أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

يحصل الغرض ، ومعه يكون الأمر بالأكثر لغواً لا يمكن صدوره من الحكيم.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، بأنّه يمكن أن يفرض أنّ المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقلّ الذي في ضمنه ، أي كان لجميع أجزائه دخل في حصول الغرض ، والمحصّل له فيما إذا وجد الأقلّ هو الأقلّ كذلك ، أي كان كلّ منهما بحدّه محصّلاً للغرض ، وعليه فلا محيص عن التخيير بينهما ، إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذٍ يكون بلا مخصّص.

وقد اجيب عنه : بأنّ هذا خارج عن مفروض الكلام وهو التخيير بين الأقلّ والأكثر ، وذلك لأنّ ما فرضه وإن كان تخييراً بينهما صورة إلاّ أنّه بحسب الواقع تخيير بين المتباينين ، وذلك لفرض أنّ الماهية « بشرط لا » تباين الماهية « بشرط شيء ».

أقول : الصحيح هو التفصيل بين ما إذا يحصل الأقلّ ضمن الأكثر دفعة واحدة كما إذا أردنا إلقاء الميّت الغريق ( الذي لا يمكن إيصاله إلى ساحل البحر ) إلى قعر الماء بشيء ثقيل ، فتخيّرنا عقلاً بين أن يكون وزن ذلك الشيء الثقيل عشرين كيلو مثلاً أو أربعين كيلو ، وبين ما إذا يحصل الأقلّ ضمن الأكثر تدريجاً كما في مثال الصّلاة ، فإنّ إشكال اللغويّة المزبورة لا تتصوّر في القسم الأوّل لأنّ الغرض فيه لا يحصل بخصوص الأقلّ إذا اختار المكلّف الأكثر بل يكون المحصّل للغرض حينئذٍ تمام الأكثر ( وفي المثال تمام الأربعين كيلو ) فيكون التخيير بين الأقلّ والأكثر فيه بلا إشكال ، نعم أنّها تتصوّر في القسم الثاني ، ولا يمكن التفصّي عنها بما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله لنفس ما ذكرناه من الجواب.

هذا في التخيير العقلي ، وكذلك في التخيير الشرعي ، فلا إشكال فيه أيضاً فيما إذا أتى بالأكثر دفعةً كما إذا أمر المولى بإدخال ثلاثة رجال أو خمسة في الدار فأدخل العبد الخمسة دفعةً.

وبما ذكرنا يظهر أنّ التخيير بين الواحد والثلاث في مثل التسبيحات الأربعة ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّ الأقلّ يتحقّق ضمن الأكثر تدريجاً ، فلابدّ أن يقال أنّ الواجب فيها هو الأقلّ ، وأمّا الأكثر وهو التسبيح مرّة ثانيّة وثالثة فيحمل على الاستحباب.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عن الشبهات التي طرحناها في أوّل البحث :

أمّا الاولى منها : وهي أنّ الوجوب ينافي جواز الترك ـ فجوابها أنّا لا نقول بوجوب كلّ من الطرفين ، بل الواجب عندنا عنوان أحدهما ، وهو لا يجوز تركه بكلا مصداقيه.

وأمّا الثانيّة منها : وهي أنّ الطلب التشريعي وزانه وزان الطلب التكويني فلا يمكن تعلّقه

٤٨١

بعنوان أحدهما اللاّمعين ، فالجواب عنها ما أفاده المحقّق النائيني في بعض كلماته وإن كان مغايراً من بعض الجهات للمختار ( كما مرّت الإشارة إليه في أوائل البحث تحت عنوان « لا يقال » ) وإليك نصّ كلامه : « أنّه يمكن تعلّق إرادة الآمر ( الإرادة التشريعيّة ) بأحد الشيئين وإن لم يمكن تعلّق إرادة الفاعل ( الإرادة التكوينيّة ) بذلك ، ولا ملازمة بين الإرادتين على هذا الوجه ، مثلاً لا إشكال في تعلّق إرادة الآمر بالكلّي مع أنّ إرادة الفاعل لا يعقل أن تتعلّق بالكلّي مجرّداً عن الخصوصيّة الفرديّة ، والوجه في ذلك أنّ الإرادة الفاعلية إنّما تكون مستتبعة لحركة عضلاته ولا يمكن حركة العضلات نحو المبهم المردّد ، وهذا بخلاف إرادة الآمر فإنّه لو كان كلّ من الشيئين أو الأشياء ممّا يقوم به غرضه الوجداني ، فلابدّ أن تتعلّق إرادته بكلّ واحد ، لا على وجه التعيين بحيث يوجب الجمع ، فإنّ ذلك ينافي وحدة الغرض ، بل على وجه البدليّة ، ويكون الاختيار حينئذٍ بيد المكلّف في اختيار أيّهما شاء ، ويتّضح ذلك بملاحظة الأوامر العرفيّة ، فإنّ أمر المولى عبده بأحد الشيئين أو الأشياء بمكان من الإمكان » (١).

وأمّا الشبهة الثالثة : وهي قضيّة تعدّد العقاب فسيأتي الجواب عنها في البحث الآتي ، وهو البحث عن الواجب الكفائي فانتظر.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٤٨٢

الفصل السادس عشر

الواجب الكفائي

لا إشكال أيضاً في وجود الواجب الكفائي في العرف والشرع ( كالواجب التخييري ) ففي لسان الشرع نظير وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتجهيز الميّت ، والمكاسب الضروريّة لحفظ النظام وتحصيل الفقه إلى حدّ الاجتهاد والجهاد في كثير من الموارد ، والتصدّي لأمر القضاء والقيام بالامور الحسبيّة ، وفي العرف نظير ما إذا أمر المولى عبده بقوله « ليفتح أحدكم الباب » ونظير ما وقع في قصّة أصحاب الكهف حيث ورد فيها ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ )(١) ، وفي القوانين العقلائيّة نظير ما يوضع في إدارة الاطفاء لموظّفي تلك الادارة حيث إنّ أمر إطفاء الحريق كثيراً مّا يتحقّق بجماعة معيّنة.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ جميع الصور التي ذكرناها في بيان حقيقة الواجب التخييري غير واحدة منها تأتي هنا أيضاً ، إلاّ أنّ الترديد هناك كان في المكلّف به ، وفي ما نحن فيه في المكلّف كما لا يخفى ، وحينئذٍ يكون متعلّق الخطاب هنا بناءً على الوجه الأوّل الذي مرّ في الواجب التخييري ـ « الفرد المردّد من المكلّف » ، وعلى الوجه الثاني عنوان « أحد المكلّفين » الذي يكون من العناوين الانتزاعيّة ، وعلى الوجه الرابع « كلّ واحد من المكلّفين » مشروطاً بعدم مبادرة سائر المكلّفين إلى العمل ، وعلى الوجه الخامس « كلّ واحد من المكلّفين » على نحو من الوجوب غير الوجوب العيني بحيث إذا قام أحدهم للعمل سقط الوجوب عن السائرين ، وعلى الوجه السادس « المكلّف المعلوم عند الله » وهو من بادر إلى الامتثال بالنسبة إلى غيره ، فيأتي في المقام ستّة وجوه من الوجوه السبعة المذكورة هناك ، والوجه الذي لا يتصوّر هنا هو

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ١٩.

٤٨٣

الوجه الثالث منها وهو أن يتعلّق الخطاب بالقدر الجامع الحقيقي لعدم تصوّره بالنسبة إلى المكلّفين ، فإنّ المكلّف يكون آحادهم لا الجامع الكلّي.

وكيف كان لا بدّ من طرح البحث هنا أيضاً في مقامين : مقام الثبوت ومقام الإثبات :

أمّا مقام الثبوت : فيأتي فيه مثل ما مرّ في الواجب التخييري ، وهو أنّ المصالح التي تترتّب على الأشياء خارجاً على أنحاء مختلفة ، فقسم منها لا يحصل إلاّباجتماع جميع الأيادي كحمل جسم ثقيل مثلاً من مكان إلى مكان آخر ، وقسم منها تكون المصالح فيه متعدّدة يحصل كلّ واحدة منها بيد فرد واحد من الأفراد سواء كانت المصالح متّحدة في النوع أو مختلفة ، وقسم ثالث منها تكون المصلحة فيه واحدة ويكفي في تحصيله قيام فرد واحد كفتح الباب مثلاً ، وهنا قسم رابع وإن قلّ مصداقه في الخارج ، وهو ما إذا كانت المصلحة متعدّدة ولكن لا يمكن الجمع بينها ، إمّا لعدم قدرة المكلّفين على الجمع وإن لم يكن بينها تباين في حدّ ذاتها كما إذا كان للمولى مشاوران ، أحدهما مشاور لأمر الدين ، والآخر مشاور لأمر الدنيا ، ولكن قد ثبت له بالتجربة وقوع المنازعة بينهما وعدم قدرتها على ايفاء المصلحتين معاً ، أو لكون المصلحتين مثلاً متباينين في حدّ ذاتهما.

هذه أقسام أربعة للأشياء من حيث المصلحة الموجودة فيها.

لا إشكال في أنّ الوجوب يكون على نهج العام المجموعي بناءً على القسم الأوّل ، وعلى نهج العام الافرادي بناءً على القسم الثاني مع كونه وجوباً عينياً في كليهما كما لا يخفى ، كما لا إشكال في كون الوجوب في القسم الثالث والقسم الرابع كفائيّاً وإنّ متعلّقه إنّما هو عنوان أحد المكلّفين بما أنّه مشير إلى الخارج.

وبعبارة اخرى : يكون متعلّق الوجوب فيهما صدور الفعل من صرف وجود المكلّف كما في الواجب التخييري ( حيث إنّ متعلّق الوجوب فيه أيضاً كان صرف وجود الطبيعة المأمور بها ) بينما كان المتعلّق في القسمين الأوّلين صدور الفعل من مطلق وجود المكلّف ، ولا يمكن أن يقال : إنّ متعلّق الوجوب فيهما ( أي في الواجب الكفائي في القسمين الأخيرين ) جميع المكلّفين ولكن على نحو من الوجوب غير الوجوب العيني ، لأنّ الوجوب عبارة عن البعث إنشاءً كالبعث التكويني ويكون له سنخ واحد ، ولا يعقل أن يكون له أنحاء مختلفة كما مرّ في الواجب التخييري ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الوجوه المتصوّرة في المسألة. هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

٤٨٤

وأمّا مقام الإثبات : فالإنصاف أنّ القرائن الموجودة في الواجبات الكفائيّة الواردة في لسان الشارع ومناسبات الحكم والموضوع فيها ترشدنا إلى أنّ المكلّف فيها ليس جميع المكلّفين بل إنّما هو عنوان أحد المكلّفين أو عنوان بعض المكلّفين أو طائفة منهم نظير ما ورد في قوله تعالى : ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) ، وقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فإنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع أنّ متعلّق خطاب « اقطعوا » و « اجلدوا » بعض المكلّفين لا جميعهم ، كما أنّ القرينة الخارجيّة تدلّنا على أنّ متعلّق خطاب « كونوا » في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ) إنّما هو بعض المكلّفين لأنّا نعلم من الخارج بكفاية شاهدين من المؤمنين لإقامة الشهادة ، كما أنّه مقتضى كلمة « أو » أو كلمة « أحدكما » أو كلمة « أحدهم » في بعض الخطابات ، كما إذا قال المولى لعبده « أنت أو أخوك يفعل ذلك » ومقتضى كلمة « طائفة » في مثل آية النفر وقوله تعالى : ( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )(١) وقوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(٢) وهكذا قوله تعالى : ( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ). (٣)

وبالجملة : إنّ مثل كلمة « طائفة » أو « امّة » بضمّ كلمة « من » التبعيضيّة ( طائفة منكم ) قرينة حتمية على أنّ المتعلّق في الواجبات الكفاية ليس جميع المكلّفين بل المتعلّق إنّما هو عنوان بعض المكلّفين المشير إلى الخارج.

ويظهر ممّا ذكرنا كلّه ضعف سائر الوجوه أو الأقوال لا سيّما مع ملاحظة ما مرّ في الواجب التخييري.

بقي هنا امور

الأمر الأوّل : مسألة تعدّد العقاب ووحدته ، فهل يعاقب جميع المكلّفين فيما إذا خالف الجميع ، أو يعاقب بعضهم فقط؟

__________________

(١) سورة النور : الآية ٢.

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٠٤.

(٣) سورة هود : الآية ١١٦.

٤٨٥

الصحيح أنّ العقاب واحد ، ولكنّه يوزّع على جميع المكلّفين الذين حضروا الواجب ، أمّا الوجه في وحدة العقاب فلأنّ غرض المولى يكون واحداً أي المصلحة التي تترتّب على العمل واحدة ، وأمّا وجه توزيعه على جميع المكلّفين فلأنّ متعلّق الخطاب كان عنوان بعض المكلّفين ، ولا إشكال في أنّ كلّ واحد من المكلّفين مصداق لهذا العنوان.

الأمر الثاني : هل يجوز قيام جميع المكلّفين بإتيان المأمور به في الواجب الكفائي مع قصد الورود أو لا؟

وللمسألة صور مختلفة : ففي بعض الصور لا إشكال في عدم إمكان إتيان الجميع للعمل لا بالاشتراك ولا بالاستقلال لعدم قابلية الفعل لذلك ذاتاً كقطع يد واحدة في باب السرقة ، وفي بعض آخر يكون المحلّ قابلاً لإتيان الجميع في حدّ ذاته ولكن لا يجوز أيضاً لأنّ المولى أخذ متعلّق خطابه بشرط لا كما في إجراء الحدّ بمائة جلدة ، فلا يجوز لكلّ واحد من المؤمنين إجراء الحدّ الكامل على الزاني مثلاً ، وفي صورة ثالثة يكون المحلّ أيضاً قابلاً ويكون إتيان كلّ واحد من المكلّفين مطلوباً للمولى كطلب العلم إلى حدّ الاجتهاد فيما إذا لم يكن مخلاً للنظام ولكن مع ذلك لا يجوز إتيان الجميع بقصد الوجوب والورود بل يجوز بقصد المطلوبيّة أعمّ من الوجوب والاستحباب ، وهناك صورة رابعة ، وهي نفس الصورة الثالثة إلاّ أنّه لا دليل على كون إتيان الجميع مطلوباً ، ولا على أخذ المتعلّق بشرط لا ، كتجهيز الميّت والصّلاة عليه ، ففي هذه الصورة يفصّل بين ما إذا أتى الجميع بالمأمور به معاً ودفعةً ، فيكون كلّ واحد ممتثلاً للتكليف لصدق صرف وجود المكلّف على جميعهم حينئذٍ ، وما إذا أتوا به تدريجاً فيكون إتيان المبادر بالامتثال امتثالاً للتكليف بلا إشكال ، ويقع إتيان الباقين لغواً لأنّ بإتيان المبادر تحقّق صرف وجود المتعلّق وبتحقّقه يسقط الأمر.

ومن هنا يظهر الحكم في الواجب التخييري فيما إذا أراد المكلّف إتيان جميع الأطراف فيأتي فيه جميع الصور الأربعة ، نعم فيما إذا أتى المكلّف بجميع الأطراف دفعةً لا إشكال أيضاً في كون كلّ واحد منها مصداقاً للمأمور به ولكن مع ذلك يترتّب عليها ثواب عمل واحد لأنّ المأمور به والمطلوب كان واحداً ، وتعدّد الثواب تابع لتعدّد الغرض والمطلوب لا لتعدّد ما يتحقّق به الغرض.

الأمر الثالث : قد يصير الواجب الكفائي عينياً كما أنّ الواجب التخييري أيضاً قد يصير

٤٨٦

تعيينياً ، وهو فيما إذا لم يقم للواجب الكفائي قدر الكفاية كما إذا لم يقم لتحصيل العلم من به الكفاية ، وفي الواجب التخييري ما إذا لم يمكن إتيان أحد الطرفين كتحرير الرقبة في زماننا هذا مثلاً ، فيصير الطرف الآخر واجباً تعيينياً كما لا يخفى.

الأمر الرابع : كما أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر في الواجب التخييري لم يكن معقولاً فيما إذا أتى بالأكثر تدريجاً كذلك لا يعقل في الواجب الكفائي ، نظير ما إذا خاطب المولى عبيده بقوله : « يجب أن يفعل العمل الفلاني عشرة منكم أو عشرون » فإن أتى العشرون بالعمل دفعةً فلا إشكال في أنّ جميعهم ممتثلون للتكليف وإن أتوا به تدريجاً فبعد إتيان العشرة يتحقّق المطلوب ، ويكون إتيان الأكثر تحصيلاً للحاصل كما مرّ بيانه في الواجب التخييري بعينه.

٤٨٧
٤٨٨

الفصل السابع عشر

الواجب الموقّت

يتصوّر الواجب من حيث الزمان على ثلاث صور :

الصورة الاولى : أن لا يكون له أي تقيّد بالزمان ولا يكون للزمان أي دخل في تحقّق مصلحته وإن كان تحقّقه في الخارج محتاجاً إلى الزمان ( من باب أنّ الإنسان بما أنّ وجوده زماني تكون أفعاله أيضاً زمانيّة ) نظير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونظير أداء الدَين فإنّ مقوّم المصلحة ، فيهما إنّما هو نفس طبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونفس طبيعة أداء الدَين بحيث لو أمكن انفكاكهما عن الزمان لما وقع خلل في تحقّق المقصود ووقوع المصلحة فيكون واجباً مطلقاً من هذه الجهة.

الصورة الثانيّة : أن يكون للزمان دخل في المصلحة ولكنّه أوسع من مقدار الواجب فيسمّى موقّتاً موسّعاً كما في الصّلوات اليوميّة والعمرة الواجبة.

الصورة الثالثة : أن يكون للزمان دخل أيضاً في تحقّق المصلحة ولكنّه يكون بقدر الواجب فيسمّى موقّتاً مضيّقاً كما في صيام رمضان وبعض مناسك الحجّ كالوقوف في العرفات.

وهناك صورة رابعة ذكرها في تهذيب الاصول (١) وهي ما إذا كان مطلق الزمان دخيلاً في تحقّق الغرض ، ولكن أوّلاً لم نظفر بمثال له في الفقه ، وثانياً أنّه ممّا لا مجال للأمر به للزوم اللغويّة ( كما صرّح به نفسه ) لأنّ المكلّف لا يقدر على إيجاده في غير الزمان حتّى يكون الأمر صارفاً عنه وداعياً نحوه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استشكل في تصوير كلّ واحد من المضيّق والموسّع ، فبالنسبة إلى

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٨ ، طبع جماعة المدرّسين.

٤٨٩

الواجب المضيّق ، فقد يقال ، أنّه لا إشكال في أنّ زمان الانبعاث متأخّر عن زمان البعث ولو آناً مّا ، فلو فرضنا أنّه بمجرّد طلوع الفجر مثلاً وقع الإيجاب في لحظة بعد الطلوع ، وأنّ إرادة المكلّف وعزمه على الفعل أيضاً يحتاج إلى لحظة من الزمان فلا أقلّ من أن يتأخّر الانبعاث عن البعث بمقدار لحظتين من الزمان ، ولازمه خروج كلّ واجب مضيّق عن كونه مضيّقاً ودخوله في الواجب الموسّع ، وأن يكون كلّ واجب موقّت موسّعاً.

ولكنّه إشكال واهٍ وضعيف غاية الضعف ، حيث إنّ المفروض أنّ القضايا الشرعيّة قضايا شرطيّة حقيقة صدرت من جانب الشارع قبل مجيء زمان الواجب بل قبل تولّد هذا المكلّف ، وأنّ المكلّف يطلع عليها قبل دخول الوقت ، فهو يعلم مثلاً أنّ وجوب الصّيام يصير فعليّاً بالنسبة إليه بمجرّد طلوع الفجر ، وأنّ عليه أن يمسك عن الأكل والشرب من أوّل طلوع الفجر ( كما ورد في قوله تعالى : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ )(١) ) فهو يريد الامساك ويعزم عليه لحظات قبل الطلوع من باب المقدّمة العلمية ، وعليه يكون زمان البعث منطبقاً على زمان الانبعاث كما لا يخفى.

واستشكل في الواجب الموسّع بأنّ لازمه جواز ترك الواجب في زمان وجوبه وهذا ينافي معنى الوجوب.

والجواب عنه أيضاً واضح : لأنّ متعلّق الواجب إنّما هو طبيعة الصّلاة الواقعة بين الحدّين من الزمان ، وليس المتعلّق أفرادها الطوليّة كما لا يكون المتعلّق أفرادها العرضيه كإتيانها في المسجد أو في الدار ، وبعبارة اخرى : الساعات الواقعة بين الحدّين إنّما هي بمنزلة الأفراد والمصاديق لتلك الطبيعة التي يكون المكلّف مخيّراً بينها تخييراً عقليّاً ، ولا إشكال في أنّ اختيار المكلّف فرداً من أفراد الواجب التخييري أي طرفاً من أطرافه لا يستلزم تركه للواجب بل يتحقّق ترك الواجب بترك جميع الأفراد والابدال.

هل القضاء تابع للأداء ، أو بأمر جديد؟

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً معروفاً قديماً وحديثاً ، وهو أنّه هل يجب القضاء بمجرّد ترك الواجب في

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٨٧.

٤٩٠

داخل الوقت أو يحتاج وجوبه إلى دليل خاصّ؟ وبعبارة اخرى : هل القضاء تابع للأداء ، أو يكون بأمر جديد؟

لا إشكال في أنّ هذه المسألة تعدّ من القواعد الفقهيّة ولا تكون من المسائل الفقهيّة ولا من المسائل الاصوليّة ، لأنّ النزاع إنّما هو في وجوب قضاء كلّي الواجب ( أي واجب كان ) إذا فات في وقته ، فيكون الحكم فيه كلّياً لا يختصّ بباب دون باب ، فلا تكون مسألة خاصّة من الفقه ، فينطبق عليه تعريف القاعدة الفقهيّة وهو الحكم الكلّي الشرعي الذي لا يختصّ بباب دون باب ، ولا تكون مسألة اصوليّة لأنّ ملاكها وقوعها في طريق الحكم الشرعي ، والحال أنّ المسألة حكم شرعي بنفسها.

وكيف كان ففي المسألة أقوال كثيرة ، والمهمّ منها ثلاث :

القول الأوّل : وجوب القضاء بالأمر الأوّل أي تبعيّة القضاء للأداء مطلقاً.

القول الثاني : حاجته إلى أمر جديد ، أي عدم التبعيّة مطلقاً.

القول الثالث : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية من التفصيل بين ما إذا كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق فتكون قضيّة الإطلاق ثبوت وجوب القضاء بعد انقضاء الوقت أي تبعيّة القضاء للأداء ، وبين ما إذا ارتفع إحدى هذه القيود الثلاثة فيحتاج وجوب القضاء إلى أمر جديد.

أقول : لا بدّ من طرح البحث هنا أيضاً في مقامين : مقام الثبوت ومقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت : فالصحيح أن يقال : إن كان التقيّد بالوقت على نحو وحدة المطلوب ، أي كان المطلوب الصّلاة المأتي بها في الوقت مثلاً ، فلابدّ لوجوب القضاء في خارج الوقت إلى أمر جديد ، لأنّه بعد مضيّ الوقت يرتفع الطلب وهو واضح ، وأمّا إن قلنا بكون المطلوب متعدّداً ، أي كان أصل الصّلاة مطلوباً وكان إتيانه داخل الوقت مطلوباً آخر ، فلا إشكال في بقاء وجوب الصّلاة بعد مضيّ الوقت ، أي في بقاء المطلوب الأوّل على حال وجوبه بعد عدم الإتيان بالمطلوب الثاني.

وأمّا مقام الإثبات : فهو تابع للسان الأدلّة ، فإن فهمنا من لسان الدليل وحدة المطلوب فيسقط الأمر الأوّل بعد إتمام الوقت ، وإن فهمنا منه تعدّد المطلوب كان الطلب باقياً بالنسبة إلى أصل الواجب ، وطريق فهم تعدّد المطلوب تارةً يكون بالشرائط الثلاثة المذكورة في كلام

٤٩١

المحقّق الخراساني رحمه‌الله ( وهي استفادة التوقيت من دليل منفصل أوّلاً ، وعدم إطلاق له على التقييد بالوقت ثانياً وكون دليل الواجب مطلقاً ثالثاً ) واخرى من مناسبات الحكم والموضوع كما إذا قال المولى : « اقرأ القرآن يوم الجمعة » أو قال : « اقرأ القرآن بالصوت الحسن » فلا إشكال في أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع في هذين المثالين أنّ مطلق قراءة القرآن مطلوب ، وقراءته يوم الجمعة أو بالصوت الحسن مطلوب آخر.

بل قد يقال أنّه كذلك في جميع المستحبّات الواردة في لسان الشرع كما هو المعروف ، فيقال أنّ الأصل في المستحبّات هو تعدّد المطلوب.

وأمّا الواجبات فيمكن التمثيل لتعدّد المطلوب بالإضافة إلى غير الموقّتة منها بقوله تعالى :

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ... وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )(١) فإنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع فيه أنّ شهادة طائفة من المؤمنين مطلوب وأصل إجراء الحدّ المطلوب آخر مع ورودهما في خطاب واحد.

ثمّ إنّه لو فرضنا إجمال الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى وحدة المطلوب وتعدّده فما هو مقتضى الأصل العملي؟

ذهب بعض إلى أنّ مقتضى استصحاب بقاء الوجوب بعد مضيّ الوقت كون المطلوب متعدّداً فيجب القضاء.

ولكن يرد عليه : أوّلاً : عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وثانياً : أنّ جريانه مبني على بقاء الموضوع ، أي عدم كون الوقت جزءً لموضوع الوجوب بل قيداً للحكم عند العرف ، فإن كان الوقت جزءً مقوّماً للموضوع لم يكن الاستصحاب جارياً لأنّ من شرائط الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة وإن لم يكن الوقت جزءً مقوّماً للموضوع ، كما أنّه كذلك في قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) حيث إنّ الحدّ المذكور لوقت الصّلاة قيّد لهيئة « أقم » فلا إشكال في بقاء الموضوع وبالنتيجة جريان استصحاب الوجوب.

__________________

(١) سورة النور : الآية ٢.

٤٩٢

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : أنّه قد يقال : يمكن إثبات وجوب القضاء في خارج الوقت بالتمسّك بقاعدة الميسور.

ولكنّه مشكل من جهتين :

الجهة الاولى : أنّه لا عموم لهذه القاعدة حتّى يعمّ ما إذا كان الوقت من المعسور فتأمّل.

الجهة الثانيّة : أنّه يعتبر في جريانها صدق أنّ هذا ميسور لذلك المعسور عند العرف ، فيعتبر في المثال المزبور أن يصدق على الصّلاة خارج الوقت أنّها ميسور للصّلاة داخل الوقت ، وهو ممّا يشكل إحرازه.

الأمر الثاني : أنّ ما ذكرنا بالنسبة إلى قيد « الوقت » يجري بالنسبة إلى سائر القيود الواردة في الصّلاة وفي جميع الواجبات الشرعيّة أيضاً ، فمثلاً لو صار المكلّف فاقداً للطهورين أو لم يكن قادراً على تحصيل القبلة مثلاً فيجري فيهما نفس النزاع الجاري في الوقت وأنّه هل يجب على المكلّف إتيان الصّلاة مع فقد شرط الطهارة أو القبلة ، أو لا؟ فيبحث في أنّه هل يكون تقييد الصّلاة بالطهارة أو القبلة على نحو وحدة المطلوب أو تعدّده؟ ـ إلى آخر ما مرّ هناك.

الأمر الثالث : في ثمرة المسألة ، وهي واضحة ، لأنّ كثيراً من الواجبات الموقّتة ليس لها دليل خاصّ يدلّ على وجوب قضائها إذا فاتت في وقتها كزكاة الفطرة التي يجب أدائها قبل ظهر يوم الفطر ، ونظير صلاة الآيات إذا لم يأت بها قبل الشروع في الانجلاء أو قبل تمام الانجلاء ، ونظير بعض مناسك الحجّ إذا فاتت في وقته الخاصّ به ، فلا إشكال في أنّه إن قلنا بتعدّد المطلوب كان القضاء واجباً ولو لم يرد خطاب مستقلّ يدلّ عليه ، وإن قلنا بوحدة المطلوب لم يكن القضاء واجباً ما لم يرد خطاب مستقلّ يدلّ على وجوبه.

نعم قد يقال في مقام نفي هذه الثمرة : أنّه لا حاجة إلى طرح أصل هذه المسألة ( هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد ) بعد ورود رواية مشهورة وهي قوله عليه‌السلام « إقض ما فات كما فات » (١) بطرق عديدة حيث إنّ مقتضاها وجوب قضاء كلّ ما فات من الفرائض سواء دلّت أدلّة الأداء عليه ، أو لم تدلّ.

__________________

(١) هذا هو التعبير الرائج من الرّواية عند جمع من الفقهاء بينما الصحيح منها : « يقضي ما فاته كما فاته » فراجع أبواب قضاء الصّلوات الباب ٦ ، ح ١.

٤٩٣

ولكن قد اجيب عنه في محلّه بأنّ مثل هذه الرّواية وهذا التعبير ليس في مقام بيان أصل وجوب القضاء وبيان موضوعه ، بل أنّها في مقام بيان كيفية الإتيان والامتثال بعد ثبوت أصل القضاء وثبوت الموضوع.

فتقول هذه الرّواية : كلّما ثبت أصل القضاء في مورد وجب إتيان ما ثبت وجوب قضائه بنفس الكيفية التي فاتت ، وتشهد لذلك ملاحظة سؤال السائل وموارد ورود روايات الباب فراجع.

٤٩٤

الفصل الثامن عشر

الأمر بالأمر

هل الأمر المتعلّق بالأمر بفعل ـ أمر بذلك الفعل حتّى يجب على المكلّف امتثاله إذا علم به وإن لم يصل الأمر الثاني ( أي أمر الواسطة ) إليه ، أو لا يكون أمراً بذلك الفعل فلا يجب على المكلّف الامتثال ما لم يصل إليه من طريق الواسطة؟

لا إشكال في أنّ أمثلة الأمر بالأمر كثيرة في الآيات والرّوايات نظير قوله تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ... )(١) وقوله تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ )(٢) وقوله تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ )(٣) وقوله تعالى : ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) (٤) ، وفي الرّوايات نظير الأحاديث القدسيّة ، والوصايا التي تصدر من جانب الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام إلى شيعتهم تحت عنوان قوله عليه‌السلام : « قل لشيعتي كذا وكذا » ، وعند العرف نظير ما إذا قال المولى لابنه : « مُرْ زيداً أن يفعل كذا وكذا » فهل هذا أمر بذاك الفعل بحيث إذا علم زيد بالأمر من قبل أن يأمره ابن المولى كان الإتيان به واجباً عليه ، أو لا يكون أمراً به فلا يجب الإتيان ما لم يأمره ابن المولى؟ ».

الأولى إيراد البحث أيضاً في مقامين : مقام الثبوت ومقام الإثبات.

الأوّل في مقام الثبوت : فتارةً تكون الواسطة مجرّد طريق لوصول أمر المولى إلى عبده المكلّف ، فلا إشكال في وجوب الامتثال على المكلّف إذا علم به وإن لم يصل إليه من جانب

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٠.

(٢) سورة النور : الآية ٣١.

(٣) سورة الجاثية : الآية ١٤.

(٤) سورة العنكبوت : الآية ٢٠.

٤٩٥

الواسطة ، واخرى يكون وصول أمر المولى من ناحية أمر الواسطة تمام الموضوع في الوجوب ، فأراد المولى مثلاً توقيره وتعظيمه وإثبات رفعة شأنه عنده ، فلا إشكال أيضاً في عدم وجوب الامتثال على العبد ما لم يصل الأمر من جانب الواسطة ، وثالثة يكون وصول الأمر من ناحية أمر الواسطة جزء للموضوع كما هو الغالب في الأوامر الاداريّة والفرامين القانونيّة العقلائيّة ، فلابدّ لوجوب امتثالها من إبلاغها بطريق خاصّ فلا يجب الامتثال إلاّ إذا بلغ الحكم من ذلك الطريق.

الثاني في مقام الإثبات : فالذي يستظهر من الآيات والرّوايات هو القسم الأوّل فيكون الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات المذكورة في أوّل البحث مجرّد مبلّغ لايصال الأوامر الإلهيّة إلى العباد ، بل هو المتبادر من نفس كلمة « الرسول » كما لا يخفى ، وحينئذٍ يجب على العباد الإطاعة وامتثال الأوامر الشرعيّة وإن لم تصل إليهم من جانب شخص الرسول بل وصلت إليهم من طرق اخرى.

ثمّ إنّ بعض الأعلام جعل ثمرة هذا النزاع شرعيّة عبادة الصبي وقال : « إنّ الثمرة المترتّبة على هذا النزاع هي شرعيّة عبادة الصبي بمجرّد ما ورد في الرّوايات من قوله عليه‌السلام « مروهم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين » ، فإنّه بناءً على ما ذكرناه من أنّ الأمر بالأمر بشيء ظاهر عرفاً في كونه أمراً بذلك الشيء تدلّ تلك الرّوايات على شرعيّة عبادة الصبي لفرض عدم قصور فيها لا من حيث الدلالة كما عرفت ، ولا من حيث السند لفرض أنّ فيها روايات معتبرة ».

ثمّ قال : « قد يقال كما قيل (١) أنّه يمكن إثبات شرعيّة عبادة الصبي بعموم أدلّة التشريع كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وما شاكلهما ببيان أنّ تلك الأدلّة بإطلاقها تعمّ البالغ وغيره ... وحديث « رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم » لا يقتضي أزيد من رفع الإلزام ... لا أصل المحبوبيّة عنها ، ثمّ أجاب عنه بأنّ الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلاً ، لأنّه عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلّف وإبرازه في الخارج بمبرز من لفظ أو نحوه ، وحديث الرفع يكون رافعاً لهذا لاعتبار ، فيدلّ على أنّ الشارع لم يعتبر فعلاً كالصّلاة والصّوم وما شاكلهما على ذمّة الصبي » ( انتهى ملخّصاً ) (٢).

__________________

(١) ولعلّ القائل به هو السيّد الحكيم رحمه‌الله فراجع مستمسكه : ج ٨ كتاب الصّوم باب من يصحّ منه الصّوم.

(٢) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ٧٦ ـ ٧٧.

٤٩٦

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّ الثمرة ليست منحصرة بما ذكره من شرعيّة عبادات الصبي بل تظهر في مثل قوله تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) فيما إذا فرضنا عدم وصول أمر بغضّ الأبصار من جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلينا ، فيمكن حينئذٍ الاستدلال بهذه الآية بناءً على أن يكون الأمر بالأمر بشيء أمراً بذلك الشيء كما مرّ أنّه كذلك ، وكما أنّ الفقهاء لا يزالون يستدلّون لحرمة النظر إلى الأجنبي وفروع هذه المسألة بإطلاق هذه الآية ، وقد لا يكون في هذه الفروع دليل إلاّ إطلاق هذه الآية.

ثانياً : الرّوايات الواردة في باب عبادات الصبي الدالّة على شرعيّة عباداتهم ليست منحصرة فيما يشتمل على الأمر بالأمر ، بل انظر إلى الباب ٢٩ من أبواب من يصحّ منه الصّوم من كتاب الوسائل حتّى ترى روايات عديدة تأمر الصبيان بالعبادة بلا واسطة كقول الإمام عليه‌السلام : « إذا أطاق الغلام صومه ثلاثة أيّام متتابعة فقد وجب عليه صوم شهر رمضان » ولا يخفى أنّ قوله عليه‌السلام « وجب » دالّ على التأكيد في الاستحباب لا الوجوب ، ونحوها غيرها.

ثالثاً : الإشكال في مسألة مشروعيّة عبادات الصبي ليس منحصراً في أنّ الأمر بالأمر بشيء هل يكون أمراً بذلك الشيء أو لا؟ بل هناك إشكال آخر ، وهو دعوى وجود قرينة في تلك الرّوايات تدلّ على أنّها صدرت من جانب الشارع لمجرّد الإرشاد إلى التمرين والممارسة ، فهي أوامر إرشاديّة وليست مولويّة حتّى يستفاد منها الاستحباب.

نعم ، يرد على القائل بهذا القول ( وهو السيّد الحكيم كما أشرنا إليه سابقاً في الهامش ) أنّ هذا يتمّ بناءً على عموم الأدلّة الأوّليّة أو إطلاقها بالنسبة إلى الصبي ، بينما يمكن أن يقال أنّها خطابات توجّهت إلى خصوص المكلّفين وتكون منصرفة عن الصبي من بدو الأمر.

٤٩٧
٤٩٨

الفصل التاسع عشر

الأمر بعد الأمر

إذا ورد أمر بعد الأمر قبل امتثال الأمر الأوّل فهل يدلّ هو ( الأمر الثاني ) على التأكيد حتّى يكون المطلوب واحداً ويكفي امتثال واحد ، أو يدلّ على التأسيس وتعدّد المطلوب فلابدّ من الامتثال الثاني وإتيان العمل مرّة اخرى؟

الصحيح أنّ للمسألة صور عديدة :

الصورة الاولى : أن يكون للمتعلّق أو المادّة قيد يستفاد منه التأسيس وتعدّد المطلوب كما إذا قال : « صلّ » ثمّ قال « صلّ صلاة اخرى » أو قال : « اعطني درهماً » ثمّ قال « اعطني درهماً آخر » فلا ريب في أنّ المأمور به حينئذٍ يكون متعدّداً بل إنّه خارج عن محلّ النزاع.

الصورة الثانيّة : أن تكون الهيئة مقيّدة ، فصدرت القضيّة مثلاً على نهج القضيّة الشرطيّة كما إذا قال مثلاً : « إن ظاهرت فاعتق رقبة » ثمّ قال : « إن قتلت نفساً خطأً فاعتق رقبة » فلا إشكال أيضاً في أنّ ظاهرهما تعدّد المطلوب والمأمور به ، إنّما الكلام في تداخل الأسباب وعدمه فيما إذا كانت الأسباب متعدّدة مع وحدة المسبّب وسيوافيك البحث عنه في مباحث المفاهيم مبحث مفهوم الشرط فانتظر.

الصورة الثالثة : أن لا يكون قيد لا للمادّة ولا للهيئة حتّى يستفاد منه التعدّد ، كما إذا قال : « أقيموا الصّلاة » ثمّ قال مرّة ثانيّة : « أقيموا الصّلاة » وهذه الصورة هي محلّ الكلام ، فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : إنّ مقتضى إطلاق المادّة كون الأمر الثاني تأكيداً ومقتضى إطلاق الهيئة كونه تأسيساً ، لأنّ كلّ أمر وكلّ هيئة تدلّ على طلب على حدة ، فيدعو إلى مطلوب يخصّه ، وحينئذٍ يقع التعارض بين الإطلاقين ، وذهب بعض الأعلام في المحاضرات إلى أنّ المتفاهم عرفاً هو

٤٩٩

التأكيد وأنّه قضيّة إطلاق المادّة وعدم تقييدها بشيء (١) ، من دون أن يشير إلى قضيّة إطلاق الهيئة وتعارضها مع إطلاق المادّة ، نعم صرّح في صدر كلامه أنّ الأمر بشيء في نفسه ظاهر في التأسيس ولكنّه ليس محلاً للنزاع.

أقول : الإنصاف أنّ الهيئة في حدّ ذاتها لا تدلّ على شيء لا على التأكيد ولا على التأسيس ، بل التأكيد والتأسيس من شؤون المادّة ، فإذا كانت المادّة مطلقاً كانت قضيّة إطلاقها التأكيد.

وإن شئت قلت : الهيئة هنا تابعة للمادّة ، فإن كانت عين الأوّل كانت تأكيداً ، وإن كانت غيره كانت تأسيساً.

وبهذا تمّ الكلام عن مبحث الأوامر ونشرع الآن في مبحث النواهي بعون الله تعالى.

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ٨٠.

٥٠٠