أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الأمر السادس : في علائم الحقيقة والمجاز

ذكروا لتشخيص الحقيقة عن المجاز علائم يحتاج الفقيه إليها في معرفة ظواهر الألفاظ ، وهذا البحث من أهمّ مباحث الألفاظ وأكثرها فائدة وأتمّها آثاراً في الفقه والتفسير والحديث وغيرها ومن المباحث التي تسمّى بالمباحث الرئيسيّة ، فإنّها المدار في فهم معاني الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ، وهي امور :

١ ـ التبادر :

وقد قيل في تعريفه إنّه انسباق المعنى إلى الذهن من حاق اللفظ ، ويراد من حاق اللفظ ما يقابل الانسباق الحاصل من وجود القرينة.

وقيل أيضاً إنّه خطور المعنى في الذهن من حاق اللفظ. كما قيل : إنّه انفهام المعنى ، لكن العبارات شتّى والمقصود واحد.

وقبل الشروع في البحث لا بدّ من ذكر مقدّمة ، وهي أنّ التبادر علامة يعوّل عليها كلّ مستعلم في اللّغة صغيراً كان أو كبيراً ، بل أهل اللّغة أيضاً في كثير من الموارد حتّى الصبي عند تعلّمه من امّه وأبيه ، فإنّ الصبي إذا رأى انسباق معنى إلى أذهان والديه ومن هو أكبر منه سنّاً فيما إذا أطلق لفظ يستنتج أنّ هذا اللفظ وضع لذلك المعنى ، مثلاً إذا سمع لفظ الماء من واحد منهم ثمّ رأى إتيانه هذه المادّة السيّالة وتكرّر هذا منهم يعلم الصبي أنّ معنى الماء ليس إلاّهذا ، وعلى هذا الطريق يعتمد في فهم معاني الألفاظ غالباً ، بل يكون هذا هو السبيل للذين يتعلّمون لغة جديدة بالمعاشرة مع أهلها ، فالتبادر من أهمّ علائم الحقيقة والمجاز وله مكانة عظيمة بينها ، فإنّه المدرك الوحيد في الغالب لفهم اللغات من أهلها.

إذا عرفت هذا.

فنقول : إنّ هيهنا اموراً تنبغي الإشارة إليها :

٨١

الأمر الأوّل في منشأ دلالة التبادر على الوضع.

وهو أمر واضح ، لأنّ منشأ ظهور لفظ في معنى ومنشأ تبادر ذلك المعنى من ذلك اللفظ لا يخلو من أحد الأمرين : إمّا الوضع أو القرينة ، فإذا انتفت القرينة وعلم أنّ المعنى فهم من حاق اللفظ كما هو المفروض في المقام يستكشف منه وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى.

الأمر الثاني : فيما قد يقال من أنّ كون التبادر علامة للحقيقة يستلزم الدور المحال ، لأنّ التبادر يتوقّف على العلم بالوضع ، والمفروض أنّ العلم بالوضع أيضاً يتوقّف على التبادر وهذا دور واضح.

واجيب عن هذا بوجوه عديدة :

أوّلها : قضيّة الإجمال والتفصيل. وتوضيحها : إنّ العلم الذي يتوقّف عليه التبادر هو العلم الإجمالي الارتكازي ، والعلم المتوقّف على التبادر هو العلم التفصيلي ، وبعبارة اخرى : يوجد في حاق ذهن الإنسان ومرتكز أهل اللّغة معنى إجمالي يتبدّل إلى العلم التفصيلي بالتبادر.

ثمّ إنّ هذه القضيّة ( الإجمال والتفصيل ) قضيّة ينحلّ بها كثير من المعضلات ، منها إشكال الدور المعروف الذي أُورد على الشكل الأوّل في المنطق من ناحية منكري الاستدلال والبرهان ، وهو أنّه ( القياس والبرهان ) لا يوجب لنا علماً جديداً لأنّ جميع اشكاله ترجع إلى الشكل الأوّل ، وهو دوري ، لأنّ من شرائطه كلّية الكبرى ، وهي تتوقّف على شمول الكبرى للنتيجة وكونها معلومة ضمن الكبرى ، والحال أنّ العلم بالنتيجة أيضاً يتوقّف على كلّية الكبرى ، وهذا دور ظاهر.

وقد أجاب عنه الشّيخ الرئيس بعين ما ذكرناه في التبادر وبيانه : إنّ كلّية الكبرى تتوقّف على العلم الإجمالي بالنتيجة ، وأمّا ما يتوقّف على القياس فهو عبارة عن العلم التفصيلي بالنتيجة.

ثانيها : سلّمنا ، ولكنّه مختصّ بما إذا إتّحد العالم والمستعلم ولا يتصوّر بالنسبة إلى الجاهل باللغة المستعلم من التبادر عند أهلها ، لأنّه يصير عالماً بالوضع بتبادر المعنى من اللفظ إلى ذهن العالم بالوضع ، فعلمه بالوضع يتوقّف على التبادر إلى ذهن العالم ، وأمّا التبادر إلى ذهن العالم فلا يتوقّف على علم الجاهل بل يتوقّف على علم نفسه ، وقد عرفت أنّ موارد التبادر في الغالب هو من هذا القبيل أي تعدّد العالم والمستعلم.

٨٢

ثالثها : ما حكي عن بعض المحقّقين ، وحاصله إنّه لا مانع من كون كلا العلمين ( المتوقّف على التبادر والمتوقّف عليه التبادر ) تفصيلياً ، ولا دور في البين ، لأنّهما فردان متشخّصان من العلم لحصولهما في زمانين ، ويكفي في ارتفاع الدور تغاير العلمين في التشخّص (١).

ولنعم ما اتجيب عنه من أنّه مع وجود العلم التفصيلي بالوضع قبل التبادر يكون تحصيل علم تفصيلي آخر تحصيلاً للحاصل ، إلاّ أن يعرض عليه النسيان ومع عروض النسيان يصير العلم مجملاً ومرتكزاً ونحتاج في تبديله بالعلم التفصيلي إلى التبادر.

الأمر الثالث : أنّه يفهم استناد التبادر إلى حاق اللفظ من كثرة استعمال اللفظ في المعنى وكثرة تبادره منه ( وإن لم يبلغ حدّ الاطّراد ) حتّى يعلم إنّه لا تعتمد الدلالة على القرينة ، ولا يمكن الاعتماد على أصل عدم القرينة لكونه من الاصول العقلائيّة التي تجري لتعيين مراد المتكلّم بعد العلم بالوضع وبعد العلم بالمعنى الحقيقي والمجازي ، لا عند الشكّ في الموضوع له.

الأمر الرابع : قال المحقّق العراقي رحمه‌الله في المقام ما حاصله : إنّ هذا البحث إنّما يكون منتجاً بناءً على كون مدار حجّية اللفظ على أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة تعبّداً وأنّ اللفظ حجّة في المعنى الحقيقي ولو لم ينعقد للفظ ظهور فيه ، لأصالة الحقيقة أو لأصالة عدم القرينة ، إذ حينئذٍ نحتاج إلى معرفة الموضوع له والمعنى الحقيقي بالتبادر وأمثاله ، وأمّا إذا قلنا أنّ اللفظ حجّة في المعنى الظاهر ولو كان ظهوره من جهة القرينة الحافّة به كما هو التحقيق فلا نحتاج إلى معرفة المعنى الموضوع له والحقيقي بالتبادر وأمثاله ، ولا فائدة لهذا البحث (٢).

أقول : يمكن الجواب عنه بأنّه كثيراً ما يكون منشأ الظهور العرفي هو الوضع. أي ينعقد عند العرف للفظ ظهور في معناه الحقيقي ، فإنّا وإن قلنا بكون مدار حجّية اللفظ هو أصالة الظهور لكن حيث إنّ سبب الظهور هو العلم بالوضع فنحتاج في معرفته إلى التبادر وأمثاله ، وبعبارة اخرى : الظهور العرفي لا يكون بلا سبب بل إمّا أن ينشأ من الوضع أو من القرائن ، ومعرفة الموضوع له أحد أسباب الظهور ، فإذا علم الفقيه بالموضوع له يحصل له العلم بما هو الظاهر عند العرف.

الأمر الخامس : « إنّ التبادر ـ كما ذكره بعض الأعلام ـ يثبت كون المعنى حقيقيّاً للفظ وكونه

__________________

(١) حكاه في تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤٠ ، طبع مهر.

(٢) راجع المقالات : ص ٣١.

٨٣

موضوعاً له في زمان تبادره منه ، وأمّا وضع اللفظ لذلك المعنى في زمان نزول الوحي فلا يثبت بالتبادر المتأخّر ، فلابدّ في إثبات ذلك من التشبّث بالاستصحاب القهقري الثابت حجّيته في خصوص باب الظهورات بقيام سيرة العقلاء وبناء أهل المحاورة عليه ، فإنّهم يتمسّكون بذلك في موارد الحاجة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه ، بل على ذلك الأصل يدور استنباط الأحكام الشرعيّة من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ، ضرورة إنّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا » وهكذا الكلام في استنباط المسائل من جميع الكتب العمليّة أو التاريخية أو الأشعار أو أسناد الأوقاف والوصايا.

هذا كلّه في العلامة الاولى للحقيقة والمجاز ، وهي التبادر.

٢ ـ عدم صحّة السلب وصحّته ( صحّة الحمل وعدم صحّته ) :

والمراد منهما أنّ صحّة سلب لفظ بما له من المعنى من لفظ آخر بما له من المعنى تكون علامة لكونه مجازاً فيه ، وبالعكس فإن صحّة حمل لفظ بما له من المعنى على لفظ آخر بما له من المعنى تكون علامة لكونه حقيقة فيه ، فإذا قلنا « الغيث هو المطر » مثلاً واستحسنه الطبع ( إذا كان معنى المطر معلوماً لنا وواضحاً ولم يكن معنى الغيث معلوماً إلاّ إجمالاً ) فنحكم حينئذٍ أنّ الغيث وضع لمعنى المطر وأنّ معناهما واحد ، كما أنّه إذا قلنا « الرجل الشجاع ليس بأسد حقيقة » واستحسنه الطبع أيضاً ، نعلم أنّ استعمال الرجل الشجاع في الأسد يكون مجازاً.

ولكن المحقّق الخراساني رحمه‌الله وغيره ممّن تبعه ذكروا هنا تفصيلاً حاصله : إنّ الحمل على قسمين حمل أولى ذاتي وحمل شائع صناعي ، والملاك في الحمل الاولى هو اتّحاد المفهوم فقط ، وأمّا الملاك في الحمل الشائع فهو الاتّحاد في الوجود والافتراق في المفهوم ( ويسمّى شائعاً لكونه هو الشائع بين الناس ، وصناعياً لكونه هو المستعمل في الصناعات ) ثمّ إنّ صحّة الحمل الاولى الذاتي يدلّ على كون الموضوع له في الموضوع والمحمول واحداً ، وأمّا الصناعي فيستفاد منه كون الموضوع أحد مصاديق المحمول الحقيقية في قبال المصاديق المجازيّة ، ولا يدلّ على الوضع ، فالعلامة على المعنى الموضوع له هي الحمل الاولي لا الحمل الشائع ، بل إنّه علامة على كون الموضوع مصداقاً حقيقيّاً للموضوع له في قبال المصداق المجازي.

٨٤

أقول : إنّ كلامه جيّد مقبول عندنا ، ولكن هيهنا امور تجب الإشارة إليها لتتميم هذا البحث :

الأمر الأوّل : ما هو السرّ في كون صحّة الحمل علامة للمعنى الحقيقي؟ وجوابه ما مرّ نظيره في التبادر ( من أنّ صحّة الحمل تنشأ إمّا من القرينة أو من ناحية الوضع وحيث إنّ المفروض عدم وجود القرينة يعلم أنّها ناشئة من الوضع ) فصحّة سلب معنى عن لفظ علامة عدم وضعه له وإلاّ لم يكن السلب صحيحاً.

الأمر الثاني : أنّ إشكال الدور الذي مرّ في مبحث التبادر يأتي هنا أيضاً ، وبيانه : إنّ صحّة الحمل يتوقّف على العلم بالموضوع له في موضوع القضيّة ومحمولها ( لأنّ صحّة الحمل فرع تصوّر الموضوع والمحمول وهو فرع العلم بهما ) بينما العلم بالوضع أيضاً يتوقّف على صحّة الحمل وهذا دور واضح.

ولكن يأتي هنا أيضاً الجوابان المذكوران في التبادر :

أحدهما : إن علمنا بالوضع يكون بالإجمال والارتكاز ، وأمّا العلم المتوقّف على صحّة الحمل علم تفصيلي ، فالمتوقّف غير المتوقّف عليه بالإجمال والتفصيل.

ثانيهما : سلّمنا ، ولكنّه يختصّ بما إذا كان المستعلم من أهل اللسان ، أمّا إذا كان أجنبياً عنه فإنّه يحصل له العلم بالوضع بصحّة الحمل في استعمالات أهل اللسان فلا دور.

الأمر الثالث : أنّ لبعض الأعلام هنا اشكالاً وحاصله : إنّ صحّة الحمل وصحّة السلب يكونان مسبوقين بالتبادر ، فالعلامة في الحقيقة هو التبادر ، وتوضيحه : إذا قلنا « الغيث هو المطر » فحيث إنّ الحمل هذا يحتاج إلى تصوّر « الغيث » و « المطر » وتصوّرهما يحتاج إلى العلم بمعناهما واتّحادهما في الخارج ، والعلم هذا لا طريق لنا إليه إلاّ التبادر ، فنحن عالمون بالوضع بالتبادر قبل تحقّق الحمل ، فالعلامة منحصرة في التبادر هذا كلّه إذا كان المستعلم من أهل اللسان ، أي كان المراد من صحّة الحمل والسلب صحّتهما عند نفسه ، وأمّا إذا كان المستعلم من غيره وكان جاهلاً باللسان وأراد أن يصل إلى الوضع من طريق استعمال أهل اللسان ، فإنّ هذا الحمل بالنسبة إليه يرجع إلى تنصيص أهل اللّغة ، والتنصيص غير صحّة الحمل ، فتلخّص أنّ صحّة الحمل إمّا أن يرجع إلى التبادر أو إلى تنصيص أهل اللّغة ، وليست هي نفسها من علائم الحقيقة والمجاز (١).

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤١ ، طبع مهر.

٨٥

أقول : يمكن دفع هذا الإشكال بأنّه يكفي في صحّة الحمل قضيّة الإجمال والتفصيل ، فما يتوقّف عليه صحّة الحمل هو العلم الإجمالي والارتكازي بالوضع ، فلا حاجة إلى التبادر لمعرفة الوضع تفصيلاً. هذا مضافاً إلى أنّ الحمل هنا ليس حملاً خارجيّاً لفظيّاً بل المراد منه تقريب المحمول إلى الموضوع في الذهن ، فقبل تحقيق الحمل في التلفّظ والخارج نقرّب « الغيث » مثلاً بما له من المعنى الارتكازي إلى « المطر » بما له من المعنى التفصيلي ، ونمارس حمله عليه حتّى نرى أيستحسنه الطبع أم لا؟ من دون أن يكون تبادر في البين ، فإن استحسنه الطبع ورأى تلائم المعنيين وتناسبهما فيعلم أنّ الموضوع له فيهما واحد.

هذا كلّه في الحمل الاولى الذاتي ، وكذلك في الحمل الشائع ( حمل الكلّي على المصداق ) فنحتاج في معرفة المصداق الحقيقي أيضاً إلى التقريب الذهني.

وإن شئت قلت : إنّ التبادر هو الرجوع إلى الارتكاز من طريق التصوّر ، وأمّا صحّة الحمل فهي الرجوع إلى الارتكاز من طريق أخذ الجملة والتصديق بمفادها فأحد الطريقين في عرض الآخر ، ولا يتوقّف أحدهما على الآخر.

الأمر الرابع : في بيان الإشكال الذي ذكره بعض الأعلام في المسألة ، وحاصله : إنّ الحمل الذاتي لا يكشف إلاّعن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً ومغايرتهما اعتباراً ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وإنّه حقيقي أو مجازي ، وبكلمة اخرى : إنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول ، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل وإلاّ فلا ، وأمّا الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدالّ ، وبين الأمرين مسافة بعيدة ، نعم لو فرض في القضيّة الحمليّة أنّ المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة كان ذلك علامة الحقيقة ، إلاّ أنّه مستند إلى التبادر لا إلى صحّة الحمل ، نعم بناءً على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّاً كما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه‌الله يمكن إثبات الحقيقة ، إلاّ أنّه لم يثبت في نفسه ، مضافاً إلى أنّه لو ثبت فهو أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها (١).

أقول : قد مرّ أنّ صحّة الحمل والاستعمال إمّا أن تكون حاصلة من القرينة أو تنشأ من حاقّ اللفظ والوضع ، فإذا لم تكن قرينة في البين وكانت القضيّة عارية من أيّة قرينة نعلم بأنّ

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ١ ، ص ١١٧.

٨٦

صحّة الاستعمال نشأت من الوضع ومن حاقّ اللفظ ( والعلم بكونه من حاق اللفظ يحصل من تكراره في مواضع متعدّدة وإن لم يبلغ حدّ الاطّراد ) فلا يرد على هذه العلامة ما ذكره فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس : هناك فرق بين المراد من الحمل الاولى والحمل الشائع في ما نحن فيه ، وبين ما يكون مصطلحاً في المعقول ، لأنّ الحمل الاولى في المعقول ملاكه الاتّحاد الماهوي ، سواء اتّحدا في المفهوم أيضاً ولم يتّحدا ، ولكن المراد منه في ما نحن فيه حمل أحد المترادفين على الآخر ، فملاكه الاتّحاد مفهوماً من دون نظر إلى الماهية والاتّحاد فيها ، لأنّ عالم اللّغة عالم المفاهيم والألفاظ لا الحقائق والماهيات ، نعم الاتّحاد المفهومي ملازم للإتّحاد الماهوي لا العكس كما لا يخفى. وكذلك الحمل الشائع ، لأنّه في المعقول هو اتّحاد المفهومين في الوجود مع عدم ملاحظة الاتّحاد في الماهية ، ولكنّه هنا بمعنى حمل الكلّي على المصداق ، وملاكه كون الموضوع أحد مصاديق المحمول.

نعم ، الفرد مع النظر إلى تشخّصاته الفرديّة يفترق عن الكلّي في الماهية ، فيكون الفرد متّحداً للكلّي في الوجود ومفترقاً عنه في الماهية. لكن الحمل الشائع في المعقول يكون أعمّ ممّا ذكر ، لأنّه أعمّ من حمل الكلّي على أفراده كما في قولنا « الإنسان كاتب » حيث لا إشكال في أنّه ليس من قبيل حمل الكلّي على أفراده.

هذا كلّه في العلامة الثانيّة من علائم الحقيقة والمجاز.

٣ ـ الاطّراد وعدمه :

المعروف أنّ الاّطراد علامة للحقيقة وعدمه علامة للمجاز ، واستشكل فيه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بما حاصله : إنّ ما ذكروه من كون الاّطراد علامة للحقيقة وعدمه علامة للمجاز لعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات حيث إنّه لا يطرد صحّة استعمال اللفظ في نوع العلائق وإلاّ ففي خصوص العلاقة التي يصحّ معها الاستعمال يكون المجاز مطرداً كالحقيقة ، مثلاً استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مطرد ، ولكن في نوع الحيوانات المشابهة له ليس مطرداً ، فلا يستعمل في الرجل الأبخر ، مع أنّ كلاّ من الرجل الأبخر والرجل الشجاع مشابه له ، وهكذا إسناد السؤال إلى قرية ذوي العقول مطرد ، ولكن إلى نوع المحلّ والمقرّ لهم ليس مطرداً ،

٨٧

فيصحّ أن يقال : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ولا يصحّ أن يقال « واسأل الشارع أو البساط » مع كون كلّ من القرية والشارع محلاً لذوي العقول أو معبّراً لهم ، فكلام المشهور إذا كان بملاحظة الصنف الخاص من العلاقة الذي يصحّ معه الاستعمال كالشجاعة من بين أصناف الشباهة أو المسكن من بين أصناف المحلّ والمقرّ فهو ليس بصحيح ، لأنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي أيضاً مطرد كالحقيقة ، ويكون الاّطراد مشتركاً بين الحقيقة والمجاز لا مختصّاً بالمعنى الحقيقي ، وإذا كان كلامهم بملاحظة نوع العلائق فهو تامّ في محلّه.

هذا حاصل ما ذكره في المقام.

ولكن هيهنا قول آخر ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله ونقله في تهذيب الاصول وفي المحاضرات ، وهو كون الاطّراد من علائم الحقيقة في خصوص الكلّي بالنسبة إلى أفراده ، وحاصل بيانه : إنّه إذا صحّ استعمال كلّي في عدّة من أفراده بحيث أطرد استعماله فيها نستنتج من مجموع هذه الاستعمالات إنّ معنى هذا الكلّي هو المعنى الجامع بين تلك الأفراد ، وهو الموضوع لذلك المعنى ، فإذا استعمل مثلاً لفظ الرجل في زيد ، ثمّ استعمل أيضاً في عمرو ، وثالثاً في بكر ، ورابعاً في خالد نستكشف من هذا الاطّراد أنّ معنى الرجل حقيقة هو المفرد المذكّر ، وإذا لم يكن استعمال الكلّي مطرداً في الأفراد كما أنّ استعمال الأسد لا يكون مطرداً بالنسبة إلى كلّ فرد شجاع نستكشف من عدم الاطّراد هذا كون استعمال الأسد في الشجاع مجازاً (١).

واجيب عنه بأمرين :

الأمر الأوّل : إنّ استعمال الكلّي في فرده مع الخصوصيّات الفرديّة مجاز قطعاً لأنّ التشخصّات الفرديّة لا تكون جزءاً لما وضع له الكلّي ، فإستعماله فيه حينئذٍ يكون استعمالاً في غير الموضوع له :

إن قلت : إنّه يكون من باب التطبيق الكلّي على فرده أو تطبيق العامّ على الخاصّ بلا إرادة الخصوصيّة.

قلنا : فالعلامة حينئذ صحّة التطبيق لا اطّراد استعمال الكلّي في الأفراد ، لأنّه لم يلاحظ الخصوصيّات الفرديّة ، فلم يلاحظ تعدّد الأفراد لأنّ تعدّدها يتحقّق بتشخّصها ، فلا يكون الاطّراد علامة بل العلامة صحّة التطبيق ، وهي ليست إلاّصحّة الحمل ، وقد مرّ أنّ صحّة

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ١ ، ص ١٢١.

٨٨

الحمل ترجع إلى التبادر فإنحصرت العلامة في التبادر.

الأمر الثاني : إنّ تطبيق الكلّي على فرده أمر عقلي لا يرتبط بعالم الاستعمال والألفاظ ، فلا يمكن أن يكون علامة لكون الاستعمال حقيقة (١).

أقول : ليت شعري كيف نسوا ما يسلكونه عملاً في الفقه في مقام كشف المعاني الحقيقية للألفاظ المستعملة في الأبواب المختلفة من الفقه؟ أو لسنا هناك فيما إذا أردنا فهم معنى الغنيمة مثلاً في قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... ) وإنّه هل يعمّ كلّ فائدة ، ولو كانت في غير حروب أو تختصّ بما تؤخذ في معركة الحرب؟ نتمسّك بذيل الاستعمالات المختلفة للفظ الغنيمة في الآيات والرّوايات ونهج البلاغة وأشعار العرب ونستدلّ بها على الخصم ، ونقول إنّ اطّراد استعمالها في الرّوايات وغيرها في مطلق الفوائد أو في غير غنائم الحرب يدلّنا على كونها موضوعة لمطلق الفائدة ولو لم تحصل من ناحية القتال ، أو إذا أردنا أن نعيّن معنى في « الكنز » في كتاب الزّكاة وإنّه هل يختصّ بما يخرج من تحت الأرض أو يعمّ كلّ مال مذخور مستور ذي قيمة؟ نتمسّك بمثل قوله تعالى : ( وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ) ( في قضيّة خضر وموسى ) وأشباهه ونظائره ثمّ نستدلّ بإطراده في هذا المعنى في استعمالات العرب على كونه حقيقة في مطلق الأشياء الغالية المستورة عن النظر ولو لم يكن تحت الأرض ، وهذا هو المحقّق النحرير الطبرسي رحمه‌الله في مجمع بيانه وغيره من المفسرين لا يزالون يتمسّكون لفهم معاني الألفاظ الواردة في القرآن بأشعار العرب وسائر موارد استعمالاتها كما لا يخفى على من راجع كلماتهم ، كما إنّك ترى أيضاً رجوع كثير من أرباب اللّغة إلى استعمالات العرب في نظمهم ونثرهم ، ولذلك كانوا يستأنسون بأهل البوادي ويعاشرونهم ، فإذا رأوا اطّراد استعمال لفظ في معنى في محاوراتهم يحكمون بأنّه وضع لذلك المعنى ، كما أنّ هذا أيضاً منهج العلماء في مناظراتهم فهم يقنعون بأبيات من أشعار العرب وغيرها إذا عرض عليهم في موارد مختلفة لإثبات معاني الألفاظ فيما إذا أطرد استعمال لفظ في معنى ، وسيأتي الفرق بين هذه العلامة وبين ما هو منقول عن علم الهدى رحمه‌الله.

ثمّ إنّ هيهنا اموراً لا بدّ من الإشارة إليها :

الأمر الأوّل : إنّه كيف يدلّ الاطّراد على الحقيقة؟

__________________

(١) راجع المحاضرات : ص ١٢٢.

٨٩

وجوابه : إنّ كثرة استعمال لفظ في معنى وصحّة ذلك الاستعمال مع كثرته دليل على أنّ هذا الاستعمال لا يعتمد على القرينة ولا يضرّ احتمال وجود بعض القرائن الحاليّة وغيرها أحياناً لأنّه يتصوّر في استعمال واحد أو بالنسبة إلى موارد معدودة من الاستعمال لا بالنسبة إلى الكثير منه ، فإذا ثبت أنّ صحّة الاستعمال في هذه الموارد لم يعتمد على القرينة نعلم بأنّها نشأت من الوضع.

فالإنصاف أنّ الاطّراد وعدمه من أحسن علائم الحقيقة والمجاز ، وعليه العمل في كشف معاني الألفاظ ، واعراض جمع من الأعلام عنه هنا قولاً ، مع التزامهم به في الكتب الفقهيّة عملاً ، غير ضارّ.

الأمر الثاني : أنّه لا يجري في الاطّراد أيضاً ما مرّ من إشكال الدور ، لأنّ المستعلم هنا يستعلم الوضع من كثرة استعمالات أهل اللسان ويكون جاهلاً بالوضع ولا يكون المستعلم والعالم واحداً.

الأمر الثالث : أنكر المحقّق العراقي رحمه‌الله كون الاطّراد من العلائم وحاصل كلامه : إنّه إمّا أن يكون المراد من الاطّراد الاطّراد في التبادر ، أو الاطّراد في الاستعمال ، فإن كان المراد هو الاطّراد في التبادر فمعناه تبادر معنى خاصّ من لفظ خاصّ في موارد كثيرة ، ومرجع هذا إنّه يعتبر في دلالة التبادر على الوضع عدم إتّكائه على القرينة ، وهو يحرز بإطراد التبادر ، فيكون الاطّراد حينئذٍ شرطاً من شرائط كون التبادر علامة وليس علامة مستقلّة ، وإن كان المراد هو الثاني فهو ليس منحصراً بالمعنى الحقيقي لوجوده في المجازات أيضاً فلا يمكن أن يكون علامة(١).

أقول : نختار الشقّ الثاني من كلامه. وأنّ المراد من الاطّراد هو الاطّراد في الاستعمال ، لكّنا نقول في جوابه : إنّ أدنى تأمّل في محاوراتنا اليوميّة يدلّنا على أنّ الاستعمالات الحقيقيّة أكثر من الاستعمالات المجازيّة بمراتب ، وما قيل من أنّ أكثر كلمات العرب مجازات قول زور ، ولا أساس له ، نعم يمكن أن يقال : إنّ المجاز في الأشعار والخطب كثير مطّرد ، ولكنّه أيضاً لا يكون بمرتبة كثرة الحقيقة فيهما ، وحينئذٍ يكون اطّراد الاستعمال سبباً للاطمئنان بأنّه مستعمل في المعنى الحقيقي ، وأمّا في الكلمات المتعارفة فالأمر أوضح ، وإن شئت اختبر نفسك في يوم واحد

__________________

(١) راجع بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٩٧ ـ ٩٨.

٩٠

وما تتكلّم به من الكلمات ، فترى أنّ أكثرها استعمالات حقيقيّة ، والمجاز فيها قليل جدّاً.

الأمر الرابع : قال المحقّق الحائري رحمه‌الله ما نصّه : « إنّ المراد من الاطّراد حُسن استعمال اللفظ في كلّ موقع من غير اختصاص له بمواقع خاصّة كالخطب والأشعار ممّا يطلب فيها أعمال محاسن الكلام ورعاية الفصاحة والبلاغة ، بخلاف المجاز فإنّه إنّما يحسن في تلك المواقع خاصّة » (١) انتهى.

وفيه : أنّه مشعر بأنّ الاطّراد في الخطب والأشعار ليس دليلاً على الوضع ، ولكنّك قد عرفت أنّ المجاز فيهما أيضاً ليس مطرداً وإن كان فيهما أكثر من الكلمات اليوميّة ، فالاطراد فيهما أيضاً دليل على الحقيقة ( فتأمّل ).

الأمر الخامس : قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه فرق بين مختارنا في المقام وما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه‌الله من أنّ الاستعمال علامة الحقيقة وأنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة ، لأنّا لا نقول بأنّ احتمال القرينة واحتمال المجاز ينتفي بمجرّد الاستعمال ولو في كلام واحد ، بل نقول إنّ اطّراد الاستعمال يكون نافياً ورادّاً للمجاز ووجود القرينة ، وفرق بين اطّراد الاستعمال ومجرّد الاستعمال ، وما ذكره ممّا لا دليل عليه كما أشار إليه المحقّقون من الأصحاب.

٤ ـ من علائم الحقيقة والمجاز نصّ أهل اللّغة :

قد ذكر من العلامات نصّ أهل اللّغة ، ولكن ليس هنا محلّ البحث عنه بل يبحث عنه في باب حجّية ظواهر الألفاظ وحجّية قول اللغوي ، فسوف يأتي إن شاء الله تعالى في محلّه أنّه هل يكون تنصيص أهل اللّغة حجّة أو لا؟ فانتظر.

وفيه : بحث كبروي وأنّه هل يكون تنصيصهم حجّة وإن لم يحصل منه العلم بل حصل الظنّ من قول الخبرة؟ وبحث صغروي وهو أنّ كلمات اللغويين من هذا الباب ، أو بيان لموارد الاستعمال؟

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٤٤ طبع جماعة المدرّسين.

٩١

الأمر السابع : الحقيقة الشرعيّة

وينبغي التنبيه على مقدّمة قبل الشروع في أصل البحث ، وهي أنّ الألفاظ تارةً توضع لفهم عموم الناس وهي أكثر الألفاظ المتداولة بينهم ، وتسمّى بالحقائق اللغويّة أو العرفيّة ، واخرى توضع لصنف خاصّ منهم وتسمّى بالمصطلحات نظير لفظ « الاصول العمليّة » فإنّه وضع في علم الاصول للُاصول الأربعة العمليّة المعهودة ، وأمّا في اللّغة فوضع لفظ « الأصل » و « العمل » لما هو أوسع من ذلك كما هو واضح ، والفرق بين القسمين أنّ الحقائق اللغويّة تفيد معانيها اللغويّة كيفما استعملت ، من دون أن تكون مقيّدة بكلام خاصّ ، وأمّا المصطلحات فإفادتها المعاني المصطلحة متوقّفة على استعمالها في مواردها الخاصّة.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ لنا في الشرع ماهيّات مخترعة نحو الصّلاة والحجّ والزّكاة ، واموراً اخرى مشابهة لها ، نحو عنوان « التكبير » الذي في اللّغة بمعنى مطلق التعظيم ، في الشرع وضع لصيغة « الله اكبر » ولكنّه ليس ماهية مخترعة مستقلّة تتركّب من أجزاء وأعمال كماهيّة الصّلاة ، ولا إشكال في أنّ الألفاظ الدالّة على هذه الماهيات المخترعة في زماننا هذا حقيقة في المعاني الشرعيّة ، ولكن لا بدّ من البحث في أنّها هل صارت حقيقة فيها في عصر الشارع حتّى تحمل على تلك المعاني في لسانه ( وتسمّى حينئذٍ بالحقائق الشرعيّة ) أو صارت حقيقة في الأزمنة اللاّحقة بأيدي المتشرّعين ، وحينئذٍ تحمل الألفاظ الواردة في لسان الشارع على معانيها اللغويّة عند فقد القرينة ، وعلى معانيها الشرعيّة عند وجودها ( وتسمّى حينئذٍ بالحقائق المتشرّعيّة ) فيه قولان :

أحدهما : ثبوت الحقيقة الشرعيّة والثاني : عدمه. وتوضيح الحال يستدعي البحث في امور أربع :

الأوّل : في أدلّة القولين.

الثاني : في حدود هذه الماهيّات وعددها ، فهل تكون محدودة بمثل الصّلاة والصّوم والحجّ ،

٩٢

أو أنّ دائرتها أوسع منها.

الثالث : في بيان ثمرة المسألة.

الرابع : في تعيين الوظيفة حين الشكّ في بعض الاستعمالات إذا شكّ في أنّ الألفاظ المستعملة فيها هل استعملت في هذه الموارد قبل صيرورتها حقيقة في المعاني الشرعيّة ، أو بعدها؟

الأمر الأوّل : في أدلّة القولين :

فاستدلّ النافون بأصالة عدم النقل ، حيث إنّه أصل من الاصول العقلائيّة في باب الألفاظ التي تكون بحكم الأمارات وليست من الاصول التعبّديّة الشرعيّة لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حمل الألفاظ على معانيها الأوّليّة إلاّ إذا ثبت نقلها بدليل.

واستدلّ المثبتون بوجوه عمدتها التبادر ، والمراد منه تبادر المعاني الخاصّة من تلك الألفاظ إلى أذهان معاصري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند استعمالها من دون قرينة ، والتبادر علامة الحقيقة.

توضيحه : أنّ فهم الأصحاب المعاني الجديدة من هذه الألفاظ المستعملة في كلمات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ممّا لا ريب فيه ، وذلك لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة : فإمّا أن يكون لوجود قرائن لفظيّة في البين ، أو لوجود قرائن حاليّة ، أو أنّه ناشٍ من ناحية الوضع ، ولا إشكال في أنّ لازم الأوّلين القول بأنّ القرائن ضاعت فلم تصل إلينا وهذا أمر مستبعد جدّاً ، فيتعيّن الأخير وهو المطلوب.

نعم هاهنا « سؤال » وهو أنّ منشأ هذا التبادر ما هو؟ فهل هو الوضع التعييني أو التعيّني؟

وجوابه : إنّ الوضع التعييني يستلزم الالتزام بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصرّح وينصّ بأنّي وضعت هذا لهذا ، وذاك لذاك ، وهذا أيضاً أمر مستبعد جدّاً ، لأنّه لو كان لبان ، ونقل إلينا ، لتوفّر الدواعي على نقله ، فيتعيّن تكون المنشأ الوضع التعيّني ، وحينئذٍ يقع البحث في زمان تحقّق هذا الوضع ، أي زمان صيرورة المعنى المجازي حقيقيّاً لأنّه يحتاج إلى كثرة الاستعمال ، فيقع السؤال عن إنّه هل يكفي عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه الكثرة حتّى نلتزم بكونه زمان الوضع ، أو لا يكفي حتّى نلتزم بأنّ الوضع والتعيّن حصل في عصر المعصومين عليهم‌السلام؟

هذا إذا كان نوع الوضع منحصراً في القسمين المذكورين ( التعيّني والتعييني ) ، لكن المحقّق

٩٣

الخراساني رحمه‌الله أبدع هنا قسماً ثالثاً يمكن تسميته بالوضع التعييني العملي فإنّه قال : ربّما يكون الإنسان بصدد الوضع من دون أن يصرّح به فلا يقول : « وضعت هذا لهذا » بل يستعمل اللفظ عملاً في معناه فيقول مثلاً : « ايتني بالحسن » وهو يريد به وضع لفظ الحسن لهذا المولود ، من دون أن ينصب قرينة على المجاز بل إنّما ينصب القرينة على كونه بصدد الوضع ( ولعلّه من هذا القبيل قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله« صلّوا كما رأيتموني اصلّي » ) ، ثمّ قال : لا يبعد كون هذا النوع من الوضع هو منشأ التبادر في الحقائق الشرعيّة ، لكن أورد عليه جماعة ممّن تأخّر عنه منهم المحقّق النائيني رحمه‌الله « بأنّ حقيقة الاستعمال كما بيّناه إلقاء المعنى في الخارج بحيث يكون الألفاظ مغفولاً عنها فالاستعمال يستدعي كون الألفاظ مغفولاً عنها وتوجّه النظر إليه بتبع المعنى بخلاف الوضع فإنّه يستدعي كون اللفظ منظوراً إليه باستقلاله ، ومن الواضح إنّه لا يمكن الجمع بينهما في آن واحد » (١).

ثمّ وقع الأعاظم بعده في حيص وبيص في مقام دفع هذا الإشكال وأجاب كلٌّ بجواب ، فأجاب بعض من تأخّر عنه بما حاصله : إنّ المستحيل هو اجتماع اللحاظين في ملحوظ واحد ، وفي ما نحن فيه متعلّق أحد اللحاظين غير متعلّق الآخر ، لأنّ اللحاظ الآلي متعلّقه شخص اللفظ ، واللحاظ الاستقلالي متعلّقه نوع اللفظ من أي متكلّم كان (٢).

ولكن يرد عليه : أنّ المفروض استعمال لفظ الحسن مثلاً مرّة واحدة لا مرّتين ، فيكون النوع والشخص موجودين بوجود واحد ، فيبقى محذور اجتماع اللحاظين على حاله.

وأجاب بعض الأعلام في تعليقته على أجود التقريرات بما حاصله : إنّ هذا الإشكال وارد على مبنى كون حقيقة الوضع إنشاء ، لأنّ الوضع حينئذٍ يتحقّق بنفس التلفّظ والإنشاء ، وأمّا بناءً على مختارنا من كونه هو التعهّد والالتزام فيقع الوضع قبل الاستعمال بطبيعة الحال ، لأنّ الالتزام يتحقّق قبل التكلّم ، فلا يكون في نفس الاستعمال لحاظان (٣).

وفيه : أوّلاً : ما مرّ من الإشكال في أصل مبناه في حقيقة الوضع.

وثانياً : سلّمنا ـ إلاّ أنّ التعهّد المحض من دون الإبراز والإظهار لا أثر له لعدم إيجابه التفاهم

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٣.

(٢) راجع مجمع الأفكار : ج ١ ، ص ٧٠.

(٣) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٣.

٩٤

في الألفاظ الذي هو الغاية في الوضع ، ولا إشكال في أنّ الالتزام مع الإبراز يحتاج إلى اللحاظ الاستقلالي مضافاً إلى اللحاظ الآلي ، لأنّ إبراز الالتزام باللفظ يحتاج إلى النظر إليه مستقلاً ، فيبقى الإشكال على حاله.

وأجاب عنه : في تهذيب الاصول بأنّه « يمكن أن يكون من باب جعل ملزوم بجعل لازمه ويكون الاستعمال كناية عن الوضع من غير توجّه إلى الجعل حين الاستعمال وإن التفت إليه سابقاً أو سيلتفت إليه بنظرة ثانيّة ، وهذا المقدار كافٍ في الوضع » (١).

أقول : كلامه هنا منافٍ لما صرّح به في باب حقيقة الوضع ، لأنّه قال هناك : إنّ الوضع نوع من الإنشاء ، وإليك نصّ كلامه : « الوضع هو جعل اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه » (٢).

ووجه التنافي إنّ الإنشاء والجعل يحتاج إلى تصوّر المجعول والمجعول له والنظر الاستقلالي إليهما ، فكيف يمكن أن يكون الاستعمال الموجب للوضع كناية بحيث يصير اللفظ الموضوع مغفولاً عنه؟

فظهر ممّا ذكرناه عدم تماميّة شيء من هذه الأجوبة الثلاثة ، والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الإشكال في المقام متوقّف على كون اللفظ آلة ومرآة للمعنى وفانياً فيه ، وهو ممنوع جدّاً لأنّ كلّ مستعمل للكلمات والألفاظ ينظر أوّلاً إلى كلّ واحد من اللفظ والمعنى نظراً استقلالياً ، ثمّ يستعمل اللفظ في المعنى كما هو واضح بالنسبة إلى من هو حديث العهد بلغة ، فإنّه إذا أراد مثلاً استعمال لفظ « الخبز » في معناه باللغة العربيّة يتفحّص ابتداءً في ذاكرته الحافظة ، ويختار من بين الألفاظ المخزونة فيها لفظ « الخبز » فينظر إليه بالطبع نظراً استقلاليّاً كما ينظر إلى معناه أيضاً كذلك ثمّ يستعمل اللفظ في معناه بعد ذلك ويقول : « هل عندك خبز؟ ». نعم يحصل له الغفلة عن اللفظ بعد استعمالات كثيرة وحصول السلطة على الاستعمال ولكن هذه الغفلة المترتّبة على تلك السلطة ليس معناها دخلها واعتبارها في حقيقة الاستعمال وفناء اللفظ في المعنى حين الاستعمال.

أضف إلى ذلك أنّ الاستعمال ليس من الامور الآنيّة بالدقّة العقليّة بل يمكن إحضار معانٍ متعدّدة في الذهنّ أوّلاً ثمّ ذكر اللفظ لإفادتها كما ذكرناه في مبحث جواز استعمال اللفظ المشترك

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤٦ ، طبع مهر.

(٢) المصدر السابق : ص ٨ ، طبع مهر.

٩٥

في المعاني المتعدّدة ، فظهر من جميع ذلك أنّ هذا النوع من الوضع ممّا لا غبار عليه.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ هذا الاستعمال هل يكون حقيقة أو مجازاً؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّه نوع ثالث من الاستعمال ( لا حقيقة ولا مجاز ) والميزان في صحّته استحسان الطبع ، وقال : « دلالة اللفظ على المعنى في هذا الاستعمال بنفسه لا بالقرينة وإن كان لا بدّ حينئذٍ من نصب قرينة إلاّ أنّه للدلالة على ذلك ( على كونه في مقام الوضع ) لا على إرادة المعنى كما في المجاز » (١).

أقول : الظاهر أنّه لا بدّ في هذا الاستعمال من نصب قرينتين : قرينة على كون المستعمل في مقام الوضع ، وهذا ما اعترف به المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضاً ، وقرينة على استعمال اللفظ في المعنى الجديد كالإشارة إلى المولود مثلاً عند قوله : « ائتني بالحسن » لأنّه مع عدم نصب هذه القرينة لا يفهم المعنى من اللفظ كما هو واضح ، وحينئذٍ إمّا أن لم يكن اللفظ قبل هذا الوضع موضوعاً لمعنى آخر ، فيكون الحقّ عندئذٍ مع المحقّق المذكور من أنّه ليس حقيقة ولا مجازاً ، أو كان قبل هذا موضوعاً لمعنى آخر فيكون استعماله في المعنى الجديد استعمالاً في غير الموضوع له فيكون مجازاً ، فكلام المحقّق بإطلاقه غير مرضيّ.

ثمّ يبقى الكلام في أنّ الألفاظ الدائرة في لسان الشرع للُامور المستحدثة هل وضعت لها بالوضع التعييني بأحد نوعيه ، أو التعيّني؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى الأوّل وقال : « دعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدّاً ومدّعى القطع به غير مجازف قطعاً » (٢).

ولكنّه دعوى بلا بيّنة وقول بلا برهان ، والصحيح حصوله من طريق خصوص الوضع التعيّني فإنّ هذا هو ما نجده بوجداننا العرفي ، فاختبر نفسك في الأوضاع الجديدة في حياتنا الاعتياديّة فإنّك تشاهد عندك ألفاظاً وضعت لمعان جديدة بكثرة الاستعمال كلفظ « الشيطان الأكبر » و « المستضعف » و « المستكبر » و « الطاغوت » إلى غير ذلك من الألفاظ المتداولة اليوم

__________________

(١) كفاية الاصول : ص ٢١ ، الطبع الجديد.

(٢) نفس المصدر.

٩٦

في معانٍ خاصّة غير معانيها اللغويّة ، بل يمكن أن يقال بتحقّق الوضع في المعاني الشرعيّة من هذا الطريق بكثرة الاستعمال حتّى في خصوص عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، بل في سنة أو أقلّ ، وكذا بالنسبة إلى عصر الأئمّة عليهم‌السلام في ألفاظ اخر ، وإصرار المحقّق الخراساني رحمه‌الله على المنع من حصوله في خصوص لسان الشارع ممّا لا وجه له.

وهنا مذهب آخر وهو أنّه يمكن أن يقال : إنّ بعض الألفاظ المعهودة المعروفة بعنوان الحقائق الشرعيّة ليست في الواقع بحقائق شرعيّة بل إنّها حقائق لغويّة لاستعمالها في الشرائع السابقة كما تشهد عليه جملة من الآيات :

منها قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )(١).

وقوله تعالى : ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا )(٢).

وقوله تعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ )(٣).

فإنّ هذه الآيات تشهد على أنّ الصّيام والصّلاة والحجّ كانت موجودة بمعانيها الشرعيّة في الشرائع السابقة أيضاً ، كما اعترف به جمع من المحقّقين.

نعم قد يرد على هذا بأنّ غاية ما يستفاد من هذه الآيات أنّ معاني هذه الألفاظ كانت موجودة قبل الإسلام ولا تدلّ على كون هذه الألفاظ أسماء لها فتدلّ آية الحجّ مثلاً على أنّ أعمال الحجّ وجملة من مناسكه كانت معمولة من عصر إبراهيم خليل الله عليه‌السلام ، ولا تدلّ على أنّه كان يعبّر عنها بلفظ الحجّ في اللّغة العربيّة.

ولكن يمكن دفعه بأنّ العرب في عصر الجاهلية كانوا يتكلّمون فيما بينهم عن عبادات اليهود والنصارى قطعاً خصوصاً إذا لاحظنا وجود طائفة منهم في المدينة وإنّهم يتكلّمون بما يتكلّم به غيرهم من قبائل العرب ، ومن البعيد جدّاً كون الألفاظ التي كان العرب يتكلّمون بها عن عبادات اليهود والنصارى وصومهم وصلاتهم غير الألفاظ المستعملة في لسان القرآن ، لأنّ لازمه وضع ألفاظ جديدة عربيّة لتلك المعاني مع عدم الحاجة إليها بل هو أشبه شيء بتحصيل الحاصل.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٨٣.

(٢) سورة مريم : الآية ٣١.

(٣) سورة الحجّ : الآية ٢٧.

٩٧

ويؤيّد ذلك أنّ كلمة « الصّلاة » بهذه اللّفظة موجودة في إنجيل برنابا الموجود في زماننا هذا لا بلفظة اخرى عبرانيّة أو سريانيّة ، وهذا يشهد على أنّه كما أنّ المعاني لم تكن مستحدثة ، كذلك الألفاظ التي يعبّر عنها ( وإن كانت صحّة هذا الانجيل محلّ الكلام ).

والذي يسهّل الخطب إنّ إثبات المعاني اللغويّة لهذه الألفاظ بهذا الدليل لا أثر له في الثمرة المعروفة لهذه المسألة بل يؤكّد حملها على المعاني المعروفة الشرعيّة بطريق أولى ، فإنّ لازم هذا الكلام كون الصّلاة مثلاً حقيقة في الأركان المخصوصة حتّى قبل ظهور الإسلام فلا تحمل على معنى الدعاء إذا وردت في لسان الشارع بلا قرينة.

الأمر الثاني : في دائرة الحقائق الشرعيّة

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ دائرتها أوسع من الألفاظ المتداولة في ألسنة الاصوليين ، والدليل عليه أنّ الحقيقة الشرعيّة التي ينبغي البحث عن ثبوتها وعدمه على أقسام :

١ ـ ما وضعت للعبادات المخترعة في الشرع مثل « الصّلاة » و « الزّكاة » و « الحجّ » وغيرها.

٢ ـ ما وضعت لأقسام هذه العبادات وهو بالنسبة إلى الصّلاة كـ « صلاة الآيات » و « صلاة الليل » و « صلاة الفطر » و « صلاة القضاء » و « صلاة الأداء » و « صلاة الفريضة » و « صلاة النافلة » وهكذا بالنسبة إلى الصّوم والزّكاة والحجّ.

٣ ـ ما وضعت لأجزاء هذه العبادات مثل عنوان « الطواف » و « السعي » و « الوقوف » و « التقصير » في الحجّ ، و « الركوع » و « السجود » و « التشهّد » و « القنوت » في الصّلاة.

٤ ـ ما وضعت في غير العبادات ، مثل عنوان « الحدّ » و « التعزير » و « الكرّ » و « الماء القليل » وغيرها.

والظاهر أنّ جميع هذه الألفاظ محلّ الكلام في المقام ، فهل الحقيقة الشرعيّة ثابتة في جميعها أو في بعضها؟ والإنصاف أنّه يشكل دعوى ثبوتها في جميع ما ذكرنا ، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقّن منها.

نعم توجد هنا ألفاظ نعلم بعدم كونها حقائق شرعيّة ، أي لم توضع لمعانيها الخاصّة في لسان الشارع بل كانت موجودة في العرف العامّ وإنّما اضيف إليها من جانب الشارع شرائط وخصوصّيات فحسب بحيث لم تتبدّل إلى معانٍ جديدة غير ما في العرف العامّ ، مثل لفظ

٩٨

النكاح والطلاق والبيع ، ولذلك يصحّ التمسّك في الموارد المشكوكة بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) مثلاً ، ومن هذا القسم كلمة « الذبح » وأمثاله ، فإنّها باقية على معانيها التي كانت قبل ظهور الإسلام في العرف العامّ وإن أضاف الشارع إليها شرائط وقرّر لها حدوداً ، لأنّ هذه قيود حكميّة لا دخل لها في المعنى الموضوع له.

هذا كلّه في سعة دائرة النزاع ، وسيأتي دخلها في ترتّب الثمرة العمليّة على البحث في الأمر الآتي.

الأمر الثالث : في ثمرة المسألة

المعروف في ثمرة المسألة حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشارع والرّوايات على معانيها الشرعيّة عند فقدان القرينة إن قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وإلاّ تحمل على معانيها اللغويّة ، فإذا قال الشارع المقدّس مثلاً : « صلّوا عند رؤية الهلال » ولم ينصب قرينة على مراده ، حملت الصّلاة على معناها الشرعيّة وهو الأركان المخصوصة بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وعلى معناها اللغويّة وهو الدعاء بناءً على عدمه.

لكن قد أورد على هذه الثمرة في تهذيب الاصول والمحاضرات بأنّه لا طائل تحتها ( مع اختلافهما في التعبير ).

فقال في المحاضرات : « إنّ الرّوايات التي وصلت عن المعصومين عليهم‌السلام إلينا المشتملة على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوماً فلا ثمرة ، بل لا داعي لهذا البحث بعد ذلك » (١).

وقال في تهذيب الاصول : « وعلى كلّ حال الثمرة المعروفة أو الفرضيّة النادرة الفائدة ممّا لا طائل تحتها عند التأمّل حيث إنّا نقطع بأنّ الاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا إنّما يراد منها هذه المعاني التي عندنا فراجع وتدبّر » (٢).

أقول : إنّما يصحّ الإشكال لو كان النزاع في خصوص لفظ الصّلاة والصّيام وشبهها ، أمّا لو كانت دائرته أوسع ممّا ذكر ، كما هو المختار وقد مرّ بيانه آنفاً فالثمرة لهذا البحث كثيرة ، وما أكثر الألفاظ التي وردت في روايات المعصومين عليهم‌السلام ولا يعلم أنّ المراد منها معانيها الشرعيّة أو اللغويّة.

__________________

(١) المحاضرات : ج ١ ، ص ١٣٣.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤٦ ، طبع مهر.

٩٩

توضيح ذلك : أنّ هذه الألفاظ على أقسام :

الأوّل : صارت حقيقة في معانيها في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا إشكال.

الثاني : ( وهي أسماء أجزاء العبادات وأقسامها ) لا دليل على صيرورتها كذلك في زمن الرسول بل لا يبعد أنّها صارت حقيقة في زمان الصادقين عليهما‌السلام.

الثالث : لا دليل ولا شاهد أيضاً على صيرورتها حقيقة إلى زمان الصادقين مثل ألفاظ الأحكام الخمسة ، فلا نعلم المراد من صيغة « يكره ذلك » مثلاً ( إذا استعملت في رواية ) هل يكون المراد منها الحرمة ، أو الكراهة المصطلحة في الفقه.

ولا يخفى أنّ البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه يكون له ثمرة عمليّة بالنسبة إلى كثير من هذه الألفاظ ، والظاهر أنّ الشبهة إنّما نشأت من تحديد البحث في ألفاظ معدودة محدودة.

بقي هنا شيء :

وهو ما يستظهر من بعض الكلمات من أنّ الأحاديث النبويّة ليست من المنابع الفقهيّة عند الإماميّة ، حتّى تكون الألفاظ الواردة فيها داخلة في نطاق البحث.

ولكنّه يرد عليه : أوّلاً : بوجود الخبر المتواتر فيها كحديث الغدير ( فإنّه وإن لم يكن حديثاً فقهيّاً ولكنّه يشتمل على مسألة اصوليّة وهي حجّية قول أمير المؤمنين عليه‌السلام فتدبّر ).

وثانياً : كم من حديث نبوي اشتهر الاستدلال به في الفقه مثل « الناس مسلّطون على أموالهم » و « المؤمنون عند شروطهم » ، وفي الاصول مثل « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » و « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » سواء قلنا بحجّية هذه المرسلات وأشباهها بسبب اشتهارها بين العلماء كما هو كذلك في الجملة ، أو جعلناها مؤيّدة لإثبات بعض المسائل ، فإنّ التأييد أيضاً نوع من الأثر.

ثالثاً : قد تجعل الأحاديث النبويّة مؤيّدة لبعض الأدلّة ، فهي وإن لم تكن حينئذٍ أدلّة على إثبات المقاصد ولكنّها كجزء دليل.

الأمر الرابع : فيما إذا شكّكنا في تاريخ الاستعمال وتاريخ النقل

يعني إذا وردت كلمة مثل الصّلاة في حديث ، ولم نعلم أنّ الحديث ورد قبل نقل هذه اللّفظة

١٠٠