أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الثاني : أن يكون المراد أنّ الأفعال تدلّ على حدوث الاسم ، والحدوث هو الحركة التي تلازم الزمان ، وبعبارة اخرى : الأسماء تدلّ على مجرّد الوجود والتحقق والأفعال تدلّ على الحركة في الوجود ، أي الصيرورة.

أمّا الفقرة الثالثة ( الحرف ) فلها أيضاً تفسيران :

أحدهما : ما هو ظاهرها وهو إيجاديّة معنى الحرف أو كونه للتضييق.

ثانيهما : أن يكون المراد أنّ الحرف لدلالته على معنى وحكايته عنه يوجد معنىً وربطاً في غيره. فلا يوجد به الربط ابتداء وبدون الحكاية كما مرّ ، بل الربط ناشٍ عن حكايتها لمعانيها الخاصّة.

والأولى في تفسير الرّواية هو التفسير الثاني كما يساعده الاعتبار.

هذا كلّه من ناحية الدلالة ، وأمّا من ناحية السند فالظاهر أنّه لم ينقل بطرق صحيحة عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ولكنّه مرويّ في كتب كثيرة حتّى ادّعي اشتهارها كإشتهار الشمس في رائعة النهار ، وأحسن ما رأيت في جمع هذه الطرق للحديث هو ما كتبه العلاّمة السيّد حسن الصدر رحمه‌الله في كتابه « تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام » من صفحة ٥٥ إلى ما بعدها فقد نقلها رحمه‌الله عن عدّة من الأكابر.

وقال سيّدنا المرحوم آية الله البهبهاني ، في كتاب كتبه في شرح هذه الرّواية الشريفة وسمّاها بالاشتقاق « إنّ اشتهارها بين أهل العربيّة يغني عن تحقيق إسنادها ».

ولم يكتف هو رحمه‌الله بجبر إسنادها بسبب الشهرة بل قال : « بأنّ علوّ متنها أيضاً دليل على صحّة سندها » وقال في بعض كلماته « إنّ سطوع نورها ووقود نارها واشتمالها على نفائس أسرار قد خفى جلّها على الجلّ بل على الكلّ كما سيظهر لك إن شاء الله ينادي بعدم صدورها إلاّ من عين صافية فينبغي تصحيح إسنادها بمتنها لا متنها بإسنادها » (١).

أقول : ولكن الإشكال هو أنّ متن الرّواية مختلف ففي غير واحد منها روي كما عرفت تفسيره آنفاً ، ولكن في طريق آخر الذي نقله الأمير سيّد شريف الجرجاني في شرح الإرشاد في النحو للتفتازاني هكذا : « ... والحرف أداة بينهما » (٢). وهذا لا يوافق كون الحروف إيجاديّة بل

__________________

(١) كتاب الاشتقاق : ص ٢ و ٣.

(٢) راجع تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ص ٥٩.

٦١

يوافق ما ذكرنا وما ذكره المشهور في معنى الحروف وإنّها معانٍ غير مستقلّة.

٦ ـ إنّه لا فرق بين كاف التشبيه وكلمة « مثل » في المعنى وإن افترقا في بعض الاستعمالات ، فيأتي فيها كلمة « مثل » دون « الكاف » وهذا لا ينافي كون معناها مفهوماً اسميّاً كما يكون كذلك في الضمائر المتّصلة والمنفصلة ، فإنّه قد لا يمكن استعمال بعضها في مورد بعض وإن كان المعنى واحداً ، والشاهد على عدم الفرق جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن كان لكلّ واحد منهما آثاره الخاصّة من حيث اللفظ من قبيل وقوع « مثل » مبتدأ دون « الكاف ».

هذا تمام الكلام في المعاني الحرفيّة.

٥ ـ الكلام في الفرق بين الإنشاء والإخبار

قال صاحب الكفاية رحمه‌الله هنا ما حاصله : إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا عدم الفرق بين الإخبار والإنشاء لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، بل الفرق في كيفية الاستعمال وغايته ، فالموضوع له والمستعمل فيه في جملة « بعت » حال الإخبار والإنشاء واحد ، إلاّ أنّ « بعت » الخبريّة وضعت لأن يراد منها الحكاية عن الخارج و « بعت » الإنشائيّة وضعت لأن يراد منها إيجاد البيع وإنشائه في عالم الاعتبار.

أقول : قد ظهر ممّا سبق ما هو الحقّ في المسألة أيضاً ، وهو أنّ الإنشاء والإخبار أمران مختلفان ، ذاتاً وجوهراً كما هو مقتضى حكمة الوضع ، أمّا الإخبار فهو في الواقع بمنزلة التصوير من الخارج بآلة التصوير من دون تصرّف من ناحية المصوّر. وأمّا الإنشاء فهو إيجاد معنى في عالم الاعتبار من دون أن يكون بإزائه في الخارج شيء يحكى عنه ، لأنّ يد الجعل لا تنال عالم التكوين بل هي مختصّة بالامور الاعتباريّة ، ويأتي إن شاء الله تعالى في مبحث الأمارات في مقام بيان حقيقة حجّية الأمارات أنّه لا معنى لكون الحجّية هناك بمعنى جعل صفة القطع كما قال به المحقّق النائيني رحمه‌الله ، لأنّ القطع أمر تكويني لا يقبل الجعل التشريعي وبالنتيجة لا شباهة بين ماهيّة الإنشاء وماهية الإخبار ، والفرق بينهما هو نفس الفرق بين الامور التكوينيّة والاعتباريّة ، وأمّا نحو جملة « بعت » التي تستعمل في الإخبار والإنشاء كليهما فإنّها من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت لمعنيين مختلفين ولا بأس بالالتزام به.

تكملة : في ما أفاده بعض الأعلام في المقام. وحاصله : إنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله مبني

٦٢

على ما هو المشهور بينهم بل المتسالم عليه من أنّ الجمل الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه ، وإنّ الجمل الإنشائيّة موضوعة لايجاد المعنى في الخارج الذي يعبّر عنه بالوجود الإنشائي. والصحيح أنّ الجملة الخبريّة موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والإخبار عن الثبوت أو النفي في الخارج ، ولم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه وذلك لسببين :

أحدهما : إنّها لا تدلّ ولو ظنّاً على ثبوت النسبة أو عدمه مع قطع النظر عن حال المخبر ( من حيث الوثاقة ) وعن القرائن الخارجيّة مع أنّ دلالة اللفظ لا تنفكّ عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع وإلاّ لم يبق للوضع فائدة ، فإذا فرضنا أنّ الجملة بما هي هي لا تدلّ على تحقّق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها عنه أصلاً ولو ظنّاً ، فما معنى كون الهيئة موضوعاً لها؟ بل يصبح ذلك لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم.

ثانيهما : إنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني ، ومن الواضح أنّ التعهّد والالتزام لا يتعلّقان إلاّبالفعل الاختياري ، إذ لا معنى للتعهّد بالإضافة إلى أمر غير اختياري ، وبما أنّ ثبوت النسبة أو نفيها في الواقع خارج عن الاختيار فلا يعقل تعلّق الالتزام ، به فالذي يمكن أن يتعلّق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الإخبار.

والنتيجة : أنّ الجملة الخبريّة وضعت لإبراز قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.

وأمّا الجملة الإنشائيّة فهي موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية ، ولم توضع لايجاد المعنى في الخارج ، والوجه في ذلك هو إنّهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني فبطلانه من الضروريات. وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك ، فيردّه إنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلّم به. نعم اللفظ مبرز له في الخارج لا إنّه موجد له.

ومن هنا يعلم إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبريّة في الدلالة الوضعيّة والإبراز الخارجي : وإنّما الفرق بينهما في ما يتعلّق به الإبراز ، فإنّه في الجملة الإنشائيّة أمر نفساني لا تعلّق له بالخارج ، ولذا لا يتّصف بالصدق أو الكذب ، بل يتّصف بالوجود أو العدم ، وفي الجملة الخبريّة

٦٣

أمر يتعلّق بالخارج فإن طابقه فصادق وإلاّ فكاذب (١) ( انتهى ملخّصاً ).

لكن يرد عليه امور :

الأمر الأوّل : إنّه يستلزم كون جملة « بعت » الإنشائيّة والجملة المعادلة لها ( بناءً على ما ذهب إليه ) وهي « اعتبرت في نفسي ملكيّة هذا لزيد مثلاً » كالمترادفين فيصحّ حينئذٍ جعل إحديهما موضع الاخرى ، مع أنّه خلاف الوجدان ، لأنّا نجد بوجداننا إيجاد الملكيّة أو الزوجيّة مثلاً بجملة « بعت » أو « زوّجت » ولا نجده في جملة « اعتبرت في نفسي ملكيّة هذا » ( بعنوان الحكاية عمّا في ضميره ).

الأمر الثاني : إنّه لو كان حقيقة الإخبار إبراز قصد الحكاية فانه يستلزم أن لا تكون الجمل الخبريّة بنفسها مصاديق للحكاية عن الخارج ، وهو خلاف الوجدان ، لأنّا ندرك بصريح وجداننا إنّها حاكيات عن الخارج ، وأمّا ما ذكره من أنّها لا تدلّ على ثبوت النسبة في الخارج ولو ظنّاً إلاّبعد وثاقة المخبر والقرائن الخارجيّة فهو من قبيل الخلط بين الدلالة التكوينيّة كدلالة الدخّان على وجود النار ، والدلالة الوضعيّة الالتزاميّة كدلالة الألفاظ على معانيها ، والمنفي هو الثاني لا الأوّل.

وإن شئت قلت : الألفاظ كالصور المرتسمة ، فإنّها بأجمعها تحكي عن الخارج سواء كان هناك إنسان قصد الحكاية أم لا ، ومع ذلك هذه الصور قد تكون مطابقة للواقع واخرى مخالفة له.

الأمر ثالث : إنّ لازم كلامه قبول الإنشاء للصدق والكذب ، فإنّ من قال : « بعت داري » يحكي عن أمر نفساني خاصّ بناءً على ما ذكره من أنّه لإبراز ما في النفس ، وهذا قد يكون مطابقاً للواقع وقد يكون مخالفاً إذا لم يكن في نفسه من هذا الأمر الاعتباري عين ولا أثر.

الأمر الرابع : ( وهو العمدة ) إنّ الإنصاف كون حقيقة الإنشاء إيجاد أمر اعتباري بأسبابه المعتبرة عند العقلاء ، وبعبارة اخرى : حقائق هذه الامور ( الملكيّة والزوجيّة وغيرهما ) اعتبارات عقلائيّة وقد جعلوا للوصول إليها أسباباً ، ومن توسّل بهذه الأسباب فقد أوجدها في وعائها ، ولا ينافي ذلك أن يكون له شرائط مختلفة ممّا يعتبر في البائع والمشتري والعوضين ،

__________________

(١) راجع : المحاضرات : ج ٢ ، ص ٨٤ ـ ٨٩.

٦٤

فمن تعدّاها لم يصل إلى هذه الاعتبارات. وهو نظير إمضائه في دفتر الأسناد فيما إذا أراد انتقال ملكه إلى الغير ، فإنّ إمضاءه هذا يوجب اعتبار العقلاء الملكيّة للمشتري ويترتّب عليه آثار خاصّة عندهم ، وبه يوجد مصداق من مصاديق سبب الملكيّة الذي اعتبره العقلاء سبباً.

وعلى هذا فيصحّ أن نقول : إنّ حقيقة الإنشاء إيجاد الامور الاعتباريّة لا إبراز الاعتبارات النفسانيّة ، والاعتبارات النفسانيّة الشخصيّة بمجرّدها غير كافية في حصول هذه العناوين عند العقلاء إلاّ أن يكون بأسباب خاصّة عندهم.

هذا تمام الكلام في الفرق بين الإنشاء والإخبار.

٦ ـ الكلام في معاني أسماء الإشارة

وفيه ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله وإليك نصّه : « ثمّ إنّه قد إنقدح ممّا حقّقناه إنّه يمكن أن يقال إنّ المستعمل في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضاً عام وإن تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها ، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها وكذا بعض الضمائر ، وبعضها ليخاطب بها المعنى ، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّص كما لا يخفى ».

وفيه : أنّ كلامه هذا نشأ من ما مرّ من المبنى الذي بنى عليه في المعاني الحرفيّة فالجواب هو الجواب ولا حاجة إلى التكرار.

القول الثاني : ما قال به المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله وإليك نصّ كلامه : « التحقيق أنّ أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلّق الإشارة به خارجاً أو ذهناً بنحو من الأنحاء ، فقولك « هذا » لا يصدق على زيد مثلاً إلاّ إذا صار مشاراً إليه باليد أو بالعين مثلاً ، فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ « هذا » هو الفرق بين العنوان والحقيقة نظير الفرق بين لفظ الربط والنسبة ، ولفظ « من » و « في » وغيرهما ، وحينئذٍ فعموم الموضوع له لا وجه له بل الوضع حينئذٍ عام والموضوع له خاصّ كما عرفت في الحروف » (١).

ووافقه على ذلك المحقّق النائيني رحمه‌الله إلاّ أنّه اكتفى بأنّها وضعت لمعانيها المقيّدة بالإشارة إليها

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ، ص ٢١ ، الطبع القديم.

٦٥

من غير تقييد بكونها خارجيّة أو ذهنية.

إن قيل : ينتقض كلامهما بقولك : « اصلّي في هذا المسجد » إذا كنت جالساً فيه لأنّه في مثل هذه الحالة لا حاجة إلى ضمّ الإشارة بالحسّ أو الذهن بل يكتفي بلفظ « هذا المسجد » فحسب.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ المسجد في هذا المثال حاضر في الذهن فيشار إليه أيضاً بالإشارة الذهنيّة ، نعم يرد عليهما ما سيتّضح لك في بيان المختار في المقام فانتظر.

القول الثالث : ما في تهذيب الاصول وحاصله : إنّ ألفاظ الإشارة وضعت لايجاد الإشارة فقط.

وبعبارة اخرى : إنّ ألفاظ الإشارة تقوم مقام الإشارة بالاصبع وإشارة الأخرس ، فكما أنّه بإشارة الاصبع توجد الإشارة كذلك بلفظ « هذا » مثلاً ، ولذلك يقوم أحدهما مقام الآخر ، فالموضوع له في كلّ واحد منهما نفس الإشارة ، وعلى هذا فيندرج تلك الألفاظ في باب الحروف ولا استقلال لها لا في الذهن ولا في الخارج ، فكما لا تدلّ كلمة « من » أو « إلى » على معنى مستقلّ ، كذلك كلمة « هذا » فلا تدلّ على معنى كذلك ، فألفاظ الإشارة في الحقيقة حروف لا أسماء ، ثمّ أورد على نفسه إنّه كيف تترتّب عليها الآثار الاسميّة نحو وقوعها مبتدأ أو فاعلاً أو مفعولاً؟ وأجاب عنه بأنّ المبتدأ وشبهه في هذه الموارد ليس لفظ « هذا » مثلاً ، بل هو في الواقع المشار إليه الموجود في الذهن ، فيكون من القضايا التي تركّبت من أمر ذهني وأمر خارجي (١). ( انتهى ).

ويرد عليه ما سيأتي في مقام بيان المختار أيضاً.

المختار في معنى أسماء الإشارة وبيانه يحتاج إلى تقديم امور :

الأوّل : أنّ حقيقة الإشارة تعيين شيء من بين الأشياء المتشابهة في الخارج كما لا يخفى.

الثاني : أنّ لكلّ من الإشارة الحسّية والإشارة اللّفظيّة نقصاً لا يكون للآخر ، فالإشارة الحسّية لا تدلّ على الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث بخلاف الإشارة اللّفظيّة ، كما أنّ اللّفظيّة لا يتعيّن ولا يتشخّص بها المشار إليه بخلاف الحسّية ، ولذا تضمّ إلى الإشارة اللّفظيّة

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٧ ـ ٢٨ طبع مهر.

٦٦

الإشارة الحسّية لتعيين المشار إليه.

الثالث : أنّه لا ينبغي الشكّ في كون ألفاظ الإشارة أسماء كما عليه اتّفاق النحويين ، وهو موافق لما نجده بالتبادر عند ذكرها. فإنّا نفهم وجداناً من إطلاق لفظ « هذا » وشبهه معنىً مستقلاً لا يشابه المعاني الحرفيّة وإن كان مجملاً أو مبهماً من بعض الجهات ، وإنكار هذا مكابرة.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ هناك ما يدلّ على الإشارة تكويناً قبل وضع الألفاظ كالإشارة باليد والعين والرأس والحصى والعصا وغيرها ، وهي كلّها تدلّ على معنى معيّن في الخارج ، ثمّ وضعت لها ألفاظ يقوم مقامها من جميع الجهات أو من بعضها ، وهذه الألفاظ أتمّ دلالة منها من جهة دلالتها على الإفراد والتثنية والجمع والمذكّر والمؤنّث وعلى الإشارة إلى القريب والبعيد ولكنّها قاصرة من ناحية تعيين المشار إليه أحياناً ، فحينئذٍ لا تتمّ دلالتها إلاّبأن ينضمّ إليها الإشارة الحسّية أو الذهنيّة.

وإن شئت قلت : مدلولات أسماء الإشارات مفاهيم اسمية وإن كانت فيها رائحة الحروف فلها من حيث دلالتها على المفرد والتثنية والجمع والمذكّر والمؤنّث معانٍ اسمية ، ومن حيث اشتمالها على إيجاد الإشارة ـ لها رائحة الحروف.

وممّا ذكرنا ظهر ضعف القول بأنّها من قبيل الحروف كما ظهر أنّه ليس مفادها مجرّد المعنى عند تعلّق الإشارة بها خارجاً أو ذهناً بل فيها إنشاء الإشارة بنفس ألفاظها وإن كانت قاصرة من بعض الجهات ، فالإشارة مأخوذة في حاق معانيها لا أمر خارج عنها.

وأمّا ما أفاده في التهذيب من أنّ الحقّ في قضيّة « هذا قائم » إنّه من قبيل التركيب بين الموضوع الخارجي واللّفظي ( فالمبتدأ أمر خارجي بنفسه والخبر محكي عنه بلفظ « قائم » ) فهو خلاف الوجدان أيضاً ، لأنّ المتبادر من هذه الجملة أنّ المبتدأ هو ما يستفاد من معنى « هذا » كما يظهر بمراجعة علماء العربيّة أيضاً ، فإنّ اتّفاقهم على أنّ نفس « هذا وأشباهه » هي المبتدأ شاهد على المقصود. هذا تمام الكلام في أسماء الإشارة.

٧ ـ الكلام في الضمائر

وقع الاختلاف في تعيين مفهومها بين الاصوليين.

٦٧

فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : إنّها على قسمين : فبعضها وضع ليشار به إلى معنى ، وهي الضمائر الغائبة ، وبعض آخر وضع لأن يخاطب به المعنى ، ثمّ قال : والإشارة والتخاطب حين الاستعمال يستدعيان التشخّص فلا يكونان جزئين من الموضوع له بل الموضوع له هو المفرد المذكّر الكلّي المتصوّر حين الوضع ، وعلى هذا فالوضع والموضوع له فيها عامّ.

قد يقال : إنّ الضمائر كلّها إيجاديّة ، أمّا الغائب منها فيوجد بالإشارة كأسماء الإشارة ، فوزانها وزان أسماء الإشارة ، وأمّا المخاطبة منها فيوجد بها الخطاب.

أقول : الحقّ فيها هو التفصيل بين ضمائر الغيبة والخطاب والتكلّم ، أمّا الغائب منها فلا دلالة لها على الإشارة ، ويشهد عليه قيامها مقام تكرار الاسم ، فيقال بدل جملة : « جاء زيد وجلس زيد » « جاء زيد وجلس » ( والضمير مستتر فيه ) ، وأمّا ضمير المخاطب أو المتكلّم فيدلّ على نوع من الإشارة ، ويشهد عليه عدم قيام اسم الظاهر مقامهما ، فلا يمكن أن يقال بدل « أنا قائم » أو « أنت قائم » « زيد قائم » كما يشهد عليه أيضاً انضمام الإشارة باليد أو الرأس ونحوهما حين إطلاقهما كما في أسماء الإشارة.

إن قلت : فما الفرق بين اسم الإشارة وضمير المتكلّم والمخاطب؟

قلنا : الفرق بينهما أنّ اسم الإشارة يدلّ على الإشارة وتعيين المشار إليه فقط ، وأمّا ضمير المخاطب والمتكلّم فمضافاً إلى دلالتهما على الإشارة ، يدلاّن على كون المشار إليه مخاطباً ( في المخاطب ) ومتكلّماً ( في المتكلّم ). هذا كلّه في الضمائر.

٨ ـ الموصولات

ففي تهذيب الاصول ما حاصله : إنّ في الموصولات أيضاً نوعاً من الإشارة فمعانيها معاني إيجاديّة ، وضعت لايجاد الإشارة إلى مبهم يتوقّع رفع ابهامه بالصلة (١).

أقول : الموصولات يكون وزانها وزان ضمائر الغيبة ولا تدلّ على الإشارة أصلاً ، والشاهد عليه قيام اسم الظاهر مقامها فيقال بدل : « جاء الذي قتل عمراً » « جاء قاتل عمرو » وهي بذواتها مبهمة من جميع الجهات إلاّمن ناحية الصلة والإفراد والتثنية والجمع والتذكير

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٨ ، طبع مهر.

٦٨

والتأنيث ، فالمعلوم عندنا من « الذي » في المثال هو ذات مبهمة من جميع الجهات إلاّمن ناحية اتّصافها بأنّها قاتل عمرو ، ولذلك يقوم وصف « القاتل » مقامها.

هذا تمام الكلام في الموصولات ، وبه انتهى البحث عن الأمر الثاني من الامور المبحوث عنها بعنوان المقدّمة.

وملخّص ما اخترناه فيه :

أوّلاً : أنّ الحروف المصطلحة يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وثانياً : أنّ معاني أسماء الإشارة مركّبة من معنى اسمي ومعنى حرفي ، فباعتبار إنّها متضمّنة للمعنى الحرفي يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً أيضاً كما في الحروف.

وثالثاً : ضمائر الخطاب والتكلّم وزانها وزان أسماء الإشارة لتضمنها معنى الإشارة ، فتلحق بالحروف فيكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً ، وضمائر الغيبة معانيها اسمية لا تدلّ على نوع من الإشارة ولكن الموضوع له فيها عام لأنّ معانيها مبهمة إلاّمن ناحية مرجعها ، لا كلّي المرجع بل اشخاصه.

ورابعاً : أنّ الموصولات وزانها وزان ضمائر الغائب لا إشارة في معانيها أصلاً بل وضعت لمعان مبهمة من جميع الجهات إلاّمن جهة الصلة ، لكن الظاهر أنّ الموضوع له فيها أيضاً خاصّ لأنّ قيدها ليس هو الصلة بمعنى كلّي عام بل أفراده الخاصّة ، فتدبّر جيّداً.

٦٩
٧٠

الأمر الثالث : هل المجاز بالطبع أو بالوضع؟

إنّ صحّة استعمال الألفاظ في المعاني المجازيّة هل هي بالوضع أو بالطبع؟ ( والمراد بالوضع ليس خصوصّيات المجازات لأنّها غير محصورة بل المراد نوع العلائق ).

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « الأظهر إنّها بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه إذا كان مناسباً ولو مع منع الواضع عنه وبإستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه ولا معنى لصحّته إلاّحسنه ».

أقول : إنّ ما اختاره هو الحقّ الحقيق بالتصديق ويمكن أن يستدلّ له بوجوه ثلاثة أشار إلى بعضها في كلامه :

الوجه الأوّل : أنّ الوجدان شاهد على أنّ الناس لا ينتظرون إذن الواضع في المجازات بل يستعملون كلّ لفظ في ما شابه المعنى الحقيقي من جهة من الجهات بعد ما يجدون حسنه في ارتكازهم.

الوجه الثاني : أنّه لو فرض أنّ الواضع منع من بعض الاستعمالات المجازيّة مع كونه مقبولاً عند الطبع لا يعتني أحد به ، بل يعدّ استعماله في مثل هذا صحيحاً عند أبناء المحاورة.

الوجه الثالث : تسانخ المجازات وتشابهها في جميع الألسنة واللغات ، مع أنّه لو كان الاستعمال المجازي متوقّفاً على إذن الواضع كانت وحدة المجازات في الألسنة المختلفة بعيدة جدّاً لعدم إمكان التواطؤ من ناحية الواضعين عادة. خصوصاً إذا لم يكن الواضع فرداً خاصّاً كما هو الغالب.

تتميم في الحقيقة والمجاز

هل المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما هو المعروف والمشهور في معنى المجاز ، أو استعماله في نفس الموضوع له ، وملاك المجازيّة أمر آخر؟ فيه أقوال ثلاثة :

٧١

أحدها : ما ذهب إليه المشهور وهو أنّ المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالعلاقة.

ثانيها : قول السكّاكي وهو التفصيل بين مجاز الاستعارة وغيرها ، ففي الأوّل قال يكون المجاز استعمالاً للفظ في نفس الموضوع له لكنّه في مصداقه الادّعائي ، فيكون المجاز حينئذ تصرّفاً في أمر عقلي لا في الكلمة ( والمراد من التصرّف في الأمر العقلي جعل ما ليس بفرد فرداً له ادّعاءً ) وفي الثاني ذهب إلى مثل ما اختاره المشهور.

ثالثها : ما أفاده بعض المحقّقين ممّن قارب عصرنا وهو الشّيخ محمّد رضا الإصفهاني في كتابه الموسوم بوقاية الأذهان. فإنّه ذهب إلى كون المجاز استعمالاً للفظ في الموضوع له مطلقاً سواء كان من قبيل مجاز الاستعارة أو المرسل وسواء كان مفرداً أو مركّباً وسواء كان في الكنايات أو غيرها.

أقول : الظاهر أنّ هذا المحقّق رحمه‌الله قد وسّع مقالة السكّاكي وإن قال في تهذيب الاصول إنّهما مذهبان متباينان.

وكيف كان ، فقد استدلّ السكّاكي على مختاره بأشعار من العرب نظير قوله : « قامت تظلّلني ومن عجب ـ شمس تظلّلني من الشمس » حيث إنّه لولا ما ذكره لما صحّ التعجّب كما لا يخفى.

ولكن أُورد عليه بأمرين :

الأوّل : أنّه إذا كان استعمال اللفظ الكلّي نحو « أسد » في خصوص أحد مصاديقه الحقيقة بقيد الخصوصيّة استعمالاً مجازيّاً في غير الموضوع له ( لأنّه لم يوضع لخصوص ذلك المصداق بل وضع للماهيّة اللابشرط معرّاة عن جميع القيود الفرديّة ) فليكن استعماله في خصوص الفرد الادّعائي أيضاً مجازاً بالأولويّة القطعيّة.

الثاني : أنّ كلامه لا يصدق في الأعلام الشخصيّة مثل « حاتم » في قولك « زيد حاتم » لأنّ العلم الشخصي جزئي حقيقي لا يمكن ادّعاء مصداق آخر له ، وحينئذٍ يكون استعمال لفظ « حاتم » في جملة « زيد حاتم » استعمالاً للفظ في غير الموضوع ، له وهو كما ترى.

أقول : يمكن الجواب عن كلّ واحد منهما ، أمّا عن الأوّل فبأنّ ظاهر كلام السكّاكي أنّ مراده من استعمال اللفظ في المصداق الادّعائي تطبيق مفهوم كلّي نحو « الأسد » على فرده الادّعائي نظير تطبيق الرجل الكلّي على بعض أفراده الحقيقيّة في قولك « هذا رجل » فهو من باب تطبيق

٧٢

كلّي الموضوع له اللفظ على فرد من أفراده لا من باب استعمال اللفظ الموضوع في خصوص ذلك الفرد حتّى يقاس باستعمال اللفظ الكلّي في خصوص أحد مصاديقه الحقيقيّة ويكون مجازاً.

وأمّا عن الثاني فبأنّ المدّعى في الأعلام الشخصيّة هو العينية لا التشبيه والاستعارة فيدّعى مثلاً إنّ زيداً في قولك « زيد حاتم » عين الحاتم الطائي المعروف فيكون من باب تطبيق معنى جزئي للموضوع له اللفظ على مصداق جزئي ادّعائي فاستعمل اللفظ حينئذ في معناه الموضوع له ( ولكن بضميمة ادّعاء العينية ) لا في غير الموضوع له حتّى يكون مجازاً.

أمّا المسلك الثالث فتوضيحه : إنّ الإرادة في استعمال الألفاظ على قسمين : إرادة استعماليّة وإرادة جدّية ، وهما تارةً تتّحدان واخرى تفترقان كما في الأوامر الامتحانيّة فإنّ الإرادة فيها إرادة استعماليّة فقط لم تتعلّق بمتعلّق الأمر جدّاً ، ومن موارد افتراقهما المجازات فإنّ الإرادة الاستعماليّة فيها تعلّقت على المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ وأمّا الإرادة الجدّية فتعلّقت على المعنى المجازي ، وكذلك في الكنايات نحو « زيد كثير الرماد » فاستعمل لفظ « زيد » و « كثير الرماد » في معناهما الموضوع له اللفظ وتعلّق به الإرادة الاستعماليّة ، وأمّا الإرادة الجدّيّة فتعلّقت ببيان سخاوة زيد ، وهذا تعبير آخر من أنّ المجاز في أمر عقلي وإنّ التطبيق على فرد ادّعائي.

أقول : إنّ هذا هو المختار والدليل عليه أوّلاً : أنّه مقتضى البداعة واللطافة المجازيّة فإنّ البداعة وجمال البيان يتحقّق فيما إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي كما في قوله : « هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ـ والبيت يعرفه والحلّ والحرم » فإنّ حسن الكلام في هذا البيت مبني على كون نفس البيت أو الحرم عارفاً بمن هو المقصود فيه لا خصوص أهل البيت وأهل الحرم أو ربّ البيت وربّ الحرم ، وهذا لا يكون إلاّبعد ادّعاء وجود قوّة مدركة عاقلة للبيت والحرم وكذا في سائر المجازات.

وثانياً : أنّه أيضاً مقتضى القرابة الشديدة بين المجاز والكناية ، فإذا كان استعمال اللفظ في الكنايات في نفس الموضوع له فليكن كذلك في المجازات ، ولا إشكال ولا خلاف في أنّ اللفظ في الكنايات يستعمل في الموضوع له لأنّ الكناية عبارة عن ذكر اللازم وإرادة الملزوم ( أو بالعكس ) ، وتكون الإرادة الاستعماليّة فيها غير الإرادة الجدّية ، ففي مثال « زيد كثير الرماد »

٧٣

تعلّقت الإرادة الاستعماليّة بأنّ الرماد كثير في دار زيد ، ولكن الإرادة الجدّيّة تعلّقت بسخاوة زيد ، وإذا كان الأمر فيها كذلك وكان المجاز والكناية في غاية القرابة بل يمكن ادخالهما تحت عنوان واحد ( وهو استعمال اللفظ وإرادة غير الموضوع له في الإرادة الجدّية ) فلا منع ولا بأس في أن يكون الأمر في المجازات أيضاً كذلك.

وثالثاً : إنّ الوجدان حاكم بأنّ ما استدلّ به السكّاكي في خصوص مجاز الاستعارة جارٍ في المجاز المرسل أيضاً ( وهو ما تكون العلاقة فيه غير علاقة التشبيه من سائر العلاقات ) فإنّ اللفظ فيه أيضاً لم يستعمل إلاّفيما وضع له ، فيدعى في مثل قوله « جرى الميزاب » أنّ الميزاب هو نفس المطر ، وفي إطلاق الميّت على من يكون مشرفاً على الموت يدعى كونه ميّتاً بالفعل ، وفي إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ادّعى أنّ القرية من مصاديق أهل القرية وإنّها أيضاً قابلة للسؤال عنها ، مع أنّ العلاقة في هذه الموارد ليست من علاقة التشبيه ، ومع إنّا نشاهد فيها نفس المبالغة التي نشاهدها فيما تمسّك به من بعض الأبيات كما لا يخفى.

وبالجملة ، لطف المجاز وحسنه وبلاغته لا تتمّ إلاّعلى هذا القول كما هو ظاهر للخبير بفنون الكلام وبدائعه (١). هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله عنون في ذيل هذا الأمر بحثاً تحت عنوان استعمال اللفظ وإرادة النوع أو المثل أو الصنف ، منه وهذا البحث قليل الفائدة جدّاً علماً وعملاً فالأولى تركه وصرف النظر عنه.

__________________

(١) نعم يظهر من بعض كلمات المحقّق الشّيخ محمّد رضا رحمه‌الله إنّه يرى فرقاً بين مقالته ومقالة السكّاكي حيث قال : « وعمدة الفرق بين المقالتين هي أنّ السكّاكي يبني مذهبه على أنّ التعرّف في أمر عقلي وأنّ المستعير يدّعي أنّ للمشبه به فرداً آخر وهو المستعار له ويجعل مقالته غرضاً لسهام الانتقاد والاعتراض عليه بأنّ اللفظ موضوع للفرد الواقعي لا الادّعائي ، فيعود الاستعمال إلى المجاز اللغوي ، وما ذكرناه لا يبنى على الادّعاء بهذا المعنى أصلاً » ( وقاية الأذهان ص ٤٦ من رسالته الملحقة ) ولكن الظاهر أنّ مراد السكّاكي أيضاً هو ما ذكره المحقّق المذكور ، والفرق بينهما في العموم والخصوص فقط.

٧٤

الأمر الرابع : الدلالة تابعة للارادة أو لا؟

هل الإرادة دخيلة فيما وضع له اللفظ ، أو لا؟ ومآله إلى أنّ مثل لفظ « زيد » هل وضع لمجرّد المعنى فقط ، أو وضع للمعنى المقيّد بكونه مراداً؟ ذهب بعضهم إلى عدمه وأنّ الموضوع له هو المعنى من حيث هو هو ، كما يستفاد هذا من تهذيب الاصول أيضاً. ولكن المحقّق الحائري رحمه‌الله في درره ذهب إلى الثاني وأنّ الإرادة داخلة في الموضوع له وتبعه بعض أعاظم العصر.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله للعدم بامور ثلاثة :

الأمر الأوّل : ما مرّ منه من أنّ قصد المعنى على أنحائه من مقوّمات الاستعمال ويكون خارجاً عن الموضوع له والمستعمل فيه ، ولا يخفى أنّ إرادة اللافظ في المقام ليست شيئاً وراء لحاظ المعنى.

الأمر الثاني : إنّه يستلزم التجريد ولزوم التصرّف في عامّة الألفاظ لأنّ المتّصف بالقيام في « زيد قائم » ، مثلاً هو زيد الخارجي لا زيد المراد الذهني ، والمتّصف بالثقل في « الحجر ثقيل » إنّما هو الحجر الخارجي لا الذهني ، فلابدّ من تصرّف في معنى زيد والحجر وتجريدهما عن قيد الإرادة حتّى يصحّ حمل القيام والثقل وإسنادهما إليهما.

الأمر الثالث : إنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً ، لأنّ إرادة اللافظ لو كانت جزء الموضوع له أو كان قيده كان الموضوع له جزئيّاً ذهنيّاً وخاصّاً لأنّه لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة فيه بل المدّعى أخذ مصاديقها.

أقول : الإنصاف أنّ هذه المسألة ترجع بحسب الحقيقة إلى المبنى الذي اختاروه في البحث عن حقيقة الوضع ، فمن ذهب هناك إلى أنّ حقيقة الوضع التعهّد والالتزام فيمكن له القول بكون الإرادة دخيلة في الموضوع له ، لأنّ التعهّد ملازم للارادة ، ومن ذهب إلى أنّ حقيقة الوضع تخصيص اللفظ بإزاء المعنى كما هو المختار فلازم كلامه القول بعدم أخذها فيه.

ولكن قد يقال : إنّ هنا طريقاً آخر لإثبات كون الإرادة دخيلة في الموضوع له ، وهو أنّ

٧٥

العلّة الغائيّة من وضع الألفاظ هو انتقال المرادات ، والعلّة تضيّق المعلول وتحدّده ويكون هذا التضييق من قبيل القضيّة الحينيّة لا الشرطيّة ، فيكون قيد « حين الإرادة » دخيلاً في معنى اللفظ ، أي اللفظ وضع للمعنى حين كون مراداً.

واستشكل عليه في التهذيب بأنّا لا نسلّم الصغرى ، وهي أنّ غاية وضع الألفاظ انتقال المرادات ، لأنّ الغاية في الوضع هو بيان الواقعيات الخارجيّة ، وإرادة المعنى تكون مرآة للخارج وآلة للنيل إلى الواقع (١).

أقول : التحقيق أنّ النزاع في المسألة أشبه شيء بالنزاع اللّفظي لأنّه إن كان المراد من دخالة الإرادة دخالتها في الموضوع له فلا يقول بها أحد حتّى تصل النوبة إلى البحث والنزاع ، وإن كان المراد أنّ المقصود من وضع الألفاظ هو تبيين المرادات ، والإرادة دخيلة في غاية الوضع ولو مرآة إلى الخارج ، فهذا ممّا لا مجال لانكاره.

إن قلت : إنّ مقتضى تضييق المعلول بالعلّة دخالة الإرادة في الموضوع له. قلنا : العلّة المضيّقة للمعلول ليست هي العلّة الغائيّة بل هي العلّة التامّة ... فيوجد المعلول بتأثير علّته التامّة ، وأمّا العلّة الغائيّة فهي من المعدّات ، ولهذا لا يوجب تضييق المعلول في الكثير من الموارد ، نظير ما إذا قصدت المسجد والدخول فيه للصّلاة ولكن بعد الدخول تلوت القرآن أو استمعت إلى الخطيب مثلاً ، كما أنّه كذلك في الصنائع المخترعة ، فتكون المعلولات المخترعات فيها أعمّ من عللها الغائيّة الابتدائيّة لمخترعيها فتترتّب عليها آثار اخرى غير ما قصدها المخترعون كما هو ظاهر على الخبير ، كما أنّه كذلك في كثير من المباحث الاصوليّة ، فتكون الغاية فيها تبيين الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ولكن تترتّب عليها آثار اخرى في الألفاظ الواردة في الوصايا والأوقاف الخاصّة والعامّة وغيرها.

بقي هنا شيء :

وهو بيان المراد من الكلام المنقول عن الشّيخ الرئيس والمحقّق الطوسي رحمه‌الله من « أنّ الدلالة تابعة للإرادة ».

__________________

(١) راجع التهذيب : ص ٣٥ ـ ٣٦ ، طبع مهر.

٧٦

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله في توضيح كلامهما : إنّ الدلالة على قسمين : تصوّريّة وتصديقيّة ، فإنّه تارةً يكون إطلاق اللفظ موجباً للانتقال إلى المعنى اللغوي ، واخرى للانتقال إلى مراد المتكلّم ، ثمّ قال : الدلالة التصديقيّة تابعة للإرادة ، فلا ينتقل السامع إلى المراد إذا صدر اللفظ من المتكلّم سهواً كما إذا صدر من وقوع حجر على حجر ، فدلالة اللفظ على المعنى التصديقي تابعة للإرادة تبعيّة مقام الإثبات للثبوت. ثمّ قال : وعليه يحمل كلام العلمين.

أقول : أوّلاً : كيف يمكن أن تتوقّف دلالة اللفظ على مراد المتكلّم على كشف إرادة المتكلّم ، مع أنّه لا حاجة إلى اللفظ بعد كشف الإرادة فإنّه تحصيل للحاصل؟

ثانياً : إنّا نحتاج في الدلالة التصديقيّة إلى امور أربع ، ومع تحقّقها تتحقّق الدلالة التصديقيّة ، ولا حاجة إلى كشف إرادة المتكلّم بالخصوص :

أوّلها : كون المتكلّم في مقام البيان.

ثانيها : عدم نصب القرينة على الخلاف.

ثالثها : كون المتكلّم عاقلاً شاعراً.

رابعها : ثبوت الأصل العقلائي ، وهو تطابق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية ، ومع اجتماع الثلاثة الاولى تتحقّق الدلالة التصديقيّة الاستعماليّة ، وبعد انضمام الأمر الرابع إليها تتحقّق الدلالة التصديقية الجدّية ، وعليه فلا حاجة إلى كشف كون المتكلّم مريداً.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مرادهما من كون الدلالة تابعة للإرادة ليس شيئاً وراء ذلك ، والمراد أنّ دلالة اللفظ على مراد المتكلّم تفصيلاً فرع العلم الإجمالي بكونه في مقام بيان مراده ، فالدلالة تتبع الإرادة بهذا المعنى ، ولكن هذا يتفاوت مع ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله كما لا يخفى ، وعلى كلّ حال فهو أمر معقول.

٧٧
٧٨

الأمر الخامس : في وضع المركّبات والهيئات

والظاهر أنّ المراد منه إنّه هل للمركّبات وضع خاصّ مضافاً إلى وضع مفرداتها وهيئاتها ، أو لا؟ مثلاً في جملة « زيد قائم » مضافاً إلى وضع كلّ واحد من « زيد » و « قائم » لمعنى خاصّ ، ومضافاً إلى وضع هيئة جملة المبتدأ والخبر لمعنى إخباري ، هل وضعت هذه الجملة بمجموع موادّها الخاصّة وهيئتها الخاصّة لمعنى إخباري خاصّ ، أو لا؟

فإن كان المقصود من العنوان هذا المعنى فلم يعرف له قائل ، مضافاً إلى ورود إشكالات كثيرة عليه.

الأوّل : إنّه يستلزم أوضاعاً غير متناهية في المركّبات لأنّه لا حصر ولا حدّ للجمل التركيبية ، ففي الجملة المركّبة من المبتدأ والخبر فقط يمكن تصوير مليون هيئة بتصوير الف مبتدأ تارةً والف خبر اخرى ، والعدد الحاصل من ضرب الألف في الألف هو المليون!

الثاني : أنّه يستلزم اللغويّة لأنّ وضعها بموادّها وهيئاتها وافٍ بتمام المقصود منها ، فلا حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها كما لا يخفى.

الثالث : أنّه لا سبيل لنا إلى معرفة المعاني الموضوع لها في هذا القسم من الوضع ولا مرجع لنا حتّى نرجع إليه في سبيل تحصيلها كما نرجع لمعرفة معاني هيئات المفردات إلى علم الصرف ، ولمعرفة معاني مواد المفردات إلى كتب اللّغة ، ولمعرفة معاني هيئات الجمل إلى علم النحو.

الرابع : أنّه خلاف الوجدان ، حيث إنّا نكتفي في تشكيل قوالب جديدة من الجمل بخصوص وضع المفردات والهيئات ولا ننتظر وضعاً جديداً لهذا التركيب الجديد مضافاً إلى وضع مفرداته وهيئاته.

الخامس : ما أفاده في المحاضرات وغيره وهو أنّ هذا الوضع يستلزم منه انتقال معنى الجملة

٧٩

إلى الذهن مرّتين : مرّة بملاحظة وضع مفرداتها ومرّة بملاحظة وضع نفسها (١).

فتلخّص ممّا ذكرنا إنّه لا وضع لآحاد الجمل المركّبة بخصوصها ولا يتصوّر له صورة معقولة بل لا ينبغي التفوّه به.

نعم يمكن تصويره على نهج قضيّة الموجبة الجزئيّة في خصوص الأمثال المركّبة المستعملة في كلّ لغة ، فيقال إنّ جملة « أراك تقدّم رجلاً وتأخّر اخرى » مثلاً وضعت من حيث المجموع لبيان التحيّر والتردّد ، وهكذا غيرها من سائر الأمثال التركيبية وإن كان هذا المعنى أيضاً مخالفاً للوجدان ، فإنّها كنايات متّخذة من وضع مفرداتها مع وضع هيئاتها.

ثمّ إنّ حاصل ما يمكن أن يقال في وضع الهيئات أنّ لنا أربع أنحاء من الهيئة : أوّلها : هيئات المفردات نحو هيئات الصفات مثل هيئة اسم الفاعل وهيئة اسم المفعول.

ثانيها : هيئات النسب الناقصة كهيئة المضاف والمضاف إليه.

ثالثها : هيئات النسب التامّة كهيئة جملة « زيد قائم ».

رابعها : هيئات وضعت لخصوصّيات النسب كهيئة « تقديم ما حقّه التأخير » مثلاً التي تدلّ على الحصر كما هو المعروف.

والجامع بين هذه الأنحاء أنّ الوضع في جميعها نوعي ، والمقصود من الوضع النوعي أنّ المعنى فيها لا يتبدّل ولا يتغيّر بتبدّل المفردات والمواد الموجودة فيها ، ولا يدور مدار مادّة خاصّة ، بخلاف الوضع في المفردات فإنّه فيها شخصي يدور المعنى فيها مدار خصوصيّة المواد ، ومع تغيّرها يتغيّر المعنى أيضاً ، ولا ينافي ذلك كون الموضوع فيها كلّياً ، ولا ينقضي تعجّبي عن المحاضرات حيث أتعب نفسه الزكيّة في بيان المقصود من الوضع النوعي والشخصي مع أنّه ظاهر لا غبار عليه.

ثمّ إنّه قد يقوم بعض الكلمات المفردة مقام الهيئة في دلالتها على النسبة في بعض اللغات ، فإنّ كلمة « است » في اللّغة الفارسيّة تدلّ على النسبة في الجمل التامّة مع أنّها في اللّغة العربيّة تفهم من هيئة الجملة ، ولا مانع من ذلك كما لا يخفى.

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ١ ، ص ١١٠.

٨٠