أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الشخصيّة وأنّه « إن كان الأمر شخصياً متوجّهاً إلى شخص معيّن فالحقّ هو القول بالامتناع إذ الملاك هو احتمال انبعاثه وهو لا يجتمع مع العلم بانتفاء شرطه أيّ شرط كان من شرط الجعل أو المجعول بل مع انتفاء الاحتمال من جهة القصور أو التقصير من المكلّف ، وأمّا الأوامر الكلّية القانونيّة المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين فلا يجوز مع العلم بفقد عامّتهم للشرط ، وأمّا مع كون الفاقد والواجد مختلطين موجودين في كلّ عصر ومصر كما هو الحال خارجاً ، فالتكليف عامّ شامل للقادر والعاجز ، وفعلي في حقّ العاصي والمطيع والنائم والساهي ، نعم للعقل الحكومة المطلقة في تشخيص المستحقّ للعقاب من غير المستحقّ فيجعل العاجز ومن أشبهه في عداد المعذورين في مخالفة الحكم الفعلي » (١).

أقول : إنّ هذا مبني على عدم انحلال خطاب واحد إلى خطابات متعدّدة مستقلّة كما صرّح به في تتمّة كلامه ، وقد مرّ في مبحث الترتّب المناقشة فيه وفي ما يترتّب عليه من الأحكام الكثيرة ، نعم مع قطع النظر عن مبنى الانحلال لو علم بانتفاء الشرط عن عامّة المكلّفين كان أمر الآمر لغواً فلا يجوز أمره مع العلم بانتفاء شرطه كما أشار إليه فيما عرفت من كلامه ، وأمّا إذا علم بانتفاء الشرط عن بعض المكلّفين فلا إشكال في أمره وخطابه بلحاظ وجود الشرط في سائر المكلّفين ، بل لا فرق حينئذ بين القول بالانحلال وعدمه ، لأنّ الخطاب على أيّ حال واحد ولو كان الحكم منحلاً بأحكام عديدة ، وحيث إنّ الخطاب واحد صدر على نحو الكلّي فلا يلزم لغويّة لأنّها ترجع إلى اللفظ ، واللفظ واحد.

الأمر الثاني : فيما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من « أنّ هذه المسألة باطلة من أصلها وليس فيها معنى معقول يبحث عنه لما عرفت في مبحث الواجب المشروط أنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية مشروطة بوجود موضوعه خارجاً ويستحيل تخلّفها عنه ، وعلم الآمر بوجوده أو بعدمه أجنبي عن ذلك ، فلا معنى للبحث عن جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ، كما قد عرفت أنّ الحكم في القضايا الخارجيّة يدور مدار علم الحاكم ووجود شروط الحكم ، وأمّا نفس وجودها في الخارج أو عدمها فيه فهو أجنبي عن الحكم فلا معنى للبحث عن الجواز المزبور فيها أيضاً » (٢).

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، طبع مهر.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢٠٩.

٤٦١

أقول : قد أورد تلميذه المحقّق المقرّر له في الهامش « بأنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية وإن كانت تدور مدار وجود الموضوع خارجاً إلاّ أنّ جعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده مع العلم بعدم تحقّقه خارجاً لغو لا يمكن صدوره من الحكيم » (١) ، وهو جيّد متين.

الأمر الثالث : قد يقال بأنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في باب الصّوم من باب أنّه إذا كان المكلّف سالماً مثلاً في شهر رمضان فأفطر ثمّ صار مريضاً أو سافر بعد الإفطار أو حاضت فتبيّن بذلك انتفاء شرط الوجوب وهو بقاء شرائط الوجوب إلى المغرب ، فإن قلنا بجواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه تجب عليه الكفّارة لأنّه خالف الأمر المتعلّق بالصّيام الشامل له أيضاً ، وأمّا إن قلنا بعدم الجواز فلا كفّارة بل لا قضاء عليه لانكشاف عدم وجوب الصّيام عليه في الواقع.

ولكن الإنصاف عدم ارتباط المسألة بالمقام لأنّ الثابت من أدلّة الكفّارات انحلال وجوب الصّوم إلى تكاليف متعدّدة بتعدّد الآنات وأنّ الصّيام واجب ما دام الموضوع باقياً ، ولذلك قام الإجماع على عدم جواز الإفطار قبل الخروج عن حد الترخّص لمن يعلم من طلوع الفجر بمسافرته في أثناء يومه ، وبعبارة اخرى : المستفاد من الأدلّة عدم انتفاء شرط التكليف في هذه المسألة ، وحينئذٍ لا تكون من مصاديق المقام.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢٠٩.

٤٦٢

الفصل الثالث عشر

هل الأمر متعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟

وهي مسألة معروفة بين الاصوليين ، وقد أعطاها بعض الأعاظم (١) شكلاً فلسفيّاً ببيانات عديدة منها : « أنّ الكلّي الطبيعي هل يكون بنفسه موجوداً في الخارج أو أنّه موجود بوجود أفراده؟ ».

ولكن الإنصاف أنّها مسألة عرفيّة كما هو الغالب في المسائل الاصوليّة ، توضيح ذلك : أنّه لا إشكال في أنّ كلّ طبيعة إذا وجدت في الخارج يكون لها لوازم قهريّة خارجيّة بحسب الزمان والمكان أو الكمّ والكيف وغيرها من العوارض كالجهر والاخفات وخصوصيّة الوقوع في أيّ زمان ومكان بالنسبة إلى طبيعة الصّلاة التي هي عبارة عن الركوع والسجود والقيام والتكبير والتسليم وغيرها من الأذكار الواجبة ، وحقيقة البحث في المقام هي أنّه هل تكون هذه اللوازم القهريّة والخصوصيّات الخارجيّة داخلة تحت الطلب ، أو أنّ متعلّق الطلب هو طبيعة الصّلاة مجرّدة عن هذه اللوازم ، ولا ريب أنّ هذا بحث عرفي عقلائي ، ويكون عنوان البحث حينئذٍ أنّ الخصوصيّات الفرديّة الخارجيّة التي لا تنفكّ عن الطبيعة في الخارج هل هي داخلة تحت الطلب ، أو لا؟ ولا يخفى أنّ محلّ النزاع ما إذا لم يصرّح المولى بخصوصيّة فرديّة في كلامه ، وإلاّ فلا إشكال في أنّها داخلة تحت الطلب كما إذا قال مثلاً : « صلّ في أوّل الوقت ».

إن قلت : « إنّ تشخّص الوجود بذاته لا بالخصوصّيات التي تلحق به ، وبعبارة اخرى : إنّ الوجود عين التشخّص ويكون لكلّ واحد من العوارض مثل الزمان والمكان والكمّ والكيف وجود آخر مضافاً إلى وجود الجوهر وقائماً عليه ، فيكون لكلّ واحد من هذه الوجودات تشخّص بذاته وامتياز بنفسه عن غيره ، سواء كان جوهراً أو عرضاً ، ولا يكون وجود عرض

__________________

(١) وهو المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله فراجع نهاية الدراية : ج ١ ص ٢٤٨ ، من الطبع القديم.

٤٦٣

مشخّصاً لوجود عرض آخر ، وكذلك وجود جوهر بالإضافة إلى وجود جوهر آخر ، أو وجود عرض بالنسبة إلى جوهره الذي يقوم به ، بل العرض إنّما يكون ملازماً لجوهره في الخارج ولا ينفكّ عنه ، لا أن يكون مشخّصاً له بل تشخّصه بذاته ، وبناءً على ذلك : فإنّ الامور المتلازمة للوجود الجوهري خارجاً التي لا تنفكّ عنه كأعراضه من الكمّ والكيف وغيرهما لا يعقل أن تكون مشخّصات لذلك الوجود ، فإطلاق المشخّصات على تلك الأعراض مسامحة جدّاً ، وعليه فليست هذه الأعراض واللوازم متعلّقة للأمر سواء قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع أو بالأفراد.

وبعبارة اخرى : إنّ تلك اللوازم كما أنّها خارجة عن متعلّق الأمر على القول بتعلّقه بالطبيعة ، كذلك هي خارجة عن متعلّقه على القول بتعلّقه بالفرد » (١).

قلنا : الإنصاف أنّه لا سبيل لهذه التدقيقات الفلسفية في محلّ البحث ، فإنّا نقبل أنّ الوجود متشخّص بذاته لا بعوارضه ، لكن الكلام في أنّ هذه العوارض بملاحظة عدم انفكاكها عن الطبيعة في الخارج هل يسري الأمر من الطبيعة إليها على البدل عند العرف أو لا ، سواء كان تشخّصها بتلك العوارض أو لم يكن؟ فالمسألة عرفيّة لا فلسفية.

ثمّ إنّ ثمرة المسألة تظهر في موارد عديدة :

منها : باب اجتماع الأمر والنهي كالصّلاة في الدار المغصوبة فإنّه قد يقال : بأنّه إذا تعلّق الأمر بالطبائع كانت النتيجة جواز الاجتماع ، لأنّ الأمر المتعلّق بالصّلاة لا يسري إلى الخصوصيّات الفرديّة كغصبية الدار في المثال ، وإن قلنا بتعلّقه بالافراد كانت النتيجة الامتناع ، لأنّ الخصوصيّة المزبورة ( أي الغصبية ) تصير أيضاً منهياً عنها ويستحيل تعلّق الأمر بالمنهي عند الآمر والمبغوض عنده ( فتأمّل ).

منها : حكم الضمائم المباحة في الوضوء وغيره من أبواب العبادات كالوضوء بالماء الحارّ في الشتاء والبارد في الصيف ، فلو توضّأ مثلاً بالماء البارد مع قصد التبريد وقلنا بتعلّق الأمر بالطبيعة ، فلا إشكال في صحّة الوضوء لأنّ المأمور به إنّما هو مجرّد الطبيعة ، وقد وقعت بقصد القربة ، وأمّا إن قلنا بتعلّق الأمر بالافراد يقع الوضوء باطلاً ، لأنّ الخصوصيّة أيضاً وقعت متعلّقة للأمر العبادي فلابدّ من إتيانها أيضاً بقصد القربة.

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٤ ، ص ١٨ ـ ٢٠.

٤٦٤

وهكذا إذا أتى بالصّلاة في مكان حارّ في فصل الشتاء.

إذا عرفت ذلك فنقول : ذهب المحقّقون إلى أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع واستدلّوا له بوجوه :

الوجه الأوّل : الوجدان كما صرّح به في الكفاية بقوله : « وفي مراجعة الوجدان غنىً وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلاّنفس الطبائع ولا نظر له إلاّ إليها من دون نظر إلى خصوصّياتها الخارجيّة وعوارضها العينية بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً ».

الوجه الثاني : أنّ الطلب سعة وضيقاً تابع للغرض فيدخل فيه ما يكون دخيلاً في الغرض ، ولا ريب أنّ الغرض قائم بطبيعة الصّلاة مثلاً فحسب لا خصوصّياتها الزمانيّة أو المكانيّة.

نعم لا يخفى أنّ هذا الوجه في الواقع تصوير برهاني لدليل الوجدان ولا يكون دليلاً مستقلاً عنه.

الوجه الثالث : التبادر فإنّ المتبادر من الأوامر والنواهي إنّما هو طلب إيجاد الطبيعة أو تركها فقط ، وهذا كافٍ في إثبات المقصود.

واستدلّ لتعلّقها بالافراد بوجهين :

أحدهما : إنّ الموجود في الخارج هو الفرد لا الطبيعة ، وحينئذٍ يكون تعلّق الأمر بالطبيعة بلحاظ أنّها مرآة إلى الخارج لا بلحاظ نفسها ، وينتقل الأمر من طريق الطبيعة إلى الأفراد ، وهو المقصود.

ولكن اجيب عنه : بأنّ هذا مبني على عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج مع أنّه قد قرّر في محلّه أنّ الطبيعي موجود في الخارج ضمن أفراده ، فيكون وجود الطبيعة متعلّقاً للأمر دون ضمائمه.

ثانيهما : إنّ المتلازمين في الوجود لا يختلفان في الحكم ، وحيث إنّ اللوازم الخارجيّة والخصوصيّات الفرديّة تكون من لوازم الوجود في الخارج فيسري الحكم إليها.

والجواب عنه ما مرّ في بعض الأبحاث السابقة من أنّ غاية ما يقتضيه التلازم إنّما هو عدم اختلاف المتلازمين في الحكم بأن يكون أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة مثلاً لا اتّحادهما في الحكم أيضاً فإنّه لا دليل عليه البتة.

٤٦٥

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : ربّما يتوهّم من قولنا بأنّ الأوامر تتعلّق بالطبائع أنّ المتعلّق هو الطبيعة من حيث هي هي ، فيعترض عليه بأنّ الطبيعة من حيث هي هي ليست إلاّهي ، لا مطلوبة ولا مبغوضة ، ومقتضاه كون الطبيعة في حدّ ذاتها خاليّة عن القيود فإنّ كلّ شيء في مرتبة ذاته ليس إلاّنفس ذلك الشيء لا غير.

وبعبارة اخرى : المراد من الماهية إنّما هو نفس مفهوم الإنسان مثلاً وهو ليس إلاّنفسه ، وليس مفهوم الشجر والحجر وغيرهما ، أي أنّ كلّ ماهية يكون لها مرتبة خاصّة لا سبيل لغيرها إليها.

وبعبارة ثالثة : ما هو متعلّق الأوامر؟ فإن كان هو الماهية من حيث هي هي فإنّها ليست إلاّ هي لا محبوبة ولا مبغوضة ، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد الوجود فإنّه تحصيل للحاصل ، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد العدم فهو محال.

واجيب عنه : بأنّ متعلّق الطلب إنّما هو إيجاد الماهية في الخارج ، وبتعبير آخر : إنّ الوجود يتصوّر على قسمين : الوجود بالمعنى المصدري والوجود بالمعنى اسم المصدري ، والمتعلّق للأوامر إنّما هو الأوّل أي الإخراج من كتم العدم إلى عالم الوجود أو انقلاب العدم إلى الوجود ، والتحصيل للحاصل إنّما هو الوجود بمعنى اسم المصدري لا المصدر.

توضيح ذلك : الطلب التشريعي يكون بمنزلة الطلب التكويني ، فكما أنّ المولى في طلبه التكويني للماء مثلاً لا يطلب الماهية من حيث هي هي لأنّها لا ترفع العطش ولا يطلب السقي الموجود بل يطلب إيجاد السقي في الخارج ، كذلك في طلبه التشريعي من العبد ، فيطلب الإيجاد ، أي المعنى المصدري لا السقي الحاصل بمعنى اسم المصدر ولا الماهية من حيث هي هي.

نعم هذا كلّه في الطلب ، وأمّا هيئة الأمر فقد يقال بأنّ متعلّقها إنّما هو نفس الطبيعة لا وجودها ، لأنّ نفس الهيئة متضمّنة لمعنى الوجود ، أي أنّها بنفسها بمعنى طلب الوجود ، ومع ذلك لا معنى لأن يكون الوجود جزءً لمتعلّقها ، أي جزءً لمادّة الأمر.

وبعبارة اخرى : إنّ الوجود جزء للهيئة لا المادّة والمتعلّق.

ولكن الإنصاف أنّ هيئة الأمر أيضاً وضعت لطلب الوجود لأنّها عبارة عن البعث إلى الفعل ، ويكون بمنزلة البعث التكويني ، فكما أنّ البعث التكويني يتعلّق بإيجاد المطلوب فكذلك

٤٦٦

البعث التشريعي ، أي مفاد هيئة « افعل ».

الأمر الثاني : أنّ المراد من الوجود في ما نحن فيه إنّما هو الوجود السعي الساري في جميع الأفراد لا وجود خاصّ من قبيل الجزئي الحقيقي ، بل يكون حينئذٍ من قبيل الجزئي الإضافي وشبيهاً للكلّي في باب المفاهيم بحيث ينطبق على كثيرين.

الأمر الثالث : قال المحقّق العراقي رحمه‌الله : « إنّ الذي يقتضيه التحقيق هو تعلّق الأوامر والطلب بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة للخارج وملحوظة بحسب اللحاظ التصوّري عين الخارج لا بالوجود الخارجي كما هو الشأن في سائر الكيفيات النفسيّة من المحبّة والاشتياق بل العلم والظنّ ونحوهما ، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركّب الذي يعتقد بوجود شيء بالقطع المخالف للواقع ، فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحقّقه في الخارج ، إذ لولا ما ذكرنا من تعلّق الصفات المزبورة بالعناوين والصور الذهنيّة بما هي ملحوظة خارجيّة ، يلزم خلوّ الصفات المزبورة عن المتعلّق في مثل الغرض مع أنّ ذلك كما ترى ( إلى أن قال ) : وعلى ذلك لا يبقى مجال لجعل المتعلّق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف الإيجاد » (١).

أقول : إنّا نقبل تعلّق الأوامر بالطبائع بما هي مرآة للخارج لكنّه بنفسه دليل على أنّ حقيقة المطلوب هو الوجود الخارجي الذي لا شكّ في أنّه منبع كلّ أثر ، وأنّ الأوامر وإن تعلّقت ابتداءً وفي بدو النظر بالوجود الذهني ولكنّها لا تستقرّ عليه بل تعبر منه إلى الإيجاد في الخارج فما تتعلّق به الأوامر حقيقة إنّما هو الإيجاد في الخارج ، ولكن من طريق تعلّقها بعناوين تشير إلى الخارج وتعبّر عنه ولا يقاس الأمر على العلم والظنّ.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٤٦٧
٤٦٨

الفصل الرابع عشر

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أو لا؟

ويمكن أن نعبّر عن عنوان البحث بأنّه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز على حدّ الاستحباب ، أو لا؟

واعلم أنّه لم يذكر في كلمات القوم مثالاً من الأمثلة الفقهيّة للمقام ولكن يمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ )(١) حيث يمكن أن يقال بأنّه يدلّ على وجوب الجهاد وإن كان المسلمون من حيث العدد عُشر عدد الكفّار ولكنّه نسخ بقوله تعالى بعده : ( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )(٢) فإنّه يدلّ على تخفيفه تعالى عن المسلمين ورفع وجوب الجهاد إلاّفيما إذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفّار على الأقلّ ، فيبحث حينئذٍ في أنّه هل يبقى جواز الجهاد أو استحبابه فيما إذا كان عدد المسلمين عُشر عدد الكافرين أو لا؟

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعروف بين المحقّقين عدم بقاء حكم الجواز فضلاً عن الاستحباب ، وهو الصحيح في المسألة ، وذلك لأنّ بقاء الجواز إمّا يستفاد من دليل الناسخ أو من دليل المنسوخ أو من دليل آخر خارج عنهما ، أمّا الدليل الناسخ فلا إشكال في عدم دلالته عليه حيث إنّه دالّ على مجرّد نسخ الحكم فقط لا أكثر وهذا واضح ، وبعبارة اخرى : أنّ لسانه لسان الرفع لا الوضع والإثبات.

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٦٥.

(٢) سورة الأنفال : الآية ٦٦.

٤٦٩

وأمّا دليل المنسوخ فقد يقال بدلالته على بقاء الجواز ببيان أنّ الوجوب الذي يكون مدلولاً له ـ مركّب من أمرين : طلب الفعل والمنع من الترك ، والمنفي بدليل الناسخ إنّما هو الجزء الثاني أي المنع من الترك ، وأمّا الجزء الأوّل وهو طلب الفعل واستحبابه فهو باقٍ على حاله.

ولكن اجيب عنه : بأنّ الوجوب ليس أمراً مركّباً بل أنّ حقيقته أمر بسيط ، والتعبير بتركيبه من طلب الفعل والمنع عن الترك تعبير تسامحي ، ولو سلّمنا كونه مركّباً منهما إلاّ أنّ أوّلهما بمنزلة الجنس وثانيهما بمنزلة الفصل ، وقد قرّر في محلّه أنّ الجنس والفصل من الأجزاء العقليّة الانتزاعيّة لا الحقيقية الخارجيّة حيث إنّ الجنس عبارة عن ماهية مبهمة لا محصّلة وإنّما يحصّل في الخارج بالفصل ، ومن الواضح أنّه لا يبقى بزوال الفصل حينئذٍ تحصّل للجنس في الخارج.

وأمّا الدليل من الخارج فلا يتصوّر في البين دليل إلاّ أصالة الاستصحاب ، أي استصحاب كلّي الجواز ، وقد اجيب عنه أيضاً بأنّ الاستصحاب في ما نحن فيه يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي ( نظير ما إذا كان كلّي الإنسان موجوداً في الدار مثلاً ضمن وجود زيد وبعد خروجه عن الدار شككنا في بقاء كلّي الإنسان بدخول عمرو ) وقد ثبت في محلّه عدم حجّيته.

نعم ، يمكن أن يقال أنّه قد استثنى من القسم الثالث صورة ما إذا كان الفرد الزائل والفرد المحتمل وجوده من مراحل شيء واحد في نظر العرف كالسواد الشديد والسواد الخفيف ، حيث إنّهما وإن كانا متباينين بالدقّة العقليّة إلاّ أنّهما عند العرف يعدّان من المراحل الوجوديّة لشيء واحد ، فيستصحب كلّي السواد إذا علمنا بزوال الفرد الشديد واحتملنا بقاء الفرد الخفيف ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الوجوب والاستحباب ( أو الجواز ) من المراحل الوجوديّة لحكم واحد عند العرف ، وهذا لا ينافي بساطة معنى الوجوب كما لا يخفى.

ولكن اجيب عنه أيضاً بأنّه خلاف ما نجده بوجداننا العرفي حيث إنّ الأحكام الخمسة متباينات عند العرف ، والميزان في باب الاستصحاب والحكم بتعدّد المتيقّن والمشكوك أو اتّحادهما إنّما هو العرف.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : ربّما يقاس ما نحن فيه بما ثبت في محلّه من أنّه إذا دلّت رواية على وجوب

٤٧٠

شيء ورواية اخرى على جواز تركه كان مقتضى الجمع العرفي بينهما رفع اليد من ظهور الأولى في الوجوب وحملها على الاستحباب ، فليكن المقام أيضاً من هذا القبيل ، فيحمل دليل المنسوخ على الاستحباب.

ولكنّه قياس مع الفارق ، حيث إنّ الكلام هناك أنّ الدليل الدالّ على جواز الترك يكون قرينة عرفيّة على كون المراد من الدليل الأوّل من أوّل الأمر هو الاستحباب مع أنّ المدّعى في المقام كون الحكم من أوّل الأمر إلى زمان ورود دليل الناسخ هو الوجوب لا غير.

الأمر الثاني : قال بعض الأعلام في المحاضرات : « إنّ دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمّت فإنّما تتمّ في المركّبات الحقيقيّة كالانسان والحيوان وما شاكلهما ، وأمّا في البسائط الخارجيّة فلا تتمّ أصلاً ولا سيّما في الأحكام الشرعيّة التي هي امور اعتباريّة محضة وتكون من أبسط البسائط ، ضرورة أنّ حقيقتها ليست إلاّ اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه ، ومن هنا قلنا أنّ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شيء منها مجعولاً شرعياً ، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار ، غاية الأمر أنّ نصب الشارع قرينة على الترخيص في الترك فينتزع العقل منه الاستحباب وإن لم ينصب قرينة عليه فينتزع منه الوجوب ، وعلى ضوء هذا فلا يعقل القول بأنّ المرفوع بدليل الناسخ إنّما هو فصل الوجوب دون جنسه ضرورة أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله » (١).

أقول : في كلامه رحمه‌الله مواقع للنظر :

أوّلاً : فلأنّ ما ذكره بالإضافة إلى حقيقة الأحكام الشرعيّة من « أنّ حقيقتها ليست إلاّ اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه » يستلزم عدم الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية مثل الديون ، حيث إنّه لا إشكال في أنّ مثل هذا الحكم الوضعي جعل في الذمّة ، فلو كان الحكم التكليفي أيضاً جعلاً للفعل مثلاً على الذمّة فما هو الفرق بين النوعين من الحكم؟

وإن شئت قلت : المتبادر من هيئة « افعل » في قوله « صلّ » مثلاً ومن هيئة « لا تفعل » في

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ، ص ٢٣.

٤٧١

قوله « لا تشرب الخمر » إنّما هو البعث إلى الصّلاة والزجر عن شرب الخمر ، لا جعل ثبوت الصّلاة في الذمّة أو جعل المحروميّة عن الشرب فإنّه مخالف لاتّفاق أرباب اللّغة والاصوليين من أنّ معنى الأمر طلب الفعل أو البعث إلى الفعل ، وأنّ معنى النهي طلب الترك أو الزجر عن الفعل ، فالتعبير بالدَين أو البقاء في الذمّة في بعض الكلمات ( حيث يعبّر مثلاً أنّ الصّلاة باقية على ذمّتي أو إنّي مديون بها ) بالنسبة إلى الأحكام التكليفية يكون من قبيل العناية والمجاز بلا إشكال.

ثانياً : ينتقض كلامه بالاباحة التي هي أيضاً من الأحكام الخمسة حيث إنّه لا معنى محصّل لجعل الجواز أو الإباحة على ذمّة المكلّف فيلزم التفكيك بينه وبين سائر الأحكام التكليفية مع أنّ جمعيها من سنخ واحد ، فتأمّل.

ثالثاً : إنّ بيانه بالنسبة إلى الاستحباب والكراهة مستبطن لنوع من التناقض في الجعل ، لأنّ الجعل على الذمّة لازمه كون المكلّف مديوناً للشارع ، والدَين لا يجتمع مع الترخيص عند العرف والعقلاء كما في الديون الماليّة ، فإن كان الإنسان مديوناً فلا يكون مرخّصاً وإن كان مرخّصاً فلا يكون مديوناً.

رابعاً : إنّ ما ذكره بالنسبة إلى الحرمة أيضاً لا يمكن الالتزام به لأنّ المحروميّة أمر عدمي لا يقبل الجعل والاعتبار ، إلاّ أن يراد منه جعل الترك والكفّ ، وهو وإن كان موافقاً لما ذهب إليه القدماء من الاصوليين ولكنّه خلاف التحقيق عند المحقّقين المتأخّرين حيث ذهبوا إلى أنّ النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك أو الكفّ.

خامساً : سلّمنا ما ذكره بالنسبة إلى حقيقة الحكم ولكنّه لا ينافي تصوير الجنس والفصل هنا ودعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل ، لأنّ الوجوب والاستحباب بناءً على هذا المبنى مشتركان في كون كليهما مجعولاً على ذمّة المكلّف إلاّ أنّ الشارع نصب القرينة على الترخيص في أحدهما دون الآخر ، فلهما قدر مشترك ، وهو أصل اعتبار الشارع ثبوت الفعل على الذمّة ( فيكون بمنزلة الجنس لهما ) ويكون لكلّ واحد منهما أمر يختصّ به ، وهو عدم الترخيص في الترك في الوجوب ( فيكون بمنزلة الفصل للوجوب ) والترخيص في الترك في الاستحباب ( فيكون بمنزلة الفصل للاستحباب ) وحينئذٍ يمكن أن يقال : إنّ عدم الترخيص يرفع بدليل الناسخ ، وأمّا أصل الاعتبار فيبقى على حاله.

٤٧٢

وإن شئت قلت : بين الحكمين أي الوجوب والاستحباب ما به الاشتراك وما به الامتياز ( أو بين منشأ انتزاعهما ) وهما وإن لم يكونا في المقام من الجنس والفصل ولكنّهما من قبيلهما ، فيمكن ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر لأنّ كليهما مجعولان من قبل الشارع.

إذا عرفت ذلك وانتهى الكلام إلى حقيقة الأحكام الشرعيّة وناقشنا في المبنى المزبور فينبغي البحث في أنّ حقيقتها ماذا؟

فنقول : أمّا الوجوب والحرمة فحقيقتهما إتّضحت ضمن الأبحاث السابقة ، فإنّ الوجوب عبارة عن البعث الشديد إلى الفعل ، والحرمة هي الزجر الشديد عن الفعل ، وأمّا الاستحباب فحقيقته أيضاً هو البعث إلى الفعل ولكن مرتبة خفيفة من البعث ، كما أنّ الكراهة أيضاً حقيقتها هي الزجر عن الفعل ولكن زجراً خفيفاً وهذا كلّه ما يوافقه الارتكاز العرفي مع قطع النظر عن بيان الشرع.

وأمّا الإباحة فهي إرسال تشريعي وترخيص إنشائي اعتباري من جانب الشارع نظير الترخيص التكويني فيما إذا فتحت باب دارك مثلاً ورفعت الموانع عن الدخول فيها ، فكما أنّ الإباحة التكوينيّة عبارة عن رفع المانع وإطلاق السراح والترخيص كذلك الإباحة الإنشائيّة التشريعيّة.

٤٧٣
٤٧٤

الفصل الخامس عشر

الواجب التخييري

لا إشكال في أصل وجود الواجب التخييري في القوانين الشرعيّة والعقلائيّة نظير التخيير في باب الكفّارات بين اطعام الستّين مسكيناً أو كسوتهم أو تحرير الرقبة ، وفي باب الديّات بين الامور الستّة المعروفة وفي باب الصّلاة بين الحمد والتسبيحات الأربعة في الركعة الثالثة والرابعة ، وفي القوانين العقلائيّة نظير التخيير بين المجازاة بالمال والمجازاة بالحبس ، وعند الموالي العرفيّة نظير قول المولى لعبده : « إشتر من هذا السوق أو من ذاك ».

إنّما الإشكال في بيان حقيقته وتوجيه ماهيّته ، وقد توجّهت من جانب المحقّقين عدّة إشكالات وعويصات لا بدّ من حلّها.

أحدها : أنّ الواجب التخييري إن كان واجباً من الواجبات فكيف يجوز تركه؟

ثانيهما : أنّه كيف يمكن تعلّق الإرادة التشريعيّة بعنوان أحدهما اللامعيّن مع عدم إمكان تعلّق الإرادة التكوينيّة به؟

ثالثها : قضيّة تعدّد العقاب ووحدته إذا ترك كلّ واحد من الأطراف ، أو تعدّد الثواب ووحدته إذا أتى بجميع الأطراف.

فما هو التصوير الصحيح عن الواجب التخييري بحيث يمكن ارتفاع هذه الشبهات والتخلّص عنها؟

فنقول : قد ذكر في مقام تصويره وجوه عديدة :

منها : أن يكون الواجب حقيقة هو الفرد المردّد ، وهذا هو مختار المحقّق النائيني رحمه‌الله.

ومنها : أن يكون المأمور به هو الجامع الانتزاعي ، وهو عنوان أحدهما الكلّي ، وهذا ما اختاره في المحاضرات وهو الأقوى.

٤٧٥

ومنها : أن يكون المأمور به جامعاً حقيقيّاً بين الأفراد ، أي كان للافراد قدراً مشتركاً واقعيّاً يراه الشارع فقط فيأمر به ولا يراه المكلّف ، فهو نظير الحرارة التي تكون مشتركاً خارجاً وحقيقة بين الشمس والنار ، وقدراً جامعاً حقيقيّاً بينهما ، وهذا ممّا لم نعرف له قائلاً مشخّصاً.

ومنها : أن يكون كلّ واحد من الطرفين ( أو الأطراف ) واجباً مشروطاً بعدم إتيان الآخر ، وهذا ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله.

ومنها : أن يكون لكلّ واحد من الأطراف نوع خاصّ من الوجوب إجمالاً يمتاز عن الوجوب في الواجب التعييني ، وهذا هو ظاهر كلام السيّد اليزدي رحمه‌الله في حاشيته على المكاسب في مباحث البيع الفاسد.

ومنها : أن يكون الواجب طرفاً معيّناً من الأطراف عند الله تبارك وتعالى ، وهو نفس ما يختاره المكلّف في مقام الامتثال ، وحيث إنّ الله تعالى كان عالماً بمختار المكلّف أوجب عليه خصوص ذلك الفرد ، وقد نسب هذا القول إلى الأشاعرة ، وقيل أنّ كلاً من الأشاعرة والمعتزلة نسب هذا الوجه إلى صاحبه لسخافته.

ومنها : التفصيل الذي أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية بين ما إذا كان هناك غرض واحد قائم بكلا الطرفين ( أو بكلّ واحد من الأطراف ) فيكون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي بينهما ويكون التخيير عقليّاً ، وبين ما إذا كان في البين غرضان يقوم بكلّ واحد منهما واحد من الطرفين ، فيكون الواجب حينئذٍ كلّ واحد من الطرفين ( أو الأطراف ) على نحو من الوجوب ويكون التخيير حينئذٍ شرعيّاً.

إذا عرفت الأقوال المختلفة والوجوه العديدة في المسألة فنقول : لا بدّ من طرح البحث في مقامين : مقام الثبوت ومقام الإثبات ( وقد وقع الخلط بينهما في بيان المحاضرات ).

أمّا مقام الثبوت : فالأولى في حلّ الإشكال في هذا المقام هو الرجوع إلى الواجبات التخييريّة الموجودة عند العرف وتحليل ما يوجد في الأشياء الخارجيّة من المصالح.

فنقول : أنّ المصالح الموجودة في الأشياء تتصوّر على صور أربعة : فتارةً : تقوم المصلحة بشيء لا يقوم مقامه شيء آخر كما إذا كان الوصول إلى مقصد متوقّفاً على طيّ طريق خاصّ ولم يوجد طريق آخر إليه ، أو انحصر علاج مرض بدواء خاصّ.

٤٧٦

واخرى : تقوم مصلحة واحدة بأمرين مختلفين ، فيكون مثلاً لمرض خاصّ طريقان من العلاج ، ويقوم أحدهما مقام الآخر كما أنّه يتّفق كثيراً مّا في الخارج عند العرف والعقلاء فيقال : هذا مشابه لذاك.

وثالثة : توجد هناك مصلحتان مختلفتان يقوم كلّ واحدة منهما بطريق يخصّه ، فيمكن استيفاء مصلحة كلّ منهما بطريقه الخاصّ به ، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر بل أحدهما يوجب اعدام أثر الآخر كداوئين مختلفين يؤثّران في علاج مرضين مختلفين لا يمكن الجمع بينهما.

ورابعة : توجد هناك مصلحتان متلائمان لا تباين ولا تضادّ بينهما في التأثير بل أحدهما يقوم مقام الآخر ، ولكن لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما في زمان واحد كإنقاذ الغريقين.

لا إشكال في أنّ الواجب في الصورة الاولى واجب تعييني وهو واضح ، كما لا إشكال في أنّ الواجب في الصورة الثانيّة إنّما هو القدر الجامع الحقيقي بين الأمرين ، أي الواجب واحد ولكن له مصداقان يوجب تخيير الإنسان عقلاً.

وأمّا الصورة الثالثة والرابعة ( اللتان يكون التضادّ في أحدهما من جانب ذاتي الشيئين وفي الآخر من جانب المكلّف وعدم قدرته على الجمع بينهما في مقام الامتثال ) فيكون التخيير فيهما مولويّاً ويكون متعلّق الطلب عنوان أحدهما ، أي الجامع الانتزاعي ، لأنّ المفروض أنّه ليس في البين جامع حقيقي حتّى يكون هو متعلّق الغرض والطلب ، بل يكون الغرض قائماً بأحدهما ، فليكن الطلب أيضاً متعلّقاً بعنوان أحدهما الذي يكون عنواناً مشيراً إلى أحد الفردين في الخارج ـ وهذا هو الوجه الثاني أو القول الثاني من الوجوه المذكورة آنفاً.

أمّا الوجه الأوّل : وهو أن يكون الواجب الفرد المردّد.

ففيه : أنّ الفرد المردّد لا يكون كلّياً يمكن انطباقه على كلّ واحد من الفردين بل إنّه جزئي حقيقي يتصوّر فيما إذا تعلّق الحكم بفرد معيّن خاصّ ولكنّه تردّد بين الفردين بحصول جهل أو نسيان ، وأمّا في المقام فلم يتعلّق الطلب بفرد معيّن ، بل المتعلّق فيه كلّي « أحدهما » الذي ينطبق على كلّ من الطرفين على حدّ سواء.

إن قلت : إذا علم بنجاسة أحد الإنائين ، ثمّ عرض له النسيان ثمّ انكشف له كون كلّ واحد منهما نجساً في الواقع ، فلا إشكال حينئذٍ في تعلّق علم الإنسان بالفرد المردّد مع عدم تعيّنه في الخارج ، فلا منافاة بين أن يكون متعلّق العلم الإجمالي الفرد المردّد وبين عدم تعيّنه في الخارج ،

٤٧٧

وإذا أمكن هذا في الصفات الحقيقيّة كالنجاسة والطهارة أمكن في الامور الاعتباريّة بطريق أولى ، فيمكن أن يتعلّق التكليف بالفرد المردّد بين الشيئين مع عدم تعيّنه في الخارج (١).

قلنا : إنّ متعلّق العلم الإجمالي في المثال المزبور أيضاً متعيّن في الواقع وفي علم الله تعالى ، لأنّ ما علم المكلّف بنجاسته كان إناءً خاصّاً معيّناً وحصل العلم فيه بطريق خاصّ كالرؤية بالبصر مثلاً ، ولا إشكال في أنّ متعلّق هذا الطريق ـ أي المرئيّ بالبصر ـ شيء معيّن خاصّ ، فقياس ما نحن فيه بمثل هذه الموارد قياس مع الفارق.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ قوام الفرديّة بالتعيين والتشخّص ، أي يكون الفرد جزئيّاً حقيقيّاً وإلاّ لا يكون فرداً ، وهذا لا ربط له بالواجب التخييري الذي يكون المتعلّق فيه كلّياً وهو عنوان « أحدهما ».

وأمّا الوجه الثالث : وهو أن يكون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي.

ففيه : أنّ لازمه إنكار التخييري الشرعي وإرجاع جميع الواجبات التخييريّة إلى التخيير العقلي ، لأنّ لازم كون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي في جميع الموارد وجود جامع حقيقي فيها ، ومع وجوده يكون التخيير بين الأطراف هو التخيير بين مصاديق كلّي واحد كالصّلاة بالنسبة إلى أفرادها الكثيرة من حيث الزمان أو المكان ، ولا إشكال في أنّ تخيير المكلّف بين مصاديق الصّلاة ، أي تخييره بين أن يأتي بها في هذا المكان أو ذاك المكان ، أو تخييره بين أن يأتي بها في هذه الساعة أو تلك الساعة ، تخيير عقلي ، مع أنّ محلّ البحث إنّما هو الواجبات التخييريّة الشرعيّة أو المولويّة الموجودة في القوانين العقلائيّة أو في لسان الشرع.

وأمّا الوجه الرابع : وهو أن يكون وجوب كلّ واحد من الطرفين مشروطاً بترك الآخر ـ ففيه أنّه يستلزم تعدّد العقاب في صورة ترك كلا الطرفين ، لأنّ ترك كلّ واحد منهما يوجب تحقّق شرط وجوب الآخر ، فيصير وجوب كلّ منهما فعلياً ، ويكون لازم ترك كليهما ترك الواجبين وتحقّق معصيتين ، ولازمه تعدّد العقاب ، مع أنّه لا نظنّ أن يلتزم به أحد.

وأمّا القول الخامس : وهو أن يكون الواجب كلاّ من الطرفين ولكن بنوع من الوجوب غير الوجوب التعييني ، وهو بمعنى جواز تركه إلى بدله.

__________________

(١) راجع هامش أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٨٣.

٤٧٨

ففيه : أنّ الوجدان حاكم على أنّ للوجوب نحواً واحداً لا أنحاء مختلفة لأنّه بمعنى البعث تشريعاً كالبعث التكويني ، ولا إشكال في أنّ البعث التكويني لا يتصوّر له أنحاء مختلفة ، إنّما الفرق في المتعلّق ، فإنّ المتعلّق في الواجب التعييني هو أحدهما المعيّن وفي الواجب التخييري أحدهما اللامعيّن.

وأمّا القول السادس : وهو أن يكون الواجب ما يختاره المكلّف وما يكون معيّناً عند الله تعالى ـ ففيه أنّه أسوأ حالاً من سائر الأقوال ، ولذلك قد تبرّأ منه كلّ من الأشاعرة والمعتزلة ونسبه إلى صاحبه ، وذلك لأنّ مقام الامتثال واختيار المكلّف وانبعاثه متأخّر رتبة عن مقام البعث والإيجاب ، فكيف يتقدّم عليه ويكون جزءً لموضوعه؟

هذا ـ مضافاً إلى أنّ لازمه كون إرادة الله تابعة لإرادة المكلّف واختياره ـ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأمّا القول السابع : وهو تفصيل المحقّق الخراساني رحمه‌الله فقد ظهر الجواب عنه ممّا مرّ في الجواب عن القول الخامس ، لأنّ لازمه أيضاً أن يكون للوجوب أنحاء مختلفة ، حيث إنّ الواجب عنده ـ فيما إذا كان لكلّ واحد من الطرفين غرض على حدة لا يقوم أحدهما مقام الآخر ـ هو كلّ واحد من الطرفين بنحو من الوجوب ، ولازمه أن يكون للواجب التخييري نحو من الوجوب غير الوجوب التعييني.

هذا ـ مضافاً إلى وقوع الخلط في كلامه رحمه‌الله بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي ، فإنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو تبيين حقيقة التخيير الشرعي ، أي ما إذا كان متعلّق الخطاب أحد الشيئين أو أحد الأشياء كما صرّح به في صدر كلامه ، فجعل المقسم في تقسيمه وتفصيله ما « إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء » مع أن متعلّق الأمر في التخيير العقلي شيء واحد ، وهو القدر الجامع الحقيقي بين الأطراف.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات : فلا إشكال أيضاً في أنّ المتعلّق إنّما هو عنوان « أحدهما » أو « أحدها » في موارد العطف بكلمة « أو » لأنّ المتبادر عرفاً من هذه الكلمة أنّ الخصوصيّات الفرديّة لا دخل لها في الحكم وأنّ الحكم تعلّق بأحد الشيئين أو أحد الأشياء ، نظير ما ورد في قوله تعالى في باب الكفّارات : ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ

٤٧٩

كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )(١) ، كما أنّ المتبادر منها أنّ الأغراض متعدّدة لأنّه لو كان الغرض واحداً وهو ما يقوم بالقدر الجامع الحقيقي كان الأولى أن يتعلّق الخطاب به من دون العطف بكلمة « أو » ، فإنّ الظاهر المتبادر من قولك : « اجعل زيداً أو عمراً صديقاً لنفسك » أنّ الخصوصيّات الفرديّة لزيد وعمرو تكون دخيلة في الغرض ، وإلاّ كان الأولى أن تقول : « اجعل الإنسان صديقاً لك » وبالجملة إنّ ظاهر العطف بكلمة « أو » عدم كون التخيير عقليّاً إلاّ إذا قامت قرينة على الخلاف ، وكذا كلّ ما يؤدّي معنى هذه الكلمة.

لا يقال : « أنّ الكلّي المنتزع كعنوان أحدهما غير ملحوظ في الأوامر العرفيّة ولا يلتفت إليه » (٢) لأنّا نقول : فرق بين عمل الانتزاع الذهنبي في وعاء الذهن وتحليل حقيقة الانتزاع والمفاهيم الانتزاعيّة الذهنيّة ، والإنصاف أنّ ما يكون غير ملحوظ عند العرف إنّما هو الثاني ، وأمّا الأوّل فلا إشكال في أنّ عمل الانتزاع يتحقّق في ذهن العرف كثيراً من غير إلتفات إلى حقيقته كما أنّه كذلك في كثير من القضايا المنطقية كما لا يخفى.

بقي هنا شيء :

جواز التخيير بين الأقلّ والأكثر

لا إشكال في وقوع التخيير بين الأقلّ والأكثر في لسان العرف والشرع نظير التخيير بين الواحد والثلاث أو بين الواحد والأكثر في ذكر الركوع والسجود والتسبيحات الأربعة ونظير التخيير بين الثلاثين دلواً والأربعين دلواً مثلاً في بعض منزوعات البئر ، والتخيير بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة المعروفة ( ويمكن أن يناقش في الأخير بأنّه من قبيل المتباينين لاعتبار اندراج الأقلّ بتمام أجزائه وخصوصّياته ضمن الأكثر بينما صلاة القصر ليست كذلك لأنّها مندرجة في الإتمام مجرّدة عن التسليم ) هذا في لسان الشرع ، وأمثلته في العرف أيضاً كثيرة.

إنّما الإشكال فيما ذكر لعدم إمكانه عقلاً من دعوى أنّه مع تحقّق الأقلّ في الخارج وحصوله

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٨٩.

(٢) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٤٨٠