أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

( لأنّ اعتبار قيد المندوحة وعدمه أمر مربوط بمقام الامتثال والإثبات ، وهذان الأمران.

وبتعبير آخر : وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع وعدمه أمر مربوط بمقام الجعل والثبوت ) ، ثمّ قال في ذيل كلامه : نعم ـ بناءً على الجواز وعدم السراية ـ إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما لعدم تمكّن المكلّف وقتئذٍ من امتثال كليهما معاً فيكون تكليف المكلّف بامتثال كلا التكليفين معاً من التكليف بالمحال ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة ، فيقدّم أحدهما على الآخر لمرجّح أن كان ، وإلاّ فهو مخيّر بين أن يصرف قدرته في امتثال هذا وإن يصرف قدرته في امتثال ذاك ، فعدم المندوحة في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها كما هو ظاهر » (١).

أقول : إنّ روح كلامه يرجع إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام من أنّ محلّ البحث هو التكليف المحال لا التكليف بالمحال ، والنكتة المضافة في كلامه إنّما هو ما ذكره في الذيل من « أنّ عدم المندوحة يوجب دخول المسألة في باب التزاحم بناءً على الجواز لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها » ولكن الإنصاف أنّ هذا بنفسه اعتراف من جانبه باعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع لأنّه إذا لم تكن في البين مندوحة لا يمكن القول بجواز الاجتماع لأنّ من الواضحات وقوع التزاحم بين الحكمين ولزوم تقديم أحدهما على الآخر في فرض وجود مرجّح ، والتخيير بينهما في فرض عدم وجود المرجّح ، وهذا ما اعترف به المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضاً في ذيل كلامه بقوله : « نعم لا بدّ من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلاً لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً » حيث إنّ المعنون في عنوان المسألة إنّما هو جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليين ، ولا إشكال في عدم كون أحد الحكمين فعليّاً في صورة فقدان المندوحة ووقوع التزاحم ، لأنّه تكليف بالمحال ، فالحقّ اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع.

وأمّا القول بالتفصيل بين ما إذا كان الاجتماع بسوء الاختيار وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فسيأتي أنّه أيضاً خاطىء ، لأنّ المولى لا يكلّف بما لا يطاق سواء كان عدم الطاقة والقدرة بسوء اختيار المكلّف أو لم يكن.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

٥٢١

الأمر السابع : في ابتناء النزاع في هذه المسألة على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد وعدمه.

وفيه ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّه لا ربط بين المسألتين.

القول الثاني : القول بوجود الربط بينهما ببيانين :

أحدهما : أنّ النزاع في الجواز والامتناع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالافراد فلا محيص عن الامتناع ، ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي حينئذٍ.

ثانيهما : أنّ الجواز مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع لتعدّد متعلّق الأمر والنهي ذاتاً حينئذٍ وإن إتّحد وجوداً ، والقول بالامتناع على القول بتعلّق الأحكام بالافراد لاتّحاد متعلّق الحكمين حينئذٍ شخصاً وخارجاً.

القول الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وفي تهذيب الاصول من التفصيل بين التفاسير المتصوّرة في تلك المسألة وإنّ الابتناء موجود بناءً على بعض التفاسير وغير موجودة على بعضها الآخر وسيوافيك بيانه إن شاء الله تعالى.

أمّا القول الأوّل : فبيانه واضح ، لأنّ القائل به يدّعي أنّ النزاع في المقام يرتكز على أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ من دون فرق بين أن يتعلّق الأحكام بالطبائع أو بالافراد ، لأنّه إذا تعلّق الحكم بالفرد فالبرغم من كونه واحداً في بدو النظر ولكنّه إذا كان له عنوانان وقلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون يصير المتعلّق متعدّداً فيقع النزاع في جواز الاجتماع وامتناعه.

وأمّا القول بالتفصيل فقال المحقّق النائيني رحمه‌الله ما حاصله : أنّ النزاع في تلك المسألة إن كان مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه فلا تبتني على ذلك مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي بل إنّ للبحث عن المسألة مجالاً سواء قلنا بوجود الكلّي الطبيعي أو لم نقل ، غايته أنّه بناءً على عدم وجود الطبيعي يكون المتعلّق للأحكام هو منشأ الانتزاع ، ويجري فيه ما يجري على القول بوجود الطبيعي من كون الجهة تقييديّة أو تعليلية وأنّ التركيب اتّحادي أو انضمامي ، لوضوح أنّ انتزاع الصّلاة لا بدّ أن يكون لجهة غير جهة انتزاع الغصب ، ولكن يبعد أن يكون النزاع

٥٢٢

هناك مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه ، إذ الظاهر أنّ من يقول بتعلّق الأحكام بالافراد لا ينكر وجود الطبيعي ، بل الذي يمكن أن يكون محلّ النزاع على وجه يرجع إلى أمر معقول هو أن يكون النزاع في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي ، أي خصوصيّة ما بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً ، فالقائل بتعلّق الأحكام بالافراد يدّعي السراية والتبعيّة والقائل بتعلّق الأحكام بالطبائع يدّعي عدم السراية ، فلو كان النزاع هناك على هذا الوجه فألحق أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي تبتني على ذلك » (١).

هذا هو إجمال ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ، وأمّا في تهذيب الاصول فقد ذكر لمسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد تفاسير ستّة ، وقال بعدم وجود الربط بين المسألتين بناءً على اثنين منها ، ووجود الربط بينهما بناءً على الأربعة الاخرى (٢). وتشابه مقالته مقالة المحقّق النائيني رحمه‌الله من بعض الجهات فلا بأس بتركها.

أقول : الصحيح هو التفصيل المزبور ، لأنّه بناءً على التفسير الأوّل ( وهو كون النزاع في تلك المسألة مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه ) وإن كانت الأحكام تتعلّق بالافراد ( التي هي منشأ لانتزاع الكلّي الطبيعي ) ولكنّها تتعلّق بها مجرّدة عن الخصوصيّات الفرديّة في الخارج ، فيمكن حينئذٍ أن يكون الفرد معنوناً بعنوانين ويصحّ النزاع في جواز الاجتماع وعدمه ، فلا تبتني مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي على مسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد ، لأنّه حتّى بناءً على تعلّقها بالافراد أيضاً يتصوّر جواز الاجتماع كما يتصوّر امتناعه ، فيتصوّر جريان النزاع في الجواز وعدمه على كلا القولين.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني ( وهو كون النزاع في تلك المسألة في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات بحيث تكون الخصوصيّة أيضاً داخلة تحت الطلب ) فالربط بين المسألتين واضح ، فيصحّ النزاع بناءً على تعلّقها بالطبائع ولا إشكال فيه ، ولا يصحّ بناءً على تعلّقها بالافراد بل من الواضح حينئذٍ القول بالامتناع لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ الأحكام تعلّقت بالخصوصّيات والتشخّصات الفرديّة أيضاً ، وهي لا يمكن أن تصير مجمعاً لعنوانين.

إن قلت : بناءً على القول بتعلّق الأوامر بالافراد ولحاظ الخصوصيّات الفرديّة إنّما تلاحظ

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٤١٦ ـ ٤١٧.

(٢) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٨١ ـ ٣٨٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥٢٣

الخصوصيّات التكوينيّة الخارجيّة فحسب نظير خصوصيّة الكمّ والكيف والزمان والمكان لا الخصوصيّات الاعتباريّة التشريعيّة نظير خصوصيّة الإباحة والغصب ، وحينئذٍ يمكن الجمع بين الأمر بالصّلاة في الدار المغصوبة والنهي عن الغصب لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ خصوصيّة الغصب ليست داخلة تحت الطلب.

قلنا : المهمّ في المقام أنّ الحركة الخارجيّة المقيّدة بهذا المكان وذاك الزمان ( وهو أمر تكويني ) صارت مطلوبة ومحبوبة بتعلّق الأمر الصلاتي بها ، فكيف تصير نفس تلك الحركة مبغوضة بتعلّق النهي بها؟ وبعبارة اخرى : حركة خاصّة واحدة تكوينيّة صارت متعلّقة حينئذٍ للأمر والنهي معاً ، وهو المراد من المستحيل في المقام.

إن قلت : لا إشكال في أنّ الخصوصيّات الفرديّة في جانب الأمر بناءً على تعلّق الأوامر بالافراد تكون مطلوبة على نحو التخيير ، ولازمه أن تصير خصوصيّة الغصب المنهي عنها تعييناً مطلوبة للمولى في مورد اجتماع العنوانين تخييراً ، ولا منافاة بين الأمر التخييري والنهي التعييني.

قلنا : قد مرّ أنّه لا فرق في امتناع الاجتماع بين أن يكون الأمر والنهي كلاهما تعيينيين أو تخييريين أو كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً ، أي أنّ الامتناع يتصوّر في التخييريين فضلاً عن ما إذا كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً.

إن قلت : بناءً على تعلّق الأمر بالافراد تكون الخصوصيّات أيضاً مطلوبة ولكن تبعاً لا استقلالاً ، لأنّ الأمر بالطبيعة ـ كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ يسري إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي أي خصوصيّة ما ، بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً.

وبعبارة اخرى : إنّه يسري إلى الخصوصيّات من باب أنّ وجود المأمور به في الخارج لا يكون منفكّاً عنها ، وهذا بخلاف النهي فإنّه يتعلّق بخصوصيّة الغصب أصالةً واستقلالاً ، ولا منافاة بين الأمر التبعي والنهي الأصلي الاستقلالي.

قلنا : إنّ الأمر والنهي لا يجتمعان في خصوصيّة واحدة سواء كانا أصليين أو تبعيين أو مختلفين ، لأنّه على أيّ حال تصير الخصوصيّة مطلوبة للمولى فعلاً ، والمطلوبيّة الفعليّة لا تجتمع مع المبغوضيّة الفعليّة من أيّ منشأ نشأت المطلوبيّة.

ولكن والإنصاف أنّه مع ذلك كلّه يمكن أن يقال أنّه لا ربط بين المسألتين مطلقاً ، لأنّه بناءً

٥٢٤

على تعلّق الأوامر بالافراد وتعلّقها بالخصوصّيات الفرديّة كخصوصيّة الغصب يمكن للقائل بجواز الاجتماع أن يدّعي أنّ الحركة الخاصّة في الدار المغصوبة معنونة بعنوانين ، وتعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، وحينئذ يمكن جواز الاجتماع كما يمكن امتناعه ، فيصحّ النزاع في الجواز والامتناع.

وإن شئت قلت : الموجود في الخارج هو الحركة الخاصّة الواقعة في دار الغير ، وأمّا المبغوضيّة أو عدمها فهي من باب الأحكام ، وكذلك عنوان الغصب فإنّه أمر انتزاعي ذهني أو اعتباري ، ومن الواضح أنّ الحركة الخاصّة تكون محلّ الانطباق لعنوان الغصب والصّلاة ، فتدبّر.

الأمر الثامن : في اعتبار وجود الملاكين في المجمع

يعتبر في باب الاجتماع أن يكون كلّ واحد من الأمر والنهي واجداً للملاك والمناط ، فلو كان كلّ من المناطين موجوداً في المجمع فهو من باب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وحينئذٍ يكون المجمع محكوماً بكلا الحكمين بناءً على مبنى الجواز ، ويدخل في باب التزاحم بناءً على الامتناع ، وأمّا إذا كان أحد المناطين فقط موجوداً فيه دون الآخر ، أو لم يوجد شيء من المناطين فهو محكوم بحكم آخر ولا يكون من باب الاجتماع.

والمراد من وجود الملاكين كما سيأتي أعمّ من وجود المصلحة أو كونه جامعاً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن المزاحمة.

هذا بحسب مقام الثبوت ، وأمّا مقام الإثبات : فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله فيه أنّه تارةً : يحرز أنّ المناط من قبيل الثاني ، بمعنى أنّ أحد المناطين بلا تعيين موجود فيه دون الآخر ، وفي هذه الصورة الدليلان الدالاّن على الحكمين متعارضان بالنسبة إلى المجمع على كلّ من الجواز والامتناع ، ولا بدّ من علاج المعارضة حينئذٍ بينهما بالترجيح أو التخيير ، واخرى : يحرز أنّ المناط من قبيل الأوّل ، بمعنى أنّ كلاً من المناطين موجود في المجمع ، وفي هذه الصورة يكون الدليلان متزاحمين بالنسبة إلى المجمع ، فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً لكونه أقوى مناطاً ، ولكن التزاحم إنّما هو على الامتناع وإلاّ فعلى الجواز لا تعارض ولا تزاحم أصلاً ، لعدم التنافي بينهما باعتقاد المجوّز ، فيعتبر في دخول المجمع في باب الاجتماع عنده وجود الملاكين فيه.

٥٢٥

ولكن قد أنكر عليه جماعة من أعاظم المتأخّرين فلم يعتبروا هذا الشرط ونحن ننقل هنا بعض كلماتهم في المقام :

قال في المحاضرات ما حاصله : إنّ النزاع في مسألتنا هذه لا يرتكز على وجهة نظر مذهب الاماميّة القائلين بتبعيّة الأحكام للملاكات الواقعيّة والجهات النفس الأمريّة ، بل يعمّ وجهة نظر جميع المذاهب حتّى مذهب الأشعري المنكر للتبعيّة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى أنّ النزاع في المسألة في سراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته ، والقول بالسراية يبتني على أحد الأمرين : الأوّل أن يكون المجمع واحداً وجوداً وماهيّة ، الثاني أن لا يختلف اللازم عن الملزوم في الحكم ، بمعنى أنّ الحكم الثابت له لا يسري إلى لازمه ، وبانتفاء أحدهما ينتفي هذا القول ، ولا إشكال أنّ هذه المسألة أجنبية عن مسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد (١).

وقال في تهذيب الاصول بما يكون في الواقع كتكملة لبيان المحاضرات حيث قال : « التحقيق عدم ابتناء النزاع في المقام على إحراز المناط في متعلّقي الإيجاب والتحريم ، أمّا على القول بأنّ النزاع صغروي والبحث راجع إلى أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا فواضح ، لأنّ اشتمالهما على المناط وعدمه لا دخل له في أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا ، وأمّا على ما حرّرناه من أنّ النزاع كبروي وأنّ البحث في أنّ الأمر والنهي هل يجوز اجتماعهما في عنوانين متصادقين على واحد أو لا ، فالأمر أوضح لأنّ إحراز المناط ليس دخيلاً في الإمكان وعدمه بل لا بدّ من أخذ القيود التي لها دخل تامّ في إثبات الإمكان والامتناع » (٢).

أقول : الحقّ هو اعتبار ما اعتبره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من وجود الملاكين في المجمع ، حيث إنّ مراده من وجود الملاك إنّما هو كون كلّ واحد من الدليلين تامّ الاقتضاء بالنسبة إلى المجمع ، أي لم يكن لفعليته في المجمع أي نقصان ، وبعبارة اخرى : يكون كلّ واحد من الحكمين ـ مع قطع النظر عن اجتماعهما فعلاً ـ واجداً لجميع شرائط الفعليّة ، ولا إشكال في أنّ النزاع في باب الاجتماع إنّما هو في جواز اجتماع الحكمين الفعليين لا غير.

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣٨٢ ـ ٣٨٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥٢٦

إن قلت : من شرائط الفعليّة إباحة مكان المصلّي مثلاً في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة ، ومع وجود هذا الشرط لا معنى للاجتماع.

قلنا : المقصود من شرائط الفعليّة إنّما هي ما يكون شرطاً مع قطع النظر عن هذه المسألة ولا دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي كذلك ( أي مع قطع النظر عن مسألة اجتماع الأمر والنهي ) من آية أو رواية أو إجماع يكون حجّة.

الأمر التاسع : في بيان ما يحرز به المناطان في المجمع

لا إشكال في أنّه بحث صغروي بالنسبة إلى سابقه ، فنقول : يمكن إحراز الملاك وكشف المناط من طرق ثلاثة :

الطريق الأول : الإجماع كما إذا قام الإجماع على عدم إستثناء مورد من موارد الغصب وأنّه حرام حتّى بالنسبة إلى مكان المصلّي ، كما أنّه كذلك ، حيث إنّه لا دليل لفظيّاً على اعتبار إباحة مكان المصلّي بل الإجماع قام على عدم الإستثناء في حرمة الغصب ، وهذا لا ينافي ما مرّ في الأمر السابق من عدم وجود دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي من آية أو رواية أو إجماع ، فإنّ الكلام هنا في عموم دليل الغصب لا في اشتراط الصّلاة بعدمه.

الطريق الثاني : إطلاق الدليلين ، وفيه تفصيل من المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الإطلاقين إن كانا لبيان الحكم الاقتضائي فهما محرزان للملاكين في المجمع ، وإن كانا بصدد بيان الحكمين الفعليين فإن قلنا بجواز الاجتماع فهما أيضاً محرزان لهما لعدم التنافي بينهما ، وإن قلنا بالامتناع فالإطلاقان متنافيان ، أي متعارضان فيسقط كلاهما عن الفعليّة ، فلا يثبت بهما المناطان جميعاً حيث إنّ عدم الفعليّة كما يحتمل أن يكون لوجود المانع مع وجود المقتضي يحتمل أيضاً أن يكون لعدم المقتضي فلا يحرز حينئذٍ المناط ، لكنّه رجع عنه أخيراً بقوله « إلاّ أنّ قضيّة التوفيق بينهما هو حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي » فجعل عدم تلائمهما في مقام الفعليّة قرينة على أنّ كليهما في مقام بيان الحكم الاقتضائي فيثبت بهما المناطان في هذه الصورة أيضاً.

أقول : إنّ مقصوده من اقتضائيّة الحكم ما مرّ في الأمر السابق من حال الحكم مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع ، أي يكشف الحكم عن المناط والملاك إذا جمع فيه جميع شرائط

٥٢٧

الفعليّة وكان اقتضائه تامّاً مع قطع النظر عن حال الاجتماع ، وإلاّ لو كان ناظراً إلى حال الاجتماع أيضاً لزم التفصيل بين القول بالامتناع والقول بالجواز واختصاص كشف المناطين بمبنى القائلين بالجواز فقط كما لا يخفى.

وبهذا يردّ ما أورد عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله ( وتبعه في المحاضرات ) « بأنّ الحكم قبل وجود موضوعه خارجاً يكون إنشائيّاً ثابتاً لموضوعه المقدّر وجوده وبعد وجود موضوعه خارجاً يستحيل أن لا يكون فعلياً فكون الحكم في محلّ الاجتماع فعليّاً مرّة واقتضائيّاً مرّة اخرى غير معقول » (١).

فإنّ مقصود المحقّق الخراساني رحمه‌الله من الاقتضاء ليس هو مرحلة الإنشاء من الحكم بل المراد كما مرّ كون كلّ واحد من الحكمين واجداً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع وعدم كون أحدهما كذباً فاقداً للملاك.

وإن شئت قلت : إنّ مقصوده من كون الإطلاق في مقام بيان الحكم الاقتضائي كونه في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي مع قطع النظر من طروّ الطوارىء من المزاحمات وغيرها ، كما أنّ مقصوده من كونه في مقام بيان الحكم الفعلي كونه بصدد بيان حكم الطبيعة مع طروّ الطوارىء.

الطريق الثالث : الاصول العمليّة فيما إذا لم يكن إطلاق للدليلين حيث إنّ الأصل الجاري حينئذٍ إنّما هو البراءة عن اشتراط إباحة المكان في الصّلاة ولازمه عدم نقصان للدليل بالنسبة إلى المجمع من ناحية جامعيته للشرائط.

إن قلت : أكثر ما يثبت بأصالة البراءة هو كون المكلّف معذوراً ولا يكشف به الملاك والمصلحة.

قلنا : ليس المراد من المناط الذي إشترط وجوده في المجمع خصوص المصلحة بل هو أعمّ منها ومن كون كلّ واحد من الأمر والنهي جامعاً لشرائط التنجيز وتامّ الاقتضاء ، وهذا يحصل بعد جريان البراءة ، مضافاً إلى أنّ المصلحة أيضاً موجودة هنا بناءً على بعض المباني وهو مبنى القائلين بالمصلحة السلوكيّة أي وجود المصلحة في سلوك المكلّف على وفق أصالة البراءة.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٤٦.

٥٢٨

الأمر العاشر : في ثمرة بحث الاجتماع

وقد ذكر لها المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية خمسة صور :

الصورة الاولى : ما إذا قلنا بالجواز ، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ الإتيان بالمجمع يوجب سقوط الأمر وحصول الامتثال سواء كان العمل تعبّديّاً أو توصّلياً وسواء كان الفاعل عالماً أو جاهلاً ، نعم إتيان العالم عصيان للنهي.

الصورة الثانيّة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب الأمر ، فلا إشكال أيضاً في وقوع الامتثال بالنسبة إلى الأمر والعصيان بالنسبة إلى النهي.

الصورة الثالثة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الواجب توصّلياً فيكون العمل حينئذٍ صحيحاً مع حصول العصيان كغسل ثوبه بالماء الغصبي للصّلاة.

الصورة الرابعة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الواجب تعبّديّاً مع كون الفاعل جاهلاً معذوراً كالجاهل في الموضوعات مطلقاً لعدم وجود الفحص فيها وكالجاهل القاصر في الحكم ، ففي هذه الصورة يقع العمل أيضاً صحيحاً لأنّه لا فعليّة للنهي بالنسبة إلى الجاهل المعذور.

إن قلت : لا فعلية للأمر أيضاً بالنسبة إلى الجاهل لأنّ المفروض هو الامتناع وترجيح جانب النهي.

قلنا : المفروض أيضاً وجود الملاك لكلّ من الأمر والنهي ، ولا إشكال في أنّ قصد الملاك كقصد الأمر كافٍ في صحّة العمل ، كما أنّه يكفي قصد الأمر المتعلّق بطبيعة المأمور به الموجودة ضمن سائر الأفراد غير المجمع.

الصورة الخامسة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الفعل تعبّديّاً والفاعل مقصّراً ، ففي هذه الصورة يقع العمل باطلاً لأنّه مع تقصيره لا يحصل التقرّب بالعمل ، ومعه لا يكاد يحصل به الغرض المطلوب من العبادة. ( انتهى ).

أقول : يمكن أن يقال بفساد العمل في الصورة الاولى أيضاً لأنّه وإن كان العنوان متعدّداً ، وبتعدّده تعدّد المعنون على مبنى الجواز ولكن لا حسن للعمل العبادي فعلاً ولا فاعلاً إذا انطبق عليه عنوان محرّم ، ومعه لا يحصل التقرّب ولا يسقط الأمر.

أمّا عدم حسنه الفعلي فلأنّ المفروض أنّ العنوانين ـ وهما عنوان الصّلاة وعنوان الغصب ـ

٥٢٩

متلازمان في المجمع كمال الملازمة ، فتسري مبغوضيّة أحدهما إلى الآخر عند العرف والعقلاء ، فلا يمكن التقرّب به ، بل هذا ثابت حتّى في بعض المقارنات الخارجيّة ، وهذا ما ندركه بوجداننا العرفي العقلائي فيمن يعصي الله بسمعه أو لسانه في مجلس الذكر أو مجلس إقامة العزاء لأبي عبدالله عليه‌السلام فنحكم بعدم كون عمله مقرّباً إلى الله وأنّه لا يمكن له أن يقول : « إنّي أتقرّب بهذا العمل إلى الله » ولذلك قلنا في محلّه ببطلان الصّلاة إذا تقارنت مع المعاصي الكبيرة التي يحكم العرف بعدم كونها مقرّبة إلى الله في ذلك الحال حتّى على مبنى جواز الاجتماع بحسب حكم العقل ، فإنّ الدقّة العقليّة غير كافية في هذه المباحث ، وسيأتي من المحقّق البروجردي رحمه‌الله ضمن بيان أدلّة المجوّزين أنّ المبعّد لا يكون مقرّباً فانتظر.

وللمحقّق النائيني رحمه‌الله في هذا المجال بيان لبطلان الصّلاة فيما إذا كان المكلّف عالماً بالحرمة على القول بالجواز ( أي نفس الصورة الاولى في المسألة ) وحاصله على حكاية تلميذه المحقّق في المحاضرات : إنّ منشأ اعتبار القدرة في التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، والوجه في ذلك هو أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه كان جعل الداعي للمكلّف نحو الفعل فمن الواضح أنّ هذا بنفسه يقتضي كون متعلّقه مقدوراً ، ضرورة استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلاً وشرعاً ، ونتيجة ذلك هي أنّ متعلّقه حصّة خاصّة من الطبيعة ـ وهي الحصّة المقدورة عقلاً وشرعاً وهي الصّلاة في غير المكان المغصوب ، وأمّا الصّلاة في المكان المغصوب فهي خارجة عن متعلّقه ولا تكون مصداقاً للمأمور به وفرداً له فإنّها وإن لم تكن متّحدة مع الحرام في الخارج إلاّ أنّها ملازمة له خارجاً ، فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعاً وإن كانت مقدورة عقلاً ، والمفروض أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي فلا يمكن الحكم بصحّة العبادة في مورد الاجتماع بناءً على القول بالجواز وتغاير متعلّق الأمر والنهي فضلاً عن غيره (١). ( انتهى ).

وهذا الكلام يرجع إلى ما ذكرنا من بعض الجهات.

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ص ٢١٧ ـ ٢١٨.

٥٣٠

الأمر الحادي عشر : في توقّف النزاع في باب الاجتماع على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد وعدمه

والحقّ في هذه المقدّمة ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله من عدم التوقّف ، لأنّ النزاع في ما نحن فيه مرتكز على تضادّ الأحكام وعدمه أوّلاً ، وعلى أنّ التركيب في مورد الاجتماع انضمامي أو اتّحادي ثانياً ، فمن قال بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين في مورد الاجتماع تعليليتان وأنّ التركيب اتّحادي ذهب إلى امتناع الاجتماع وإن إلتزم بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد كالأشعري ، كما أنّ من لم يقل بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين تقييديتان وأنّ التركيب انضمامي ذهب إلى جواز الاجتماع ولو كان ممّن يلتزم بتبعيتها لها (١).

الأقوال في المسألة

إلى هنا تمّ ما أردنا ذكره من المقدّمات.

إذا عرفت هذا فلنشرع في نقل الأقوال في المسألة فنقول : المهمّ فيها قولان : القول بالامتناع مطلقاً ، والقول بالجواز مطلقاً ، والأوّل منسوب إلى المشهور ولكن المحقّق البروجردي رحمه‌الله قد أنكر هذه النسبة بدعوى أنّها نشأت من قول المشهور بفساد الصّلاة في الدار الغصبي مع أنّه لا يكشف عن كونهم قائلين بالامتناع لأنّ القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مقام توجّه الخطاب لا يستلزم القول بالصحّة في مقام الامتثال حتّى يقال إنّ كلّ من قال بعدم الصحّة في مقام الامتثال قال بالامتناع في مقام الخطاب بل يمكن أن يقال ببطلان الصّلاة لأنّ المبعّد ليس مقرّباً ( كما هو المختار ) وإن كان المبنى في المسألة الاصوليّة هو الجواز نعم ، مع الجهل أو النسيان يقع العمل صحيحاً لعدم ابتلائه في الحالين بما هو مبغوض وإن قلنا بالامتناع (٢).

وكيف كان ، فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله على الامتناع بما يتشكّل من مقدّمات أربع :

المقدمة الاولى : أنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة وهي مقام البعث والزجر ، وإن لم يكن بينها تضادّ في مقام الاقتضاء والإنشاء.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٢) راجع حاشيته على كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

٥٣١

المقدمة الثانية : أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف الخارجي لا ما هو اسمه وعنوانه لأنّ الأحكام إنّما تتعلّق بحقيقة الشيء وواقعه وما يترتّب عليه الخواص والآثار ، والاسم والعنوان إنّما يؤخذ في لسان الدليل لأجل الإشارة بهما إلى المسمّى والمعنون.

المقدمة الثالثة : أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ولا تنثلم وحدة المعنون ، بتعدّد العنوان والشاهد على ذلك صدق الصفات المتعدّدة على الواجب تبارك وتعالى مثل كونه حيّاً عالماً قادراً إلى غير ذلك من الصفات مع أنّه واحد أحد بسيط من جميع الجهات ، فإذا كانت الصفات المتعدّدة تصدق على الواحد البسيط من جميع الجهات ولا ينافي ذلك وحدته وعدم تعدّده ، فكذلك تصدق على غيره ممّا ليس كذلك بطريق أولى.

المقدمة الرابعة : أنّه لا يكاد يكون لوجود واحد إلاّماهية واحدة ويستحيل تغاير الوجود وماهيته في الوحدة والتعدّد ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقاً الأمر والنهي إلاّ أنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهية وذاتاً ، فلا فرق في امتناع الاجتماع بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية ، كما أنّ العنوانين المتصادقين على المجمع ليسا من قبيل الجنس والفصل كي يبتني الجواز والامتناع على تمايزهما وعدمه.

ثمّ استنتج من هذه المقدّمات امتناع الاجتماع وقال : إذا عرفت ما مهّدناه عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً كان تعلّق الأمر والنهي به محالاً ، ثمّ أشار إلى بعض أدلّة المجوّزين ثمّ أجاب عنه ونحن نذكره هنا تحت عنوان « إن قلت ، قلت » بمزيد توضيح :

إن قلت : إنّ الأمر قد تعلّق بطبيعة الصّلاة والنهي بطبيعة الغصب ، والطبيعة بما هي هي وإن لم تكن متعلّقة للطلب ، ولكنّها بما هي مقيّدة بالوجود ( بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلاً ) تكون متعلّقة للطلب ولازمه أن لا يكون المتعلّق واحداً لا في مقام تعلّق البعث والزجر ، وذلك لتعدّد الطلبيتين بما هما متعلّقان لهما وإن إتّحدتا في ما هو خارج عن الطلب وهو الوجود ، ولا في مقام الإطاعة والعصيان وذلك لسقوط أحدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان ، ولا إشكال في أنّ الإطاعة تحصل بطبيعة والعصيان يحصل بطبيعة اخرى ، ومعه ففي أي مقام اجتماع الحكمان في واحدِ؟

قلنا : إنّ الطبيعتين المتعلّقتين للأمر والنهي كعنواني الصّلاة والغصب إنّما يؤخذان في لسان الدليل للإشارة بهما إلى المعنون ، والمعنون هو أمر واحد لا يتعدّد بتعدّد العنوان.

٥٣٢

إن قلت : إنّ الأمر متعلّق بطبيعة الصّلاة ، والنهي متعلّق بطبيعة الغصب ، والمجمع فرد لهما ، والفرد مقدّمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه ، فتكون الحرمة أو الوجوب المترشّح عليه من جانب الطبيعة وجوباً أو حرمة مقدّميّة غيريّة ، ولا ضير في كون المقدّمة مضافاً إلى وجوبها الغيري حراماً غيريّاً في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار.

قلنا : إنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج ، وليس مقدّمة للطبيعي ، وعليه فإذا تعلّق الأمر والنهي بالطبيعتين فقد تعلّقا بالمجمع. ( انتهى ).

أقول : لا حاجة إلى المقدّمة الرابعة مع وجود المقدّمة الثالثة ، لأنّه مع كون المتعلّق هو المعنون الخارجي وكون المعنون هو الوجود لا الماهية فالمهمّ حينئذٍ في إثبات الامتناع إنّما هو كون الوجود في المجمع واحداً ، ولا أثر فيه لوحدة ماهيته وتعدّدها ، هذا أوّلاً.

وثانياً : إنّ البحث عن أصالة الماهية أو الوجود وعن وحدة الماهية وتعدّدها إنّما يتصوّر في الماهيات المتأصّلة الخارجيّة بينما العناوين المبحوث عنها في المقام ماهيات اعتباريّة انتزاعيّة.

وثالثاً : لا حاجة إلى المقدّمة الثالثة أيضاً لوضوحها بعد ملاحظة العناوين الانتزاعيّة لأنّ من الواضح أنّ تعدّد أمر انتزاعي ذهني لا يوجب تعدّد منشأ الانتزاع في الخارج.

فظهر أنّ العمدة في كلامه إنّما هي المقدّمتان الأوّليان ، وقد أورد المحقّق البروجردي رحمه‌الله في حاشيته على الكفاية على أوّليهما بأنّ « الأحكام ليست من مقولة الاعراض كما يلوح من كلام المصنّف بل إنّما تكون من مقولة الإضافات ، والشاهد على ذلك أنّ الحكم يوجد قبل وجود متعلّقه ، بل لا يمكن تعلّقه به بعد وجوده للزوم تحصيل الحاصل كما برهن في محلّه ، لأنّ العرض لا يوجد قبل وجود معروضه بخلاف ما يكون من مقولة الإضافة فإنّه لا يحتاج إلى وجود طرفها حين انتزاعه ، بل إنّما يحتاج تعلّقه إلى تعقّل طرفها كالعلم والقدرة ، فإنّهما وإن كانا بالإضافة إلى العالم والقادر من مقولة العرض ، ويحتاج وجود كلّ منهما إلى وجود معروضة إلاّ أنّهما بالإضافة إلى المعلوم والمقدور كانا من مقولة الإضافة ، وكذلك الحكم والطلب فإنّه وإن كان بالإضافة إلى الحاكم والطالب من مقولة العرض ويحتاج وجوده إلى وجوده لقيامه بالطالب قياماً صدوريّاً إلاّ أنّه بالإضافة إلى المطلوب من مقولة الإضافة ، ولا يحتاج تعلّقه به إلى وجوده ، نعم إنّما يحتاج تعقّله إلى تعقّله ... وعليه ففي مورد تصاديق العنوانين يمكن تعلّق أحد الحكمين به بعد فرض تعلّق الآخر به ، لأنّه حينئذٍ إنّما يتعلّق بالطبائع لا بما هو موجود في

٥٣٣

الخارج وصادر عن المكلّف ، فيصحّ أن يكون المجمع مأموراً به لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المأمور به ، ومنهياً عنه أيضاً لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المنهي عنه.

ومن ذلك كلّه ظهر لك أيضاً منع المقدّمة الثانيّة فإنّ الالتزام بأنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما يصدر عنه في الخارج وموجوداً فيه إنّما يبتني على القول بأنّ الأحكام اعراض لا إضافات فإنّها على هذا المبنى تحتاج في تحقّقها إلى وجود المعروض وتحقّق الموضوع ، وأمّا على القول بأنّها إضافات فلا يحتاج إلى وجود الموضوع ، وإذا عرفت أنّ متعلّق الحكم التحريمي غير ما يكون متعلّقاً للحكم الوجوبي حتّى في مورد التصادق والاجتماع فالقول بالجواز أقوى كما لا يخفى .... ( إلى أن قال : ) وإنّا إذا راجعنا إلى وجداننا في الأوامر التوصيلية والعرفيّة ونواهيها نرى الوجدان يحكم بجواز الاجتماع باعتبار إجماع ملاكهما في مورد واحد فيما إذا أمر المولى عبده بغسل ثوبه مثلاً ونهاه عن التصرّف في ملك الغير فغسله بسوء اختياره بماء مملوك للغير ـ يحكم الوجدان بأنّ العبد أتى بالمأمور به والمنهي عنه معاً ، هذا مع أنّ النزاع في التوصّليات والتعبّديات سواء كما لا يخفى ». ( انتهى ) (١).

أقول : الأولى في إثبات عدم وجود التضادّ بين الأحكام أن يقال : إنّ الأحكام امور اعتباريّة وهي ممّا لا تضادّ فيها لإمكان إنشاء امور مختلفة واعتبارها فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة كما لا يخفى ، نعم إنّه لا يتصوّر صدوره من الشارع الحكيم من باب اللغويّة ، ولعلّ هذا هو مراد من قال بتضادّ الأحكام الخمسة ، أي أنّه أيضاً يقول به من حيث المبادىء والغايات وأنّ الإرادة والكراهة أعني الحبّ والبغض لا يجتمعان في نفس المولى بالإضافة إلى شيء واحد ـ وإن اجتمعت في ذلك الشيء جهات تقتضي الحبّ والإرادة وجهات اخرى تقتضي البغض والكراهة لأنّه بعد الكسر والانكسار وترجيح أحد الجانبين ينقدح أحدهما في نفس المولى فيوجب البعث أو الزجر.

هذا بحسب المبادىء ، وكذلك بحسب الغايات ومقام الامتثال فلا يمكن للمولى أن يقول للعبد : « تحرّك » وفي نفس الوقت يقول : « لا تتحرّك » فإنّ الامتثال حركة خاصّة خارجيّة من حيث الزمان والمكان والكمّ والكيف وسائر الخصوصيّات ولا يمكن امتثال تكليفين في آنٍ واحد.

__________________

(١) راجع حاشيته على الكفاية : ج ١ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٩.

٥٣٤

ونحن نظنّ أنّ هذا هو مراد القائلين بتضادّ الأحكام الخمسة كما يشهد بذلك تعبيرهم بأنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة ، والحاصل أنّها وإن لم تكن متضادّة بنفسها ولكن تترتّب عليها آثار التضادّ ، ومن هنا يعلم وجه الإشكال في كلام سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه‌الله ، وسيأتي الإشكال في ما أورده على المقدّمة الثانيّة عند توضيح المذهب المختار.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قال في ذيل كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعد إيراده على المقدّمة الثالثة ما نصّه : « القول بالامتناع يبتني على كون الجهتين اللتين لا بدّ منهما في صدق المفهومين على المجمع تعليليتين ليكون التركيب اتّحاديّاً فيستحيل الاجتماع ، كما أنّ القول بالجواز يبتني على كون الجهتين تقييديتين والتركيب انضمامياً فإنّه على ذلك لا يلزم محذور اجتماع الضدّين في شيء واحد ... ( إلى أن أثبت ) كون التركيب في المجمع انضمامياً لا اتّحاديّاً ، وعليه فلا مانع من كون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه إذ المستحيل إنّما هو توارد الأمر والنهي على محلّ واحد ، وبعد إثبات أنّ التركيب انضمامي يكون متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر لا محالة ، فيكون أحدهما متّصفاً بالوجوب محضاً والآخر متّصفاً بالحرمة كذلك ... ( إلى أن قال : ) ولا يفرق فيما ذكرناه من كون التركيب انضمامياً بين القول بأنّ المطلوب في الصّلاة هي الهيئة الخاصّة من الركوع والسجود والقيام لتكون المقدّمات من الهوي والنهوض خارجة عن حيّز الطلب والقول بأنّ المطلوب هي الأفعال الخاصّة إمّا مطلقاً أو بعضها كالركوع والسجود ليكون الهوي إليهما مقدّماً للمأمور به ، وذلك لأنّ المأمور به على كلا التقديرين من مقولة الوضع وأمّا الغصب فهو من مقولة الأين ، ويستحيل اتّحاد المقولتين في الخارج ، فلا مناص عن كون التركيب بينهما في محلّ الاجتماع انضمامياً » (١).

أقول : في كلامه أيضاً مواقع للنظر.

الموقع الأوّل : أنّه خارج عن محلّ النزاع لأنّ النزاع في عنوانين صادقين على محلّ واحد ، مع أنّ لازم كلامه إمّا عدم إمكان صدق العنوانين على موضوع واحد في الخارج ، أو أنّ ما يتصوّر واحداً يكون في الواقع متعدّداً وبه لا تحلّ المسألة الاصوليّة بل إنّما يرتفع الإشكال في

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٥.

٥٣٥

مسألة فقهيّة وهي الصّلاة في الدار المغصوبة.

الموقع الثاني : ليس الركوع والسجود من مقولة الوضع بل من مقولة الفعل ، لأنّ الركوع ليس عبارة عن مجرّد الانحناء بل التحقيق أنّ الهويّ من حالة القيام أيضاً جزء للركوع كما أنّ الوقوع على الأرض أيضاً جزء للسجود ( ولذلك يجب على الساجد إذا سمع آية السجدة أن يرفع رأسه من الأرض ثمّ يضعه ثانياً بنيّة سجدة الآية ، ولا يكفي مجرّد الاستمرار والإبقاء في السجدة الاولى ) ولا إشكال في أنّ الهويّ أو الوقوع من مقولة الفعل.

مضافاً إلى أنّ التعبير الصحيح في المقام هو حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، وهو غير عنوان الغصب ، لأنّه لا يعتبر في الغصب التصرّف الخارجي في المال المغصوب بل إنّه صادق حتّى فيما إذا أخذ مفتاح دار الغير مثلاً من دون التصرّف الخارجي كما أنّ الركوب على مركب الغير مع كون لجامه بيد الغير تصرّف في مال الغير ولا يكون غصباً ، فالمهمّ في ما نحن فيه هو اجتماع الصّلاة مع التصرّف في مال الغير بغير إذنه وإن لم يصدق عليه عنوان الغصب ، ولا يخفى أنّ عنوان التصرّف من مقولة الفعل لا الأين.

الموقع الثالث : أنّ المبحوث عنه في كلامه من تعدّد مقولة الصّلاة والغصب بحث موضوعي مصداقي في خصوص مصداق الصّلاة في الدار المغصوبة وليس مسألة اجتماع الأمر والنهي على نحو كلّي.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول بالامتناع.

وأمّا القول بالجواز فحاصل ما استدلّ به في تهذيب الاصول ( الذي يرجع في الحقيقة إلى المقدّمة الثانيّة من المقدّمات الأربعة لصاحب الكفاية وطريق لانكارها ) : أنّ القول بالجواز يبتني على أربع مقدّمات :

أوّلها : أنّ الحكم يمتنع أن يتجاوز من متعلّقه إلى مقارناته الاتفاقيّة ولوازمه الوجوديّة ، واستدلّ له بقياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة.

ثانيها : أنّ حقيقة الإطلاق هي حذف القيود ورفضها لا أخذها.

ثالثها : أنّ اتّحاد الماهية اللا بشرط مع الف شرط في الوجود الخارجي لا يلزم منه حكاية المعروض عن عارضه إذا كان خارجاً من ذاتها ولاحقاً بها لأنّ حكاية اللفظ دائرة مدار الوضع منوطة بالعلقة الاعتباريّة وهو منتف في المقام.

٥٣٦

رابعها : ( وهو العمدة والحجر الأساس لإثبات الجواز ) أنّ متعلّق الأحكام هو الطبيعة اللابشرط المنسلخة عن كافّة العوارض واللواحق ، لا الوجود الخارجي أو الإيجاد بالحمل الشائع لأنّ تعلّق الحكم بالوجود لا يمكن إلاّفي ظرف تحقّقه ، والبعث إلى إيجاد الموجود بعث إلى تحصيل الحاصل ، وقسّ عليه الزجر لأنّ الزجر عمّا تحقّق خارجاً أمر ممتنع ، ولا الوجود الذهني الموجود في ذهن الآمر لأنّه بقيد كونه في الذهن لا ينطبق على الخارج ، بل متعلّق الأحكام هو نفس الطبيعة غير المقيّدة بأحد الوجودين.

ثمّ قال : إذا عرفت ما رتّبناه من المقدّمات يظهر لك أنّ الحقّ هو جواز الاجتماع ( انتهى ملخّصاً ) (١).

أقول : وعمدة ما يرد عليه ما مرّ كراراً من أنّ البعث والطلب وهكذا الزجر والكراهة يتعلّق بالخارج من طريق العنوان ، أي إن العنوان قنطرة للعبور بها إلى الخارج فإنّ متعلّق الكراهة وتنفّر المولى في قوله « لا تشرب الخمر » إنّما هو الخمر الخارجي لا الخمر الذهني ولا الطبيعة من حيث هي هي ، فإنّ الوجود الخارجي مبدأ الآثار ومنشأ المصالح والمفاسد ، وقد عرفت أنّه بمعناه المصدري ليس تحصيلاً للحاصل ، نعم أنّه كذلك بمعناه اسم المصدري.

والحاصل أنّ المفاهيم الذهنيّة لا أثر لها وكذا الطبيعة لا بشرط ما لم يلبس لباس الوجود ، فلا تكون متعلّقة للحبّ والبغض والأمر والنهي إلاّمن باب الإشارة إلى الخارج ، وليس البحث بحثاً لفظيّاً وأنّ معنى الهيئة ماذا؟ والمتعلّق ماذا؟ كما يلوح من بعض كلماته.

وأمّا مسألة الجاهل المركّب فإنّها من قبيل الخطأ في التطبيق ولا ينافي كون متعلّق الحبّ أو البغض هو الخارج ، وسيأتي توضيحه في بيان المختار في المسألة فانتظر.

هذا كلّه في أدلّة الطرفين.

المختار في المسألة :

أمّا الحقّ والمختار في المسألة فهو امتناع الاجتماع ، وهو مبني على أمرين :

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٩١ ـ ٣٩٤ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥٣٧

أحدهما : أنّ الأحكام التكليفية متضادّة لكن لا بذواتها لأنّها اعتباريّة من هذه الجهة ، والاعتبار كما مرّ خفيف المؤونة ، بل من حيث المبادىء ، أي الكراهة والمحبّة في نفس المولى ، ومن حيث الغايات ومقام الامتثال ، أي مقام الإتيان والعصيان.

ثانيهما : أنّ متعلّق الأحكام هو الخارج لكن من طريق الصور والمفاهيم الذهنيّة ، فإنّ وزانها وزان العلم الحصولي ، فكما أنّ متعلّقه والمعلوم فيه إنّما هو الخارج لكن بواسطة الصور الذهنيّة لعدم إمكان حلول الخارج في الذهن ، كذلك الأحكام في الإخباريات والإنشائيات ، فإنّها من قبيل العلم الحصولي تتعلّق بالخارج ويكون موضوعها هو الخارج لكن بواسطة العناوين المتصوّرة في الذهن ومن طريق استخدام تلك العناوين ، فالحكم بأنّ الشمس موجودة مثلاً تعلّق بالشمس المتصوّر في الذهن ابتداءً ولكن لينتقل منه إلى الخارج.

إن قلت : إنّ هذا ينتقض بالجاهل المركّب فيما إذا رأى سراباً مثلاً بتوهّم أنّه الماء ، لأنّه لا إشكال في أنّ متعلّق حبّه وطلبه في قوله « ايتني الماء » حينئذٍ إنّما هو الصورة الذهنيّة من الماء لا الماء الخارجي لأنّه معدوم في الخارج على الفرض.

قلنا : إنّ مطلوب الجاهل المركّب ومحبوبه أيضاً هو الماء الخارجي وإنّما الخطأ في التطبيق ، نظير من حكم بإخراج إنسان من داره بتوهّم أنّه عدوّه وليس عدوّاً في الواقع ، فلا إشكال في أنّ بغضه وكراهته متعلّق بالعدوّ الخارجي أو السارق الخارجي ، ولكنّه خطأ في التطبيق ، فإنّ في ما نحن فيه أيضاً قد تعلّق الحبّ والطلب حقيقة وفي الواقع بالماء الذي يكون منشأ للأثر ويوجب رفع العطش ، وهذا أمر بديهي ، فهو طالب للماء الخارجي ولكنه طلب الصورة الذهنيّة بتوهّم أنّه ماء خارجي وإلاّ لا شكّ في أنّه لا يطلب السراب قطعاً.

إن قلت : المعروف في باب العلم الحصولي أنّ المعلوم بالذات إنّما هو الصور الذهنيّة ، وأمّا الخارج فهو معلوم بالعرض وبتبع الصور الذهنيّة ، فليكن المحبوب بالذات أيضاً في ما نحن فيه هو الصورة الذهنيّة.

قلنا : إنّ المراد من المعلوم بالذات هو ما حضر في الذهن ، ولا شكّ أنّ الحاضر في الذهن هو الصور الذهنيّة ، وأمّا الخارج فلا يحضر في الذهن بذاته ، ولكن الآثار المختلفة إنّما تترتّب على الخارج لا على الصور الذهنيّة ، فالعقرب أو السبع الذي يخاف منه الإنسان إنّما هو الخارجي منه فإنّه منشأ للضرر والخطر لا الصورة الذهنيّة منه ، وفي موارد الجهل المركّب يكون الخوف

٥٣٨

من باب الخطأ في التطبيق كما عرفت ، وكذا الحبّ والبغض والإرادة والكراهة إنّما يتعلّقان بالوجودات الخارجيّة من طريق الصور الذهنيّة فهي مشيرة إليها وطريقة لها.

هذا كلّه هو البحث في الكبرى ( أي كبرى جواز الاجتماع وامتناعه ).

وهيهنا بحث صغروي في الصغريات المطروحة في الفقه من باب أنّها مصاديق لتلك الكبرى كالصلاه في الدار المغصوبة أو في ثوب مغصوب ، وكالوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة والتيمّم على تراب مغصوب ، فهل هي في الواقع صغريات لتلك الكبرى ومصاديق لذلك الكلّي ، أو لا؟

الحقّ هو التفصيل بين الموارد ، أمّا في مثل الوضوء والغسل بالماء المغصوب والتيمّم على التراب المغصوب فلا إشكال في أنّ الحركة العباديّة فيها متّحدة مع التصرّف في ملك الغير فينطبق على نفس ما ينطبق عليه الوضوء والغسل عنوان التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، وهكذا في التيمّم بناءً على كون ضرب اليد على الأرض أيضاً جزءً للتيمّم.

وأمّا في الصّلاة في الدار المغصوبة فلا إشكال في أنّ بعض أجزائها كالنيّة والأذكار والقراءات ليست متّحدة مع عنوان الغصب عرفاً وإن كان إيجاد الموج في الهواء بالذكر متّحداً مع نوع من التصرّف عقلاً ، إنّما الكلام في بعض الأجزاء الاخر كالركوع والسجود ، فإن قلنا بأنّ الهويّ إلى الركوع والسجود والنهوض عنهما جزء لهما كما أنّه كذلك وقد قرّر في محلّه أو قلنا باعتبار الاعتماد على الأرض في صدق السجدة فلا إشكال في أنّ الصّلاة متّحدة مع الغصب فتكون من صغريات تلك الكبرى ، أمّا بالنسبة إلى الهويّ والنهوض فالأمر واضح لأنّهما جزء للركوع والسجود على الفرض ، فتكون الصّلاة حينئذٍ متّحدة مع الغصب في الخارج ومصداقاً له ، وأمّا بالنسبة إلى الاعتماد على الأرض فلأنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم السجدة ولا يكفي في صدقها مجرّد مماسّة الجبهة على الأرض وحينئذٍ تتّحد الصّلاة أيضاً مع عنوان الغصب من دون فرق بين أن يكون ما يصحّ عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئاً آخر ، فتصير الصّلاة حينئذٍ أيضاً من صغريات تلك الكبرى.

نعم إلاّ أن يأتي بها إيماءً كصلاة النافلة على المركب المغصوب وكالصّلاة على الميّت في الدار المغصوبة حيث إنّ في الاولى لا يكون جزءً من أجزاء الصّلاة متّحداً مع الغصب عرفاً لعدم كون الايماء تصرّفاً وهو واضح ، وكذلك في الثانيّة لأنّ الاعتماد على الأرض ليس معتبراً في

٥٣٩

صدق القيام ، ولذا لو أتى بالصّلاة على الميّت معلّقاً على الهواء يصدق القيام وتصّح الصّلاة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ العبادات على ثلاثة أقسام : ففي قسم منها تكون الأجزاء بأسرها غير النيّة متّحدة مع عنوان الغصب كما في الوضوء والغسل مع الماء المغصوب ، وفي قسم آخر لا تكون الأجزاء بتمامها متّحدة مع الغصب كالصّلاة إيماءً والصّلاة على الميّت ، وفي قسم ثالث يكون بعض الأجزاء متّحداً كصلاة المختار ، فالصحيح في المقام التفصيل بين الموارد كما قلنا.

بقي هنا شيئان :

أحدهما : ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ الصّلاة من مقولة الوضع وأنّ الغصب من مقولة الأين ، فلا اتّحاد بينهما فلا تكون الصّلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك الكبرى مطلقاً ، وقد مرّت المناقشة فيه أيضاً.

ثانيهما : ما أفاده في المحاضرات من أنّ الصّلاة ليست حقيقة مستقلّة ومقولة برأسها في قبال بقيّة المقولات بل هي مركّبة من مقولات عديدة : منها الكيف المسموع كالقراءة والأذكار ، ومنها الكيف النفساني كالقصد والنيّة ، ومنها الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد ، فإذن ليست للصّلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار ، وأمّا الغصب فهو ممكن الانطباق على المقولات المتعدّدة ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتّحاد المقولتين واندراجها تحت حقيقة واحدة ... إلى أن قال : ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الصّلاة لا تتّحد مع الغصب خارجاً لا من ناحية النيّة ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما ولا من ناحية الركوع والسجود والقيام والقعود ... إلى أن قال ما حاصله : وأمّا الهويّ إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى القيام والجلوس فهما من مقدّمات الصّلاة لا من أجزائها ، بقي في المقام شيء وهو الاعتماد على أرض الغير ، فالظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرّد مماسّة الجبهة الأرض بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها ، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على أرض الغير نحو تصرّف فيها ، فلا يجوز ، وعليه فتتّحد الصّلاة المأمور بها مع

٥٤٠