّ مقدّمات عديدة :

إحداها : البحث عن مفاد مادّة اللفظ لغةً كمادّة الوفاء في قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) مثلاً ، ونرجع فيها إلى كتب اللغة.

ثانيتها : البحث عن مفاد هيئة اللفظ المفرد وصيغته وهي صيغة « أوفوا » التي في المثال ، وفيها نرجع إلى علم الصرف.

ثالثتها : البحث عن مفاد هيئة الجملة ، أي هيئة « أوفوا بالعقود » وأنّها ظاهرة في أي شيء؟

ولابدّ فيها من الرجوع إلى علم النحو.

ثمّ بعد طيّ هذه المقدّمات يبحث رابعاً في أنّه هل يمكن أن يكون هذا الظهور دليلاً للحكم الشرعي وحجّة عليه أو لا؟

لا إشكال في أنّ البحث الأخير من المسائل الاصوليّة ، ولابدّ فيه من الرجوع إلى علم الاصول ، ولازم هذا أن يكون البحث عن المفاهيم وكذلك الأوامر والنواهي خارجاً عن مسائل علم الاصول ودخلاً في مباديه ، وأمّا وقوعه في علم الاصول فهو ليس دليلاً على كونها من مسائله ، بل لعلّه من باب عدم استيفاء البحث عنها في العلوم اللائقة بها.

الأمر الرابع : هل المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول؟

ظهر ممّا ذكرناه من التعريف للمفهوم أنّه من صفات المعنى والمدلول لا الدلالة ، فإنّه عرّف بأنّه « حكم غير مذكور » ، كما أنّ المنطوق أيضاً من صفات المدلول حيث إنّه حكم مذكور كذلك.

١١

إن قلت : فكيف يقع صفةً للدلالة ويقال : الدلالة المفهوميّة ، كما استشهد به في تهذيب الاصول على أنّ المفهوم قد يكون من صفات المدلول وقد يكون من صفات الدلالة؟

قلنا : المراد من الدلالة المفهوميّة الدلالة المنسوبة إلى المعنى الذي يكون مفهوماً للفظ كما لا يخفى ، وحينئذٍ يكون المفهوم في هذا التعبير أيضاً وصفاً للمعنى والمدلول.

الأمر الخامس : هل النزاع في المفاهيم صغروي أو كبروي؟

الظاهر من كلمات القوم هو الثاني ، حيث إنّهم يعنونون البحث عن مفهوم الشرط مثلاً بهذا العنوان : « هل

مفهوم القضيّة الشرطيّة حجّة أو لا؟ » وظاهره أنّ البحث إنّما هو في الحجّية وعدمها ، وهو بحث كبروي كما لا يخفى.

كما أنّ المنسوب إلى قدماء القوم أيضاً أنّه كبروي ، لكن الصحيح أنّه صغروي عند القدماء والمتأخّرين جميعاً ، أمّا المتأخّرون فلتصريحهم بأنّ النزاع صغروي ، وأنّ الكلام إنّما هو في أصل وجود المفهوم خارجاً ، بمعنى أنّ الجملة الشرطيّة أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أو لا؟ وأمّا تعبيرهم في عنوان المسألة بأنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة حجّة أو لا؟ فإنّما هو لنكتة خاصّة وهي أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ لجميع الموضوعات التي وقع البحث في مفهومها دلالة ما أو إشعاراً ما على المفهوم ، ولكن وقع النزاع في أنّ هذه الدلالة هل تقف عند حدّ الإشعار حتّى لا تكون حجّة ، أو تصل إلى حدّ الظهور اللفظي العرفي فتكون حجّة؟

وأمّا القدماء من الأصحاب فالدقّة في كلماتهم أيضاً تقتضي هذا المعنى ، أي أنّ مرادهم من حجّية مفهوم وعدمها أنّه هل تصل تلك الدلالة المفروغ عنها إلى حدّ الظهور العرفي فتكون حجّة ، أو لا؟

١٢

١ ـ الكلام في مفهوم الشرط

هل للجملة الشرطيّة مفهوم ، أو لا؟

اختلف الأصحاب في دلالتها على المفهوم وعدمها ، والتحقيق في حلّ المسألة ملاحظة ما ينشأ منه المفهوم ، أي ملاحظة الخصوصيّات الموجودة في المنطوق التي يمكن أن يفهم منها المفهوم.

فنقول : من الخصوصيّات المذكورة في كلماتهم في هذه الجهة خصوصيّة أدوات الشرط ، فقد يدّعى أنّ أداة الشرط وضعت للدلالة على علّية الشرط للجزاء عليه منحصرة ، وهي تقتضي انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، وهذا هو المفهوم.

ولكن الحقّ والإنصاف أنّ أداة الشرط وضعت لمطلق العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء في الوجود سواء كانت من قبيل الملازمة الموجودة بين العلّة والمعلول ، أو الملازمة الموجودة بين معلولي علّة واحدة ، وسواء كانت العلّية منحصرة أو غير منحصرة.

توضيح ذلك : أنّه تارةً لا يكون بين الشرط والجزاء ملازمة ، بل المقارنة بينهما اتّفاقية ، كما ورد في قول الفرزدق في حقّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام : ياهشام « إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه » ونحو قولك : « إن لم تكن جائعاً فإنّي جائع » ، واخرى توجد بينهما ملازمة لكنّها ليست من باب الملازمة بين العلّة والمعلول بل من باب الملازمة بين معلولي علّة واحدة ، نحو « إن جاء النهار ذهب الليل » ونحو « إن طال الليل قصر النهار » حيث إن كلّ واحد من الشرط والجزاء في كلا المثالين يكون معلولاً لعلّة واحدة كما لا يخفى ، أو يكون من باب الملازمة بين العلّة والمعلول لكن العلّة فيها هو الجزاء ، والمعلول هو الشرط ، نحو « إذا جاء النهار طلعت الشمس.

وثالثة : يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة ، لكن العلّية ليست منحصرة في الشرط ، نحو « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » فإنّ علّة عاصميّة الماء ليست منحصرة في

١٣

الكرّيّة ، ولا يخفى أنّ أمثلة هذا القسم كثيرة غاية الكثرة ، ورابعة : يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة ، والعلّية منحصرة في الشرط ، نحو « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودة » ، وفي باب الامور الشرعيّة كأن يقال : « إذا آمن الإنسان دخل الجنّة ».

إذا عرفت هذا فنقول : لو ثبت كون القضيّة الشرطيّة حقيقة في القسم الرابع وتكون مجازاً في الثلاثة الاول تثبت دلالتها على المفهوم ، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك؟

نعم ، يمكن أن نقول بالمجاز في القسم الأوّل بل يمكن القول بوجود حذف فيه يقتضي كون المقارنة من باب العلّية لا الاتّفاق ، كأن يقال بحذف « فلا يضرّ » أو « فلا إشكال » في قول الفرزدق ، فقوله : « إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه » يعني « إن كنت لا تعرفه فلا يضرّه لأنّي أعرفه » ، وبالجملة لا يبعد دعوى المجاز في هذا القسم ، أمّا القسم الثاني والثالث فإنّ الوجدان العرفي ( أي عرف أهل اللسان ) حاكم على عدم المجاز فيهما.

الخصوصيّة الثانية : هي إنصراف القضيّة الشرطيّة إلى العلّية المنحصرة ، فقد يقال إنّها وإن وضعت أوّلاً وبالذات لمطلق العلقة ، لكن عند الإطلاق تنصرف إلى العلقة الناشئة من العلّية المنحصرة لأنّها أكمل فرد لمطلق العلقة.

ولكن يرد عليها أيضاً أنّ ما يوجب الانصراف إنّما هو كثرة الاستعمال التي توجب انساً ذهنياً بالنسبة إلى المنصرف إليه ، وهي تارةً تنشأ من كثرة الافراد ، واخرى من غيرها ، وأمّا مجرّد أكمليّة الفرد فلا توجب ذلك بل لعلّ الأمر بالعكس ، أي أنّ الأكمليّة قد توجب الانصراف عن الفرد الأكمل لقلّته وندرته.

بقي هنا شيء :

وهو ما أفاده في المحاضرات من « أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ترتكز على ركائز ، منها أن يرجع القيد في القضيّة إلى مفاد الهيئة دون المادّة ، والسبب في ذلك ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ القضايا الشرطيّة ظاهرة عرفاً في تعليق مفاد الجملة ( وهي الجزاء ) على مفاد الجملة الاخرى ( وهي الشرط ) ، وإلاّ لو بنينا على رجوع القيد إلى المادّة كما اختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره فحال القضيّة الشرطيّة عندئذٍ حال القضيّة الوصفيّة في الدلالة على المفهوم وعدمها لما سيأتي من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل

١٤

سائر المتعلّقات بل المراد منه مطلق القيد » (١).

أقول : إنّ ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه‌الله ليس هو كون القضيّة الشرطيّة ظاهرة في رجوع القيد إلى المادّة ، بل مراده أنّ القيد راجع إلى المادّة لبّاً وإن كانت القضيّة ظاهرة في رجوعه إلى الهيئة لفظاً.

وبعبارة اخرى : إنّ مقصوده أنّ القيد وإن كان للهيئة في مقام الاستظهار والإثبات ، ولكنّه لابدّ من رجوعه إلى المادّة في مقام الثبوت من باب أنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة التي ليست قابلة للتقييد لجزئيتها ، وعلى هذا فلا فرق بين مختار الشيخ قدس‌سره وغيره في القضيّة الشرطيّة من حيث الظهور العرفي الذي هو الملاك والملحوظ في باب المفاهيم.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مراد شيخنا الأعظم قدس‌سره أنّ الظهور البدوي وإن كان هو رجوع القيد إلى الهيئة ولكن بالنظر إلى القرينة العقليّة وهي عدم قابلية الهيئة للتقييد لابدّ أن يرجع إلى المادّة بحسب الدلالة اللفظيّة.

الخصوصيّة الثالثة : والطريق الثالث لفهم العلّية المنحصرة هو التمسّك بإطلاق الشرط ، ويمكن تفسيرها ببيانات ثلاثة :

البيان الأوّل : أنّ إطلاق الشرط يقتضي انحصار العلّة فيه نظير اقتضاء إطلاق الأمر كون الوجوب فيه نفسيّاً تعيينيّاً.

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : أنّ قياس المقام بهيئة الأمر قياس مع الفارق فإنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم بيان ما يكون قيداً مع كون المتكلّم في مقام البيان ، وهو صادق في المقيس عليه لا في المقيس ، لأنّ كون الوجوب غيريّاً مثلاً قيد للوجوب كما يستفاد من قوله تعالى : ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) حيث إن المستفاد منه أنّ وجوب الوضوء مقيّد بقصد القيام إلى الصّلاة ، والنفسيّة تساوق حسب الفرض عدم كون الوجوب غيريّاً ، فإذا كان المولى الشارع في مقام البيان ولم يذكر قيد الغيريّة للوجوب بل صدر منه الحكم مطلقاً كان المستفاد منه الوجوب النفسي ، وأمّا في ما نحن فيه فلا يفيد الإطلاق إلاّكون الشيء تمام الموضوع

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٥ ، ص ٥٩ ـ ٦٠.

١٥

للحكم كما في قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » فإنّ مقتضى إطلاق الشرط أنّ الكرّيّة مؤثّرة في العاصميّة من دون أن يكون شيء آخر دخيلاً فيه ، وإلاّ لكان عليه البيان ، فالقيد هو دخل شيء آخر في موضوع الكرّيّة ، وعدم بيانه مع كونه في مقام البيان يفيد أنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة ، وأمّا كون شيء آخر موضوعاً للحكم أيضاً فلا يوجب تقييداً في هذا الموضوع بوجه لكي نستفيد من عدم بيانه انحصار الحكم في هذا الموضوع.

وبعبارة اخرى : كون الكرّ علّة منحصرة في العاصميّة وعدمه لا دخل له ولا تأثير له في العلقة الموجودة بين الكرّيّة والعاصميّة ، فإنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة سواء كانت العاصميّة منحصرة فيها أم لا ، فلا يكون عدم الانحصار قيداً لعاصميّتها ، ولا يقتضي الإطلاق انحصار العلّة.

وثانياً : قد مرّ أنّ المستفاد من الجملة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء أعمّ من أن يكون من باب التلازم بين العلّة والمعلول أو من باب التلازم بين معلولي علّة واحدة ، فلا يكون مفاده منحصراً في العلّية حتّى يتكلّم في انحصارها أو عدم انحصارها.

البيان الثاني : أنّ عدم كون العلّة منحصره يقتضي قيداً في الكلام ، لأنّ معناه حينئذٍ أنّ هذا الشرط ( وهو الكرّيّة مثلاً ) مؤثّر في الجزاء ( وهو العاصميّة مثلاً ) إذا لم تتحقّق قبلها علّة اخرى مثل كون الماء جارياً ، وأمّا إذا كانت العلّة منحصرة فمعناه أنّ هذا الشرط يؤثّر في الجزاء مطلقاً سواء حصل قبله وصف الجريان أم لا ، فلا حاجة حينئذٍ إلى تقييد شيء ، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يأت بالقيد المزبور ( أي عدم تحقّق علّة اخرى فيما قبل ) كان المستفاد من إطلاق كلامه انحصار العلّة في الشرط.

ويرد عليه أيضاً :

أوّلاً : ما مرّ آنفاً من أنّ غاية ما يستفاد من القضيّة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء لا خصوص التلازم الموجود بين العلّة والمعلول.

وثانياً : سلّمنا كون المستفاد من الجملة الشرطيّة هو العلّة والتلازم الموجود بين العلّة والمعلول ، لكنّها تكون على حدّ العلّية الاقتضائيّة لا الفعليّة ، أي يستفاد من قوله عليه‌السلام « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء » إمكان أن تكون الكرّيّة علّة لعدم التنجّس والعاصميّة ، لا أنّها علّة لها فعلاً حتّى ينافي حصول علّة اخرى من قبل.

١٦

البيان الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو : « إنّ القضيّة الشرطيّة وإن كانت بحسب الوضع لا تدلّ على تقييد الجزاء بوجود الشرط لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد القضيّة المسوقة لبيان الحكم عند تحقّق موضوعه ، إلاّ أنّ ظاهرها في ما إذا كان التعليق على ما لا يتوقّف عليه متعلّق الحكم في الجزاء عقلاً هو ذلك ، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان فكما أنّ إطلاقه الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بالواو مثلاً يدلّ على عدم كون الشرط مركّباً من المذكور في القضيّة وغيره كذلك إطلاقه وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بأو يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضيّة وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة ، فكما أنّ إطلاقها يقتضي عدم سقوط الواجب بإتيان ما يحتمل كونه عدلاً له فيثبت به كون الوجوب تعيينياً كذلك مقتضى الإطلاق في المقام هو انحصار قيد الحكم بما هو مذكور في القضيّة فيثبت به أنّه لا بدل له في ترتّب الحكم عليه » (١).

ولكن يرد عليه : أنّه فرق بين ما إذا كان القيد جزء لموضوع الحكم المذكور في القضيّة وما إذا كان عدلاً له ، ففي الأوّل تكون المسألة كما أفاد ، فلا بدّ من ذكره إذا كان دخيلاً في موضوع الحكم فيقتضي عدم ذكره عدم دخله فيه ، بخلافه في الثاني ، لأنّ المتكلّم حينئذٍ إنّما يريد بيان وجود العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء فحسب كما مرّ ، ومعه لا ملزم لذكر ما يكون عدلاً للشرط كما لا يخفى ، وأمّا القياس بالوجوب التعييني فهو قياس مع الفارق ، لأنّ الوجوب التعييني نوع خاصّ من الوجوب يغاير الوجوب التخييري ، والوجوب التخييري لابدّ فيه من ذكر قيد وخصوصيّة في الكلام ، أعني وجوبه إذا لم يأت بغيره ، كما في مثل قولنا « اعتق رقبة مؤمنة إذا لم تصم شهرين متتابعين أو لم تطعم ستّين مسكيناً » فإذا لم يذكره في الكلام كان مقتضى الإطلاق أنّ الوجوب تعييني ، وهذا بخلاف المقام ، حيث إن ترتّب المعلول على علّته المنحصرة ليس مغايراً لترتّبه على غير المنحصرة سنخاً ، بل إنّهما من سنخ واحد من دون أن يحتاج الثاني إلى ذكر قيد.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤١٨.

١٧

المختار في المسألة : التفصيل بين الحالات المختلفة للشرط ، فنقول مقدّمة : لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على الأقلّ على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط في الجملة بالتبادر والوجدان ، وإلاّ لو كان الحكم ثابتاً على أي تقدير لاستلزم كون تعليقه على الشرط لغواً كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فاعلم : إنّه لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم والعلّية المنحصرة فيما إذا كان الشرط من ضدّين لا ثالث لهما ، نحو « المخبر إن كان فاسقاً فتبيّن » حيث إنّه لا يتصوّر بالنسبة إلى المخبر حالة اخرى غير الفسق والعدل فلا ثالث لهما فيه ، فإنّ مقتضى دلالة القضيّة الشرطيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة دلالتها على المفهوم في هذه الصورة كما لا يخفى ، ونظير المثال المزبور قولك : « الإنسان إن كان مسافرا فعليه القصر » أو « إن كان مستطيعاً فعليه الحجّ » حيث لا ثالث للمسافر والحاضر ، ولا للمستطيع وغير المستطيع.

وأمّا إذا كان للشرط حالات عديدة كما في قوله عليه‌السلام « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » حيث يتصوّر للماء إذا لم يكن كرّاً أن يكون مطراً أو جارياً أو ماء بئر أو غيره ، فهو بنفسه على صورتين فتارةً يوجد فيها قدر متيقّن كالماء القليل في المثال ، فلا شكّ أيضاً في دلالة القضيّة الشرطيّة حينئذٍ على المفهوم بالنسبة إليه ، وإلاّ يلزم اللغويّة ورفع اليد عن دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة ، واخرى لا يوجد فيها قدر متيقّن كأن يقول الشارع « إذا دخل شهر رمضان فصوموا » حيث نعلم أنّ لرمضان دخلاً في حكم الصّيام ، وهو ينتفي عند انتفائه إجمالاً ، وإلاّ كان الصّيام واجباً في تمام أيّام السنة ولم يكن تعليقه بدخول شهر رمضان صحيحاً ( كما لا يصحّ تعليق وجوب الصّلاة مثلاً بدخوله ، فيقال : « إذا دخل شهر رمضان فصلّوا » لوجوب الصّلاة في جميع أيّام السنة ) ، ففي هذه الصورة لا مفهوم صريحاً مشخّصاً للقضيّة لعدم تصوّر قدر متيقّن فيها بل لها مفهوم مبهم إجمالي لا يستفاد منه حكم متعيّن مخالف للمنطوق ، فنعلم إجمالاً في المثال المزبور عدم وجوب الصّيام في بعض شهور السنة.

فظهر أنّ الحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين والصورة الثالثة وثبوت المفهوم في الأوليين وعدمه في الثالثة.

ويمكن تقرير هذا ببيان آخر مرّ تفصيله في البحث عن الواجب المشروط والبحث عن حقيقة مفهوم « إنْ » الشرطيّة ( وباللغة الفارسيّة مفهوم « اگر » ) فقد قلنا هناك أنّ حقيقة هذه

١٨

الكلمة « تعليق حكم على فرض » ، أي إذا رأينا عدم تحقّق حكم على نحو الإطلاق بل أنّه يتحقّق بعد تحقّق شيء آخر حكيناه على نهج القضيّة الشرطيّة ، وحينئذٍ نقول : إذا لم يكن للقضية الشرطيّة مفهوم لم يصحّ أن تكون ماهيّة « إنْ » الشرطيّة « حكم على فرض » فإذا كان هذا هو ماهيتها يتصوّر فيها الحالات الثلاثة التي مرّت في البيان السابق ، ويكون الكلام هو الكلام والتفصيل هو التفصيل.

هذا كلّه هو المختار في المسألة.

أدلّة المنكرين :

وهي وجوه :

منها : ما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه‌الله وحاصله أنّه لا يمتنع أن يتخلّف شرط ويقوم مقامه شرط آخر فلا ينتفي الحكم بانتفائه.

واستشهد لذلك بقوله تعالى ( ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) حيث إنّه يقوم مقام شهادة الرجلين شهادة رجل واحد وامرأتين أو شهادة أربع نسوة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ السيّد المرتضى رحمه‌الله إن كان بصدد إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض ثبوتاً وعدم انتفاء الحكم بانتفاء الشرط لقيام شرط آخر مكانه فالخصم لا ينكر ذلك وإنّما يدّعي عدم وقوعه إثباتاً ، بمعنى دلالة الجملة الشرطيّة في مقام الإثبات على خلافه ، وإن كان بصدد بيان أنّ هذا الاحتمال الثبوتي يؤثّر في ظهور الجملة فهو ممنوع جدّاً ، لأنّ هذا لا يوجب الظهور ما لم يكن الاحتمال في مقام الإثبات راجحاً.

أقول : ويمكن أن نورد على السيّد رحمه‌الله أيضاً بوجهين آخرين :

الوجه الأول : خروج ما استشهد به في المقام عن محلّ النزاع حيث إن محل البحث هنا مدلول الجملة الشرطيّة لا ما يصدق عليه الشرط الفقهي ، اللهمّ أن يقال بإمكان إرجاع قوله تعالى ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) إلى قضيّة شرطيّة لغويّة فافهم.

الوجه الثاني : بناءً على ما اخترناه من التفصيل لا يرد علينا هذا الإشكال حيث إن أكثر ما يمكن أن يدّعيه ويثبته إنّما هو عدم دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم تفصيلاً في بعض

١٩

الموارد ، وهو مقبول عندنا بل قد عرفت دلالته عليه إجمالاً فراجع.

ومنها : أنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

والجواب عنه منع بطلان التالي عندنا لأنّ الشرط يدلّ على المفهوم بالدلالة الالتزاميّة التي هي من الدلالات الثلاث.

ومنها : قوله تعالى : ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ... ) حيث إنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ قوله تعالى هذا على جواز الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصّن وهو باطل بالضرورة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بما حاصله : أنّ عدم دلالة الشرط على المفهوم أحياناً بسبب خارجي وقرينة خارجيّة كالإجماع ونحوه ممّا لا يكاد ينكر ، وإنّما القائل بالمفهوم يدّعي دلالة الشرط عليه بالظهور اللفظي وهو لا ينافي قيام قرينة خارجيّة على خلافه. هذا أوّلاً :

ويمكن الجواب ثانياً : بأنّ الشرط في الآية ليس شرطاً للحكم من دون دخل له في تحقّق موضوعه ، بحيث إذا انتفى الشرط كان الموضوع باقياً على حاله كما في قولك « إن جاءك زيد فأكرمه » بل هو شرط للحكم مع دخله في تحقّق الموضوع بحيث إذا انتفى الشرط فلا حكم ولا موضوع للحكم أصلاً كما في قولك « إن رزقت ولداً فاختنه » فإنّ الفتيات إذا لم يردن التحصّن فلا إكراه هناك كي يبحث عن حرمته وعدمها.

ويمكن أن يكون التعبير بجملة « إن أردن تحصّناً » على نهج القضيّة الشرطيّة مع عدم انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لنكتة أخلاقيّة تربويّة بالنسبة إلى أرباب الفتيات وهي أنّ بيان إرادة التحصّن والعفّة من جانب الفتيات مع عدم ترقّبه منهنّ لكونهنّ معدودات عند الناس من طبقة سافلة اجتماعيّة من حيث الثقافة والوعي يوجب تحضّ أربابهنّ وتحريك غيرتهم الإنسانيّة ( لو كانت لهم غيرة ) على العفّة وعدم الإكراه على البغاء.

إلى هنا تمّ الكلام عن أدلّة القائلين بمفهوم الشرط وأدلّة المنكرين له.

٢٠