أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

رفع الاولى وجلب الثانيّة معاً فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ... فهذه القاعدة لو تمّت فإنّما تتمّ في باب التزاحم » (١).

واخرى بأنّها على فرض تماميتها لا صلة لها بالأحكام الشرعيّة أصلاً واستدلّ له بوجهين نذكر هنا أوّلهما وهو : أنّ المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرّة غالباً والظاهر أنّ هذه القاعدة إنّما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرّة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

وبكلمة اخرى : أنّ الأحكام الشرعيّة ليست تابعة للمنافع والمضارّ وإنّما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، ومن المعلوم أنّ المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرّة ، ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرّة ماليّة كالزّكاة والخمس والحجّ ونحوها ، وبدنيّة كالجهاد وما شاكله ، كما أنّ في عدّة من المحرّمات منفعة ماليّة أو بدنيّة ، مع أنّ الأولى تابعة لمصالح كامنة فيها والثانيّة تابعة لمفاسد كذلك » (٢).

أقول : يمكن المناقشة في كلا الوجهين :

أمّا الأوّل فبأنّ وحدة المجمع وجوداً وماهية في باب الاجتماع لا يلازم اشتماله على خصوص المصلحة أو خصوص المفسدة بل حيث إنّه ليس من البسيط من جميع الجهات ويتصوّر فيه جهتان مختلفتان يكون شاملاً للمصلحة والمفسدة معاً ومن باب التزاحم دائماً كما مرّ سابقاً ، فهو نظير جميع الأدوية في باب الطب التي يشتمل كلّ واحد منها على مفسدة على رغم أنّه دواء وفيه شفاء ، ونظير الخمر والميسر اللّذين فيهما إثم كبير ومنافع للناس كما نطق به الكتاب العزيز ، ونظير جميع الواجبات والمحرّمات التي أشار إليها في خبر تحف العقول المعروف بما حاصله : أنّ كلّ ما غلبت مصلحته على مفسدته فهو واجب وكلّ ما غلبت مفسدته على مصلحته فهو حرام.

وإن شئت قلت : أنّ الواحد في المقام ليس واحداً حقيقيّاً ولا واحداً صناعياً بل إنّه واحد اعتباري الذي يتصوّر فيه الجهات المختلفة وأبعاد متفاوتة التي تشتمل على مصالح ومفاسد ، والمراد من التزاحم فيه هو التزاحم بين جهتي المصلحة والمفسدة. والعجب منه حيث ادّعى فيه البداهة.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ، ص ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) المصدر السابق : ص ٤٠٩ ـ ٤١٠.

٥٦١

أمّا الثاني : الذي اشير إليه أيضاً في بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله فلأنّه إن كان نظره إلى جانب المعنوي لمورد الاجتماع فقط أو إلى بعده الاجتماعي فقط أو إلى المضارّ والمنافع التي تترتّب عليه في طول الزمان ، أي التي تترتّب عليه مع الواسطة أو الوسائط ، ولم يكن النظر إلى الجهات المادّية والفرديّة وإلى المنافع والمضارّ التي تترتّب بدون الواسطة وفي زمان الحال ، فما أفاده في محلّه ، فتكون المصالح والمفاسد غير المضارّ والمنافع كما لا يخفى ، وأمّا إن كان المقصود هو الأعمّ من المنافع أو المضارّ المعنويّة والمادّية والأعمّ ممّا يترتّب في الحال أو في طول الزمان ومن الاجتماعيّة والفرديّة وممّا يترتّب مع الواسطة ومن دون الواسطة ، فلا فرق حينئذٍ بين المصالح والمنافع وبين المفاسد والمضارّ بل يمكن أن يتصوّر لواجب من الواجبات مصلحة أو منفعة معنويّة مع شموله لمفسدة أو مضرّة مادّية ، نظير الزّكاة مثلاً فإنّها توجب ضرراً مادّياً مع أنّها موجبة لبركات أخلاقيّة ومعنويّة بل بركات مادّية أيضاً في طول الزمان كما أشار إليه في الحديث بقوله : « حصّنوا أموالكم بالزّكاة » حيث إنّ تحصين الأموال مصلحة دنيويّة مادّية ، وفي حديث آخر : « إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه » فإنّ حفظ الآخرة للفقير بالبذل والانفاق منفعة أو مصلحة اخرويّة بل ودنيويّة كما لا يخفى ، هذا كلّه من جانب ، ومن جانب آخر تكون الزّكاة شاملة على الظاهر على مفاسد أو مضارّ فرديّة مع أنّها توجب في البعد الاجتماعي حفظ كيان النظام والدفاع عن ثغور المملكة ، وهاتان مصلحتان أو منفعتان اجتماعيتان.

وما ذكرنا يشهد عليه عمل العقلاء في يومنا هذا ، فإنّهم يعطون الضرائب التي وضعت عليهم من جانب دولهم وحكّامهم طوعاً ورغبة لما تشتمله من المنافع الاجتماعيّة.

هذا كلّه في الواجبات ، وكذلك في المحرّمات ، فيمكن أن يتصوّر لمعصية من المعاصي منافع مادّية كالتطفيف في باب المعاملات مع أنّها شاملة لمضرّات معنويّة بل مادّية من جانب آخر ، والرّوايات ناطقة بذلك ، فقد ورد في الحديث « الأمانة تجلب الغناء والخيانة تورث الفقر » كما يشهد على ذلك العرف والوجدان ، فإنّا نشاهد بوجداننا أن التطفيف أو الخيانة مثلاً توجب ظهور الغشّ في المجتمع وزوال الأمن الاقتصادي وتفريغ البنوك الداخليّة من الثروات وإخراجها منها إلى البنوك الخارجيّة الأجنبيّة وذلك لوجود الغشّ والخيانة في الاولى مثلاً ووجود الدقّة والأمانة في الثانيّة ، ألا ترى خروج الثروات العظيمة الضخمة في يومنا هذا من

٥٦٢

بعض المجتمعات الإسلاميّة إلى بعض البنوك الأجنبيّة فإنّه ليس إلاّلأنّ الأمانة تجلب الاعتماد وبالنتيجة تجلب الغناء والثروة والمنافع المادّية الهامّة كما أخبر بذلك المعصوم عليه‌السلام في الحديث.

الوجه الثالث : الاستقراء ، بدعوى أنّا إذا تتبّعنا موارد دوران الحكم بين الوجوب والحرمة في لسان الشرع نجد أنّ الشارع قدّم فيها دفع المفسدة على جلب المنفعة فأخذ بجانب الحرمة ، وقد ذكروا هنا موردين :

المورد الأوّل : حرمة الصّلاة في أيّام الاستظهار ( وهي تطلق غالباً على الأيّام بعد العادة إلى العشرة كما هو التحقيق ، وكذلك على الأيّام قبل العادة فلابدّ من ترك العبادة فيها أيضاً بمجرّد رؤية الدم ).

المورد الثاني : عدم جواز الوضوء أو الغسل من الإنائين المشتبهين ، فإنّه قدّم جانب الحرمة في المثالين على الوجوب.

وقد أُورد عليه :

أوّلاً : بأنّ الاستقراء ممّا لا يتحقّق بهذا العدد ( بموردين ) حتّى الاستقراء الناقص الرائج في بعض العلوم والذي قد يفيد العلم ويدور عليه رحى العلوم التجربيّة فضلاً عن الاستقراء التامّ الذي هو قليل جدّاً.

وثانياً : أنّ هذين الموردين ليسا من قبيل المتزاحمين اللّذين يوجد فيهما ملاك الوجوب والحرمة معاً بل إنّهما من قبيل دوران الأمر بين احتمالين الموجود فيهما ملاك أحدهما وهو ملاك الحرمة على الفرض ، وأمّا الاحتمال الآخر وهو الوجوب فلا ملاك له لأنّه ساقط برأسه على الفرض أيضاً ، لأنّ المرأة ( في المثال الأوّل مثلاً ) في أيّام الاستظهار إمّا أن تكون حائضاً في الواقع ، فالموجود هو ملاك الحرمة فقط ، أو ليست بحائض فالموجود هو ملاك الوجوب فقط وحيث إنّ الشارع حكم بتقديم الحرمة نستكشف أنّ الموجود هو ملاك الحرمة لا الوجوب ، وهكذا بالنسبة إلى المثال الثاني ، وعلى أيّ حال : فليس الموردان من قبيل المتزاحمين ، كما لا يمكن قياس باب المتزاحمين بهما لأنّه قياس ظنّي لا اعتبار به.

وثالثاً : أنّه أساساً ليس الموردان من قبيل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، لأنّ المراد من الحرمة في ما نحن فيه إنّما هو الحرمة الذاتيّة ، ولا إشكال في أنّه لا حرمة لصلاة الحائض ذاتاً بل حرمتها تشريعيّة وبحكم التعبّد ، ولذلك قال الفقهاء بأنّه يمكن لها إتيان الصّلاة والجمع بين

٥٦٣

تروك الحائض وأعمال المستحاضة احتياطاً وبقصد الرجاء في كثير من الموارد ، وإلاّ لم يمكن لها هذا الاحتياط كما لا يخفى ، وهكذا في الوضوء بالمائين المشتبهين فيمكن له الاحتياط بالتوضّؤ بالإناء الأوّل ثمّ تطهير أعضاء الوضوء بالإناء الثاني والتوضّؤ به ثانياً.

نعم قد يقال : أنّه لا يمكن مع ذلك إتيان الصّلاة للابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم استصحاب النجاسة حال ملاقاة الماء الثاني للبدن ، فإنّه بمجرّد ملاقاته له ولو لأجل تطهير مواضع الملاقات بالأوّل قبل أن تنفصل الغسالة يقطع بنجاسة البدن ، إمّا بسبب ملاقاته مع الأوّل أو مع الثاني ، نعم إذا انفصلت الغسالة يزول العلم لجواز نجاسة الأوّل وطهارة الثاني مع بقاء الشكّ فيها لجواز العكس ، أي طهارة الأوّل ونجاسة الثاني فتستصحب النجاسة.

ولكنّه ممنوع لأنّ المفروض العلم بصحّة إحدى الصلاتين المأتي بهما بعد كلّ وضوء ولكنّه يبتلي بنجاسة البدن ظاهراً بالنسبة إلى مستقبل أمره ، ولعلّه لذلك لم يأمر الشارع بهذا الاحتياط.

وعلى أيّ حال : فإنّ عدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين ليس من باب ترجيح النهي على الوجوب ، بل إنّه إمّا من باب التعبّد الشرعي أو للابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب بالنسبة إلى المستقبل ، كما أنّ حرمة الصّلاة في أيّام الاستظهار أيضاً ليس من باب ترجيح جانب الحرمة بل إنّها إمّا لأجل قاعدة الإمكان الجارية في الدم ( أي كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً بأن لم يكن قبل البلوغ أو بعد اليأس أو مع عدم فصل أقلّ الطهر فهو حيض ) أو من باب قاعدة الاستصحاب القاضية بكون الدم في أيّام الاستظهار حيضاً ، وحيث إنّ قاعدة الإمكان ليست تامّة عندنا فالمتعيّن كون الحرمة من باب الاستصحاب.

التنبيه الرابع : في أنّه هل يلحق تعدّد الإضافات بتعدّد العناوين أو لا؟

المراد من العناوين ما يقع متعلّقاً للأمر والنهي كالصّلاة والغصب وهو واضح ، والمراد من الإضافات ما يضيف إليه متعلّقا الأمر والنهي كالعالم والفاسق في أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق حيث اضيف إليهما وتعلّق بهما الإكرام الذي يكون متعلّقاً لكلّ من الأمر والنهي.

وكيف كان ، فقد وقع النزاع أنّه كما أنّ تعدّد العنوان ( أي تعدّد متعلّق النهي والأمر كالصّلاة

٥٦٤

والغصب ) يوجب تعدّد المعنون بناءً على الجواز ودخوله في باب التزاحم بناءً على الامتناع ، فهل يوجب تعدّد الإضافة ( أي تعدّد المضاف إليه ) أيضاً تعدّد المضاف بناءً على الجواز وتدخل في باب التزاحم بناءً على الامتناع أو لا؟ فلو اختار المكلّف العالم الفاسق لامتثال أمر المولى بإكرام عالم كما في اختياره الدار المغصوبة لامتثال أمر الصّلاة ، فهل هو مثله في كونه محلّ النزاع أو لا؟

لا إشكال في أنّه لا فرق بين الموردين ، أي تعدّد الإضافات من قبيل تعدّد العناوين ، فكما أنّ تعدّد العنوان بناءً على الجواز يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنهي في مثل صلّ ولا تغصب كذلك تعدّد الإضافة أيضاً بناءً على الجواز يوجب تعدّد متعلّقهما في مثل أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق وإن كان عنوان الإكرام فيهما واحداً ، وذلك من باب أنّ متعلّق الأمر في أكرم عالماً ليس هو مطلق الإكرام بل إنّه هو إكرام عالم ، كما أنّ متعلّق النهي في لا تكرم الفسّاق أيضاً ليس هو مطلق الإكرام بل هو إكرام الفاسق ، ولا إشكال في أنّ أحدهما غير الآخر ، فإذا اجتمعا في مورد واحد وفي شخص واحد باختيار المكلّف أي في إنسان يكون عالماً وفاسقاً كان المورد من باب اجتماع الأمر والنهي بشرط كونه من باب التزاحم لا التعارض ، أي كان الملاك موجوداً في كليهما ، فكان هذا العالم من مصاديق من يجب إكرامه واقعاً لعلمه وكان ممّن يحرم إكرامه واقعاً لفسقه.

وبالدقّة في ما ذكرنا من المثال للمسألة وما أوضحنا لك في شرحه تعرف عدم ورود شيء من الإشكالات التي ذكرها في المحاضرات (١) ، وعليه عدم كون هذا الكلام من الغرائب كما توهّم.

إلى هنا تمّ الكلام في باب اجتماع الأمر والنهي والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) راجح المحاضرات : ج ٤ ، ص ٤١٩ ـ ٤٢٢.

٥٦٥
٥٦٦

الفصل الثالث

النهي في العبادات والمعاملات

ولا بدّ فيه من رسم امور :

الأمر الأوّل : في عنوان المسألة

وقد وقع الخلاف فيه وعبّر عنه بتعابير مختلفة فقال في الكفاية : « النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا » وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله على ما في أجود التقريرات : « إنّ النهي هل يدلّ على الفساد أم لا؟ » ولكن قد أصرّ في تهذيب الاصول على أنّ الصحيح أن يقال : « إنّ النهي هل يكشف عن الفساد أم لا » وناقش في الأوّل بأنّ الاقتضاء بالمعنى المتفاهم عرفاً غير موجود في المقام لأنّ النهي غير مؤثّر في الفساد ولا مقتضٍ له بل إمّا دالّ عليه أو كاشف عن مبغوضيّة المتعلّق التي تنافي الصحّة » وناقش في الثاني بأنّ « ظاهر لفظ الدلالة هي الدلالة اللّفظيّة ولو بنحو الالتزام ولكن مطلق الملازمة بين الأمرين لا يعدّ من الدلالات الالتزاميّة بل لا بدّ في الدلالة الالتزاميّة على تقدير كونها من اللّفظيّة من اللزوم الذهني فلا تشمل الملازمات العقليّة الخفيّة » (١).

أقول : الإنصاف صحّة التعبيرين أيضاً ، أمّا الأوّل منهما فلأنّ إيجاب النهي الفساد يلازم نحواً من التأثّر والتأثير في عالم الاعتبار وهو يكفي في صدق مفهوم الاقتضاء ، وأمّا الثاني فلأنّ مادّة الدلالة لم توضع لخصوص الدلالة اللّفظيّة بل إنّها وضعت لمطلقها الذي من مصاديقها الدلالة العقليّة فيستعمل فيها على نحو الحقيقه أيضاً.

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٥ ، طبع مهر.

٥٦٧

الأمر الثاني : في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي

قد مرّ في صدر المسألة السابقة مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا المجال وهي أنّ الجهة المبحوثة عنها في تلك المسألة هي سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقهما وجوداً ، وعدم سرايته لتعدّدها كذلك ، وأنّ الجهة المبحوثة ـ عنها في هذه المسألة هي أنّ النهي هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة ، أو لا؟ بعد الفراغ عن أصل السراية.

أقول : قد مرّ منّا أيضاً أنّ التمايز بين العلوم والمسائل ليس محدوداً في تمايز الأغراض بل أنّه تارةً يكون بالموضوعات واخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلك بتوضيح مرّ سابقاً ، والذي لا بدّ من إضافته هنا أنّ الغالب في التمايز إنّما هو التمايز بالمحمولات ، أي تتمايز العلوم غالباً بالعوارض والحالات الطارئة على الموضوعات. هذا أوّلاً.

وثانياً : قد مرّ في صدر تلك المسألة أيضاً أنّه لا ربط بين المسألتين أصلاً حتّى نبحث في وجه التمايز ، بينهما لوجود الفرق بينهما من ناحية كلّ من الموضوع والمحمول والنتيجة كما يظهر بملاحظة عنوانيهما كما مرّ توضيحه في المسألة السابقة.

الأمر الثالث : هل المسألة اصوليّة أو لا؟ وهل هي عقليّة أو لفظيّة؟

لا إشكال في أنّها ليست مسألة فقهيّة لأنّ نتيجتها لا يمكن أن تقع بيد المكلّف وللعمل بها كما هو الحال في المسائل الفقهيّة.

الجهة الاولى : هل هي حينئذٍ مسألة اصوليّة؟ ذهب بعض الأعلام في المحاضرات إلى أنّها اصوليّة بدعوى أنّ المسألة الاصوليّة ترتكز على ركيزتين :

إحديهما : أن تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الإلهي.

وثانيهما : أن يكون ذلك بنفسها أي بلا ضمّ مسألة اصوليّة اخرى ، وكلتا الركيزتين تتوفّران في مسألتنا هذه (١).

ولكن قد مرّت المناقشة في كلامه هذا بأنّه كثيراً مّا يتّفق انضمام مسألة من مسائل الاصول إلى مسألة اخرى حتّى تستنتج منها نتيجة فقهيّة كانضمام مسألة حجّية خبر الواحد إلى مسألة

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ، ص ٤.

٥٦٨

حجّية الظواهر أو مسألة التعادل والتراجيح ( في الخبرين المتعارضين ) ولعلّه ناظر في كلامه هذا إلى ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله في هذا المجال من أنّ المسألة الاصوليّة ما تقع نتيجتها كبرى للقياس بلا واسطة شيء ومن دون أن تقع مقدّمة لمسألة اخرى وتكون من مبادئها ، ولذا ليست مسألة « حقيقة المشتقّ فيما انقضى عنه التلبّس » مثلاً من المسائل الاصوليّة لأنّها لا تقع كبرى للقياس المنتج نتيجة فقهيّة بلا واسطة بل إنّها من مبادىء مسألة حجّية خبر الواحد مثلاً ، ولا يخفى أنّ كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله هذا شيء وما ذكره في المحاضرات شيء آخر ، فالظاهر أنّه وقع الخلط بينهما.

والحقّ أنّ المسألة من القواعد الفقهيّة وإنّها ليست مسألة فقهيّة ولا اصوليّة ، وذلك لأنّ ميزان القاعدة الفقهيّة ـ وهو كون النتيجة بنفسها حكماً شرعيّاً كلّياً ( لا أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي كما في المسألة الاصوليّة ) ـ موجود فيها حيث إنّ نتيجتها فساد العبادة مثلاً وهو بنفسه حكم شرعي كلّي ـ هذا من جانب ـ ومن جانب آخر لا يمكن إيكال تطبيقه على موارده ومصاديقه في الفقه إلى المقلّد ، ولازمهما أن لا تكون المسألة اصوليّة ولا فقهيّة بل هي قاعدة فقهيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الجهة الاولى من هذا الأمر.

أمّا الجهة الثانيّة : وهي كون المسألة عقليّة أو لفظيّة فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى إمكان عدّها لفظيّة لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها ، ولا ينافيه ثبوت الملازمة بين الفساد والحرمة فيما لا تكون الحرمة مستفادة من اللفظ والصيغة كالإجماع القائم على حرمة عبادة أو معاملة ، لإمكان أن يكون النزاع مع ذلك في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام.

ولكن ذهب كثير من الأعاظم إلى أنّها عقليّة وذهب في تهذيب الاصول إلى أنّ المسألة ليست عقليّة محضة ولا لفظيه كذلك. فالأولى تعميم عنوانه ليشتمل العقلي واللّفظي.

أقول أوّلاً : إنّ المسألة ليست لفظيّة قطعاً بل هي عقليّة لأنّ موضوع البحث فيها هو دلالة النهي التكليفي المولوي على الفساد لا الإرشادي ، لأنّ النواهي الإرشاديّة في باب المعاملات ( كقوله عليه‌السلام « نهى النبي عن بيع الغرر » أو قوله « نهى النبي عن بيع الخمر » أو قوله « لا تبع ما ليس عندك » ) لا إشكال في دلالتها لفظاً على الفساد ، وأمّا النهي المولوي كما إذا نذر بأن لا يأتي

٥٦٩

بالبيع الفلاني فلا إشكال في عدم دلالته على الفساد كما لا يخفى ، فالقول بأنّ النهي يدلّ على الفساد في باب المعاملات ( كما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ) خلط بين النهي الإرشادي والنهي المولوي ، فلا يمكن الاستدلال به على كون النزاع في ما نحن فيه لفظياً.

وثانياً : لا بدّ في عدّ الدلالة الالتزاميّة من الدلالات اللّفظيّة من كون اللزوم فيها بيّناً بالمعنى الأخصّ ، ولا إشكال في عدم كونه كذلك في ما نحن فيه وإلاّ لم تكن حاجة إلى البحث وإقامة البرهان العقلي عليه.

ثالثاً : ليس بدءاً أن لا تكون هذه المسألة مسألة لفظيّة مع كونها منسلكة في باب الألفاظ وكم لها من نظير كمسألة الإجزاء ومقدّمة الواجب وعدّة من الْامور المطروحة ضمن مبحث مقدّمة الواجب كالبحث عن الواجب المعلّق والواجب المشروط والواجب التعبّدي والتوصّلي حيث لا إشكال في أنّها مباحث عقليّة أُوردت في مباحث الألفاظ ، وهكذا غيرها من نظائرها كمباحث الترتّب واجتماع الأمر والنهي وحقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري.

وجدير أن نشير هنا إلى أنّ ما بأيدينا اليوم من علم الاصول وإن انتهى في النموّ والتكامل إلى غايته بالنسبة إلى كثير من العلوم ولكنّه مضطرب النظام والترتيب والتبويب غاية الاضطراب ، وإنّي قد لاحظت فيه هذه الجهة فبعد التأمّل في مسائله وإعمال الدقَّة فيها من هذه الناحية وجدت ما يقرب من أربعين إشكالاً ممّا يخلّ بالنظام المطلوب في العلوم ، وللبحث التفصيلي عنه مجال آخر.

وممّا ذكرنا ظهر أن النزاع في هذه المسألة ناظر إلى مقام الثبوت وأنّ النهي في ذاته هل يلازم الفساد أو لا؟ سواء استفدناه من اللفظ أو من غير اللفظ من عقل أو إجماع ، وليس ناظراً إلى مقام الإثبات كما في بعض الكلمات.

الأمر الرابع : هل النهي في المقام يختصّ بالنهي التحريمي أو يعمّ التنزيهي أيضاً؟

وهل هو يختّص بالنهي النفسي أو يعمّ النهي الغيري المقدّمي أيضاً ( والنهي المقدّمي مثل أن يقال : « لا تصلّ في سعة الوقت وأزل النجاسة عن المسجد » ). ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى

٥٧٠

عموم النزاع بالنسبة إلى التنزيهي والمقدّمي ، أمّا بالنسبة إلى التنزيهي فلعموم الملاك ( وهو عدم كون المنهي عنه مقرّباً إلى الله تعالى ) ، وأمّا بالنسبة إلى الغيري فلأنّ الفرق بينه وبين النفسي إنّما هو في ترتّب العقوبة على الأوّل دون الثاني ولا دخل لاستحقاق العقوبة على المخالفة وعدمه في كون النهي سبباً للفساد وعدمه ، حيث إنّ الملاك على القول به هو نفس الحرمة وهي موجودة بعينها في النهي الغيري سواءً كان أصليّاً كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض ، أو تبعيّاً كالنهي عن الصّلاة لأجل الإزالة ، ويؤيّد ذلك ( عموم ملاك البحث للنهي الغيري ) جعل ثمرة النزاع في مبحث الضدّ ـ كما هو المعروف ـ فساد الضدّ إذا كان عبادة كالصّلاة ونحوها مع أنّ النهي هنا غيري مقدّمي ( انتهى بتوضيح ).

أقول : إنّ ما أفاده بالنسبة إلى النهي التنزيهي فهو في محلّه لنفس ما ذكره من عموم الملاك ، وأمّا بالنسبة إلى النهي الغيري فهو غير تامّ لأنّ ما لا عقاب له لا يكون مبعّداً وجداناً ، وأمّا استشهاده بمسألة الضدّ ففيه ما مرّ هناك من أنّ النهي عن الضدّ لا يوجب فساد العبادة لأجل كونه غيريّاً فهذا المثال أجنبي عن المطلوب وإن كان مشهوراً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي النفسي وأنّ النهي التنزيهي أو الغيري لا يدلاّن على فساد العبادة قطعاً ( أمّا الأوّل ) فلأنّ النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاقه ، نعم إذا كان شخص المأمور به منهيّاً عنه كما إذا كان إطلاق الأمر شموليّاً ، فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما ، فإذا قدّم دليل النهي فلا موجب لتوهّم الصحّة مع وجود النهيْ ، لكن هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كانت دلالة النهي على الفساد هو الموجب لوقوع المعارضة بين دليلي الأمر والنهي ولتقييد متعلّق الأمر بغير ما تعلّق به النهي ، ومن الواضح أنّ التعارض في مفروض الكلام لا يتوقّف على دلالة النهي على الفساد أصلاً ، ( وأمّا الثاني ) أعني به النهي الغيري فهو على قسمين :

الأوّل : ما كان نهياً شرعياً أصليّاً مسوقاً لبيان اعتبار قيد عدمي في المأمور به كالنهي عن الصّلاة في غير المأكول فلا إشكال في دلالته على الفساد بداهة أنّ المأمور به إذا اخذ فيه قيد عدمي فلا محالة يقع فاسداً بعدم اقترانه به وهذا خارج عن محلّ الكلام ، إذ حال هذه النواهي حال الأوامر المتعلّقة بالاجزاء والشرائط المسوقة لبيان الجزئيّة والشرطيّة.

٥٧١

والثاني : ما كان نهياً تبعيّاً ناشئاً من توقّف واجب فعلي على ترك عبادة مضادّة له بناءً على توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر ، فلا موجب لتوهّم دلالته على الفساد أصلاً وذلك لما عرفته في محلّه من أنّ غاية ما يترتّب على النهي الغيري هذا إنّما هو عدم الأمر به فعلاً مع أنّه يكفي في صحّة العبادة اشتمالها على ملاك الأمر وإن لم يتعلّق بها بالفعل أمر من المولى ( انتهى مع تلخيص ) (١).

أقول : يرد عليه أنّ ما أفاده في النهي التنزيهي فيما إذا لم يكن إطلاق الأمر شمولياً صحيح في محلّه ، ولكنّه مبني على عدم سراية الأوامر من الطبائع والعناوين إلى الأفراد الخارجيّة ، وأمّا بناءً على ما مرّ سابقاً من سرايتها إلى الأفراد وأنّ المطلوب واقعاً إنّما هو الأفراد لا الطبائع فلا ، وعليه يكون فرد الصّلاة في الحمّام أيضاً مطلوباً ، ومطلوبيتها تنافي النهي عنها.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ محل الكلام في المقام كما عرفت إنّما هو النهي المولوي لا الإرشادي لأنّ النواهي الإرشاديّة سواء في باب المعاملات أو العبادات إنّما ترشدنا إلى الشرطيّة أو الجزئيّة.

وبعبارة اخرى : إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة إذا أتى بها بدون ذلك الشرط أو الجزء فمعنى « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل » « لا تصلّ لأنّها تبطل » ، ولا يخفى أنّ أكثر النواهي الواردة في باب المعاملات تكون كذلك ، أي أنّها إرشاديّة ، بل المثال الوحيد المعروف الذي يذكره القوم للنهي المولوي في باب المعاملات هو النهي عن الصّلاة وقت النداء ، وأمّا سائر النواهي الواردة فيها إرشاديّة ، كما أنّ غالب الأوامر والنواهي التي تعلّقت في كلام الشارع بجزء أو شرط تكون كذلك ، وهذا أمر واضح ومن القضايا التي قياساتها معها.

الأمر الخامس : في المراد من العبادة والمعاملة في محلّ النزاع

فنقول : العبادة على قسمين : العبادة بالمعنى الأخصّ والعبادة بالمعنى الأعمّ ، والعبادة بالمعنى الأخصّ ما يعتبر فيه قصد القربة بحيث تقع بدونه فاسدة ، والعبادة بالمعنى الأعمّ ما يقصد فيه

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

٥٧٢

القربة ، ويترتّب عليه الثواب من دون أن يكون قصد القربة شرطاً فيه.

لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في المقام إنّما هو العبادة بالمعنى الأخصّ لا الأعمّ كما لا يخفى.

كما لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في ما نحن فيه ما يكون بنفسه عبادة موجبة بذاتها التقرّب إلى الله تعالى لولا حرمته شرعاً ، أي المراد منها العبادة الشأنيّة وما يتعلّق الأمر به مع قطع النظر عن كونه متعلّقاً للنهي ، وليس المراد بها ما يكون عبادة فعلاً ولو مع كونه متعلّقاً للنهي ، فإنّه لا معنى لكون الشيء عبادة فعلاً ومع ذلك تعلّق به النهي ، لأنّ معنى كونه عبادة فعلاً أنّه محبوب فعلاً ، ومعه لا يتعلّق به نهي ولا يكون محلاً للنزاع.

وأمّا المعاملة فلها أربعة معانٍ :

١ ـ المعاملة بمعنى البيع ، أي ما يكون مترادفاً مع كلمة البيع وهذا هو أخصّ المعاني.

٢ ـ ما يقع بين الاثنين وهو شامل لجميع العقود أعمّ من البيع وغيره ولا يعمّ الايقاعات ، وهذا أعمّ من الأوّل.

٣ ـ ما يتوقّف على القصد والإنشاء فيعمّ جميع العقود والايقاعات ، فيكون أعمّ من الثاني.

٤ ـ مطلق ما لا يعتبر فيه قصد القربة سواءً كان فيه الإنشاء أو لم يكن ، فيعمّ مثل تطهير الثياب مثلاً ، والذي يكون محلاً للنزاع في ما نحن فيه إنّما هو المعنى الثالث الذي يتصوّر فيه الصحّة والفساد ويتضمّن المعنى الأوّل والثاني أيضاً ويكون أخصّ بالنسبة إلى المعنى الرابع ، لا المعنى الرابع الذي لا يتصوّر فيه الصحّة والفساد كما لا يخفى.

بقي هنا شيء :

وهو حقيقة العبادة بالمعنى الأخصّ التي تكون محلّ النزاع في المسألة.

فقد ذكر لها أربعة معانٍ :

١ ـ ما لا يسقط أمره إلاّ إذا أتى على نحو قربي.

٢ ـ ما أمر به لأجل التعبّد به.

ولا يخفى أنّه تعريف دوري لأنّ مفهوم العبادة أخذ في تعريفها كما لا يخفى.

٣ ـ ما يتوقّف صحّته على النيّة.

٥٧٣

ويرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من النيّة نيّة التقرّب فهو يرجع إلى المعنى الأوّل ، وإن كان المراد منها نيّة الفعل وقصد الفعل فهو خلط بين العناوين القصديّة ( كأداء الدَين ونحوه ) والعبادات حيث إنّ العناوين القصديّة ما تتوقّف صحّته على قصد العمل أعمّ من أن يقصد القربة به إلى الله أيضاً أو لم يقصد القربة فهي أعمّ من العبادة.

٤ ـ ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ( أي العبادة عبارة عمّا لا تكون مصلحته المنحصرة معلومة ).

وفيه : أنّه ليس جامعاً ولا مانعاً لأنّه ربّ عبادة تكون مصالحها معلومة من طريق الآيات والأخبار ، ومن جانب آخر ربّ عمل غير عبادي لا نعلم من المصلحة فيه شيئاً كلزوم تركيب كفن الميّت من ثلاث قطعات مثلاً.

فالمتعيّن من هذه المعاني حينئذٍ هو المعنى الأوّل ، ولكن الإنصاف أنّه أيضاً لا يعبّر عن حقيقة العبادة بل إنّه من قبيل تعريف الشيء بأثره حيث إنّ « عدم سقوط الأمر إلاّ إذا أتى على نحو قربي » من آثار العبادة وليس عبارة عن حقيقتها ، فالأولى أن يقال : أنّها نوع فعل يبرز به نهاية الخضوع ونهاية التجليل للمعبود.

وبعبارة اخرى : إنّ الخضوع له مراتب ، والمتبادر من العبادة إنّما هو أعلى مراتب الخضوع كما يظهر بملاحظة معناها بالفارسيّة وهو « پرستش » حيث إنّ المتبادر من هذه الكلمة في اللّغة الفارسيّة إنّما هو نهاية الخضوع والتذلّل ، ولذلك قد يقال في محاورات هذه اللّغة في مقام بيان نهاية خضوع شخص بالنسبة إلى شخص آخر : أنّه خضع عنده وتواضع له إلى حدّ « العبادة » ، وبالجملة لا يسمّى كلّ نوع من الخضوع وكلّ مرتبة منه عند العرف بعبادة بل إنّها اسم لأعلى مراتبه كما لا يخفى.

نعم ، إنّ الأعمال العباديّة على قسمين : ففي قسم منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع ذاتياً له ولا يحتاج فيه إلى اعتبار معتبر كالركوع والسجود ، وفي قسم آخر منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع باعتبار معتبر ووضع واضع وهو في لسان الشرع نظير الوقوف في المشعر أو السعي بين الصفا والمروة حيث إنّهما يدلاّن على العبوديّة ونهاية التذلّل عند المعبود الحقيقي بجعل الشارع واعتباره ، وفي لسان العرف نظير رفع القلنسوة عند قوم ووضعها عند قوم آخر لاظهار الخضوع فكما أنّ مطلق الخضوع قد يكون بالذات واخرى بالاعتبار فكذلك نهايته.

٥٧٤

بقي هنا شيء :

وهو ما قد مرّ كراراً ممّا قد يقال : إنّ هذه التعاريف ليست تعاريف حقيقية بل إنّها تعاريف شرح الاسميّة فلا ينبغي الإيراد في طردها وعكسها.

وقد أجبنا عنه أيضاً بأنّ ظاهر كلمات القوم أنّهم بصدد بيان التعريف الحقيقي الجامع والمانع ، والشاهد عليه تعابيرهم الواردة في ذيل التعاريف كقولهم بأنّا إنّما ذكرنا هذا القيد لكذا وكذا ، وحذفنا ذاك القيد لكذا وكذا ، وحينئذٍ ينبغي لنا أيضاً الإشكال فيها طرداً وعكساً.

الأمر السادس : حدود محلّ النزاع

أمّا حدود محلّ النزاع ويأتي فيه أيضاً بعض ما مرّ في مبحث « الصحيحي والأعمّي » وهو ثلاثة امور :

الأمر الأوّل : أنّ محلّ النزاع في المقام هو ما يكون أمراً مركّباً قابلاً للاتّصاف بالصحّة والفساد ، أمّا ما ليس كذلك فهو خارج عن محلّ الكلام ، وهو عبارة عن ما لا أثر له كما في بعض المباحات كالتكلّم بكلام مباح ، فلا إشكال في أنّ النهي عنه يوجب حرمته من دون أن يدلّ على الفساد لأنّه لم يكن له أثر حتّى يقع فاسداً بعد تعلّق النهي ، وهكذا ما يكون ذا أثر ولكنّه من البسائط التي أمرها دائر بين الوجود والعدم كإتلاف مال الغير ، فإنّ له أثر وهو الضمان ولكنّه أمر بسيط لا يتصوّر فيه الأجزاء والشرائط حتّى يتصوّر فيه الفساد ويدلّ النهي عنه على الفساد ، بل إنّه إمّا يوجد في الخارج فيترتّب عليه أثره وهو الضمان أو لا يوجد في الخارج فلا يترتّب عليه أثره.

الأمر الثاني : في المراد من الصحّة والفساد.

فقد ذكر للصحّة ( وبالتبع للفساد ) معانٍ عديدة ، فقال بعض أنّها بمعنى تماميّة الأجزاء الشرائط ، وقال بعض آخر أنّها بمعنى ما تسقط به الإعادة والقضاء ، وذهب ثالث إلى أنّها بمعنى الموافقة للأمر أو الموافقة للشريعة ، والأوّلان منقولان من الفقهاء ، والأخير نقل عن المتكلّمين.

ولكن قد مرّ في مبحث الصحيح والأعمّي أنّ المختار هو أنّ الصحيح ما ترتّب عليه الأثر المترقّب عنه ، والشاهد عليه العرف والتبادر العرفي وتمام الكلام في مبحث الصحيحي والأعمّي.

٥٧٥

الأمر الثالث : أنّ للصحّة استعمالات ثلاثة : فتارةً : تستعمل في مقابل العيب ، واخرى : في مقابل المرض ، وثالثة : في مقابل الفساد ، وقد وقع الخلط بينها في بعض الكلمات مع أنّ الصحّة في مقابل العيب تستعمل في أبواب الخيارات ، وهي فيها بمعنى عدم النقصان عن الخلقة الأصلية ، والصحّة في مقابل المرض تستعمل في مثل أبواب الصّيام والحجّ بالنسبة إلى المكلّف الحي ، وهي فيها بمعنى سلامة المزاج وعدم انحرافه عن طبيعته الأوّليّة ، والداخل في محلّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو الاستعمال الثالث ، وهي فيه بمعنى ترتّب الآثار المترقّبة من شيء عليه.

نعم هيهنا نكتة تنبغي الإشارة إليها ، وهي أنّ الصحّة في مقابل الفساد ( أي الصحّة بالمعنى الثالث ) تكون عند العرف من الكيفيات والحالات فيقال « الفاكهة الصحيحة » إذا كانت على حالة معتدلة طبيعية في مقابل الفاكهة الفاسدة ، بينما هي في لسان الشرع ومصطلح الفقهاء تستعمل في الأجزاء والشرائط أي الكيفية والكمّية فيقال : الصّلاة صحيحة إذا كانت جامعة للأجزاء والشرائط ، ويقال الصّلاة الفاسدة إذا كانت فاقدة للطهارة أو الركوع مثلاً ، ولكن هل هو إطلاق مجازي أو أنّه من قبيل الحقيقة الثانويةِ؟ الإنصاف هو الثاني ، أي صارت كلمة « الصحيح » حقيقة شرعيّة في الواجد للأجزاء والشرائط وكلمة « الفاسد » في الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط.

الأمر السابع : إنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان

يختلفان باختلاف الآثار والأنظار والاشخاص ( خلافاً لمثل الزوجيّة للأربعة وشبهها التي هي من الامور الحقيقية الثابتة مطلقاً ) فبالنسبة إلى اختلاف الآثار نظير المأمور به بالأوامر الظاهريّة ، حيث إنّ المراد من الأثر المترقّب منه إن كان هو ترتّب الثواب عليه فيتّصف بالصحّة ، وإن كان المراد من الأثر سقوط الأمر الواقعي في صورة كشف الخلاف فلا يتّصف بالصحّة ، فالمأمور به حينئذٍ صحيح من جهة وفاسد من جهة اخرى ، وهكذا بالنسبة إلى اختلاف الأنظار ، فإن كان النظر في الأوامر الظاهريّة مثلاً الإجزاء عن الأوامر الواقعيّة في صورة كشف الخلاف كان العمل صحيحاً وإن كان النظر عدم الإجزاء لم يكن العمل صحيحاً ، وكذلك بالنسبة إلى الأشخاص فإن صلاة القصر مثلاً تتّصف بالصحّة بالنسبة إلى المسافر وتتّصف بالفساد بالنسبة إلى الحاضر ، وبهذا يظهر أّنه لا وجه لحصر إضافيّة الصحّة والفساد

٥٧٦

في الآثار والأنظار كما يظهر من بعض كلماتهم.

ثمّ إنّه هل الصحّة والفساد من الامور الواقعيّة ، أو من الامور المجعولة بالأصالة أو بالتبع ، أو أنّها من الامور الانتزاعيّة ، أو لا بدّ من التفصيل بين العبادات والمعاملات وأنّهما من الامور المجعولة في العبادات دون المعاملات؟ فيحتمل كونهما من الامور الواقعيّة ، كما يحتمل كونهما من الامور المجعولة بالأصالة كالملكية والزوجيّة ومنصب القضاء والولاية ونحوها من الامور التي تنالها يد الجعل مستقلاً وبالأصالة ، كما ورد في الحديث : « فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ( أو حاكماً ) » ويحتمل أيضاً كونهما من الامور المجعولة بالتبع كالجزئيّة والشرطيّة في أجزاء المأمور به وشرائطه حيث إنّهما تجعلان بتبع تعلّق الأمر بالجزء أو الشرط ، فلم يقل الشارع : « أنّي جعلت الركوع مثلاً جزءً » بل استفدنا جزئيته من قوله « اركع » ، ويحتمل أيضاً كونهما من الامور الانتزاعيّة التي لا وجود لها في الخارج بل الموجود فيه إنّما هو منشأ الانتزاع كالفوقيّة والتحتية.

والحقّ في المقام بناءً على ما مرّ من تعريف الصحّة والفساد بترتّب الأثر المترقّب من الشيء وعدمه أن يقال : إن كان المراد من الأثر الملحوظ في التعريف هو المصلحة والمفسدة فلا إشكال في أنّهما حينئذٍ أمران واقعيّان لا تنالهما يد الجعل لأنّ المصالح والمفاسد امور واقعية ، وإن كان المراد من الأثر سقوط التكليف والمأمور به فبالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة إنّهما أمران انتزاعيان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدم مطابقته له ، وأمّا بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة فهما من الامور المجعولة الاعتباريّة حيث إنّ الصحّة حينئذٍ عبارة عن جعل الشارع الإجزاء للأوامر الظاهريّة ، والفساد عبارة عن جعل الشارع عدم الإجزاء لها ، هذا كلّه بالنسبة إلى العبادات.

وأمّا في المعاملات فإن كان المراد من الأثر المفسدة والمصلحة فلا إشكال أيضاً في كونهما فيما من الامور الواقعيّة ، وإن كان المراد من الأثر ما يترتّب على العقود والايقاعات من الآثار كالملكية والزوجيّة فلا إشكال أيضاً في كونهما أمرين مجعولين ، لأنّ الزوجيّة مثلاً تجعل من جانب الشارع أو العقلاء بعد إجراء العقد.

هذا كلّه بناءً على المختار في تعريف الصحّة والفساد.

وأمّا بناءً على مبنى القائلين بأنّهما عبارة عن المطابقية واللامطابقية فمن المعلوم أنّهما في

٥٧٧

جميع الموارد وصفان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمها فيكونان من الامور الانتزاعيّة ، وقسّ عليه سائر المباني.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ مقتضى ما مرّ منّا من تعريف الصحّة والفساد بالأثر أنّهما وصفان حقيقيّان خارجيان يتّصف بهما الوجود الخارجي وليسا من الماهيات والعناوين الكلّية الذهنيّة فإنّ المتّصف بالصحّة في باب المعاملات مثلاً هو صيغة العقد الخارجي المتحقّقة في الخارج لا عنوان كلّي العقد ، لأنّ المنشأ للأثر إنّما هو الخارج والفرد الخارجي لا الماهية والعنوان ، وقد مرّ كراراً أنّ أخذ العناوين الكلّية في موضوع الأدلّة إنّما هو للإشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج.

الأمر الثامن : في تأسيس الأصل في المسألة

وقد مرّ سابقاً أنّ ثمرة مثل هذا البحث تعيين من عليه إقامة البرهان ، وهو من يخالف رأيه الأصل في المسألة لا من يوافقه.

والأصل إمّا لفظي وهو الإطلاق أو العموم ، أو عملي وهو تلك الاصول الأربعة المعروفة ، ومحلّ جريان الأصل تارةً يكون هو المسألة الاصوليّة وهي في المقام دلالة النهي على الفساد ، أو وجود الملازمة بين النهي والفساد ، واخرى المسألة الفقهيّة وهي في المقام نظير النهي عن الصّلاة وقت النداء ، فهيهنا مقامات أربع :

المقام الأوّل : في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الاصوليّة

فنقول : لا يوجد أصل لفظي يستفاد منه دلالة النهي على الفساد أو وجود الملازمة بين النهي والفساد ، أو يستفاد منه عدم دلالته عليه أو عدم وجود الملازمة من إطلاق أو عموم ، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

المقام الثاني : في الأصل العملي في المسألة الاصوليّة

قد يقال : إنّ مقتضى استصحاب عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة إثبات المسألة

٥٧٨

الاصوليّة ، أي إثبات عدم دلالة النهي على الفساد أو إثبات عدم وجود ملازمة بين النهي والفساد.

ولكن من الواضح عدم جريان هذا الاستحصاب ، لأنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة ليس من المتيقّن سابقاً إلاّ أن يتمسّك بذيل العدم الأزلي ، ولا إشكال في أنّ استصحاب العدم الأزلي لو سلّم حجّيته في محلّه ليس جارياً في المقام لعدم ترتّب أثر شرعي عليه بلا واسطة ، حيث إنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة من الآثار العقليّة فيكون الأصل حينئذٍ مثبتاً كما لا يخفى.

المقام الثالث : في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة

وفيه فرق بين باب العبادات وباب المعاملات ، أمّا في العبادات فلا أصل لفظي من عموم أو إطلاق يدلّ على صحّة العبادة المنهي عنها أو فسادها عند الشكّ ، وأمّا في المعاملات فيمكن أن يستدلّ للصحّة فيها بإطلاق « اوفوا بالعقود » أو « أحلّ الله البيع » وغيرهما من الإطلاقات المذكورة في محلّه وهذا واضح لا إشكال فيه.

المقام الرابع : في الأصل العملي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة

أمّا بالنسبة إلى المعاملات فبعد فرض عدم عموم أو إطلاق يقتضي الصحّة فيها فمقتضى الأصل الفساد كما هو المشهور ، لأنّه بعد أن تعلّق النهي بها وشكّ في دلالته على فسادها بعد تحقّقها في الخارج ـ لا محالة يقع الشكّ في حصول الأثر المترتّب عليها من ملكيّة أو زوجيّة ونحوهما فيستصحب عدم حصوله.

وأمّا بالنسبة إلى العبادات فكذلك مقتضى الأصل العملي هو الفساد وهو أصالة الاشتغال ، فإنّه بعد تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص كما في صوم العيدين نقطع بعدم كونها بخصوصها مأموراً بها ، لأنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بصيام العيدين بالخصوص ، ولذلك لا يشمله أيضاً إطلاق الأمر المتعلّق بمطلق صيام كلّ يوم حتّى يحرز الملاك من هذا الطريق ويكون الصّيام صحيحاً من طريق قصد الملاك.

وبالجملة : إنّ تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص يوجب انقطاع الأمر من أصله ، ومعه لا أمر ولا محرز للملاك حتّى يمكن به تصحيحها.

٥٧٩

بقي هنا شيء :

وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله بالنسبة إلى المقام الرابع من التفصيل بين ما إذا كان الشكّ من قبيل الشبهة الموضوعيّة ، وإليك نصّ كلامه : « إن كان الشكّ في صحّتها وفسادها من قبيل شبهة موضوعيّة فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها ، وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكميّة فالحكم بالصحّة والفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعية » (١).

وقد أورد عليه :

أوّلاً : بأنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو فيما إذا شكّ في صحّة عبادة بعد الفراغ عن كونها منهياً عنها ، فتكون الشبهة دائماً حكميّة ، فلا يعمّ محلّ النزاع ما إذا كان أصل تعلّق النهي أيضاً مشكوكاً فيه حتّى تدخل فيه موارد الشبهة الموضوعيّة أيضاً.

وثانياً : ليس الشكّ في صحّة العبادة وفسادها ناشئاً دائماً من الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة والمانعية حتّى يكون الحكم بالصحّة والفساد مبتنياً على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال فيها ، بل قد يكون ناشئاً من الشكّ في أصل مشروعيّة العبادة لأنّ النهي تعلّق بمجموعها.

الأمر التاسع : في أقسام تعلّق النهي بالعبادة وتعيين محلّ النزاع فيها

إنّ متعلّق النهي تارةً : يكون نفس العبادة كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض أو النهي عن الصّوم في يوم العيدين ، واخرى : يكون متعلّق النهي جزء من أجزاء العبادة كما إذا نهى عن سور العزائم في الصّلاة الواجبة ، وثالثة : يتعلّق النهي بشرط العبادة كالنهي المتعلّق بلبس الحرير إذا كان هو الساتر لعورة المصلّي ، ورابعة : يتعلّق النهي بوصف من أوصاف العبادة الملازمة لها كما إذا نهى عن الجهر بالقراءة ، وخامسة : يتعلّق بوصفها غير الملازم كالنهي عن الصّلاة في المكان المغصوب ، فهيهنا خمس صور.

لا إشكال في أنّ القسم الأوّل داخل في محلّ النزاع ، وهكذا القسم الثاني لأنّ جزء العبادة عبادة ، نعم لا بدّ من البحث فيه عن أنّ الفساد هل يسري من الجزء إلى الكلّ أو لا؟ فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعدم السراية إلاّفي صورتين :

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٩٤.

٥٨٠