أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

المقصد الثّاني :

النواهي

ويقع البحث فيها في فصول عديدة

٥٠١
٥٠٢

الفصل الأوّل

في دلالات صيغة النهي

وفيه جهات من البحث :

الجهة الاولى : في حقيقة النهي ومدلول صيغته

المعروف بين القدماء وكثير من المتأخّرين أنّ مفاد النهي متّحد مع مفاد الأمر في دلالة كليهما على الطلب ، إنّما الفرق في متعلّقهما ، فمتعلّق النهي هو الترك ، ومتعلّق الأمر هو الفعل ، وقد ذهب إليه جماعة من المتأخّرين أيضاً منهم المحقّق النائيني رحمه‌الله ، ولكن ذهب جماعة اخرى من المحقّقين المعاصرين إلى العكس ، فمتعلّق الأمر والنهي عندهم واحد وهو الفعل ، ومدلولهما مختلف ، فمدلول النهي هو الزجر عن الفعل ، ومدلول الأمر هو البعث إلى الفعل ، وهذا هو المختار ، ومختار تهذيب الاصول واختاره أيضاً بعض الأعلام في المحاضرات وفي هامش أجود التقريرات.

ويمكن أن يستدلّ له :

أوّلاً : بالتبادر فإنّ المتبادر من هيئة « لا تفعل » هو الزجر والمنع عن الفعل لا طلب تركه.

وإن شئت قلت : النهي التشريعي كالنهي التكويني فكما أنّ الناهي عن فعل تكويناً وخارجاً يمنع المنهي ويزجره عن الفعل بيده مثلاً لا أنّه يطلب تركه ـ كذلك الناهي تشريعاً.

ثانياً : إنّ النواهي لا تصدر من جانب الناهي إلاّلوجود مفاسد في الأفعال المنهي عنهاكما أنّ الأوامر تصدر من جانب الآمر لأجل مصالح موجودة في الأفعال المأمور بها ، فالنهي عن شرب الخمر لا يكون إلاّلأجل مفسدة فيه ، كما أنّ الأمر بالصّلاة لا يكون إلاّلأجل مصلحة موجودة في الصّلاة ، لا أنّ النهي عن شرب الخمر يكون لأجل مصلحة في تركه حتّى يكون

٥٠٣

النهي طلباً للترك ، ( والتعبير بأنّ عدم المفسدة بنفسه مصلحة تعبير تسامحي ) كما أنّ الأمر بالصّلاة لا يكون لأجل مفسدة في ترك الصّلاة.

واستدلّ في تهذيب الاصول بوجه ثالث وهو « أنّ العدم والترك من الامور الباطلة الوهمية لا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلّق به اشتياق وإرادة أو بعث وتحريك ، إذ البطلان المحض لا يترتّب عليه أثر حتّى يقع مورد التصديق بالفائدة ، وقد عرفت أنّ ما هو المشهور من أنّ للاعدام المضافة حظّاً من الوجود ممّا لا أصل له إذ الوجود لملكاتها لا لاعدامها » (١).

ولكن الإنصاف أنّه مجرّد دقّة عقليّة ، فإنّ العدم لو سلّمنا كونه بطلاناً محضاً بنظر فلسفي عقلي ، إلاّ أنّ الكلام في الأوامر والنواهي العرفيّة العقلائيّة ، ولا يبعد أن يطلب مولى عرفي من عبده عدم شيء أو ينهاه عنه ، كما أنّه كثيراً مّا يتّفق أنّ الطبيب يطلب من المريض ترك أكل غذاء خاصّ أو ترك شرب مائع خاصّ كالماء البارد.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ النهي من الإنشائيات لا الإخباريات حيث إنّه وضع لانشاء الزجر وليس بمعنى « زجرت » ، كما أنّ الأمر أيضاً وضع لانشاء البعث وليس بمعنى « بعثت ».

هذا ـ وقد وقع بين القائلين بأنّ معنى النهي طلب الترك نزاع معروف ، وهو أنّه ما المراد من الترك؟ فهل هو عبارة عن « أن لا يفعل » ، أو يكون بمعنى الكفّ ذهب المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله إلى الأوّل ، ويمكن أن يستدلّ له بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّه هو المتبادر إلى الذهن.

الوجه الثاني : أنّ الترك أمر عدمي ، وهو يحصل بمجرّد ترك الفعل ، والتكليف بالكفّ تكليف بأمر وجودي زائد على مطلق الترك فيحتاج إلى مؤونة زائدة من الدليل وهي مفقودة.

والقائلون بأنّ المراد من الترك هو الكفّ استدلّوا بأنّ مجرّد « أن لا يفعل » عدم خارج عن تحت القدرة والاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به البعث والطلب ، والشاهد على ذلك أزليّة العدم بمعنى أنّه كان قبل أن يكون المكلّف موجوداً.

واجيب عنه : بأنّه إذا كان وجود شيء تحت القدرة والاختيار كان عدمه أيضاً كذلك لاستحالة الانفكاك بين وجود شيء وعدمه من هذه الجهة ، فإنّ الجبر في جانب العدم يستلزم

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٧٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥٠٤

الجبر في جانب الوجود وهذا خلف ، وأمّا كون العدم خارجاً عن تحت الاختيار من الأزل فهو لا ينافي اختياريته من حيث البقاء والاستمرار.

نعم بقي هنا شيء وهو أنّه من البعيد جدّاً أن يكون مراد القائلين بالكفّ الكفّ الفعلي فإنّه يستلزم حصول وسوسة وتزلزل نفساني بالنسبه إلى إتيان العمل المنهي عنه حتّى يتحقّق كفّ النفس عنه خارجاً ، مع أنّه ممّا لا يتفوّه به أحد ، بل المراد منه الكفّ التقديري وبالقوّة ، ولا إشكال في أنّه يرجع حينئذٍ إلى المعنى الأوّل للترك أعني « أن لا يفعل » فيصير النزاع لفظيّاً.

وهيهنا نكتة اخرى : أنّ هذا البحث يجري بعينه أيضاً بالنسبة إلى المذهب المختار ، أي كون النهي بمعنى الزجر عن الفعل حيث إنّه لا بدّ من أن يبحث في أنّه هل المراد من الزجر الزجر بالفعل أو الزجر التقديري وبالقوّة ، لا إشكال في أنّ المراد منه أيضاً هو الزجر بالقوّة ، لأنّه لا معنى للزجر الفعلي بالنسبة إلى من يكون منزجراً بنفسه.

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً آخر معروفاً ، وهو أنّه كيف يدلّ النهي على وجوب ترك جميع الأفراد العرضيّة مع كفاية تحقّق صرف الوجود للامتثال في الأمر؟ فما هو منشأ هذا الفرق؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله وكثير من المتقدّمين إلى أنّه حكم العقل بلحاظ خصوصيّة في الأمر الوجودي والأمر العدمي ، وإليك نصّ كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته ( صيغة النهي ) على الدوام والتكرار كما لا دلالة لصيغة الأمر وإن كان قضيّتهما عقلاً تختلف ...

( إلى أن قال ) ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلاّبعدم الجميع » ( انتهى ).

لكن الإنصاف أنّه في غير محلّه ، لأنّ الوجود والعدم متقابلان تقابل النقيضين وأنّ أحدهما بديل للآخر ولازمه ، أن يحصل العدم بفرد واحد كما يحصل الوجود بفرد واحد.

وبعبارة اخرى : كما أنّ وجود الطبيعي يكون بوجود أفراده فيتعدّد وجوده بتعدّد أفراده ، كذلك عدم الطبيعي ينعدم بتعداد اعدام أفراده ، فإنّ العدم يتصوّر بتعداد وجودات الأفراد ويكون بإزاء كلّ وجود عدم خاصّ.

فالصحيح أن يقال : إنّ المنشأ لهذا التفاوت يتلخّص في أمرين :

الأمر الأوّل : اختلاف طبيعة المصلحة وطبيعة المفسدة اللتين هما الغايتان الأصليتان في البعث والزجر ، فإنّ المصلحة بمقتضى طبيعتها وذاتها تحصل بصرف الوجود ، أي تحصل الغاية

٥٠٥

منها بصرف الوجود ، من دون فرق بين الامور الشرعيّة والامور العرفيّة ، وأمّا المفسدة فلا يكفي فيها صرف الترك حيث إنّها موجودة في كلّ فرد فرد من أفراد الطبيعة المنهي عنها ، وبالطبع تحصل الغاية من النهي بترك جميع الأفراد كالمفسدة الموجودة في السمّ حيث إنّ الغاية في النهي عن شربه إنّما هو حفظ النفس وهو متوقّف على ترك جميع الأفراد كما لا يخفى ، وحيث إنّ هذه الخصوصيّة هي الغالبيّة في المصالح والمفاسد حصل من جانبها انصراف في الأوامر والنواهي ، فإنصرف الأمر إلى فرد واحد وانصرف النهي إلى جميع الأفراد.

الأمر الثاني : أنّ المفاسد في النواهي تتصوّر على ثلاثة أقسام : ففي قسم منها ـ وهو الغالب ـ يكون صرف العدم من المفسدة حاصلاً فيكون النهي عنها ( لتحقّق صرف العدم منها ) تحصيلاً للحاصل ، ويصير هذا قرينة على تعلّق النهي بجميع الأفراد على نهج العام الافرادي ، نظير ما إذا نذر الإنسان أن يترك التدخين إلى آخر عمره ، فإنّ لكلّ فرد من المنهي عنه فيه مفسدة على حدة ، فإذا حصل الحنث بالنسبة إلى بعض الأفراد لا يسقط التكليف بالترك بالنسبة إلى سائر الأفراد.

وفي قسم آخر منها تكون المفسدة قائمة بصرف الوجود من المنهي نظير ما إذا نذر أن يترك صرف الوجود من التدخين ، فيحصل الحنث حينئذٍ بصرف الوجود منه ولا إلزام عليه بالإضافة إلى سائر الأفراد.

وفي قسم ثالث منها تكون المفسدة قائمة بالمجموع من حيث المجموع كالمادّة السمّية التي تحصل مفسدتها ـ وهي هلاك النفس ـ فيما إذا تناول مجموعها وهو نظير ما إذا نذر أن يترك التدخين على نهج العام المجموعي فيحصل الحنث حينئذٍ بتدخين المجموع فقط ولا مانع في تدخين بعضها.

إذا عرفت هذا فنقول : حيث إنّ الغالب في النواهي إنّما هو القسم الأوّل بل لا مصداق للقسمين الآخرين إلاّ أحياناً وفي بعض الموارد ، فلابدّ فيهما من نصب قرينة تصير منشأً لانصراف النواهي عن القسم الأوّل ، وقرينة عامّة لعدم كفاية صرف العدم ، على عكس ما في الأوامر فحيث إنّ إتيان جميع الأفراد فيها مستحيل عادةً صار ذلك قرينة على كفاية صرف الوجود ، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه قد أورد على الوجه الأوّل ( وهو أنّ المصلحة تترتّب غالباً على صرف الوجود

٥٠٦

فتكون تلك الغلبه كاشفاً عن تعلّق المصلحة بصرف الوجود المتحقّق بإيجاد فرد ، كما أنّ المفسدة في النهي تترتّب على كلّ فرد فتكون قرينة عامّة على أنّ النهي متعلّق بإيجاد كلّ فرد باستقلاله ) بأنّه إن أراد من تعلّق النهي بكلّ فرد أنّ المادّة أخذت مرآة للخصوصّيات والزجر تعلّق بكلّ فرد فقد عرفت امتناع مرآتيتها لها وضعف ما يتمسّك لإثباتها من سريان الطبيعة واتّحادها معها ، وإن أراد أنّ النهي متعلّق بالطبيعة إلاّ أنّ تلك الغلبة قرينة على أنّ جدّ المولى هو الزجر عن كلّ فرد.

ففيه : أنّ الزجر مفاد النهي الاستعمالي ، فإذا استعملت الهيئة في نفس الطبيعة دون الأفراد فلا يرجع كون الزجر عن الأفراد جدّاً إلى محصّل إلاّ أن يرجع إلى التشبّث بالاستعمال المجازي وهو كما ترى (١).

أقول : قد مرّ أنّ الطبيعة تكون مرآة للافراد في جميع الحالات ، وتوضيحه : إنّا حينما فتحنا أعيننا رأينا الأفراد وتصوّرناها قبل تصوّر الطبيعة ، ثمّ نظرنا ولاحظنا أنّ الأفراد تختلف بالنسبة إلى الاغراض التي تتعلّق بها ، فتارةً : يتعلّق الغرض بفرد خاصّ مع الخصوصيّة الفرديّة فوضعنا اللفظ بإزائه علماً شخصيّاً ، واخرى : يتعلّق الغرض بجميع الأفراد لا بفرد خاصّ فلا دخل فيه للخصوصّيات الفرديّة فإنتزعنا من جميع المصاديق جامعاً عقليّاً ووضعنا اللفظ بإزائه وسمّيناه بالطبيعة ، وحينئذٍ تكون الطبيعة متولّدة من مشاهدة الأفراد وملاحظتها ، بل إنّ هذا هو الطريق الوحيد في إدراك المفاهيم أيضاً ، ولا إشكال في أنّ لازم هذا أن تكون الطبيعة مرآة إلى الوجودات الفرديّة الخارجيّة وإن لم تكن مرآة لخصوصّياتها الشخصيّة.

الجهة الثانيّة : دلاله النهي على التحريم

أنّه لا إشكال في دلالة النهي على الحرمة ( كما أنّ الأمر كان دالاً على الوجوب ) إنّما الإشكال في أنّ هذه الدلالة هل هي مقتضى الوضع فتكون استعمال النهي في الكراهة مجازاً ، أو أنّها مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة فيكون الاستعمال في الكراهة أيضاً استعمالاً حقيقياً؟

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، طبع مهر.

٥٠٧

الحقّ هو الثاني ، أي يستفاد الوجوب من الإطلاق ومقدّمات الحكمة كما مرّ نظيره في مبحث الأمر ، فإنّ الكلام هنا هو الكلام هناك ، فكما أنّ دلالة الأمر على الوجوب كان من باب أنّ معناه هو الطلب مطلقاً ( الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بـ « خواستن » ) ولا سبيل لعدم الطلب ( الذي يعبّر أيضاً عنه بالفارسيّة « نخواستن » ) فيه ، فيكون الوجوب مقتضى هذا الإطلاق ، ولازمه أن لا يكون استعمال الأمر في الاستحباب مجازاً مع احتياجه إلى قيام قرينة على الاستحباب ، كذلك دلالة النهي على الحرمة ، فإنّ معناه الزجر والمنع عن الفعل مطلقاً من دون تطرّق عدم الزجر فيه ، وهذا يقتضي الحرمة وأن لا يكون استعماله في الكراهة بضمّ القرينة مجازاً ، لأنّه ليس من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

الجهة الثالثة : دلالة النهي على التكرار وعدمه

هل النهي يدلّ على التكرار والاستمرار ووجوب إتيان جميع الأفراد الطوليّة ( بعد ما مرّ سابقاً من دلالته على وجوب إتيان جميع أفراده العرضيّة ) أو لا؟

لا إشكال في أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار كما مرّ ، ولكن حيث إنّ ملاك الحرمة في النواهي وهو المفسدة قائمة بتمام الأفراد كما عرفت كان مقتضى إطلاق النهي وعدم تقييده بحدّ زماني الاستمرار والتكرار ، أي الإتيان بجميع الأفراد الطوليّة كالافراد العرضيّة ، نعم إذا قيّد بقيد زماني كأن يقول المولى : « لا تشرب الخمر إلى الغروب » فلا إشكال في عدم دلالته على التكرار.

إن قلت : لازم هذا لزوم الفتوى بوجوب الاستمرار في باب النذر فيما إذا نذر مثلاً على نحو الإطلاق أن يترك الدخين وأن يبقى وجوب الوفاء على حاله حتّى بعد وقوع الحنث ، مع أنّ الظاهر أنّه لا يقول به أحد.

قلنا : أوّلاً : لقائل أن يقول في خصوص باب النذر : بأنّ النهي ليس من قبيل الزجر عن الفعل بل أنّه من قبيل طلب الترك ، لأنّ الناذر يقول : « لله عليّ ترك التدخين » وهذا بعد ضمّ دليل الوفاء ، أي ( اوفوا بالنذور ) معناه « يجب عليك ترك التدخين » لا الزجر عن التدخين كما لا يخفى ، ولا إشكال في أنّه إذا كان هذا هو متعلّق النذر لم يجب التكرار والاستمرار بل يحصل الوفاء بإتيان مصداق واحد.

٥٠٨

ثانياً : إنّ النذر تابع لقصد الناذر ، ويمكن أن يكون الغالب في النذر كون المتعلّق أمراً وحدانياً وعامّاً مجموعياً بحيث لو وقع الحنث لم يجب الوفاء ثانياً ، ولو شككنا فيه فمقتضى أصالة البراءة هو عدم وجوب الوفاء ، وأمّا لو فرض تعلّق النذر على نهج العامّ الافرادي فلا يبعد القول بوجوب الاستمرار كما لا يبعد وجود الفتوى كذلك ، حيث إنّ الظاهر أنّ عدم فتوى الفقهاء بوجوب التكرار في باب النذر يكون من باب تلك الغلبة فهي منصرفة عن موارد العام الافرادي.

الجهة الرابعة : حكم النهي بعد المخالفة

هل يدلّ النهي على دوام وجوب الترك وعلى الحرمة ثانياً بعد ارتكاب المخالفة أوّلاً ، أو لا؟ وإن قلنا بدلالته على الاستمرار مع قطع النظر عن العصيان.

قد ظهر الجواب ممّا مرّ ، فإنّه إذا كان المتعلّق على نهج العام المجموعي فلا إشكال في عدم وجوب الترك ثانياً في صورة المخالفة ، وأمّا إذا كان على نهج العام الافرادي فلا إشكال أيضاً في وجوب الترك ثانياً ، هذا بالنسبة في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات فيمكن أن يقال : إنّ ظاهر إطلاق النهي والمتبادر من إطلاق الهيئة والمادّة كون المتعلّق على نهج العام الافرادي ، ومنشأ هذا التبادر إنّما هو الغلبة في الوجود حيث إنّ الغالب في النواهي صدورها على نحو العام الافرادي وقد ذكرنا في محلّه أنّ غلبة الوجود تكون سبباً لغلبة الاستعمال غالباً وهي سبب للانصراف ، ونتيجة ذلك أنّه إذا أتى المكلّف مثلاً بأحد التروك في مناسك الحجّ يجب عليه الترك أيضاً فيما بعد.

٥٠٩
٥١٠

الفصل الثاني

في اجتماع الأمر والنهي

وقبل الخوض في أصل المقصود لا بدّ من تقديم امور :

الأمر الأوّل : في عنوان المسألة وبيان موضع النزاع.

قد وردت تعابير مختلفة في مقام بيان عنوان المسألة ومحلّ النزاع فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه » ، وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله : « الأولى تبديل العنوان بأن يقال : إذا اجتمع متعلّق الأمر والنهي من حيث الإيجاد والوجود فهل يلتزم من الاجتماع كذلك أن يتعلّق كلّ من الأمر والنهي بعين ما تعلّق به الآخر كما هو مقالة القائل بالامتناع أو لا يلزم ذلك كما هو مقالة القائل بالجواز » (١)؟

ولبعض الأعلام في المحاضرات كلام هو في الحقيقة توضيح لكلام استاذه وتعليل لاختياره العنوان المزبور وحاصله : « إنّ عنوان النزاع في هذه المسألة على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم كون النزاع فيها كبرويّاً ، أي مردّ النزاع في المسألة إلى دعوى المضادّة بين الأحكام الشرعيّة بعضها مع بعض وعدم المضادّة ، مع أنّه لا يعقل أن يكون كبرويّاً ، بداهة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ووجود المضادّة بينهما مطلقاً حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري ، وذلك لأنّ اجتماعهما في نفسه محال ، لا أنّه من التكليف بالمحال ضرورة استحالة كون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً للمولى معاً على جميع المذاهب والآراء فما ظنّك بغيره ، إذن لا نزاع في الكبرى بل النزاع في المسألة إنّما هو في الصغرى ، أي في أنّ النهي

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥١١

المتعلّق بطبيعة الغصب مثلاً هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصّلاة المأمور بها في الخارج أم لا؟ ومن الواضح جدّاً أنّ سراية النهي من متعلّقه إلى متعلّق الأمر ترتكز على نقطة واحدة ، وهي اتّحاد المجمع وكونه موجوداً بوجود واحد ، كما أنّ عدم السراية ترتكز على تعدّد المجمع وكونه موجوداً بوجودين ، فيكون مركز النزاع حينئذٍ أنّ المجمع لمتعلّقي الأمر والنهي في مورد التصادق والاجتماع هل هو وجود واحد حقيقة وبالذات وأن التركيب بينهما اتّحادي ، أو هو متعدّد كذلك وأنّ التركيب بينهما انضمامي فالقائل بالامتناع يقول بالأوّل ، والقائل بالجواز يقول بالثاني » (١).

وقال في تهذيب الاصول : « الأولى أن يقال : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج أو لا؟ » واستدلّ له بأنّ « ظاهر كلمة الواحد في عنوان المشهور أنّ الهوية الخارجيّة من المتعلّقين يكون محطّ عروض الوجوب والحرمة مع أنّه من البطلان بمكان لأنّ الخارج لا يكون ظرف ثبوت التكاليف ، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممّا لا معنى له » (٢).

أقول : ما أفاده في المحاضرات في مقام تنقيح محلّ النزاع وتقرير مختار استاذه جيّد جدّاً ، إلاّ أنّ الأحسن والأولى في مقام بيان عنوان للمسألة هو التعبير الأخير لكن بعد ضمّ كلمة « أحياناً » في ذيله حيث إنّ العنوانين المتعلّقين للأمر والنهي يتصادقان على الواحد في الخارج أحياناً وفي بعض الموارد لا دائماً كما لا يخفى ، وحينئذٍ يكون العنوان المختار في المسألة هكذا : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد أحياناً ، أم لا؟

الأمر الثاني : في المراد من كلمة « الواحد » الوارد في عنوان المسألة

فهل المراد منها الواحد الشخصي ، أو النوعي ، أو الجنسي؟

لا إشكال في أنّ الحقّ ـ كما ذكروا ـ أنّ المراد من الواحد في ما نحن فيه إنّما هو الواحد الشخصي ، لا بمعنى ما لا يصدق على كثيرين حتّى يقال : الصّلاة في الدار الغصبي أمر كلّي على كلّ حال ، بل بمعنى أنّ الوحدة هنا هي الوحدة الخارجيّة المصداقيّة في مقابل الوحدة المفهوميّة

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥١٢

( كوحدة السجدة لله مع السجدة للصنم فإنّهما متّحدتان في المفهوم فقط كما هو واضح ، والوحدة الخارجيّة نظير اتّحاد الصّلاة والغصب في الدار الغصبي حيث إنّهما إنطبقا في الخارج على حركة خاصّة وتصرّف خاصّ في العمل ) حيث إنّ اجتماعهما في الواحد النوعي أو الجنسي جائز بلا إشكال بأن يكون نوع من أنواع الجنس مطلوباً ونوع آخر مبغوضاً ، وكذا في أصناف نوع واحد.

الأمر الثالث : في بيان الفرق بين هذه المسألة

ومسألة « النهي في العبادة »

فقد ذكر كلّ وجهاً لبيان الفرق بينهما ، فقال بعض بأنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الموضوع وهو قول صاحب الفصول رحمه‌الله ، فإنّه قال بأنّ الموضوع في ما نحن فيه طبيعتان متغايرتان بحسب الحقيقة والذات وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق كعنوان الحركة وعنوان القرب في الصّلاة والغصب ، وفي المسألة الآتية فالموضوع هو طبيعتان متّحدتان بحسب الذات والحقيقة ومختلفتان بحسب الإطلاق والتقييد بأنّ تعلّق الأمر بالمطلق ، أي الصّلاة مطلقاً ، وتعلّق النهي بالمقيّد ، أي الصّلاة في الدار المغصوبة ، وقال بعض آخر : أنّ الفرق بينهما إنّما هو في المحمول ، فإنّ المحمول في هذه المسألة إنّما هو جواز الاجتماع جوازاً عقليّاً. وفي تلك المسألة هو جواز الاجتماع جوازاً شرعيّاً يستفاد من دليل لفظي.

وذهب ثالث ـ وهو المحقّق الخراساني رحمه‌الله ـ إلى أنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الجهة ، فإنّ الجهة المبحوث عنها في المقام هي رفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بتعدّد العنوان وعدمه ، وأنّه هل يسري كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقيهما وجوداً ، أو لا يسري لتعدّدهما وجهاً؟ وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الآتية ، فإنّ البحث فيها في أنّ النهي في العبادة أو المعاملة هل يوجب فسادها بعد الفراغ عن السراية والتوجّه إليها؟

وقال رابع بنفس القول الثالث ولكن ببيان آخر ، وهو أنّ الجهة المبحوث عنها في ما نحن فيه جهة اُصوليّة ، وهي الجواز وعدم الجواز عقلاً ، وفي تلك المسألة جهة لفظيّة بمعنى أنّ النهي المتعلّق بعبادة هل يدلّ بظاهره على فسادها ، أو لا؟

وذهب في المحاضرات إلى أنّ النزاع هنا صغروي ، لأنّه يبحث عن السراية وعدمها ، بينما

٥١٣

النزاع في تلك المسألة كبروي حيث إنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت تلك الصغرى أي صغرى السراية وتعلّق النهي بالعبادة (١).

ولقائل أن يقول خامساً : إنّ التغاير بين المسألتين إنّما هو في الملاك ، فإنّ الملاك في ما نحن فيه هو ملاك باب التزاحم ، أي يوجد الملاك لكلّ من المأمور به والمنهي عنه المجتمعين في المجمع ، فيبحث في أنّه هل يكون الحكمان من قبيل المتزاحمين حتّى نقول بالامتناع ، أو لا يكون حتّى نقول بالجواز؟ بينما الملاك في مسألة النهي في العبادة إنّما هو ملاك باب التعارض ، أي أنّ الملاك الموجود في المجمع واحد إمّا المفسدة وإمّا المصلحة ، فلسان الأدلّة متعارضة.

أقول : الإنصاف أنّه لا ربط بين المسألتين حتّى يبعث عن وجه التمايز بينهما لأنّهما متغايرتان موضوعاً ومحمولاً ، ملاكاً وجهة ، ولا إشكال في أنّ التمايز بجميع هذه الامور ينتج تمايزاً جوهريّاً بين المسألتين ، ولذلك لا يهمّنا البحث في كلّ واحد واحد من الوجوه المذكورة ونقدها.

أضف إلى ذلك أنّ البحث في المقام بحث عن حكمين تكليفيين وجواز اجتماعهما أو امتناعه ، بينما البحث هناك بحث في الحكم الوضعي وهو الصحّة والفساد.

الأمر الرابع : هل المسألة اصوليّة أم لا؟

هل المسألة اصوليّة أو أنّها من المبادىء التصديقية للمسائل الاصوليّة أو أنّها من مبادئها التصوّريّة أو من مبادئها الأحكاميّة أو تكون المسألة فقهيّة أو كلاميّة؟

ربّما يقال : إنّها مسألة اصوليّة لأنّ نتيجتها إثبات حكم شرعي فرعي وهو جواز الصّلاة وصحّتها في الدار المغصوبة مثلاً بناءً على جواز الاجتماع ، وبطلانها بناءً على الامتناع.

ولكنّه ظاهر الفساد ، لأنّ نتيجة المسألة إنّما هي جواز الاجتماع أو امتناع ، ولا إشكال في أنّهما ليسا حكمين فرعيين شرعيين بل إنّهما يقعان في طريق استنباط الحكم الفرعي الشرعي.

ويمكن أن يقال : أنّها مسألة كلاميّة من باب أنّ المسألة عقليّة ويكون البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي وإمكانه عقلاً ، والبحث عن الاستحالة والإمكان يناسب المباحث الكلاميّة.

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ١٦٥ ـ ١٦٦.

٥١٤

وكأنّ القائل بهذا الوجه توهّم أنّ كلّ ما يكون البحث فيه عقليّاً يكون كلامياً مع أنّه كما ترى ، لأنّ البحث في علم الكلام يقع عن أحوال المبدأ والمعاد ، والمسألة الكلاميّة تترتّب عليها معرفة المبدأ أو المعاد ، وأين هذه من مسألة جواز الاجتماع وامتناعه.

إن قلت : يمكن إرجاع هذه المسألة إلى أحوال المبدأ والمعاد بتقريب أنّه في الحقيقة يبحث فيها عن أنّه هل يترتّب على الصّلاة في الدار الغصوبة مثلاً ثواب أو لا؟ ولا ريب في أنّ الثواب والعقاب من شؤون البحث عن المعاد.

قلنا : إنّ البحث عن الثواب والعقاب في علم الكلام بحث عن كلّي الثواب والعقاب كالبحث عن وجود الثواب والعقاب في عالم البرزخ وعدمه مثلاً لا عن مصاديقهما الجزئيّة وأنّه هل يترتّب على هذا المورد الخاصّ وهذا العمل الخاصّ ثواب أو لا؟

إن قلت : يمكن إرجاع هذه المسألة إلى المسألة الكلاميّة ببيان ثالث وهو أنّ البحث فيها بحث عن قبح صدور الأمر والنهي معاً من الباري تعالى بالنسبة إلى شيء واحد ، فيكون بحثاً عن أحوال المبدأ.

قلنا : البحث عن أحوال المبدأ في علم الكلام بحث كبروي حيث يبحث فيه عن جواز صدور أمر قبيح من الله تعالى وعدمه بعد الفراغ عن كونه قبيحاً ، بينما البحث هنا صغروي فيبحث في صغرى كون اجتماع الأمر والنهي قبيحاً وعدمه.

وقد يقال : أنّها من المبادىء الأحكاميّة حيث إنّ فيها يبحث عن أحوال الحكم وأوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟

واجيب عنه : أيضاً بأنّا « لا نعقل المبادىء الأحكاميّة في مقابل المبادىء التصوّريّة والتصديقية ، بداهة أنّه إن اريد منها تصوّر نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المبادىء التصوّريّة ، إذ لا يعني من المبادىء التصوّريّة إلاّتصوّر الموضوع والمحمول ، وإن اريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه ( ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلّق الأمر في محلّ الكلام ) فهي من المبادىء التصديقية لعلم الفقه ، كما هو الحال في سائر المسائل الاصوليّة » (١).

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

٥١٥

أقول : يمكن الجواب عن هذا الوجه ببيان آخر ، وهو أنّه كما يبحث في المبادىء التصوّريّة عمّا يرجع إلى تصوّر الموضوع والمحمول كذلك يبحث فيها عمّا يرجع إلى تصوّر غاية ذلك العلم ، ولا إشكال في أنّ غاية علم الاصول إنّما هي استنباط الحكم الشرعي ، فيكون الحكم مأخوذاً في غايته ، فالبحث عن أحوال الحكم وأوصافه ( نظير البحث عن أنّ الحرمة والوجوب هل يجتمعان في شيء واحد أو لا ) داخل في المبادىء التصوّريّة لعلم الاصول ، فيرجع كون البحث في المقام من المبادىء الأحكاميّة لعلم الاصول إلى أنّه من المبادىء التصوّريّة لعلم الاصول.

نعم ، إنّ هذا كلّه تامّ لو كان البحث في المقام بحثاً عن كبرى تضادّ الأمر والنهي ( أي تضادّ الوجوب والحرمة ) فيكون بحثاً عن أوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يكونان متضادّين ، أو لا؟

مع أنّه ليس كذلك حيث إنّه بحث عن صغرى التضادّ وعن أنّ تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد ذي عنوانين هل يوجب اجتماع المتضادّين بعد الفراغ عن كبرى تضادّ الأحكام الخمسة ، أو لا؟

فظهر أنّ البحث في ما نحن فيه ليس من المبادىء الأحكاميّة التي ترجع في الواقع إلى المبادىء التصوّريّة.

وذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى أنّها من المبادىء التصديقية لعلم الاصول وليست من مسائله ، وحاصل بيانه أنّ هذه المسألة على كلا القولين فيها لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي بلا واسطة ضمّ كبرى اصوليّة ، وقد تقدّم أنّ الضابط لكون المسألة اصوليّة هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة ، والمفروض أنّ هذه المسألة ليست ، كذلك فإنّ فساد العبادة لا يترتّب عليه القول بالامتناع فحسب بل لا بدّ من ضمّ كبرى اصوليّة إليه ، وهي قواعد مسألة التعارض ، فإنّ هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون من إحدى صغرياتها ، فيترتّب فساد العباد بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً ، وهذا شأن كون المسألة من المبادىء التصديقية لمسائل علم الاصول دون المسائل الاصوليّة نفسها ، كما أنّها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم فتدخل في مبادىء بحث التزاحم (١).

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٥١٦

ويرد عليه : أنّ الميزان في المسألة الاصوليّة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي سواءً كان بضمّ ضميمة أم لا؟ وإلاّ يلزم خروج عدّة من المسائل الهامّة لعلم الاصول عن كونها اصوليّة كمسألة حجّية خبر الواحد التي يستنتج منها الحكم الشرعي بعد ضمّ مسألة حجّية الظواهر إليها ، وكذلك قواعد جهة الصدور.

فالحقّ أنّ المسألة اصوليّة لوجود ضابطها فيها حتّى لو سلّمنا وجود سائر الجهات فيها أيضاً.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه قد ظهر من تضاعيف المقدّمات المذكورة أنّ المسألة عقليّة حيث إنّه من الواضح أنّ قضيّة جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين على عنوانين متصادقين على عمل واحد وعدمه لا يدور مدار الألفاظ قطعاً ، كما لا دلالة لذكرها ضمن مباحث الألفاظ على أنّها لفظيّة ، وكم لها من نظير كمسألة مقدّمة الواجب ومسألة دلالة النهي على الفساد ومسألة الإجزاء ومسألة الضدّ والترتّب ونظير البحث عن حقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري ، فإنّ جميع هذه المسائل عقليّة ، أو أن لأكثر المباحث فيها جهة عقليّة ومع ذلك ذكرت في مباحث الألفاظ ، ولا إشكال في أنّ هذا بنفسه من مشكلات علم الاصول في يومنا هذا ، ولا بدّ من ملاحظة طريق حلّ لها في المستقبل إن شاء الله.

الأمر الخامس :

هل النزاع في ما نحن فيه مختصّ مرتبط بقسم خاصّ من الأمر والنهي ، أو أنّه يعمّ جميع أقسامهما سواء كان الأمر أو النهي نفسيّاً أو غيريّاً ، وسواء كان تعيينياً أو تخييريّاً ، وعينياً أو كفائيّاً؟ ذهب المقحّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّ النزاع عامّ يشمل جميع الأقسام ، وتبعه كثير من الأعلام ، لكن قد ورد في بعض الكلمات إستثناء مورد واحد ، وهو ما إذا كان الواجب والحرام كلاهما تخييريين.

والقائلون بعموم النزاع استدلّوا لذلك بثلاثة وجوه :

الوجه الأوّل : إطلاق عنوان البحث فإنّه شامل بإطلاقه لجميع الأقسام.

٥١٧

الوجه الثاني : إطلاق الأدلّة التي يستدلّ بها على الجواز أو الامتناع كالاستدلال بتضادّ الأحكام الخمسة لسراية أحد الحكمين بمتعلّق الآخر ، فإنّه مطلق يعمّ جميع الأفراد.

الوجه الثالث : عموم الملاك في البحث ، وهو تعدّد العنوان من جانب ووحدة المعنون والمصداق من جانب آخر.

وأمّا الإستثناء المذكور ، أي صورة ما إذا كان الحكمان تخييريين فقبل توضيحه وبيان مثال له وذكر أحكامه ينبغي تقديم مقدّمة ، وهي البحث في أنّه هل يتصوّر الحرام التخييري والحرام الكفائي في الفقه كالواجب التخييري والواجب الكفائي أم لا؟

فنقول : أمّا الحرام التخييري فيمكن تصويره في حرمة نكاح الاختين حيث إنّ الحرام التخييري يرجع حقيقة إلى حرمة الجمع بين شيئين كما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله في حاشيته على الكفاية ، وهذا صادق في هذا المثال ، وأمّا الحرام الكفائي فيمكن تصويره أيضاً في حرمة بيع السلاح للأعداء فيما إذا فرضنا تركيب السلاح من موادّ مختلفة منتشرة عند المكلّفين ، فكلّ مادّة من تلك المواد وكلّ جزء من السلاح يوجد عند مكلّف خاصّ ويكفي في عدم تأثير السلاح بنفع الأعداء عدم بيع بعض المكلّفين المادّة الموجودة عنده ، وحينئذٍ يحرم كفائيّاً بيع تلك الأجزاء للسلاح.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ القائل بعدم جريان النزاع في التخييريين بأنّه لا تضادّ بين النهي التخييري والأمر التخييري ، لأنّ متعلّق الأمر فيه عنوان أحد الشيئين ، ومتعلّق النهي هو الجمع بينهما لا عنوان أحدهما كما إذا نذر أن يأتي بالصّلاة أو الصّيام ، ونذر ثانياً أن لا يصلّي إمّا في الحمام أو في البادية لكراهة الصّلاة فيهما فهاهنا ، تعلّق النذر الأوّل ( وهو النذر الفعلي ) بعنوان أحدهما ، بينما النذر الثاني ( أي النذر التركي ) تعلّق بالجمع بين الصّلاة في الحمام والصّلاة في البادية ، ولا إشكال في أنّه لا تضادّ بين المتعلّقين حتّى إذا قلنا بإمتناع الاجتماع في سائر الموارد.

الأمر السادس : في اعتبار قيد المندوحة ولزوم أخذه في محلّ النزاع

والمراد من المندوحة كون المكلّف في فسحة من إتيان المأمور به في غير مورد الاجتماع كأن وجد أرضاً مباحة لإتيان الصّلاة فيها في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة في مقابل من لا يتمكّن

٥١٨

من الإتيان بها إلاّفي الدار المغصوبة كالمحبوس فيها ، وهذه الكلمة من « ندح » بمعنى الوسعة كما ورد في الحديث : « أنّ في المعاريض مندوحة من الكذب » ( والمراد من المعاريض التورية ) فوقع النزاع في أنّه هل يجري النزاع في خصوص موارد وجود المندوحة أو يجري في موارد عدم وجودها أيضاً؟

والأقوال في اعتبارها وعدمه ثلاثة :

القول الأوّل : القول بعدم الاعتبار وعليه أكثر الأعلام منهم المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

القول الثاني : القول باعتبارها وعليه المحقّق الحائري رحمه‌الله في درره وصاحب الفصول.

القول الثالث : القول بالتفصيل بين ما إذا حصل الاجتماع بسوء الاختيار كمن أوقع نفسه عملاً في الأرض المغصوبة في ضيق الوقت فلا يكون معتبراً ، بل يجري النزاع مع عدم وجودها أيضاً ، وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فيكون معتبراً ، أي يجري النزاع حينئذٍ في خصوص ما إذا كانت المندوحة موجودة ، وقد ذهب إليه الميرزا القمّي رحمه‌الله.

والقائلون بعدم اعتبارها مطلقاً لهم بيانات مختلفة :

منها : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وهو أنّ المهمّ المبحوث عنه في المقام هو استحالة اجتماع الأمر والنهي من ناحية وحدة المتعلّق وتعدّده وأنّه هل يستلزم الاجتماع ، التكليف المحال أو لا؟ ( والمراد من « التكليف المحال » هو عدم تمشّي الإرادة للمولى بالإضافة إلى مورد الاجتماع ) وهو غير « التكليف بالمحال » الذي معناه التكليف بما لا يطاق ، واعتبار وجود المندوحة وعدمه مرتبط به ( أي بالتكليف بالمحال ) حيث إنّه إذا لم توجد المندوحة يلزم التكليف بما لا يطاق وإذا وجدت المندوحة فلا يلزم ذلك ، فاعتبار هذا القيد غير لازم.

ولكن يرد عليه : أنّه لا دليل على اختصاص محلّ النزاع بلزوم التكليف المحال وعدمه ودورانه مداره ، فإنّ عنوان البحث عامّ والتعبير بـ « هل يجوز اجتماع ... » أي التعبير بالإمكان وعدم الإمكان يعمّ الإمكان من ناحية التكليف المحال ، والإمكان من ناحية التكليف بالمحال.

ومنها : ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من عدم اعتبار قيد المندوحة سواءً كان النزاع صغرويّاً ، أي كان البحث في أنّ تعدّد العنوان هل يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو لا؟ أو كان النزاع كبرويّاً وكان محطّ البحث جواز اجتماع الأمر والنهى على عنوانين متصادقين على واحد ، وحيث إنّ مختاره في المقام هو كبرويّة النزاع ، فإليك نصّ كلامه بناءً على هذا الفرض :

٥١٩

« أنّه إن اريد بقيد المندوحة حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم لأنّ البحث في جواز تعلّق الحكمين الفعليين على عنوانين ولا يتوقّف ذلك على المندوحة لكلّ واحد منهم لأنّ الأحكام المتعلّقة على العناوين لا تنحلّ إلى إنشاءات كثيرة حتّى يكون الشرط تمكّن كلّ فرد بالخصوص. وإن اريد بقيد المندوحة كون العنوانين ممّا ينفكّان بحسب المصداق في كثير من الأوقات وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلّفين فاعتبار المندوحة وإن كان لازماً في هذه المسألة لكن لا يحتاج إلى تقييد البحث به فإنّ تعلّق الحكم الفعلي بعنوان ملازم لمنهي عنه فعلاً ممّا لا يمكن ، للغويّة الجعل على العنوانين بل لا بدّ للجاعل من ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو الحكم بالتخيير مع عدم الرجحان فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على جميع التقادير » (١).

أقول : قد مرّ في الأبحاث السابقة الإشكال في ما اختاره من المبنى الذي بنى عليه كثيراً من المباحث ، وهو أنّ المخاطب في الخطابات القانونيّة إنّما هو الأفراد الموجودة في الخارج لا العنوان ، حيث إنّ العناوين إشارات إلى الخارج ، والواضع وضعها والمقنّن المشرّع يستخدمها للإشارة إلى الخارج والعبور إليه ، وعليه فلا إشكال في اعتبار قيد المندوحة كما يستفاد من مطاوي كلماته ، نعم لو قبلنا مبناه المعروف في الخطابات القانونيّة فلا إشكال في ما تبنّاه عليه ، وهو عدم اعتبار قيد المندوحة ، ولكنّه مبنى غير صحيح.

ومنها : ما أفاده في المحاضرات من أنّ توهّم اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع خاطىء جدّاً وغير مطابق للواقع قطعاً ، والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر وبالعكس وعدم سرايته ، وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين :

الأمر الأوّل : كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً ( أي يكون التركيب بين العنوانين اتّحاديّاً ).

الأمر الثاني : الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ( وإن كان التركيب بين العنوانين انضماميّاً ) ومن الواضح جدّاً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٨١ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥٢٠