أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الغصب المنهي عنه في الخارج ، فإذن لا مناصّ من القول بالامتناع ( انتهى ملخّصاً ) (١).

أقول : يرد عليه : أوّلاً : أنّ النيّة ليست من الكيف النفساني بل هي من أفعال النفس لأنّها ليست مجرّد شوق نفساني الذي يعبّر عنه بصيغة فعل الماضي « نَوى ».

ثانياً : أنّ الأذكار والقراءات أيضاً تكون من قبيل الفعل والإيجاد لا الكيف المسموع ، فهي حينئذٍ إمّا من مقولة الفعل لكونها حركة تدريجية ، وإمّا ليست داخلة في مقولة من المقولات بناءً على عدم كون الحركة من المقولات من باب أنّ الحركة من خصوصّيات الوجود وليست من شؤون الماهية ، وبالجملة أنّها ليست من مقولة الكيف المسموع ، نعم إنّ الحالة الصوتيّة كالجهر والاخفات التي تعرض القراءة تكون من قبيل الكيف المسموع كما لا يخفى.

ثالثاً : الحقّ أنّ الهويّ جزء للركوع أو السجود لا من مقدّماتهما ، فكأنّه لاحظ طائفة من الرّوايات الدالّة على أنّ الصّلاة ثلثها الركوع أو ثلثها السجود فإستظهر أنّ الركوع هو مجرّد الانحناء أو أنّ السجود هو مجرّد الانخفاض مع أنّ من جملة الأدلّة قوله تعالى : ( ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) مثلاً ولا ريب في أنّ ظاهرها أنّ الركوع هو الانحناء بضميمة الهويّ وهكذا في باب السجود ، ولذلك يجب على من سمع حين السجود آية السجدة الواجبة رفع الرأس عنها ثمّ وضعه بنيّة امتثال آية السجدة ، ولا يكفي مجرّد إبقائه على السجدة كما مرّ سابقاً ، وكذلك يجب على المكلّف في حال الانحناء إذا وجب عليه الركوع النهوض عنه ثمّ الانحناء بنيّة الركوع.

أضف إلى ذلك أنّه لو سلّمنا كون الهويّ من المقدّمات لا الأجزاء لكنّه من المقدّمات القريبة التي يسري القبح أو الحسن منها إلى ذي المقدّمة فتكون في حكم الأجزاء في ما نحن فيه كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.

هذا كلّه في البحث عن صغريات المسألة ، ولا إشكال في أنّها ليست منحصرة في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة بل هناك موارد كثيرة في الفقه هي من مصاديق هذه المسألة وصغرياتها كالوقوف في عرفات أو منى تحت خيمة مغصوبة أو فوق حجر مغصوب ونظير الطواف مع دابة مغصوبة أو ثوب مغصوب ، وكالصّلاة مع ثوب مغصوب أو السجدة على التراب المغصوب وغير ذلك من الأمثلة التي محلّ البحث عنها هو الفقه ، والتكلّم عنها في

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٨.

٥٤١

الاصول يستلزم تداخل الفقه في الاصول ، فلا يغرنّك حصر المثال في كلماتهم في خصوص الصّلاة في الدار المغصوبة.

العبادات المكروهة

ثمّ إنّه قد أُورد على القول بالامتناع بالنقض بامور :

منها : العبادات المكروهة ببيان أنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه ، وقد وقع في الشرع المقدّس موارد اجتمع فيها حكمان من الأحكام الخمسة ، نحو الصّلاة في مواضع التهمة ، أو الصّلاة في الحمام ، والصّلاة في الأماكن التي تكره الصّلاة فيها ، والصّلاة أو الصّيام في الأزمنة التي تكره الصّلاة أو الصّيام فيها كما في النافلة المبتدئة حين طلوع الشمس أو عند غروبها ، والصّيام في يوم عاشوراء ، والصّيام في يوم عرفة لمن لا يقدر على الدعاء ، ونحوها من الموارد التي اجتمع الكراهة فيها مع الاستحباب.

واجيب عنه بوجوه ثلاثة على نحو الإجمال ، وبوجه آخر على نحو التفصيل.

أمّا الوجوه الثلاثة على نحو الإجمال :

الوجه الأوّل : أنّ أدلّة العبادات المكروهة وإن كانت ظاهرة في جواز الاجتماع ولكن لا بدّ من توجيهها بعد أن أقمنا برهاناً عقليّاً قطعيّاً على الامتناع كما في سائر الموارد ، فلابدّ مثلاً من توجيه قوله تعالى : ( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) الظاهر في أنّ للباري جسماً وأعضاء تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

الوجه الثاني : أنّ هذا النقض يرد على القائلين بالجواز أيضاً ، فلابدّ له أيضاً من التخلّص عنه حيث إنّ مدّعاه جواز الاجتماع فيما إذا كان في البين عنوانان وكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، مع أنّه لا إشكال في أنّ العنوان في مورد العبادات المكروهة واحد وقوله « صلّ » و « لا تصلّ في الحمّام » تعلّق بعنوان الصّلاة ، ولو قلنا بأنّ العنوان في أحدهما مطلق الصّلاة ، وفي الآخر الصّلاة في الحمّام كانت النسبة بينهما العموم المطلق لا العموم من وجه.

الوجه الثالث : قد مرّ اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع بينما لا مندوحة في بعض هذه العبادات المكروهة كصيام يوم عاشوراء حيث إنّ صيام يوم الحادي عشر مثلاً موضوع آخر

٥٤٢

للاستحباب بل على القائل بالجواز أيضاً التفصّي عن هذا الإشكال لاعتبار أخذ قيد المندوحة عنده أيضاً في محلّ النزاع.

وأمّا الوجوه الثلاثة على نحو التفصيلي : أنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما تعلّق النهي بعنوانه وذاته من دون أن يكون له بدل كصيام يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة عند طلوع الشمس وغروبها.

القسم الثاني : ما تعلّق النهي به كذلك مع وجود البدل كما في النهي عن الصّلاة في الحمّام.

القسم الثالث : ما تعلّق النهي به لا بذاته وعنوانه بل تعلّق بعنوان آخر يجتمع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كما في الصّلاة في مواضع التّهمة فإنّ النهي تعلّق فيها بالصلاه لا بما هي هي بل بما إنّها ملازمة لعنوان التّهمة أو متّحدة معه.

أمّا القسم الأوّل : فلابدّ قبل الجواب عنه من ملاحظة أمرين :

الأمر الأوّل : ترتّب الثوب على هذا القسم ووقوعه صحيحاً فيترتّب الثواب على صيام عاشوراء ويقع في الخارج صحيحاً.

الأمر الثاني : استقرار سيرة الأئمّة وأصحابهم على تركه.

فإنّ مقتضى الجمع بين هذين الأمرين أنّ النهي الذي تعلّق بهذا القسم ليس لأجل منقصة في نفس العمل كي يقال باجتماع المصلحة والمفسدة في عمل واحد بل النهي عنه إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة أهمّ على الترك كالبراءة عن بني اميّة مثلاً أو لأجل ملازمته له وإن لم ينطبق عليه خارجاً ، وعليه لو أتينا به يقع صحيحاً لأنّه ذو مصلحة يتقرّب به إلى الله تعالى فيترتّب الثواب عليه ، ولو تركناه فكذلك يترتّب الثواب على تركه لأنّا حصلنا بالترك على المصلحة الموجودة في العنوان المنطبق على الترك أو الملازم للترك التي تكون أهمّ من مصلحة أصل العمل والتي صارت منشأً لجريان سيرة الأئمّة والأصحاب على الترك ، فهيهنا في الواقع مصلحتان أو مستحبّان متزاحمان ، أحدهما أرجح من الآخر ، نظير تزاحم الوقوف في عرفات يوم عرفة في الحجّ المستحبّ وزيارة قبر الحسين عليه‌السلام في نفس ذلك اليوم ، وبه يخرج مثل هذا المثال عن محلّ النزاع ويكون النهي الوارد فيه إرشاداً إلى وجود مصلحة أهمّ في عنوان ينطبق على الترك كعنوان البراءة عن بني اميّة.

وأمّا القسم الثاني : فيأتي فيه نفس الجواب عن القسم الأوّل ، أي يكون النهي عن الصّلاة

٥٤٣

في الحمّام إرشاداً إلى أنّ مصلحة العنوان المنطبق على تركها ( وهو إيجاد الفسحة للناس مثلاً ) أهمّ من مصلحة إتيان الصّلاة في أوّل الوقت مثلاً.

هذا ـ مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال : سلّمنا أنّ النهي فيه يكون لوجود منقصة في الفعل ولكنّها ليست بحيث تغلب على المصلحة الموجودة في العمل حتّى لا يكون صالحاً للتقرّب به إلى الله تعالى بل إنّها منقصة مغلوبة ، ومع ذلك نهى الشارع عن الفعل لكونه حينئذٍ أقلّ ثواباً من بدله الذي لا منقصة فيه ( كالصّلاة في الدار مثلاً ) ومن بدله الذي يترتّب عليه ثواباً أكثر من الثواب الذي يترتّب على نفس طبيعة الصّلاة كالصّلاة في المسجد ، فالكراهة هنا بمعنى كون العمل أقلّ ثواباً من سائر الأفراد لا بمعناه المصطلح وهو كون المنقصة أكثر من المصلحة.

وبعبارة اخرى : مصطلح الكراهة والاستحباب في باب العبادات غير مصطلحهما في غير العبادات.

فظهر أنّ النهي عن العمل أو الأمر بالترك في القسم الثاني من العبادات المكروهة إنّما هو إرشاد إلى أنّ هذا الفرد من الطبيعة أقلّ ثواباً من الأفراد الاخر وليس نهياً أو أمراً مولويّاً ، فيكون خارجاً عن محلّ البحث.

وأمّا القسم الثالث : ( وهو ما إذا تعلّق النهي بالعبادة لكن لا بذاتها بل علم أنّه لأجل عنوان يتّحد معها وجوداً ويلازمها خارجاً ) فالجواب عنه إمّا بناءً على الجواز وتعدّد متعلّقي الأمر والنهي فهو أنّه يمكن أن يكون النهي مولويّاً وكان إسناده إلى العبادة مجازيّاً ، فإنّ المكروه هو ذاك العنوان المتّحد معها أو الملازم لها دون العبادة بنفسها ، ويمكن أن يكون إرشاديّاً ، أي خالياً عن الطلب النفساني فيكون إسناده إلى العبادة حقيقيّاً قد أُنشأ بداعي الإرشاد إلى سائر الأفراد ممّا لم يبتلِ بعنوان ذي منقصة متّحد معها أو ملازم لها ، وأمّا على الامتناع فإن كان النهي لأجل عنوان يلازم العبادة خارجاً فالجواب هو عين جواب المجوّز حرفاً بحرف لتعدّد المتعلّق حينئذٍ ، وأمّا إذا كان النهي لأجل عنوان يتّحد مع العبادة وجوداً ورجّحنا جانب الأمر كما هو المفروض ( إذ لو كان الراجح جانب النهي لكانت العبادة باطلة جدّاً لا مكروهة ) فالجواب ما اجيب به في القسم الثاني أي الجواب الأخير فيه من كون النهي لمنقصة مغلوبة في الفعل وإنّما نهى الشارع عنه إرشاداً إلى سائر الأفراد ممّا لم يبتلِ بالمنقصة والحزازة أصلاً.

ولكن يرد على هذا الجواب بالنسبة إلى القسم الأوّل : أنّ باب التزاحم والمستحبّين

٥٤٤

المتزاحمين يتصوّر فيما لا يكونان من قبيل ضدّين لا ثالث لهما مع أنّ صيام يوم عاشوراء من هذا القبيل لأنّه لا يكون لصوم يوم عاشوراء بدل كي يصحّ أن يقال : إنّ النهي عنه لمنقصة فيه وأنّه إرشاد إلى سائر الأفراد ممّا لا منقصة فيه وهو بدل عنه نتخيّر بينه وبين بدله عقلاً ، إذ المفروض أنّ صوم كلّ يوم مستحبّ تعييني لا تخييري من باب التزاحم ، وحينئذٍ تكون منقصة صوم عاشوراء دائماً أكثر من مصلحته ، فلا يكون قابلاً للتقرّب ويكون من قبيل المكروه المصطلح ، إذن لا بدّ فيه من جواب آخر وهو أن نقول : إنّ النهي عنه إرشاد إلى كون الصّيام في يوم عاشوراء أقلّ ثواباً من سائر الأيّام لا أنّ تركه يكون أكثر ثواباً.

إن قلت : فلماذا كان الأئمّة والأصحاب يتركونه دائماً؟

قلنا : لعلّه من باب أنّ الإنسان يترك صيام بعض أيّام السنة غالباً ولا يكون صائماً في تمام السنة ، فالأولى حينئذٍ أن يترك صيام ما يكون أقلّ ثواباً من الأيّام الاخر. ولا يخفى أنّ الإيراد المزبور يأتي بالنسبة إلى القسم الثاني والثالث أيضاً وإن لم تكن الصّلاة في الحمّام مثلاً من قبيل ضدّين لا ثالث لهما ، أي كان لها بدل لأنّ المفروض أنّ مصلحة تركها أكثر من مصلحة فعلها وحينئذٍ لا يمكن التقرّب إلى المولى بالفعل نظير ما إذا كان الربح المترتّب على ترك معاملة أكثر من الربح الذي يترتّب على فعلها ، فلا يمكن للعبد أن يتقرّب إلى مولاه بفعل تلك المعاملة.

هذا كلّه أوّلاً.

وثانياً : أنّ تبديل النهي عن الزجر عن الفعل إلى الأمر بالترك خروج عن معناه الحقيقي فإنّه قد مرّ أنّ النهي هو الزجر عن الفعل لمنقصة فيه إلاّ أنّه بمعنى الأمر بالترك لمصلحة في الترك ( والمحقّق الخراساني رحمه‌الله الذي ذهب إلى الجواب المزبور تكلّم هنا على مبناه في حقيقة النهي وقد مرّ عدم تماميّة مبناه ) فإنّ النهي عن صوم عاشوراء ليس من باب أنّ في تركه مصلحة بل وهي وجود منقصة فيه من باب انطباق عنوان التشبّه ببني اميّة عليه.

ثالثاً : إنّ القسم الثالث ( وهو ما إذا تعلّق النهي بعنوان آخر ) خارج في الحقيقة عن العبادات المكروهة لأنّ العبادة المكروهة ما تعلّق النهي فيها بذات العبادة لا بعنوان آخر.

وبالجملة إنّ المختار في مقام الجواب عن النقض بالعبادات المكروهة أن يقال : إنّ النهي فيها مطلقاً يكون إرشاداً إلى كون العمل أقلّ ثواباً من سائر الأفراد ولكنّه ببيان آخر ، وهو أنّه يوجد في العبادات المكروهة عنوانان انطبقا على محلّ واحد ولكن أحدهما يكون واجداً

٥٤٥

للمصلحة والآخر واجداً للمفسدة ( لا أنّ في تركه مصلحة ) والمصلحة الموجودة في الأوّل تكون أقوى من المفسدة الموجودة في الثاني ولا إشكال في أنّ ذا المصلحة يصير بعد الكسر والانكسار أقلّ ثواباً من سائر الأفراد ، وقد مرّ الجواب آنفاً عن إشكال ترك الأئمّة صيام عاشوراء دائماً فلا نعيده وأمّا الجواب بأنّ أصل صحّة الصّيام في يوم عاشوراء محلّ ترديد وكلام فلا يعبأ به لأنّ ظاهر الأدلّة صحّته كما حكي عن المشهور.

هذا كلّه بناءً على اعتبار ترتّب الثواب في معنى العبادة ، وأمّا بناءً على ما مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي من أنّ العبادة أمر اعتباري اعتبرت للخضوع والتذلّل في مقابل المولى وليس في ذاتها وحقيقتها أن تكون مقرّبة إلى المولى وأن يترتّب عليها الثواب بل إنّها أيضاً تنقسم إلى أقسام خمسة ، فبعض أقسامها حرام كصيام يوم الاضحى ، وبعض أقسامها واجب كصيام رمضان ، وقسم ثالث منها مستحبّ كصيام شعبان ورجب ، وقسم رابع منها مكروه وهو صيام يوم عاشوراء وهكذا ـ إذا قلنا بهذا انحلّ الإشكال من الأساس لأنّه لا يترتّب على صوم عاشوراء ثواب حتّى يقال بأنّه ينافي كراهته.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : ما سلكه المحقّق النائيني رحمه‌الله بالنسبة إلى القسم الثالث فإنّه قال : « إنّ الإشكال في اتّصاف العبادة بالكراهة في القسم الثالث إنّما نشأ من تخيّل أنّ متعلّق الأمر والنهي هو شيء واحد مع أنّه ليس ، كذلك لوضوح أنّ متعلّق الأمر هو ذات العبادة ، وأمّا النهي التنزيهي فهو لم يتعلّق بها لعدم مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها بل تعلّق بالتعبّد بهذه العبادة لما فيه من المشابهة للأعداء ، وبما أنّ النهي تنزيهي وهو متضمّن للترخيص في الإتيان بمتعلّقه جاز التعبّد بتلك العبادة بداعي امتثال الأمر المتعلّق بذاتها ... فارتفع إشكال اجتماع الضدّين في هذا القسم أيضاً » (١).

واستشكل عليه في تهذيب الاصول بامور : منها : « أنّ لازم تعلّق الأمر بذات العبادة كذات الصّوم أن يصير توصّلياً ولو بدليل آخر بل تعلّق الأمر به بقيد التعبّديّة » (٢).

كما أنّ تلميذه المحقّق رحمه‌الله أورد عليه أيضاً في هامش أجود التقريرات بأنّ « الأمر

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٦٧.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢١ ، طبع مهر.

٥٤٦

الاستحبابي كما تعلّق بذات العبادة تعلّق بالتعبّد بها أيضاً كما عرفت ذلك في بحث التعبّدي والتوصّلي » (١).

أقول : من البعيد جدّاً أن يكون مراد المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ متعلّق الأمر هو ذات العبادة واستحباب ذات العمل من دون قصد التعبّد بها بل أظنّ أنّ مراده أن المستحبّ إنّما هو الصّوم مع قصد القربة ، والمكروه هو الصّيام مع قصد التشبّه ببنيْ اميّة ( حيث إنّ التشبّه ليس حراماً بجميع أقسامه ومراتبه فتأمّل ).

نعم يمكن الجواب عنه بأنّه حيث إنّ هذين العنوانين متّحدان في الخارج فعلى الامتناع لازمه حصول الكسر والانكسار والعمل بأرجحهما ، وحيث إنّ الأرجح هو الترك كما يشهد عليه ترك الأئمّة عليهم‌السلام يلزم بطلان الصّوم ، والتالي فاسد حيث إنّه لا إشكال في صحّة الصّيام فلم تنحلّ مشكلة العبادات المكروهة بناءً على الامتناع ، وبهذا تثبت صحّة استدلال القائلين بالجواز بالعبادات المكروهة.

وقال في تهذيب الاصول : « إنّ النهي وإن تعلّق بنفس الصّوم ظاهراً إلاّ أنّه متعلّق في الواقع بنفس التشبّه ببني اميّة الحاصل بنفس الصّوم من دون أن يقصد التشبّه ، فالمأمور به هو ذات الصّوم والمنهي عنه التشبّه بهم ، ولما انطبق العنوان المنهي عنه عليه وكان ترك التشبّه أهمّ من الصّوم المستحبّ نهى عنه إرشاداً إلى ترك التشبّه » (٢).

أقول : إنّ لازم كلامه حلّ مشكلة العبادات المكروهة على مذاق القائلين بالجواز فقط مع أنّ المقصود في المقام حلّها بناءً على الامتناع فإنّ المفروض صحّتها مع كراهتها.

هذا كلّه في النقض الأوّل على القائلين بالامتناع من جانب القائلين بالجواز وهو النقض بالعبادات المكروهة وقد كان دليلاً شرعيّاً على الجواز.

الأمر الثاني : وهيهنا نقض ثانٍ أو دليل ثانٍ عرفي على الجواز وهو : أنّ أهل العرف يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعاً وعاصياً من وجهين ، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاصّ ثمّ خاطه في ذلك المكان فإنّا نقطع أنّه مطيع عاصٍ لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون في ذلك المكان.

__________________

(١) هامش أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٦٧.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣١٩ ، طبع مهر.

٥٤٧

وقد اورد عليه :

أوّلاً : بالمناقشة في المثال لأنّ المنهي عنه في المثال المذكور هو الكون في مكان خاصّ والمأمور به هو الخياطة ، وهما لا يتّحدان وجوداً بحيث كان الشيء الواحد خياطة وكوناً في مكان خاصّ ، بل الخياطة في ذلك المكان مع الكون فيه متلازمان وجوداً لا متّحدان كما في الصّلاة في الدار المغصوبة.

وثانياً : إنّا نمنع في المثال المذكور أنّ من خاط الثوب في المكان الخاصّ عدّ مطيعاً وعاصياً من وجهين بل هو إمّا مطيع إذا كان مناط الأمر أقوى ، أو عاصٍ إذا كان مناط النهي أقوى ، نعم إذا كان الواجب توصّلياً كما في المثال المذكور يحصل غرض المولى ولكنّه غير حصول الإطاعة فإنّ الحاصل في هذه الموارد إنّما هو الغرض لا الإطاعة والامتثال ، والأوّل لا يلازم الثاني ، وبعبارة اخرى : في باب التوصّليات تكون دائرة الغرض أوسع من دائرة الأمر.

أقول : إنّ ما غرّ المستدلّ في المقام إنّما هو المثال المزبور ، لأنّا إذا بدّلنا المثال بمثال آخر وهو ما إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن خياطته بخيط خاصّ ، أو أمره بتطهير ثوبه ونهاه عن تطهيره بماء خاصّ كما مثّل به المحقّق البروجردي رحمه‌الله فيما مرّ من كلامه فلا إشكال في أنّ أهل العرف لا يعدّونه في هذين المثالين مطيعاً وعاصياً معاً فيما إذا كان مناط النهي أقوى بل إنّه يعدّ عاصياً فقط ، مع أنّهما أيضاً من باب التوصّليات ، ولعلّه إشتبه الأمر من ناحية حصول الغرض دون حصول المأمور به.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه أنّ الحقّ هو القول بالامتناع وأنّ المهمّ في الدليل عليه هو الجمع بين الأمرين : تضادّ الأحكام الخمسة وسراية الأوامر والنواهي من العناوين إلى الخارج وأنّ العنوان إنّما أخذ في لسان الدليل لمجرّد الإشارة به إلى المعنون كما عرفت شرحه فيما سبق.

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : في الاضطرار إلى المحرّم

إذا اضطرّ الإنسان إلى ارتكاب الحرام كأن يضطرّ إلى غصب دار الغير فتارةً يضطرّ إليه لا

٥٤٨

بسوء الاختيار كالمحبوس في دار مغصوبة ، واخرى يضطرّ إليه بسوء الاختيار كمن دخل في الدار المغصوبة باختياره واضطرّ إلى الخروج للتخلّص من الحرام ، فيقع الكلام في مقامين : ما إذا اضطرّ إلى الحرام لا بسوء الاختيار وما إذا اضطرّ إليه بسوء الاختيار.

أمّا المقام الأوّل : فذهب جماعة إلى صحّة صلاته ما لم تستلزم تصرّفاً زائداً في الغصب مثل أن يأتي بها إيماءً ، بل قال بعضهم أنّه يجب عليه إتيان الصّلاة على نفس الكيفية التي كان عليها في أوّل الدخول ، فلو كان قائماً فقائماً ولو كان جالساً فجالساً بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة اخرى في غير الصّلاة أيضاً لما فيه من الحركة التي هي تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، ولكن لا يبعد كون ظاهر الفقهاء جواز صلاة المختار له كما استظهره صاحب الجواهر من كلماتهم ، كما أنّه بعد نقل القول المزبور ( أي وجوب إتيان الصّلاة على نفس الكيفية الأوّليّة ) قال : « إنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً بأشدّ ما عامله الظالم بل حبسه حبساً ما حبسه أحد لأحد ، اللهمّ إلاّ أن يكون في يوم القيامة مثله ... إلى أن قال : « وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائداً على ما يحتاج إليه ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك بل ينبغي أن تخصّ الحاجة في التي تتوقّف عليها حياته ونحوها ممّا ترجح على حرمة التصرّف في مال الغير ، وكلّ ذلك ناشٍ من عدم التأمّل في أوّل الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك ، أعاذ الله الفقه من هذه الخرافات » ( انتهى ) (١).

وعلى كلّ حال ، يرد عليه :

أوّلاً : أنّه لا فرق بين حال القيام وحال القعود ، أو حال السكون وحال الحركة مثلاً في مقدار ما يشغله من الحيّز والمكان فلا يتحيّز الإنسان حال القيام مكاناً أكثر من ما يتحيّزه حال القعود إلاّمن ناحية الطول والعرض ، وإن شئت قلت : إنّ الانتقال من حال إلى حال في المكان الغصبي لا يعدّ عرفاً تصرّفاً زائداً على أصل البقاء على الكون الأوّل.

ثانياً : أنّ لازم هذا القول سقوط الصّلاة عن الوجوب بناءً على عدم وجوب الصّلاة على فاقد الطهورين لأنّه لا إشكال في أنّ كلّ واحد من الوضوء والتيمّم يستلزم تصرّفاً زائداً بل تصرّفاً أزيد من ما يستلزمه الركوع أو السجود ولعلّه لم يقل به أحد من الفقهاء.

__________________

(١) راجع الجواهر : ج ٨ ، ص ٣٠٠.

٥٤٩

ومن هنا يظهر لزوم التأمّل في صلاة المختار في المكان المغصوب وفتوى الفقهاء بالبطلان فيه مع أنّها أيضاً لا تستلزم تصرّفاً زائداً على أصل الكون ، وبعبارة اخرى : إن لزمت الصّلاة تصرّفاً زائداً عند العرف وجب إتيانها إيماءً حتّى في صلاة المحبوس ، وإن لم تلزم تصرّفاً زائداً فلابدّ من الفتوى بجواز إتيان الصّلاة اختياراً حتّى للمختار أيضاً بناءً على عدم كون الاستقرار على الأرض من شرائط الصّلاة أو أجزائها وكونه عبارة عن الأذكار والهيئات الخاصّة مع أنّهم أفتوا ببطلانها فتأمّل ، وتمام الكلام في الفقه.

أمّا المقام الثاني : فالبحث فيه يقع في جهتين : الاولى : في حكم الخروج في نفسه ، والثانيّة : في حكم الصّلاة حين الخروج.

أمّا الجهة الاولى : ففيها خمسة أقوال :

القول الأوّل : أنّ الخروج واجب وحرام بأمر فعلي وبنهي فعلي ، ذهب إليه أبو هاشم ، واختاره المحقّق القمّي رحمه‌الله.

القول الثاني : أنّ الخروج واجب فعلاً وليس بحرام فعلاً ولكن يجري فيه حكم المعصية لأجل ما تعلّق به من النهي سابقاً الساقط فعلاً ، وذهب إليه صاحب الفصول.

القول الثالث : أنّه ليس محكوماً شرعاً بحكم لا الوجوب ولا الحرمة ولكنّه واجب عقلاً ( لكونه أقلّ المحذورين ، حيث إنّ التوقّف في المكان المغصوب يستلزم تصرّفاً أكثر ) ويجري عليه حكم المعصية من باب النهي السابق الساقط.

وقد أسند المحقّق النائيني رحمه‌الله هذا القول إلى المحقّق الخراساني رحمه‌الله مع أنّه يخالف ظاهر كلامه وإليك نصّه : « الحقّ إنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ولا يكاد يكون مأموراً به » فإنّه صرّح بكون الخروج منهياً عنه ، وهذا ظاهر بل صريح في كونه محكوماً بالحرمة شرعاً وفعلاً لكن لا بالنهي الفعلي بل بالنهي السابق ، أي يمكن أن تعدّ مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله وجهاً وقولاً سادساً في المسألة.

القول الرابع : أن يكون الخروج واجباً ولا يكون منهيّاً عنه ، وهو مختار شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله.

القول الخامس : ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ الخروج حرام بالنهي الفعلي وليس بواجب.

٥٥٠

أمّا القول الأوّل : فبطلانه واضح بناءً على الامنتاع ، لأنّه تكليف بما لا يطاق ، وأمّا بناءً على الجواز فكذلك لأنّ ما نحن فيه ليس من باب اجتماع الأمر والنهي لأنّ العنوان فيه واحد ، وهو عنوان الغصب الذي تعلّق به الحرمة ، وأمّا الخروج فإنّ وجوبه ـ لو سلّم ـ يكون من باب مقدّميته للكون في خارج المكان المغصوب ، وقد مرّ في مبحث مقدّمة الواجب أنّ الواجب هو ذات المقدّمة وهو التصرّف في أرض الغير بالخروج ( في ما نحن فيه ) لا عنوانها.

أضف إلى ذلك عدم وجود مندوحة في المقام ، ومعه لا يمكن الزجر عن الغصب حين الخروج لأنّه تكليف بما لا يطاق أيضاً ، ومجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار لا يوجب جواز هذا التكليف من جانب الشارع.

إن قلت : إنّ الاضطرار هنا مصداق للامتناع بالاختيار الذي لا ينافي الاختيار.

قلنا : أوّلاً : إنّ قاعدة « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » جارية في خصوص الأفعال الاختياريّة للإنسان في مبحث الجبر والاختيار في جواب القائلين بالجبر حيث قالوا : أنّ الإنسان مجبور في أفعاله لأنّها لا تخلو من أحد أمرين : فإمّا أن تكون علّتها التامّة في الخارج متحققة ، أولاً : فإن تحقّقت يجب تحقّق الفعل المعلول ويصير الفعل واجب الوجود بالغير ، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وإذا وجب تحقّقه فلا معنى لكونه اختياريّاً لأنّ الاختيار هو حالة « إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل » ، أي حالة الإمكان والتسوية بين الفعل والترك لا الوجوب والضرورة ، وإن لم تتحقّق العلّة التامّة فلا يتحقّق الفعل وجوباً وضرورة أيضاً ، لأنّ الشيء ما لم تتحقّق علّته التامّة وما لم يصل إلى حدّ الوجوب لا يمكن تحقّقه في الخارج ، فالانسان دائماً إمّا مجبور على الفعل أو مجبور على الترك.

فإنّ القاعدة المزبورة تجري في الجواب عن هذا الاستدلال ببيان أنّ حاجة المعلول في تحقّقه في الخارج إلى تحقّق علّته التامّة لا تنافي الاختيار ، لأنّ الجزء الأخير لها إنّما هو إرادة الإنسان ، فبإرادته واختياره الفعل أو الترك يجب الفعل أو الترك ، فهذا الوجوب أو ذاك الامتناع يكون مقارناً للاختيار وبالاختيار ، وهو لا ينافي الاختيار لإمكان تركه بترك إرادته بخلاف ، ما نحن فيه لأنّ المفروض إنّه مضطرّ إليه فعلاً ولا يمكن له تركه.

ثانياً : لو سلّمنا جريانها في غير المقام المزبور إلاّ أنّه لا يجري في ما نحن فيه أيضاً ، لأنّ النهي هنا لا يمكن صدوره من جانب الشارع لأجل زجر المكلّف بل إنّه يصدر لأجل العقاب فقط ،

٥٥١

لأنّ النهي لأجل الزجر مع وجود الأمر بالخروج عقلاً أو شرعاً يستلزم التكليف بما لا يطاق.

وإن شئت قلت : إنّ جريان القاعدة في ما نحن فيه لا يوجب جريان النهي تكليفاً وفعلاً بل يوجب ترتّب العقاب فقط ، وكم له في الشرع من نظير ، كما إذا أراق المكلّف الماء بعد دخول الوقت فصار فاقداً للماء بسوء اختياره فإنّ سوء الاختيار فيه يوجب تحقّق المعصيه وترتّب العقاب فقط ولا يوجب أن يكون أمر الشارع وبعثه إلى الوضوء فعليّاً بعد.

ولذا قال جماعة من الأكابر : إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً وتكليفاً.

وأمّا القول الثاني : وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول من أنّ الخروج واجب فعلاً مع جريان حكم المعصية عليه للنهي السابق الساقط ـ فهو الحقّ المختار لو كان مراده من جريان حكم المعصية وجود ملاك النهي في المتعلّق فقط ، وأمّا إذا كان المراد أن الخروج منهيّ عنه الآن بالنهي السابق ، أي أنّه مشمول للنهي السابق ويكون زمان تعلّق النهي مقدّماً على زمان متعلّقه فمضافاً إلى عدم كونه معقولاً كما سيأتي في بيان القول الثالث ، يرد عليه ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من « أنّ تعلّق الحكمين بفعل واحد ممتنع ولو كان زمان الإيجاب مغايراً لزمان التحريم لأنّ الاعتبار في الاستحالة والإمكان إنّما هو باتّحاد زمان صدور الفعل وتعدّده لا باتّحاد زمان الإيجاب والتحريم وتعدّده من حيث أنفسهما » (١).

أمّا القول الثالث : وهو خلو الفعل من أيّ حكم شرعي فعلي بل أنّه واجب عقلاً من باب أقلّ المحذورين مع جريان العقاب لأجل النهي السابق الساقط فيحتمل أن يكون المقصود من جريان حكم النهي السابق فيه مجرّد ترتّب العقاب فقط من دون كون الفعل منهيّاً عنه الآن بالنهي ، السابق وهذا هو مختار بعض الأعلام في هامش أجود التقريرات وقد أسنده المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى المحقّق الخراساني رحمه‌الله. ويحتمل أن يكون الفعل أيضاً منهيّاً عنه فعلاً لكن لا بالنهي الفعلي بل بالنهي السابق كما هو ظاهر ما مرّ من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، ولكن لا يخفى عدم كونه معقولاً لأنّه بعد سقوط النهي السابق عن الفعليّة لا يعقل كون متعلّقه منهيّاً عنه ، فعلاً فالصحيح في هذا الوجه هو الاحتمال الأوّل.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٥٥٢

وعلى أيّ حال : إنّ مرجع هذا القول إلى دعاوٍ ثلاثه : نفي الحرمة فعلاً لسقوط النهي فعلاً بحدوث الاضطرار ، ونفي الوجوب مقدّمة ( أي أنّ توقّف التخلّص عن الحرام على الخروج وانحصاره فيه لا يجدي في وجوبه من باب المقدّميّة ) لأنّه كان بسوء اختياره ، وجريان حكم المعصية عليه لأنّه كان منهياً عنه في السابق وقد عصاه بسوء اختياره فإنّه قبل الدخول في الأرض المغصوبة كان مكلّفاً بترك الغصب بجميع أنحائه من الدخول والخروج والبقاء جميعاً ، وقد عصى النهي بالنسبة إلى الخروج كما عصاه بالنسبة إلى الدخول فيستحقّ العقاب عليهما جميعاً.

ولكن يرد عليه : أنّ وجوبه الفعلي الشرعي ثابت بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع حيث لا إشكال في أنّ الخروج واجب عقلاً من باب أقلّ المحذورين ورعاية قانون الأهمّ والمهمّ ، فليكن كذلك شرعاً ، لأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

إن قلت : المستفاد من قوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ... ) عدم كون المضطرّ عاديّاً ولا باغياً ، ولازمه اشتراط جواز الفعل المنهي عنه أو وجوبه بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار.

قلنا : غاية ما يستفاد من هذه الآية اشتراط ترتّب العقاب بكونه باغياً أو عاديّاً لا أكثر.

أمّا القول الرابع : وهو كون الخروج واجباً وعدم كونه حراماً فيمكن أن يستدلّ له بأنّ ما نحن فيه داخل في كبرى قاعدة وجود ردّ المال المغصوب إلى مالكه من دون اتّصافه بالحرمة.

وفيه : أوّلاً إنّه يمكن أن نلتزم بترتّب العقاب على ردّ المال المغصوب أيضاً وإن كان واجباً عقلاً وشرعاً ، وذلك من باب كونه بسوء الاختيار فيكون نظير وجوب أكل الميتة للمضطرّ بسوء الاختيار حيث لا إشكال في أنّه يعاقب على أكلها مع وجوبه.

وثانياً : لقائل أن يقول : بعدم وجوب الخروج أيضاً ( فيكون الجزء الأوّل من هذا القول ـ وهو وجوب الخروج ـ أيضاً غير تامّ ) لأنّه متوقّف على كونه مقدّمة للكون في خارج الدار المغصوبة الذي يكون ضدّاً للكون في داخلها وعلى أن يكون ترك أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر ، ( بيان الملازمة أنّه إذا كان الكون في داخل الدار المغصوبة ضدّاً للكون في خارجها كان تركه مقدّمة له فيصير واجباً من باب المقدّميّة حيث إنّ المفروض أنّ الكون في خارج الدار المغصوبة واجب ) مع أنّه قد قرّر في محلّه في مبحث الضدّ ، أنّ الضدّين مثلاً متلازمان لا تقدّم لأحدهما على الآخر.

٥٥٣

ولكن الإيراد الثاني غير وارد لما مرّ في مبحث الضدّ أيضاً أنّه ربّما يعدّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر عند العرف والعقلاء مع عدم كونه مقدّمة له بالدقّة العقليّة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فيكون هذا القول بالنسبة إلى جزئه الأوّل ـ أي وجوب الخروج ـ تامّاً.

أمّا القول الخامس : وهو كون الخروج حراماً من دون أن يكون واجباً فاستدلّ لعدم وجوبه : بأنّه لم يدلّ دليل على وجوب الخروج من الأرض المغصوبة أو على وجوب التخلّص عن الغصب أو وجوب ردّ المال إلى صاحبه أو ترك التصرّف في مال الغير بعناوينها بأن يكون كلّ واحد من هذه العناوين موضوعاً لحكم الوجوب ، وما في بعض الرّوايات « المغصوب كلّه مردود » لا يدلّ على وجوب الردّ بعنوانه بل لمّا كان الغصب حراماً يردّ المغصوب تخلّصاً عن الحرام عقلاً ، نعم لو قلنا أنّ النهي عن الشيء مقتضٍ للأمر بضدّه العامّ وأنّ مقدّمة الواجب واجبة يمكن أن نقول بوجوب بعض العناوين المتقدّمة لأنّ التصرّف في مال الغير إذا كان حراماً يكون ترك التصرّف واجباً والخروج من الأرض المغصوبة مقدّمة لتركه لكنّه مبني على مقدّمتين ممنوعتين ، وأمّا كونه محرّماً بالفعل فاستدلّ له بما حاصله : أنّه كفاك له من الأدلّة ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه والسرّ في ذلك ما مرّ من أنّ الخطابات الكلّية القانونيّة تفارق الخطابات الشخصيّة ملاكاً وخطاباً ، لأنّ الخطاب القانوني لا ينحلّ بعدد المكلّفين حتّى يستهجن بالنسبة إلى الغافل والعاجز والمضطر والعاصي ونظائرهم بل انبعاث عدّة مختلفة من المكلّفين كافٍ في جعل الحكم الفعلي على عنوانه العام بلا إستثناء وإنّما العقل يحكم بأنّ لذي العذر عذره ( انتهى ) (١).

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : ما مرّ في الأبحاث السابقة من انحلال الأحكام القانونيّة الكلّية إلى خطابات جزئيّة بعدد المكلّفين ، وقد ذكرنا له شواهد مختلفة ، منها صدور بعض الأحكام على نهج العام الاستقرائي ، فإنّه يشهد على كون الخطاب حجّة على كلّ فرد فرد منهم ، ولازمه انحلاله إلى خطابات عديدة بعدد المكلّفين ، ولا فرق بين العموم الاستغراقي وغيره من هذه الناحية ، وهل يمكن القول بالانحلال في العموم الاستغراقي دون المطلق المستفاد منه العموم؟

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، طبع مهر.

٥٥٤

ثانياً : أنّ شمول الخطاب للمضطرّ مخالف لظاهر أدلّة إستثناء المضطرّ كقوله تعالى : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )(١) وما ورد في الخبر : « ما أمن شيء حرّمه الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه » حيث إنّ ظاهرهما بل صريحهما أنّ المضطرّ استثنى من حكم التحريم ، وأنّ الحرمة الفعليّة لم تجعل بالنسبة إليه لا أنّه معذور فقط.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الصحيح هو القول الثاني وهو وجوب الخروج فعلاً مع عدم حرمته فعلاً ومع جريان حكم المعصية عليه بالنهي السابق الساقط.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا الجهة الثاني : وهو حال الصّلاة حين الخروج وبعبارة اخرى : ثمرة بحث الخروج عن الأرض المغصوبة فقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه‌الله له صور أربعة :

الصورة الاولى : ما إذا قلنا بجواز الاجتماع ، وعليه لا إشكال في صحّة الصّلاة سواء كان الاضطرار بسوء الاختيار أو لم يكن.

الصورة الثانيّة : ما إذا قلنا بالامتناع وكان الاضطرار بغير سوء الاختيار فلا إشكال أيضاً في صحّة الصّلاة.

الصورة الثالثة : ما إذا قلنا بالامتناع وكان الدخول بسوء الاختيار وقلنا بوجوب الخروج من دون أن يكون حراماً ( كما أنّه هو مختار شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله ) وعليه لا إشكال أيضاً في صحّة الصّلاة.

الصورة الرابعة : ما إذا قلنا بالامتناع وكان الدخول بسوء الاختيار وقلنا بأنّ الخروج منهي عنه كما يكون مأموراً به ، ففي هذه الصورة لو قلنا بتقديم جانب النهي فلا إشكال في بطلان الصّلاة مطلقاً سواء كان في ضيق الوقت أو في سعته ، وأمّا إذا قلنا بتقديم جانب الأمر فالصحيح حينئذٍ التفصيل بين ما إذا كان في ضيق الوقت فلا إشكال في صحّة صلاته ، وما إذا كان في سعة الوقت فلا إشكال أيضاً في صحّة صلاته مع عدم وجود المندوحة وأمّا مع وجود المندوحة وإمكان إتيان الصّلاة في مكان آخر ، فصحّة الصّلاة وعدمها مبنيّتان على اقتضاء

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١١٩.

٥٥٥

الأمر بالشيء النهي عن ضدّه وعدمه حيث إنّ الأمر في هذه الصورة ( أي صورة وجود المندوحة ) متعلّق بالصّلاة في مكان آخر أي بسائر الأفراد منها لخلوّها عن المفسدة ، ولا إشكال في أنّ الصّلاة في خارج الغصب من أضداد الصّلاة في داخل الغصب ( لوجود المضادّة والمعاندة بينهما فإنّه مع وجود أحدهما لا مجال للآخر ) وحينئذٍ إن قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه تقع الصّلاة في الدار المغصوبة صحيحة وإن قلنا بالاقتضاء تقع الصّلاة باطلة لأنّها حينئذٍ تصير منهيّاً عنها وإن كان المفروض تقديم جانب الأمر حيث إنّ المفروض هو تقديم جانب الأمر على النهي الأصلي لا النهي التبعي المقدّمي.

أقول : ولكن مع ذلك كلّه يمكن المناقشة في هذه الثمرة من جهتين :

الجهة الاولى : أنّه إن كان المقصود من الصّلاة حين الخروج الصّلاة التامّة الأجزاء والشرائط من الركوع والسجود والاستقرار ونحوها فلا إشكال في عدم إمكان إتيانها مطلقاً ، لأنّ المفروض إتيانها حين الخروج وفي ضيق الوقت لا في سعة الوقت ( لأنّ مع سعة الوقت ومع إمكان إتيانها في خارج الدار المغصوبة تامّة للاجزاء والشرائط لا يجوز إتيان الصّلاة في داخل الدار ).

وإن كان المقصود من الصّلاة حين الخروج الصّلاة إيماءً فلا إشكال أيضاً في أنّها حينئذٍ لا توجب تصرّفاً زائداً في الغصب ، ولذا لم يتعلّق بها النهي فتقع الصّلاة صحيحة مطلقاً سواء قلنا بالامتناع أو قلنا بالجواز ، وسواء كان الاضطرار بسوء الاختيار أو بغير سوء الاختيار ، وحينئذٍ لا تختصّ صحّتها بحال دون حال وبصورة دون صورة من الصور الأربعة المزبورة.

الجهة الثانيّة : أنّ الغاصب قد يكون تائباً عن فعله وحينئذٍ إن قلنا بأنّ التوبة تزيل حكم المعصية وتوجب رفع الحرمة كما هو الحقّ في مثل ما نحن فيه فتقع صلاته صحيحة مطلقاً أيضاً من دون اختصاص الصحّة بصورة دون صورة حيث إنّ الحكم حينئذٍ هو الأمر بالصّلاة ولا نهي عنها حتّى يدخل المقام في باب الاجتماع فيبحث عن الصحّة وعدمها على الامتناع والجواز.

٥٥٦

التنبيه الثاني : في آثار باب التزاحم

قد ذكرنا سابقاً أنّ باب اجتماع الأمر والنهي داخل في باب التزاحم لا التعارض ، أي يكون كلّ واحد من الأمر والنهي تامّاً من ناحية الملاك واجتماع جميع شرائط الفعليّة ، وحينئذٍ لا بدّ من لحاظ أقوى الملاكين ( ولا حاجة إلى ملاحظة المرجّحات السندية والدلاليّة المعنونة في باب التعارض ) ويتفرّع على ذلك أمران :

أحدهما : أنّه إذا أحرز أقوى الملاكين يؤخذ به ويقدّم واجده على فاقده ويستكشف من هذا الطريق فعلية الحكم الذي يكون ملاكه أقوى ، وأمّا إذا لم يحرز الغالب منهما وكان الخطابان كلاهما بصدد بيان الحكم الفعلي ، أي كانا متعارضين في مقام الفعليّة وإن كانا متزاحمين من ناحية الملاك والاقتضاء فلا إشكال حينئذٍ في لزوم ملاحظة المرجّحات السنديّة والدلاليّة وتقديم الأقوى منهما دلالة أو سنداً على الآخر ، ويستكشف حينئذٍ من طريق الانّ أنّ ملاكه أقوى.

نعم حيث إنّ محلّ البحث في المقام إنّما هو باب اجتماع الأمر والنهي الذي تكون النسبة بين الدليلين فيه عامين من وجه يلاحظ فيه خصوص المرجّحات الدلاليّة ، وأمّا المرجّحات السنديّة فإنّها جارية في المتباينين فقط كما ذكر في محلّه.

ثانيهما : أنّ مقتضى كون المقام من باب التزاحم صحّة العمل للجاهل والناسي والمضطرّ حتّى إذا قلنا بتقديم جانب النهي ، لثبوت الملاك والمقتضي في كلا الحكمين ، فإذا لم يؤثّر مقتضى حرمة الغصب مثلاً لاضطرار أو جهل أو نسيان يؤثّر مقتضى وجوب الصّلاة فتقع الصّلاة صحيحة.

وهذا بخلاف باب التعارض لأنّ لازم تقديم النهي فيه على الأمر ثبوت الملاك في خصوص النهي وكون الأمر كاذباً وعدم كونه واجداً للملاك ومعه لا وجه لصحّة المأمور به.

وإن شئت قلت : ربّما يستفاد شرط من شرائط الصّلاة من اجتماع الأمر والنهي وتزاحمهما وامتناع اجتماعهما كإباحة مكان المصلّي التي لا دليل على اعتبارها في الصّلاة إلاّتزاحم الأمر بالصّلاة والنهي عن الغصب وعدم إمكان اجتماعهما بناءً على الامتناع ، فهي لا تستفاد لا من آية ولا من رواية ، بل الكاشف عنها إنّما هو تزاحم الأمر والنهي وامتناع اجتماعهما ( ولذلك لم يقل به أحد من فقهاء العامّة القائلين بجواز الاجتماع ) فلا إشكال حينئذٍ في سقوط هذا الشرط

٥٥٧

عن الشرطيّة في صورة الجهل والنسيان والاضطرار لعدم كون النهي في هذه الحالات فعليّاً ومعه لا يجتمع الأمر مع النهي حتّى يستفاد منه شرطيّة الإباحة ، واخرى يستفاد الشرط من دليل لفظي خاصّ فحينئذٍ مقتضى إطلاق الدليل شرطيه ذلك الشرط مطلقاً حتّى في حال الجهل والنسيان والاضطرار نظير شرطي القبلة والطهارة ونتيجته بطلان الصّلاة مع فقد أحدهما حتّى في تلك الحالات أيضاً.

التنبيه الثالث : في مرجّحات النهي على الأمر

قد مرّ سابقاً أنّ المتّبع في باب التزاحم إنّما هو الأهمّ من الملاكين ، فبناءً على القول بالامتناع في باب الاجتماع وفقد المندوحة حيث إنّ المقام يدخل في باب التزاحم فلابدّ من ملاحظة المرجّحات وكشف الأهمّ من الحكمين بالرجوع إلى لسان الأدلّة وملاحظة مذاق الشارع المقدّس في مجموع الأحكام ، فإن كان الترجيح مع الأمر كان الواجب العمل به وإتيان المأمور به ، وإن كان الترجيح مع النهي كان اللازم أيضاً العمل به وترك المنهي عنه ، فمثلاً يستفاد من أدلّة وجوب الصّلاة أنّ الصّلاة لا تترك بحال وإنّه لا بدّ من إتيانها في جميع الحالات ، ولازمه كونها أهمّ من الغصب ، فيقدّم الأمر على النهي ويؤتى بالصّلاة في الدار المغصوبة بجميع أجزائها إلاّ ما يكون له البدل كالركوع والسجود فيؤتى بهما إيماءً.

هذا ممّا لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال فيما إذا لم يمكن كشف الأهمّ من لسان الأدلّة الخاصّة فهل هناك ضابطة عامّة تدلّ على ترجيح الأمر أو النهي أو لا؟

قد يقال : إنّ الترجيح مع النهي مطلقاً إلاّما خرج بدليل خاصّ ، ويستدلّ له بوجوه عديدة :

الوجه الأوّل : ما هو ناظر إلى عالم الإثبات ، وهو أنّ أدلّة النهي على حرمة مورد الاجتماع شمولي ويكون بالعموم ، ودلالة الأمر على وجوبه بدلي ويكون بالاطلاق ، والعام الشمولي أقوى دلالة من العام البدلي ، لأنّ الأوّل يستفاد من اللفظ والعموم ، والثاني يستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، ولا إشكال في تقديم العموم على الإطلاق ووروده عليه لأنّ من مقدّمات الحكمة عدم البيان ، وعموم العام بيان.

٥٥٨

وقد أورد على صغرى هذا الوجه بأنّ عموم النهي أيضاً لا يكون إلاّبواسطة مقدّمات الحكمة الجارية في المتعلّق كمادّة الغصب ونحوها ، ولكنّه رحمه‌الله رجع عنه في ذيل كلامه بقوله « اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ لفظ الكلّ أو النهي أو النفي الداخل على الجنس بنفسه كافٍ في الدلالة على استيعاب تمام أفراد المدخول من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة في المتعلّق » (١).

أقول : الحقّ أنّ هذا الوجه لا يوجب ترجيحاً للنهي على الأمر ، لأنّ المقصود من عدم البيان في مقدّمات الحكمة ليس هو عدم البيان إلى الأبد حتّى يكون كلّ بيان وارداً ومقدّماً عليه ، بل المقصود هو عدم البيان في مقام التخاطب وفي زمان البيان ، فإذا لم يرد بيان في مقام البيان والتخاطب تمّت مقدّمات الحكمة وصار المطلق ظاهراً في العموم البدلي ، ولا فرق بينه وبين العام من حيث قوّة الدلالة وضعفها.

الوجه الثاني : ما هو ناظر إلى عالم الثبوت وهو أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة ، ولا إشكال في أنّ ترك المنهي عنه دفع للمفسدة ، والعمل بالمأمور به جلب للمنفعة.

وقد أورد عليه من جانب المحقّق القمّي رحمه‌الله صاحب القوانين بالمناقشة في الصغرى أيضاً بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا كان تعيينياً.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ ترك الواجب فوت للمصلحة دائماً ، وهو غير درك المفسدة.

أقول : هذا الوجه أيضاً غير تامّ صغرى وكبرى :

أمّا الصغرى فلأنّ الموارد مختلفة ، فتارةً يكون وجود الواجب مصداقاً لجلب المنفعة واخرى يكون تركه مصداقاً لذلك كالزّكاة فإنّ في تركها مفسدة جوع الفقراء وفقرهم الذي هو منشأ لمفاسد كثيرة فرديّة واجتماعيّة كما يرشدنا إليه ما ورد في لسان الحديث. « إنّ الناس ما جاعوا ولا افتقروا إلاّبذنوب الأغنياء ».

وأمّا الكبرى فلأنّها لا دليل عليها شرعاً ولا عقلاً ولا عقلائيّاً :

أمّا شرعاً فلأنّا نشاهد موارد كثيرة في لسان الشرع قدّم جلب المنفعة فيها على دفع المفسدة ، منها الجهاد الابتدائي فإنّه واجب مع استلزامه مضاراً شديدة كثيرة من الجراحات

__________________

(١) كفاية الاصول.

٥٥٩

وقطع النسل والحرث لأنّ جلب المصالح الموجودة فيه من طريق إيجابه ( وهي أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يظهر دينه تعالى على الدين كلّه ) أهمّ من دفع تلك المفاسد ، ونظير هذا المورد جميع الأحكام الشرعيّة التي يوجب إتيانها تحمّل رياضات شاقّة وأضرار بدنيّة وماليّة.

إن قلت : فما هو المقصود ممّا ورد في بعض الرّوايات من أنّ اجتناب السيّئات أولى من كسب الحسنات؟

قلنا : أنّ مضمون هذا القبيل من الرّوايات نفس مضمون ما ورد فيها أيضاً من أنّه « لا قربة للنوافل إذا أضرّت بالفرائض » فيكون موردها ما إذا لم تصل الحسنات إلى حدّ اللزوم ، ويشهد على هذا المعنى نفس هذه الموارد التي قدّم الشارع فيها جلب المنفعة على دفع المفسدة.

وأمّا عقلاً فلأنّ العقل ينظر إلى ميزان الأهمّية من دون فرق بين المصلحة والمفسدة ، فإن رأى أنّ درجة أهمّية المفسدة أكثر يقدّمها على المصلحة وإن رأى أنّ درجة أهميّة المنفعة أكثر يقدّمها على المفسدة ولا خصوصيّة عنده للمفسدة من حيث هي مفسدة.

وأمّا عقلائيّاً فلأنّا نشاهدهم أنّهم تارةً يقدّمون المفسدة على المصلحة واخرى بالعكس فيما إذا استهدفوا مصلحة عظيمة فإنّهم مثلاً في الصناعات والتجارات يصرفون ثروة عظيمة بعنوان رأس المال ويستقبلون المضارّ الكثيرة لمنافع هامّة محتملة ، ويمكن التمثيل لهذا أيضاً بعمليّة الجراحة في يومنا هذا الذي يوجب مضارّاً كثيرة ولكن فيه منافع أكثر منها.

وبالجملة أنّه ليس هناك قاعدة عامّة بعنوان أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة.

وأظنّ أنّ هذا القبيل من القضايا التي ظهرت في الألسن بشكل ضابطة كلّية كانت صادقة في الخارج بصورة قضيّة جزئيّة أو غالبية ثمّ جرت على نحو قاعدة كلّية نظير ما اشتهر بينهم أيضاً « أنّ الأقرب يمنع الأبعد » مع أنّ القضيّة في كثير من الموارد تكون بالعكس ، وهكذا في كثير من الأمثال المتداولة والجارية بين الخاصّ والعامّ.

ثمّ إنّه أورد على هذا الوجه أيضاً في المحاضرات : تارةً بأنّه على فرض تسليم كبريها ليس المقام من صغرياتها جزماً ، بداهة أنّه على القول بالامتناع ووحدة المجتمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة أو بالعكس ، فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيها ، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه ... وموضوع هذه القاعدة ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك ، ولا يتمكّن المكلّف من

٥٦٠