أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

وخرج منه صورتان فحسب : صورة الضرورة ، وصورة ما إذا سقطت الموقوفة عن حيّز الانتفاع فلا بدّ من الحكم بالمنع في مصاديقه المشكوكة.

وهذا بيان تامّ يظهر منه وجه ما ذكره المحقّق اليزدي رحمه‌الله في كتاب العروة ، المسألة ٠ ٥ ـ من كتاب النكاح حيث قال : « فإن شكّ في كونه مماثلاً أو لا ، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا فالظاهر وجوب الاجتناب لأنّ الظاهر من آية وجوب الغضّ أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم ، فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم لا من باب التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ... فليس التخصيص في المقام من قبيل التنويع حتّى يكون من موارد أصل البراءة بل من قبيل المقتضي والمانع » فقد صرّح بأنّ الحكم بالحرمة في صورة الشكّ ليس من باب التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة بل إنّه من باب قاعدة المقتضي والمانع ، مع أنّها ليست بحجّة ولا دليل عليها كما مرّ ، لكن يظهر بالبيان المذكور إمكان المساعدة معه في الشقّ الثاني من كلامه ، أي صورة الشكّ في كونه من المحارم ، لأنّا نستفيد من الأدلّة أنّ الطبيعة الأوّليّة في المرأة حرمة النظر خلافاً للصورة الاولى ، أي صورة الشكّ في كونه مماثلاً أو غير مماثل لأنّ طبيعة الإنسان ليست على المنع عن النظر إليه ، والنتيجة حينئذٍ أنّ الظاهر وجوب الاجتناب في الصورة الثانية لا الاولى بل المرجع في الصورة الاولى الأصل العملي وهو فيها البراءة.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ نسبة التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إلى المشهور في مثل هذه الموارد لعلّها نسبة غير صحيحة لأنّها تكون من قبيل ما يكون طبيعته على المنع ، نظير أبواب الضمانات ونظير ما وقع مورداً للبحث والنزاع في يومنا هذا من السمكة المسمّاة بـ « اوزون برون » فلو فرض عدم إحراز الفلس لها وشككنا في كونها ذا فلس أم لا قلنا : يستفاد من الأدلّة أنّ طبيعة حيوان البحر على المنع من أكله وخرج منه السمك إذا كان له فلس ، أي إذا أحرز له الفلس ، وأمّا الصورة المشكوكة فالقاعدة تقتضي حرمة الأكل فيها.

فثبت ممّا ذكر أنّ الحقّ هو ما ذهب إليه أكثر المحقّقين المتأخّرين من عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إلاّفي الموارد التي تكون طبيعة الحكم فيها على المنع.

ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة الأنصاري رحمه‌الله قد فصّل في المقام بين ما إذا كان المخصّص لفظيّاً وما إذا كان لبّياً ، فعلى الأوّل لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة دون الثاني ، مثلاً إذا قال

١٠١

المولى : « أكرم جيراني » وقطع العبد بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم كانت أصالة العموم باقيّة على الحجّية بالنسبة إلى المصاديق المشكوكة.

وتبعه في ذلك المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في خصوص ما إذا كان منفصلاً وقال ما ملخّصه : أنّ المخصّص اللبّي إن كان كالمخصّص اللفظي المتصّل فلا يجوز التمسّك بالعام في المصداق المشكوك ، لأنّ المخصّص حينئذٍ يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم ، وإن كان كالمنفصل اللفظي فلا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ولكنّه يفترق عنه في نقطة ، وهي أنّ المخصّص المنفصل إذا كان لفظياً فهو مانع عن التمسّك بالعام في الفرد المشتبه ، وأمّا إذا كان لبّياً فهو غير مانع عنه ، والنكتة في ذلك هي أنّ الأوّل يوجب تقيّد موضوع العام بعدم عنوان المخصّص من باب تحكيم الخاصّ على العام ، وأمّا المخصّص اللبّي فإنّه لا يوجب تقييد موضوع العام إلاّبما قطع المكلّف بخروجه عن تحته ، فإنّ ظهور العام في العموم حجّة ، والمفروض عدم قيام حجّة اخرى على خلافه إلاّفيما قطع المكلّف بخروجه ، وأمّا فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا مانع من التمسّك بعمومه فيها.

أقول : لا إشكال في تصوّر الصور الأربعة المذكورة للشبهة المصداقيّة للمخصّص في ما نحن فيه أيضاً ، وأمّا الشبهة المفهوميّة للمخصّص فلا تتصوّر هنا لأنّ المفروض أنّ المخصّص لبّي ولا يكون لفظاً حتّى يمكن أن يكون فيه إجمال ، والحقّ فيه عدم جواز التمسّك بالعام في جميع الأقسام الأربعة ولا فرق بين المتّصل والمنفصل ، أمّا في المتّصل فلعدم انعقاد ظهور للعام حينئذٍ ، وأمّا في المنفصل فلأنّه لا فرق في التنويع وتعنون العام بعنوان عدمي بين إن كان المخصّص لفظياً أو لبّياً فإذا قال المولى مثلاً : أكرم العلماء ، فلا فرق بين أن يصرّح بنفسه بعداً أنّه : لا تكرم فسّاقهم ، أو علم من الخارج أنّه لا يجب إكرام فسّاق العلماء ، فعلى كلا التقديرين يتعنون العام لبّاً وواقعاً بعنوان عدمي ، أي أكرم العلماء غير الفسّاق ، فلا وجه لتفريق المحقّق صاحب الكفاية بين المخصّص اللبّي واللفظي وقوله بعدم جواز التمسّك في اللفظي مطلقاً في جميع الصور الأربعة وبجواز التمسّك في المنفصل من اللبّي.

نعم ، يمكن استثناء مورد ، وهو ما إذا كان المتكلّم في مقام تطبيق الكبرى على الصغرى ولاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز صدق عنوان العام على جميع الأفراد ، ففي مثل هذه الموارد نرجع إلى العام في مورد الشكّ ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه لا مصداق له في الأحكام الشرعيّة ،

١٠٢

نعم قد مثّلوا له بقوله عليه‌السلام : « لعن الله بني اميّة قاطبةً » وقد علمنا من الخارج أنّه لا يجوز لعن المؤمن شرعاً فيعلم من العموم وعدم التخصيص في لسان الدليل أنّ الإمام عليه‌السلام كان في مقام التطبيق وأنّه ليس في بني اميّة مؤمن لا يجوز لعنه ، وبه يعرف أيضاً أنّ المصداق المشتبه للخاصّ المردّد بين الإيمان وعدمه ليس بمؤمن ، ولكن الكلام في أنّ هذه الجملة هل هي من قبيل التطبيق والقضايا الخارجيّة أو ليس كذلك؟ مضافاً إلى أنّها ليس من الأحكام الشرعيّة الكلّية.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه لو قلنا بجواز التمسّك بالعام في المخصّص اللبّي فهل يثبت الحكم فقط في المصداق المشكوك أو يثبت الحكم والموضوع معاً حتّى يترتّب على الموضوع سائر آثاره ، كعدم جواز الدفن في مقبرة المسلمين في مثال « لعن الله بني اميّة قاطبةً » ( فإذا ثبت للفرد المشكوك مضافاً إلى جواز لعنه كونه كافراً فلا يجوز دفنه في مقبرة المسلمين )؟

قال بعض بثبوت الموضوع أيضاً لكونه مقتضى الصغرى والكبرى الموجودتين في المقام ، أمّا الصغرى فهي : « هذا الفرد ممّن يجوز لعنه » وأمّا الكبرى فهي : « كلّ من يجوز لعنه لا يكون مؤمناً » فيستنتج أنّ هذا لا يكون مؤمناً فيترتّب عليه أحكامه.

لكن الإنصاف أنّه مشكل ، لأنّ المراد من جواز اللعن مثلاً ليس جوازه في متن الواقع حتّى يحكم بكونه كافراً واقعاً بل الجواز حكم ظاهري فلا يثبت به الأمر الواقعي.

إن قلت : إنّ لوازم الأمارات ومثبتاتها حجّة.

قلنا : المختار في باب الأمارات أنّ مثبتاتها ليست بحجّة مطلقاً بل في خصوص ما إذا كان المولى بصدد بيان تلك اللوازم.

فظهر أنّ الثابت في المقام خصوص الحكم لا الموضوع والحكم معاً ، إلاّ إذا كان المولى في مقام التطبيق لأنّا نستكشف حينئذٍ أنّ المولى في قوله : « لعن الله بني اميّة قاطبةً » مثلاً يرى عدم إيمان جميعهم حتّى عمر بن عبدالعزيز مثلاً.

تمّ الكلام في جواز التمسّك بالعام في الشبهات للمخصّص.

١٠٣

تنبيهات

التنبيه الأوّل : في إثبات أصل موضوعي يعيّن به حال الفرد المشتبه في المقام ( فقد كان الكلام إلى هنا مفروضاً فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي ( كالاستصحاب ) يعيّن به حال الفرد المشتبه حتّى يندرج تحت الخاصّ أو العام ).

إذا كان للفرد المشتبه حالة سابقة كالعدالة أو الفسق في مثال « أكرم العلماء » يجري استصحابها فيثبت به كونه عادلاً أو فاسقاً فيحكم بوجوب إكرامه أو حرمته بلا إشكال ، وأمّا إذا لم يكن له حالة سابقة فتمسّك بعض حينئذٍ باستصحاب عدم النسبة من الأزل ، وهو يسمّى باستصحاب العدم الأزلي كاستصحاب عدم القرشيّة ، فهناك عام دلّ على أنّ المرأة تحيض إلى خمسين ، وخاصّ دلّ على أنّ القرشيّة تحيض إلى ستّين ، فإذا شكّ في امرأة أنّها قرشيّة أو غير قرشيّة فباستصحاب عدم النسبة بينها وبين قريش من الأزل تخرج المرأة من عنوان القرشيّة وتبقى تحت العام فيكون حيضها إلى خمسين.

إن قلت : أنّه معارض باستصحاب عدم النسبة بينها وبين غير قريش.

قلنا : إنّ النسبة بينها وبين غير قريش ممّا لا أثر له شرعاً كي يجري استصحاب عدمها ، فيكون أحد الاستصحابين حجّة والآخر غير حجّة.

وقال المحقّق صاحب الكفاية بإمكان إحراز حال الفرد المشتبه بهذا الأصل في جميع الموارد إلاّ ما شذّ ، وهو ما إذا تبادل الحالتان ولم يعلم السابق من اللاحق فحينئذٍ لا يمكن استصحاب عدم النسبة بينه وبين الفسق من الأزل مثلاً بعد العلم الإجمالي بانتقاض عدم النسبة وتبدّله إلى الوجود قطعاً.

عدم حجّية استصحاب العدم الأزلي

أقول : الحقّ عدم حجّية استصحاب العدم الأزلي لورود إشكالات عديدة عليه :

الأوّل : ( ولعلّه أهمّها ) كون القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع الصادقة هنا غير عرفيّة ، فلا يصحّ عند العرف أن يقال مثلاً : « ليس لولدي ثوب » ثمّ يقال عند السؤال عن وجهه : « لأنّه ليس لي ولد » بل يحمل العرف هذا الكلام على الاضحوكة والمزاح ، وبالجملة أنّ أدلّة

١٠٤

الاستصحاب منصرفة عن مثل هذا عرفاً.

الثاني : ما سيأتي في مبحث الاستصحاب من اعتبار الوحدة بين القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة موضوعاً ومحمولاً ونسبةً لعدم صدق مفهوم النقض ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) بدونها ، والقضيّتان في ما نحن فيه ليستا متّحدتين في النسبة لأنّها في إحديهما سالبة بانتفاء الموضوع وفي الاخرى سالبة بانتفاء المحمول.

الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وعصارة كلامه ما ذكره في أوّل بيانه : أنّ الباقي تحت العام بعد التخصيص إذا كان هي المرأة التي لا يكون الانتساب إلى قريش موجوداً معها على نحو مفاد ليس التامّة ، فالتمسّك بالأصل المذكور لإدراج الفرد المشتبه في الافراد الباقية وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ الواقع ليس كذلك ، لأنّ الباقي تحت العام حسب ظهور دليله إنّما هي المرأة التي لا تكون قريشيّة على نحو مفاد ليس الناقصة ، وعليه فالتمسّك بأصالة العدم لإثبات حكم العام للفرد المشكوك فيه غير صحيح ، وذلك لأنّ العدم النعتي الذي هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجري فيه الأصل ، وأمّا العدم المحمولي الأزلي فهو وإن كان مجرى الأصل في نفسه إلاّ أنّه لا يثبت به العدم النعتي الذي هو المأخوذ في الموضوع إلاّبالأصل المثبت (١).

وأورد عليه بعض تلامذته في هامش أجود التقريرات بوقوع الخلط في كلام المحقّق بين مفاد ليس الناقصة والسالبة المحصّلة وأنّ الاستصحاب وإن لم يكن جارياً في الأوّل لعدم حالة سابقة له إلاّ أنّه لا مانع من جريانه في القسم الثاني لوجود الحالة السابقة فيه ، والثابت في ما نحن فيه هو السالبة المحصّلة لا ليس الناقصة ، وحاصل ما أفاده لإثباته : أنّ الحكم الثابت للموضوع المقيّد بما هو مفاد كان الناقصة إنّما يكون ارتفاعه بعدم اتّصاف الذات بذلك القيد على نحو مفاد السالبة المحصّلة من دون أن يتوقّف ذلك على اتّصاف الذات بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة ، فمفاد قضية « المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشيّة » وإن كان هو اعتبار وصف القرشيّة على وجه النعتية ، في موضوع الحكم بتحيّض المرأة بعد الخمسين إلاّ أنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشيّة في موضوع عدم الحكم بتحيّض المرأة بعد الخمسين على وجه

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٦٥.

١٠٥

النعتية أعني به مفاد ليس الناقصة ، وإنّما يستدعي أخذ عدم القرشيّة في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصّلة ، فكلّ امرأة لا تكون متّصفة بالقرشيّة باقية تحت العام ، وإنّما الخارج خصوص المتّصفة بالقرشيّة لا أنّ الباقي بعد التخصيص هي المرأة المتّصفة بعدم القرشيّة ، فإذا شكّ في كون امرأة قرشيّة لم يكن مانع من التمسّك باستصحاب عدم القرشيّة الثابت لها قبل تولّد تلك المرأة في الخارج (١).

ولكن يرد عليه أيضاً أنّ التمسّك باستصحاب العدم النعتي في القسم الأوّل من كلامه لا محذور فيه من ناحية الإثبات ، لأنّ اللازم العقلي الثابت هنا يكون من اللوازم العقليّة للشرائط التي لا إشكال في شمول أدلّة الاستصحاب لها بل مورد أخبار الاستصحاب من هذا القبيل ، لأنّ اللازم في باب الطهارة تقيّد الصّلاة بها ، وليس هو المستصحب بل المستصحب هو نفس الوضوء وتقيّد الصّلاة بها من اللوازم العقليّة له ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ تحيّض المرأة إلى خمسين مقيّد بعدم كونها من قريش ، وتقيّدها بعدم القرشيّة يكون لازماً عقليّاً لعدم القرشيّة فإذا أثبتنا باستصحاب العدم الأزلي عدم القرشيّة يثبت تقيّد الموضوع ـ وهو المرأة ـ به قهراً بلا إشكال.

ثمّ إنّ الشيخ الحائري رحمه‌الله في حاشية الدرر حاول إثبات استصحاب العدم الأزلي ببيان آخر وهو : أنّه قد يستظهر من مناسبة الحكم والموضوع في بعض المقامات أنّ التأثير والفاعليّة ثابت للموضوع المفروغ عن وجوده عند اتّصافه بوصف كما في قضيّة « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء » ولهذا لا يجري استصحاب عدم الكرّيّة من الأزل ، وقد يستظهر من المناسبة المذكورة أنّ التأثير ثابت لنفس الوصف ، والموضوع المفروض وجوده إنّما اعتبر لتقوّم الوصف به كما في قوله عليه‌السلام : « المرأة ترى الدم إلى خمسين إلاّ أن يكون قرشيّة » حيث كون الدم حيضاً إلى ستّين إنّما هي من ناحية التولّد من قريش لا أنّ المرأة لها هذه الخاصّية بشرط التولّد ، فانتفاء هذا الوصف موجب لنقيض الحكم ولو كان بعدم الموضوع ولهذا يكون استصحاب العدم الأزلي نافعاً ( انتهى ) (٢).

أقول : نحن لا نرى فرقاً بين المثالين ، لأنّ في مثال القرشيّة أيضاً يكون وجود المرأة جزءاً

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

(٢) درر الفوائد : ج ١ ، ص ١٨٧ ـ ١٨٨ ، من الطبع القديم.

١٠٦

للموضوع ، فيكون الموضوع في الواقع « المرأة الموجودة غير القرشيّة » كما أنّه كذلك في جميع الموارد التي ثبت فيها شيء لشيء ، أي في جميع أقسام القضيّة الموجبة ، فلا فرق بين أن يكون الثابت وجوديّاً كما في الموجبة المحصّلة أو أمراً عدميّاً كما في الموجبة المعدولة نحو « زيد لا قائم » والموجبة السالبة المحمول نحو « زيد هو الذي ليس بقائم » حيث إن الصحيح ـ كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه‌الله وصرّح به أيضاً في التهذيب ـ أنّ في جميع الموارد التي تعلّق فيها حكم على عدم شيء ، يكون العدم فيها هو العدم النعتي ، أي لا يزال يرجع الاستثناء والتخصيص بعدم شيء إلى الموجبة المعدولة المحمول لا السالبة التامّة ولا السالبة الناقصة ، وإذاً لا يمكن لنا إجراء استصحاب العدم الأزلي في أيّ مورد من موارد التخصيص ، فإنّ هذا بنفسه يعدّ إشكال آخر على استصحاب العدم الأزلي.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا إلى هنا إنّه يرد على استصحاب العدم الأزلي امور ثلاثة سليمة عن الإشكال.

الأوّل : عدم تصوّر القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع عند العرف ، مع أنّ الأحكام الشرعيّة منزّلة على متفاهم العرف.

الثاني : عدم وجود الوحدة المعتبرة بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

الثالث : أنّ التخصيص بعدم شيء يرجع إلى القضيّة الموجبة المعدولة المحمول التي ثبوت شيء فيها لشيء يكون فرع ثبوت المثبت له.

بل يمكن أن يورد عليه إشكال آخر أيضاً ، وهو أن نرفع اليد من ما ذكرنا سابقاً بعنوان الجواب عن إشكال معارضة استصحاب عدم القرشيّة مع استصحاب عدم كون المرأة غير قرشيّة ، بأن نقول : يترتّب على كون المرأة غير قرشيّة أيضاً أثر شرعي وهو كون دمها دم الاستحاضة ، فيجري استصحاب عدم كونها غير قرشيّة ويثبت عدم كون الدم دم استحاضة ، فإنّ الاستصحاب كما يجري لإثبات حكم شرعي كذلك يجري لنفيه بلا إشكال ، وبهذا تثبت المعارضة في استصحاب العدم الأزلي في جميع الموارد فلا يكون حجّة أصلاً.

هذا كلّه في البحث عن استصحاب العدم الأزلي وعدم تماميته.

التنبيه الثاني : في التمسّك بالاصول العمليّة ، بعد فرض عدم إمكان التمسّك بالعام في الفرد المشتبه وبعد ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يُدْرج الفرد المشتبه تحت الخاص أو العام

١٠٧

حيث إن الأصل العملي يجري في الحكم ، والأصل الموضوعي يجري في الموضوع ، فالثاني مقدّم على الأوّل لتقدّم الموضوع على الحكم.

وكيف كان ، يختلف جريان الأصل العملي في الفرض المذكور باختلاف المقامات. فتارةً يكون الأصل هو البراءة عن الحكم التكليفي كما إذا شككنا في الوجوب وعدمه أو الحرمة وعدمها ، أو البراءة عن الحكم الوضعي كما إذا شككنا في صحّة بيع العين الموقوفة وفساده أو شككنا في الضمان وعدمه ، واخرى يكون الأصل هو التخيير كما إذا دار الأمر بين وجوب الفرد المشتبه وحرمته ، وثالثة يكون الأصل هو الاستصحاب كما إذا شكّ المسافر في أنّه هل أقام في المحلّ ثلاثين يوماً من دون قصد الإقامة فيكون الواجب هو الإتمام ، أو لا ، فيكون الواجب القصر؟ وفرضنا عدم إمكان إجراء استصحاب الموضوع ، فيجري حينئذٍ الاستصحاب الحكمي ، وهو استصحاب وجوب القصر إلاّ إذا لم تحرز وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، لأنّه قد تتغيّر الموضوع عند العرف فيكون الأصل حينئذٍ هو الاحتياط ، كما إذا شكّت المرأة التي مضى عليها خمسون سنة هل أنّها قرشيّة أو لا؟ وقلنا بعدم حجّية استصحاب العدم الأزلي ، فربّما يقال حينئذٍ أنّها لا يمكن لها استصحاب أحكام التحيّض لأنّ موضوع القضيّة المتيقّنة وهو المرأة قبل الخمسين غير موضوع القضيّة المشكوكة ، وهو المرأة بعد الخمسين عند العرف ، فيجب عليها الاحتياط بالجمع بين تروك الحائض وأحكام الاستحاضة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا إمكان جريان الاصول العمليّة كلّها بحسب المقامات المختلفة.

التنبيه الثالث : في جواز التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر وكلّ حكم آخر ثابت بعنوان ثانوي مثل وجوب إطاعة الوالد أو استحباب اجابة الأخ المؤمن ونحو ذلك في الشبهة المصداقية عند احتمال خروج مصداق عن العام تخصيصاً كما إذا قال مثلاً : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، وشككنا في عدالة زيد العالم ، أو تخصّصاً كما إذا علمنا لزوم التوضّي بالماء فيكون الماء المضاف خارجاً تخصّصاً ثمّ شككنا في أنّ هذا الماء مطلق أو مضاف ، فالنزاع لا يختصّ بصورة احتمال التخصّص كما يظهر من عبارة المحقّق الخراساني رحمه‌الله بل يجري عند احتمال التخصيص أو التخصّص.

وكيف كان ، فقد يتوهّم إمكان التمسّك بعموم الوفاء بالنذر مثلاً إذا تعلّق بالتوضّي بذلك الماء أو تعلّق بإكرام زيد ، فيستكشف بوجوب الإتيان به صحّة المتعلّق ورجحانه فيدخل الماء

١٠٨

المشكوك في حكم الماء المطلق ويدخل مشكوك العدالة في حكم معلوم العدالة ، وربّما يؤيّد ذلك بما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات والصّيام في السفر إذا تعلّق بهما النذر ، لأنّه إذا صحّ الإحرام قبل الميقات والصّوم في السفر بالنذر مع القطع ببطلانهما بدون النذر فصحّة الوضوء بالمائع المشكوك بالنذر مع الشكّ في بطلانه بدون النذر بطريق أولى.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه‌الله وغيره من الأعلام عن هذا بما حاصله : إنّ الحكم الثابت بالعناوين الثانويّة هل يكون مطلقاً أو يكون مقيّداً؟ فإن كان مقيّداً كما إذا كان وجوب الوفاء بالنذر مقيّداً برجحان متعلّقه ، أي كان أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّليّة مأخوذاً في موضوع الحكم الثابت بالعناوين الثانويّة فلا يجوز التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر مثلاً لأنّ الحكم لا يثبت موضوع نفسه ، بل لابدّ من إحراز الموضوع قبل تعلّقه ، وإن كان الحكم مطلقاً ، أي كان الوفاء بالنذر مثلاً واجباً مطلقاً سواء كان متعلّقه راجحاً أو كان حراماً ، فحينئذٍ يقع التزاحم بين أدلّة المحرّمات وأدلّة الوفاء بالنذر ، وتصل النوبة إلى الرجوع إلى المرجّحات ، وعند عدمها يكون الحكم التخيير ، وبعبارة اخرى : إنّ التمسّك بعموم « اوفوا » مثلاً فرع إحراز رجحان المتعلّق ، فلو أحرز رجحانه وصحّته بعموم « أُوفوا » لزم الدور وهذا واضح.

أقول : هيهنا نكات ينبغي الالتفات إليها :

الاولى : أنّه كان ينبغي أن يستشكل في الصورة الاولى من المسألة ، أي صورة التقييد ، بأنّ التمسّك بعموم اوفوا بالنذر وكذلك التمسّك بعموم أدلّة سائر العناوين الثانويّة يكون من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص في العناوين الأوّليّة ، فابتلى المتوهّم هنا بذلك الإشكال الذي مرّ بيانه فهو كرّ على ما فرّ منه.

الثانية : أنّه في الصورة الثانية وهي صورة عدم التقييد لا أقلّ من الانصراف ، أي انصراف أدلّة الوفاء بالنذر إلى صورة الرجحان ، ومع الغضّ عن الانصراف لا أقلّ من عدم الإطلاق والإجمال.

الثالثة : أنّ ما جاء به في كلامه من المؤيّدين في بابي الإحرام والصّيام يقع البحث فيهما من جهات :

الجهة الاولى : من جهة عدم رجحان للمتعلّق فيهما.

١٠٩

الجهة الثانية : من ناحية اعتبار قصد القربة.

الجهة الثالثة : من ناحية إرتباطهما بما نحن فيه.

أمّا الجهة الاولى : فقد اجيب عن الإشكال الوارد من ناحيتها بجوابين أشار إليهما في الجواهر والكفاية.

الجواب الأوّل : أن يكون ما دلّ على صحّتهما بالنذر مخصّصاً لما دلّ على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر فيعتبر في متعلّقه الرجحان إلاّفي هذين الموردين.

لكنّه غير تامّ لأنّه يوجب سقوط النذر عن ماهيّته لأنّه أمر عبادي عندنا يعتبر فيه التقرّب إلى الله ، ولا يعقل التقرّب بما ليس راجحاً ، والحكم العقلي لا يقبل التخصيص والاستثناء كما أنّ عمومات أدلّة اعتبار الرجحان تؤيّد ذلك.

الجواب الثاني : أن يكون ما دلّ على صحّتهما بالنذر كاشفاً عن صيرورتهما راجحين بالنذر بعد ما لم يكونا راجحين ذاتاً.

إن قلت : المعتبر في باب النذر رجحان العمل قبل تعلّق النذر.

قلت : كلاّ بل اللازم هو الرجحان حين العمل.

وأمّا الجهة الثانية : وهي الإشكال من ناحية قصد القربة فالجواب عنها متوقّف على الوجهين المذكورين آنفاً عند الجواب عن الإشكال في الجهة الاولى ، فإن اخترنا الجواب الأوّل الذي ذهب إليه صاحب الجواهر من أنّ عمومات أدلّة اعتبار الرجحان خصّصت بهذين الموردين فلا يندفع الإشكال في ما نحن فيه ولا يتحقّق قصد القربة ، ولا يكفي الأمر الناشىء من قِبَل النذر لأنّه توصّلي.

وإن اخترنا الجواب الثاني ، وهو تحقّق الرجحان مقارناً لتعلّق النذر ، فالإشكال يرتفع لصيرورة المتعلّق بعد تعلّق النذر راجحاً محبوباً ، وهو يكفي في التقرّب ولا حاجة إلى قصد الأمر.

أمّا الجهة الثالثة : فالإنصاف أنّه لا دخل للموردين في ما نحن فيه لأنّهما ليسا من قبيل التمسّك بعمومات العناوين الثانويّة لإثبات الموضوع وكشف حال الفرد وإنّما ثبتا لقيام دليل خاصّ يدلّ عليهما ، ولا يحصل بهما استقراء عقلي.

التنبيه الرابع : فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص ، وبتعبير آخر : فيما إذا دار الأمر

١١٠

بين الخروج عن الموضوع والخروج عن الحكم ، كما إذا علمنا بعدم وجوب إكرام زيد ولكن لا نعلم أنّه عالم فيكون خروجه من عموم « أكرم العلماء » تخصيصاً أو ليس بعالم فيكون خروجه من باب التخصّص ، فإن كان خروجه من باب التخصيص ، كان عنوان العالم منطبقاً عليه فيترتّب عليه سائر الأحكام والآثار المترتّبة على عنوان العالم ، وإن كان من باب التخصّص فلا يترتّب عليه تلك الآثار ، ومثال ذلك في الفقه كما ذكره في المحاضرات مسألة الملاقي لماء الاستنجاء حيث إنّه غير محكوم بالنجاسة إذا توفّرت فيه الشرائط التي ذكرت في محلّه ، فحينئذٍ لا محالة يدور الأمر بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصّص أو بالتخصيص ، يعني أنّ ما دلّ على طهارة الملاقي هل يكون مخصّصاً لعموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس فيكون ماء الاستنجاء نجساً ويترتّب عليه سائر أحكام الشيء النجس ، أو يكون خروجه منه بالتخصّص ، فيكون ماء الاستنجاء طاهراً ويترتّب عليه آثار الطهارة غير الوضوء والغسل؟

فيه خلاف بين الأصحاب ، وقد اخترنا في التعليقة على العروة الوثقى للمحقّق اليزدي رحمه‌الله القول بالتخصيص وقلنا هناك : لعل العسر والحرج هما العلّة في هذا الحكم ولذا نقتصر من أحكام الطهارة على ما يندفع به العسر والحرج فقط.

وكيف كان ، نحتاج لإثبات التخصّص في المقام إلى قبول أمرين :

أحدهما : جواز التمسّك بأصالة العموم ( أصالة عدم التخصيص ) لإثبات الموضوع أيضاً كما يجوز التمسّك بها لإثبات الحكم ، مع أنّه ممنوع عندنا ، فإنّا نقول : إنّها تجري لإثبات أصل الحكم فقط ، وأمّا إذا كان الحكم واضحاً وشككنا في موضوعه ، أي شككنا في كيفية الحكم فلا يجري فيه دليل جواز التمسّك بالعام.

ثانيهما : أن تكون مثبتات الاصول والأمارات ( وهي في المقام أصالة عدم التخصيص ) حجّة ، مع أنّ المختار فيها عدم حجّيتها إلاّفيما إذا كان المولى ناظراً إلى بيان مثبتاتها ولوازمها ، فتكون اللوازم العقليّة والعاديّة حينئذٍ حجّة كما في اللوازم الشرعيّة بالنسبة إلى خصوص ذلك المورد.

١١١
١١٢

الفصل الخامس

الكلام في مسألة وجوب الفحص وأنّه هل يجوز التمسّك

بالعام قبل الفحص عن المخصّص أو لا؟

والبحث فيه يقع في مقامين : المخصّص المتّصل والمخصّص المنفصل ، حيث إن المخصّص المتّصل أيضاً داخل في البحث عندنا خلافاً لما ذكر في الكفاية والتهذيب.

المقام الأوّل : في المخصّص المنفصل

المشهور على عدم جواز الرجوع إلى العام قبل الفحص عنه وادّعى عليه الإجماع ، وعليه عمل الفقهاء كلّهم ( رضوان الله عليهم ) في أبواب الفقه ، نظير عموم قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) الذي يحتمل فيه ورود مخصّصات ، فلا يستدلّ فقيه به في الموارد المشكوكة قبل الفحص عن تلك المخصّصات ، وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ ) (١) إذا شككنا مثلاً في خروج من يكون السفر عمله أو من يكون عاصياً في سفره أو يكون مقيماً للعشرة ، فلا يتمسّك بذلك العموم قبل الفحص ، إلى غير ذلك من أشباهها.

فأصل وجوب الفحص ممّا لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في دليله كيما تتحدّد به دائرة الفحص وتتعيّن به مقداره.

فنقول : قد ذكر هنا وجوه أبعة :

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية وتبعه كثير من الأعلام ، وحاصله :

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٠١.

١١٣

إنّ مدرك حجّية أصالة العموم هو بناء العقلاء على العمل بها ، ولم يثبت بنائهم عليه فيما إذا كانت العمومات في معرض التخصيص ، فلو علموا أنّ أحداً من مواليهم العرفيّة يتّكل كثيراً ما في تخصيص عمومات كلامه على مخصّصات منفصلة لم يعملوا بها بمجرّد الظفر على عام من العمومات الصادرة منه ما لم يتفحّصوا بقدر وسعهم عن المخصّص.

أقول : لابدّ من توضيح مقصوده وتأويل كلامه بأن نقول : بما أنّ سيرة الشارع وسنّته استقرّت على بيان الأحكام تدريجاً فيعتمد في تخصيص عمومات كلامه على مخصّصات منفصلة بحيث تكون عمومات كلامه في معرض التخصيص فإنّ العقلاء في مثل هذا المورد لا يستقرّ بنائهم على العمل بالعمومات قبل الفحص عن المخصّص ، وقد عرفت سابقاً عدم وجود المخصّص المنفصل في المحاورات العرفيّة وأنّ العرف يحملونه على التناقض والتكاذب.

وذكر في التهذيب أنّ جميع القوانين العقلائيّة كذلك ، لكنّه محلّ تأمّل إذ إنّه بعد تسجيل قانون في مجلس التقنين في ثلاثين مادّة وتبصرة مثلاً لا يرى الموظّفون بإجراء القوانين أنفسهم مسؤلين عن الفحص عن المخصّص أو المعارض فتأمّل.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ قوانين الشرع لكونها في معرض التخصيص كما عليه سنّة الشارع وسيرته لابدّ فيها من الفحص عن المخصّص.

الوجه الثاني : أنّ العلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهيّة ولا يمكن إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي.

لكن هذا أخصّ من المدّعى فالمعلوم بالإجمال هو مقدار معيّن فينحلّ بعد الظفر على المخصّصات بذلك المقدار ، فإذا إنحلّ فمقتضى هذا الوجه أنّ العمل بالعام بعد هذا ممّا لا يحتاج إلى الفحص ، وهو كماترى ، لأنّ سيرة الفقهاء جارية على الفحص حتّى في هذه الموارد.

الوجه الثالث : ما ثبت من اعتبار الظنّ الشخصي في حجّية أصالة العموم وهو لا يحصل مع عدم الفحص.

والجواب عنه أنّ المختار عدم اعتبار الظنّ الشخصي في حجّية الظواهر.

الوجه الرابع : ( وهو الدليل الثاني للمحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام ) : ما حاصله : إنّ حجّية العمومات متقوّمة بجريان مقدّمات الحكمة الكاشفة عن عدم دخل قيد آخر في مراد المتكلّم ، فإذا علمنا بعد الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة أنّ طريقة الشارع قد استقرّت على إبراز مقاصده

١١٤

بالقرائن المنفصلة ينهدم أساس جريان مقدّمات الحكمة ولم تكن تلك العمومات حجّة قبل الفحص عن مخصّصاتها ، وبالجملة أنّ من المقدّمات عدم البيان في مقام البيان ، ومقام البيان للشارع ليس منحصراً في زمان التكلّم عن العام (١).

وجوابه واضح بعد ما مرّ من أنّ ألفاظ العموم تكفينا في إفادة العموم من دون حاجة إلى جريان مقدّمات الحكمة.

تنبيهان

التنبيه الأوّل : في المقدار اللازم من الفحص ، ولا ريب في أنّه يختلف باختلاف الوجوه التي اقيمت لأصل لزوم الفحص.

فعلى الوجه الأوّل يجب الفحص في المسألة بمقدار يخرج العام عرفاً عن كونه معرضاً للمخصّصات وعن مظانّ التخصيص.

وعلى الوجه الثاني ( وهو العلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة ) يجب الفحص بمقدار يخرج العام عن أطراف العلم الإجمالي.

وعلى الوجه الثالث ( وهو اعتبار الظنّ الشخصي بالمراد ) يجب الفحص إلى أن يحصل الظنّ الشخصي بعدم المخصّص.

وعلى الوجه الرابع ( وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ) يجب الفحص إلى أن يصدق عدم البيان في مقام البيان ، وهذا طبعاً يحتاج إلى حصول العلم بعدم ورود المخصّص كما لا يخفى.

التنبيه الثاني : في أنّه هل الفحص عن المخصّص فحص عن المعارض والمانع أو عمّا يتمّ به اقتضاء المقتضي؟ وبعبارة اخرى : أيكون العموم ناقصاً في الاقتضاء بدون الفحص أو الاقتضاء تامّ ، والكلام في عدم المانع؟ ففيه أيضاً تفصيل بلحاظ اختلاف الوجوه التي استدلّ بها.

فعند القائلين باعتبار الظنّ الشخصي ـ المقتضي ناقص قبل الفحص لأنّ الظنّ ليس حاصلاً قبل الفحص.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٨٧.

١١٥

وعند القائلين بوجود العلم الإجمالي فالمسألة متوقّفة على جريان الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي وسقوطها بالتعارض أو عدم جريانها حتّى في بدو الأمر ، فإن قلنا بأنّها تجري فتتعارض فالفحص يكون في وجود المانع وهو الأصل المعارض الجاري في طرف آخر ، وإن قلنا بعدم جريانها ابتداءً فالنقص في المقتضي.

وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه‌الله فالفحص يكون عن المقتضي ، لأنّ مع عدم جريان مقدّمات الحكمة لا ينعقد للعام ظهور واقتضاء.

وأمّا بناءً على دليل المعرّضيّة فالفحص هو عن وجود المانع والمعارض ، لأنّه لا إشكال حينئذٍ في ظهور العام في العموم ودلالته الاستعماليّة.

المقام الثاني : في المخصّص المتّصل

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتّفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به ولو قبل الفحص.

وقال بعض المحشّين بلزوم الفحص في المتّصل أيضاً إذا كان العام في معرض التخصيص بالمتّصل.

أقول : إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام لا يخلو من إبهام ، والحقّ أن يقال : إنّ المخصّص المتّصل يتصوّر على أنحاء :

أحدها : أن نحتمل وجود مخصّص متّصل في الزمن السابق لكن لم ينقله الراوي نسياناً أو عمداً كما إذا كان في الكلام استثناء متّصل ( مثل أن قال الإمام عليه‌السلام : « يشترط في لباس المصلّي أن يكون طاهراً إلاّفيما لا تتمّ فيه الصّلاة ) ولم ينقله الراوي.

ثانيها : أن نحتمل عدم نقل بعض المؤلّفين لجوامع الحديث كصاحب الوسائل الذي كان من دأبه تقطيع الرّوايات فنحتمل وجود قرينة متّصلة في بعض فقرات الرّواية التي لم يذكرها في الباب.

ثالثها : أن نحتمل وجوده في ما يسقط عن الرّواية لبعض العوارض الطبيعية كما إذا فقد

١١٦

بعض أوراق كتاب الحديث ويحتمل وجود مخصّص في تلك الورقة المفقودة.

أمّا القسم الأوّل : فلا يعتنى به بلا إشكال ، لأنّه إمّا أن نحتمل عدم نقل الراوي لذلك المخصّص تعمّداً ، فهو لا يجتمع مع وثاقة الراوي ، وإمّا أن نحتمل عدم نقله نسياناً فأصالة عدم النسيان المعتبرة عند العقلاء كافيّة في نفيه ، وأمّا الحذف عن تقيّة فهو أيضاً خلاف أصل عقلائي لأنّ الأصل في كلّ كلام حمله على الجدّ.

أمّا القسم الثاني : فهو أيضاً لا يعتنى به لأنّه ينافي وثاقة المؤلّف ، واحتمال أنّ عدم نقله نشأ من استنباطه الشخصي بكون الذيل منفصلاً ولذلك لم ينقله ـ لا يعتنى به أيضاً لأنّ غايته أن يكون من قبيل النقل بالمعنى الذي ينشأ من الاجتهاد والاستنباط الشخصي.

أمّا القسم الثالث : فلا إشكال في أنّ الفحص لازم فيه ، كما إذا فقدت ورقة من كتاب وصيّة أو وقف ويحتمل وجود المخصّص في تلك الورقة المفقودة ، فلا يعتمد على ذلك الكتاب بدون الفحص عن الباقي ، لأنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء ما دام متكلّماً فلا يمكن الاعتماد على كلامه قبل إتمامه.

فظهر ممّا ذكر أنّ المقامات في المخصّص المتّصل مختلفة ، ولابدّ فيه من ملاحظة منشأ الشكّ.

تذييل : في لزوم الفحص في موارد الاصول العمليّة

لا إشكال ولا كلام في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي في الاصول العمليّة إذا كانت الشبهة حكميّة ، إنّما الكلام في الفرق بين الموردين ، أي بين الفحص عن المخصّص في العمل بالعام وبين الفحص عن الدليل الاجتهادي في جريان الاصول العمليّة.

فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله ما حاصله : الفحص في الأوّل فحص عمّا يزاحم الحجّية ، وأمّا في الثاني فبدون الفحص لا حجّة أصلاً لأنّ الموضوع في البراءة العقليّة مثلاً هو اللاّبيان ، وهو لا يحرز بدون الفحص كي يكون الحكم المترتّب عليه حجّة.

لكن الإنصاف في المسألة هو التفصيل بين أصالة الاحتياط وغيرها من الاصول ، والفرق المذكور إنّما يتمّ في غير الاحتياط ، أمّا في البراءة العقليّة منه فلأنّ موضوعها اللاّبيان ، وهو لا يحرز بدون الفحص كما مرّ ، وأمّا البراءة الشرعيّة فلأنّ دليلها وهو حديث الرفع مقيّد بما بعد

١١٧

الفحص إجماعاً كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وأمّا الاستصحاب عند من يقول بحجّيته في الشبهات الحكميّة فلأنّ دليلها إمّا مقيّد بالإجماع كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضاً ، أو منصرف إلى ما بعد الفحص كما هو المختار ، وكذلك أصالة التخيير لأنّ موضوعها هو دوران الأمر بين المحذورين ، وهو لا يصدق عقلاً إلاّبعد الفحص.

هذا كلّه في غير أصالة الاحتياط ، وأمّا فيها فالفحص ليس فحصاً عن الحجّة والمقتضي ، لأنّ المقتضي فيها هو العلم الإجمالي ، وهو تامّ موجود قبل الفحص ، وحينئذٍ يكون الفحص عن المانع وعمّا يزاحم الحجّية.

وإن شئت قلت : لا حاجة فيها إلى الفحص لجواز الاحتياط وعدم وجوب الاجتهاد أو التقليد قبل الفحص في جميع الشبهات كما عليه الفتوى.

وبالجملة الفحص فيها ليس واجباً وإنّما يجب للخروج عن الاحتياط بالظفر على الدليل الرافع لموضوعه.

هذا كلّه في الاصول العمليّة ، وكذلك في الاصول اللفظيّة ، فلا بدّ فيها أيضاً من التفصيل على المباني والوجوه الأربعة المذكورة للزوم الفحص ، فعلى بعض تلك الوجوه يكون الفحص فحصاً عن المقتضي ، وعلى بعضها الآخر يكون فحصاً عن المانع كما مرّ تفصيله في التنبيه الثاني.

١١٨

الفصل السادس

الكلام في الخطابات الشفاهيّة

لا شكّ في أنّ هناك عمومات وردت في الكتاب والسنّة على نهج الخطابات الشفاهيّة كقوله تعالى : ( يا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (٢) ، كما لا إشكال أيضاً في أنّها تشمل جميع صيغ التخاطب حتّى صيغ التخاطب من الأوامر والنواهي.

إنّما الإشكال والنزاع يقع فيها في ثلاث مقامات :

المقام الأوّل : في أنّ التكليف الوارد في الخطابات الشفاهيّة هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين أو لا؟

المقام الثاني : في توجيه الخطاب إلى المعدومين هل يصحّ حقيقة أو لا؟

المقام الثالث : في أنّ أدوات التخاطب لماذا وضعت؟

يستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله جريان النزاع في جميع الثلاثة ، وصرّح في هامش أجود التقريرات بأنّه جارٍ في خصوص المقام الثالث ، والحقّ هو الأوّل ، فالنزاع جارٍ في جميع المقامات بل لا معنى للبحث عن المقام الثالث بدون البحث عن المقام الأوّل والثاني.

أمّا المقام الأوّل : ففصّل المحقّق الخراساني رحمه‌الله فيه بين ما إذا كان التكليف فعلياً فلا يمكن حينئذٍ تكليف المعدوم عقلاً ، وبين ما إذا كان التكليف إنشائيّاً فيجوز ، لأنّ الإنشاء خفيف المؤونة نظير إنشاء الوقف على البطون المتعدّدة ، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده ، بإنشاء الواقف حين ما وقف ، لا بانتقال العين إليه من البطن السابق.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٨٣.

١١٩

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ ، لأنّه إن كان المراد من المعدوم المعدوم بما هو هو فلا معنى للتكليف لا فعلياً ولا إنشائيّاً ، وإن كان المراد المعدوم بما سوف يوجد ، أي على فرض وجوده وعلى نهج القضيّة الحقيقيّة فالتكليف ممكن ، إلاّ أنّه لا فرق حينئذٍ بين الفعلي والإنشائي ، وإن شئت قلت : التكليف حينئذٍ فعلي ولكن في فرض وجود موضوعه كما في القضايا الشرطيّة.

أمّا المقام الثاني : وهو جواز مخاطبة المعدومين وعدمه فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى عدمه وقال ما حاصله : أنّه لا ريب في عدم صحّة خطاب الغائب عن مجلس الخطاب بل الحاضر غير الملتفت فضلاً عن الغائب والمعدوم على وجه الحقيقة ، فإنّ الخطاب الحقيقي عبارة عن توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ، ومن المعلوم أنّ ذلك ممّا لا يتحقّق إلاّ إذا كان توجيه الكلام إلى الحاضر الملتفت.

لكن الإنصاف أنّ ما قلنا في المقام الأوّل جارٍ هنا أيضاً حيث نقول : إن كان المراد مخاطبة المعدوم بلحاظ حال العدم فلا يجوز قطعاً ، وأمّا إذا كان بلحاظ الوجود فلا إشكال فيه ، لأنّ حقيقة الخطاب توجيهه نحو الغير مع الايصال إليه بأيّ وسيلة كانت سواء كان الغير حاضراً أو غائباً ، وليست حقيقته المشافهة حتّى يختصّ جوازه بالحاضر في المجلس ، ولذلك تكتب الرسائل ويخاطب فيها الغائب أو تكتب الوصيّة للجيل اللاحق وهم مخاطبون فيها ، كما ورد في وصيّة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « اوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى الله ونظم أمركم » (١) ، إلى غير ذلك من أشباهها ونظائرها.

فتلخّص أنّ حقيقة التخاطب هو توجيه الخطاب نحو الغير لا التشافه والحضور ، وهذا يصدق بالنسبة إلى المعدوم بلحاظ زمن وجوده أيضاً.

أمّا المقام الثالث : فالنزاع فيه عند المحقّق الخراساني رحمه‌الله مسبّب عن أنّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة للخطاب مع المخاطب الحقيقي كي نقول باختصاصها بالحاضرين وعدم شمولها للمعدومين لئلاّ يلزم استعمال الأداة في غير ما وضعت له ، أو موضوعة لإنشاء مطلق التخاطب ولايقاع مجرّد المخاطبة سواء كان مع المخاطب الحقيقي أو التنزيلي فتكون شاملة للمعدومين أيضاً وقد مرّ نظيره في مبحث الأوامر بالنسبة إلى صيغة الأمر وهل هي موضوعة

__________________

(١) نهج البلاغة : كتاب ٤٧.

١٢٠