أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

كذلك تمايز العلوم واختلاف بعضها يكون بذاتها فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميّزة بذواتها عن قضايا علم آخر » (١).

أقول : الإنصاف أنّ جميع هذه الأقوال لا يخلو من الإشكال ، والأولى أن يقال : إنّ تمايز العلوم كوحدتها قد يكون بالموضوعات واخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلك لما مرّ في البحث عن ملاك الوحدة من تحليل تاريخي لتدوين العلوم وتأليفها ، فقد ذكرنا فيه أنّ ملاك وضع كلّ علم على حدة وتمييزه عن سائر العلوم هو وجود التناسب والتناسخ بين مسائله ودخولها تحت عنوان جامع ، ولا إشكال في أنّ تناسب المسائل قد يكون بوحدة الموضوع واخرى بوحدة المحمول وثالثة بوحدة الغرض فليكن التمايز أيضاً كذلك كما لا يخفى.

وأمّا مقالة المشهور فلا يتصوّر لها دليل إلاّتوهّم احتياج كلّ علم إلى موضوع لقاعدة الواحد ، وقد مرّت المناقشة فيها. ومنه يظهر إشكال القول الثالث حيث إنّه مبني على قبول أن يكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات.

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله فيرد على دليله الثاني أنّ تداخل علمين في عدّة من مسائلهما لا يضرّ بتمايز أحدهما عن الآخر إذا كانت النسبة بين مسائلهما العموم من وجه ، لأنّ التمايز حينئذٍ يحصل بموضع الافتراق كما لا يخفى.

كما يرد على دليله الأوّل أنّ القائل بكون التمايز بالموضوعات يدّعي أنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوعات لا العكس ( وهو أنّ كلّ متمايز بموضوعه يكون علماً على حدة ).

وأمّا ما أفاده في تهذيب الاصول فيرد عليه أنّ ذوات العلوم ليست أمراً خارجاً عن مسائلها لأنّه لا ريب في أنّ مسائلها عبارة عن القضايا المبحوثة عنها فيها ، والقضايا ليست أمراً وراء الموضوعات والمحمولات والنسب بينهما ، فذوات العلوم عين موضوعاتها ومحمولاتها ونسبها ، فلابدّ أن يكون التمايز بأحد هذه الامور أو بالأغراض.

المسألة الثالثة : في موضوع علم الاصول

وهو عند جماعة من الأصحاب ( منهم صاحب القوانين ) الأدلّة الأربعة ، والظاهر من

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤ ، من الطبع القديم.

٤١

كلماتهم أنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة.

وقد أورد عليه بأنّ لازمه خروج جلّ مباحث علم الاصول عن مسائله ودخولها في المباديء ، لأنّه حينئذٍ يكون البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة ودليليّتا بحثاً عن نفس الموضوع لا عن عوارضه ، فإنّ المفروض أنّ الدليليّة قيد للموضوع ، والبحث عن قيود الموضوع يكون من المباديء التصوّريّة للعلم.

وقد تفطّن لهذا صاحب الفصول رحمه‌الله وقال في مقام دفعه : إنّ موضوع علم الاصول عبارة عن الأدلّة بذواتها لا بوصف دليليتها ، أي الأدلّة بما هي هي.

ولكن أورد عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ( بعد أن اختار أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة ) بما حاصله أنّ المراد من السنّة مثلاً إن كان هو السنّة الواقعيّة فلازم هذا القول أن يكون البحث عن السنّة في علم الاصول بحثاً عن ثبوت كلام المعصوم ووجوده بمفاد كان التامّة ، والحال أنّ المسائل تبحث عن عوارض الموضوع بمفاد كان الناقصة ، ثمّ قال :

إن قلت : البحث عن السنّة في علم الاصول بحث عن ثبوت الكلام الواقعي للمعصوم بخبر الواحد تعبّداً وعدمه فيقال : هل السنّة الواقعيّة تثبت بخبر الواحد تعبّداً أو لا؟ والثبوت التعبّدي ( أي وجوب العمل على طبق الخبر ) إنّما هو من العوارض.

قلنا : هو كذلك ولكنّه من عوارض الخبر ( أي السنّة الظاهريّة ) لا من عوارض السنّة الواقعيّة ( قول المعصوم وفعله وتقريره واقعاً ).

هذا كلّه إذا كان المراد من السنّة السنّة الواقعيّة.

وإن كان المراد من السنّة مطلق السنّة الأعمّ من الواقعيّة والظاهريّة فهو وإن كان لازمه كون المسائل المطروحة حول البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة داخلة في علم الاصول إلاّ أنّه لا يكون بعدُ جامعاً لجميع المسائل ، لخروج مباحث الألفاظ وجملة من غيرها (١) عنها بل الداخل فيها إنّما هو مباحث حجّية خبر الواحد والتعادل والتراجيح ، ( انتهى كلامه بتوضيح منّا ).

__________________

(١) لعلّ المقصود من قوله « غيرها » هو الاصول العمليّة لعدم كونها من الأدلّة الأربعة بل هي بيان لوظيفة الشاكّ في الحكم الواقعي وإن كانت أدلّة حجّيتها من الأدلّة الأربعة.

٤٢

أقول : أضف إلى ذلك كلّه أنّ القول بأنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بذواتها وهكذا القول الأوّل ( وهو أنّ الموضوع الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة ) ينافي ما التزموا به من لزوم وحدة الموضوع لأنّه لا جامع بين الأدلّة الأربعة.

وأمّا ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من « أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة » من دون أن يذكر له عنواناً خاصّاً واسماً مخصوصاً بإعتذاره بعدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلاً ـ ففيه إشكال ظاهر لأنّه في الحقيقة فرار عن الإشكال ، وليس بحلّ له ، لأنّه لقائل أن يقول : أي دليل على وجود جامع واحد بين موضوعات المسائل بعد ما مرّ من المناقشة في التمسّك بقاعدة الواحد في هذا المجال؟ مضافاً إلى أنّه تعريف بأمر مبهم لا فائدة فيه ، ولا يناسب ما يراد من بيان موضوع العلم لا سيّما للمبتديء.

وهاهنا قول رابع ، وهو ما أفاده المحقّق البروجردي رحمه‌الله من أنّ موضوع علم الاصول هو « الحجّة في الفقه » ، ولا يخفى أنّه أقلّ اشكالاً من الأقوال السابقة لأنّ عنوان « الحجّة في الفقه » عنوان جامع واحد لجميع الأدلّة فلا يرد عليه ما أُورد على القول الأوّل والثاني ، مضافاً إلى وضوحه وعدم ابهامه ، فيكون سالماً عمّا أوردناه على مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، ومضافاً إلى شموله للُاصول العمليّة بأسرها لشموله للاستصحاب مثلاً ، لأنّه لا ريب في إنّه حجّة وإن لم يكن دليلاً ، كما يشمل أيضاً الظنّ الانسدادي حتّى على الحكومة لكونه حجّة ومعذّراً عن العقاب ، والاحتياط العقلي والبراءة العقليّة لأنّ الأوّل حجّة ومنجّز ، والثاني حجّة ومعذّر ، وحينئذ لا يرد على قوله ما اورد على مقالة صاحب الفصول كما لا يخفى.

نعم يمكن الإيراد عليه من طريقين :

الأوّل : إنّه لا يعمّ المباحث اللّفظيّة لأنّها لا تعدّ حجّة في الفقه لعدم اختصاصها بالألفاظ المستعملة في خصوص لسان الشارع بل إنّها قواعد عامّة تجري في جميع الألفاظ واللغات ، فإنّ قضيّة « صيغة الأمر تدلّ على الوجوب » مثلاً قاعدة لفظيّة عامّة تجري في جميع الأوامر شرعيّة كانت أو عرفيّة.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ دلالة الأمر على الوجوب مثلاً تكون بمنزلة عرض عامّ يعرض الأوامر الشرعيّة أيضاً ، فيمكن أن تعدّ الأوامر الشرعيّة بهذا اللحاظ مصداقاً من

٤٣

مصاديق « الحجّة في الفقه » كما أنّ كتاب الله تعالى أو العقل حجّة في الفقه وغيره معاً.

الثاني : أنّه يرد على عنوان الحجّة في الفقه بوصف كونها حجّة نفس ما أورده على عنوان الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة إلاّ أن يقال أنّ الموضوع إنّما هو ذات الحجّة لا هي بوصف الحجّية كما هو المختار.

وبهذا اندفع جميع الإشكالات الواردة على هذا القول ، وظهر أنّ ما ذكره المحقّق المذكور هو الذي ينبغي أن يركن إليه في هذا الباب ، غير إنّه يبقى عليه أنّه في الواقع راجع إلى وحدة الغرض ، وإنّما اشير إلى وحدة الموضوع من هذه الجهة ، فكأنّه قيل : إنّ موضوع اصول الفقه هو كلّ شيء ينفع في استنباط الأحكام الشرعيّة ، فلا جامع بين الكتاب والسنّة ودليل العقل والإجماع والاصول الأربعة العمليّة والشهرة الفتوائيّة ( على القول بحجّيتها ) وغيرها من أشباهها إلاّ أنّها تفيد الفقيه في استنباطاته.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه لا يخفى إنّا في فسحة من ناحية إشكال عدم وحدة الموضوع لما اخترناه سابقاً من عدم توقّف وحدة العلم واستقلاله عليها بل يكفي فيه وحدة المحمول أو الغرض ، ولا إشكال في أنّ الغرض في المسائل الاصوليّة واحد وهو حصول القدرة على استنباط الحكم الشرعي.

المسألة الرابعة : تعريف علم الاصول

وقد ذكرت له تعاريف عديدة :

الأوّل : ما ذهب إليه المشهور وهو أنّه « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية ».

وقد أورد عليه بعدم شموله للُاصول العقليّة ( وهي الاحتياط العقلي والبراءة والتخيير العقليين ) لأنّها تدلّ على وجود العذر أو عدمه ، ولا يستنبط منها الحكم الشرعي ، وهكذا الظنّ الانسدادي على الحكومة.

نعم يمكن أن يقال : إنّ المراد من الحكم هو الأعمّ من الواقعي والظاهري ، ولا إشكال في أنّ مفاداة الاصول العمليّة أحكام شرعيّة ظاهريّة فإنّ البراءة الشرعيّة مثلاً تدلّ على الإباحة في

٤٤

مقام الظاهر ، لكن هذا يفيد في الاصول الشرعيّة ، ويبقى الكلام بعدُ في البراءة العقليّة والظنّ الانسدادي بناءً على الحكومة ، لأنّهما يكشفان عن عدم العقاب فحسب ولا يدلاّن على ثبوت الحكم ، وكذا الاحتياط العقلي ، نعم لا مانع من الاستطّراد في هاتين المسألتين.

الثاني : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية وهو « أنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل ».

ولا يخفى أنّ قوله « يمكن أن تقع ... » عوضاً عن تعبير المشهور « الممهّدة » إنّما تكون لأجل شمول التعريف للمباحث اللّفظيّة لأنّها وإن لم تكن ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي ومخصوصة به بل يستفاد منها في استنباط غيره أيضاً ، إلاّ إنّه لا إشكال في أنّها يمكن أن تقع في طريق الاستنباط.

كما أنّ تعريفه يشمل الاصول العقليّة والظنّ الانسدادي على الحكومة أيضاً لدخولهما تحت عنوان « أو التي ينتهي إليها في مقام العمل » الوارد في ذيل التعريف.

نعم يرد عليه : أوّلاً : أنّ تعبيره بأنّ علم الاصول « صناعة » بدل كلمة « العلم » تعبير غير مناسب عرفاً ، لأنّ الصناعة تطلق في العرف على العمل لا العلم إلاّمجازاً.

وثانياً : أنّه ليس مانعاً عن دخول القواعد الفقهيّة لكونها أيضاً قواعد تقع في طريق الاستنباط.

الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو « إنّه علم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي » (١).

ويرد عليه : أنّه لا يعمّ البراءة العقليّة وشبهها والظنّ الانسدادي على الحكومة لأنّ مدلول كلّ واحد منها المعذّريّة عن العقاب ولا يستنبط منها الحكم الشرعي ، لا الواقعي ولا الظاهري كما أشرنا إليه آنفاً.

الرابع : ما في تهذيب الاصول من أنّه « هو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة ».

فأخرج بقيد « الآليّة » القواعد الفقهيّة لأنّها ينظر فيها لا بها فتكون استقلاليّة لا آليّة ، كما

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٩ طبع جماعة المدرّسين.

٤٥

أدخل بقوله « يمكن أن تقع » نحو القياس والشهرة والاستحسان التي ليست حجّة عندنا ولكنّها يمكن أن تقع حجّة عند القائلين بها ، وبقوله « تقع كبرى » أخرج مباحث سائر العلوم ، ولم يقيّد الأحكام بالعمليّة ، لعدم كون جميع الأحكام عمليّة كالوضعيّات وكثير من مباحث الطهارة وغيرها ، وإضافة قيد « الوظيفة » لادخال مثل الظنّ على الحكومة ، وأمّا عدم اكتفائه بأنّه « ما يمكن أن تقع كبرى استنتاج الوظيفة » فهو لعدم كون النتيجة وظيفة دائماً ، وانتهائها إلى الوظيفة غير كونها وظيفة (١).

أقول : هذا التعريف مع سلامته عمّا أُورد على غيره يرد عليه : أنّ قيد الآليّة لا يكفي لإخراج القواعد الفقهيّة بل لا بدّ من جعل قيد « التي لا تشمل على حكم شرعي » مكانه لما حقّقناه في محلّه من أنّ القواعد الفقهيّة تشتمل دائماً على حكم كلّي شرعي ، تكليفي أو وضعي ، وجودي أو عدمي تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة العمليّة ، ومجرّد كونها تطبيقية لا يضرّ بكونها آليّة كما لا يخفى. فظهر ممّا ذكرنا عدم تماميّة كلّ واحد من التعاريف الأربعة.

والأولى أن يقال : « إنّه القواعد التي لا تشتمل على حكم شرعي وتقع في طريق استنتاج الأحكام الكلّية والفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة » والاحتراز بكلّ من هذه القيود ممّا يجب إخراجه عن التعريف أو ادخاله يظهر ممّا ذكرناه.

__________________

(١) راجع ص ٦ من تهذيب الاصول : ج ١ ، الطبع القديم.

٤٦

الأمر الثاني : الوضع وأحكامه

١ ـ حقيقة الوضع

ووجه الحاجة إلى البحث عنها ارتباط غير واحد من الأدلّة الأربعة بباب الألفاظ ، فلابدّ حينئذٍ من معرفة بعض قوانينها والقواعد الموضوعة لها.

قد يتوهّم أنّ دلالة الألفاظ على معانيها ليست من ناحية الوضع بل إنّها ذاتيّة فلا حاجة إلى البحث عنه.

ولكنّه خلاف ما نجده بوجداننا إلاّفي باب أسماء الأصوات ، فيوجد فيها ربط ذاتي بين المعاني والألفاظ كما هو ظاهر.

وكيف كان فبناءً على عدم ذاتيتها وكونها ناشئة من ناحية الوضع يقع البحث في حقيقة الوضع وأنّها هل هي بمعنى الجعل ، أو بمعنى الالتزام ، أو بمعنى الانس الذهني؟

القول الأوّل : ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « إنّه نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما ناشٍ من تخصيصه به تارةً ومن كثرة استعماله فيه اخرى ».

ولا يخفى ما فيه من الابهام الذي لا يغتفر مثله في مقام التعريف نظير ما مرّ منه في تعريفه لعلم الاصول.

القول الثّاني : إنّه نوع استيناس ذهني يحصل بين اللفظ والمعنى بحيث ينتقل الذهن من أحدهما إلى الآخر.

وهذا مقبول في الوضع التعيّني ، أمّا في التعييني فلا معنى محصّل له ، لأنّ الانس والعلاقة الذهنيّة أمر متأخّر عن الوضع يحصل من كثرة الاستعمال الحاصلة بعد الوضع.

القول الثالث : أنّه التزام وتعهّد من ناحية أهل اللّغة بأنّه كلّما استعمل هذا اللفظ اريد منه هذا المعنى ، إن قلت : الالتزام يتصوّر بالنسبة إلى الوضع فقط ، وتعهّد الواضع لا يلازم تعهّد غيره مع أنّ غيره أيضاً يستعمل اللفظ الموضوع كإستعماله.

٤٧

قلت : إنّه إذا تولّد الإنسان بين أهل لغة خاصّة وعاش فيهم كان ذلك في الواقع تعهّداً ضمنيّاً على الالتزام بجميع ما كان بينهم من الآداب والسنن والالتزامات ومنها الالتزام بمعاني الألفاظ وأوضاعها.

ويرد عليه : أنّ الوجدان حاكم على أنّ جملة « وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى » ليس بمعنى « تعهّدت إنّي كلّما ذكرت هذا اللفظ أردت منه هذا المعنى » بل هو من قبيل جعل علامة للمعنى كما يشهد به كلمة « الوضع » فإنّه بمعنى الجعل والنصب.

القول الرابع : ما أفاده جمع من المحقّقين وهو أنّ حقيقة الوضع أمر اعتباري وهو جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار.

توضيحه : إنّه تارةً يوضع شيء علامة لشيء آخر في عالم الخارج كوضع علامات الفراسخ في الطرق ، والعمامة السوداء مثلاً لكون الشخص هاشميّاً ، وقد يوسم بعض الحيوانات ويجعل له علامة كي يعرفه صاحبه ، واخرى يجعل شيء علامة لشيء آخر في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات الخارجيّة ، ومن هذا القسم جميع المفاهيم الإنشائيّة التي تكون اموراً اعتباريّة مشابهة لمصاديقها الخارجيّة من بعض الجهات ، فإنّ ملكيّة الإنسان وسلطنته على ماله عند العقلاء في عالم الاعتبار مثلاً أمر ذهني يشبه ملكيته وسلطنته على نفسه تكويناً ، والزوجيّة بين الزوج والزوجة تجعل في عالم الاعتبار وفقاً للزوجيّة التكوينيّة بين الأشياء الخارجيّة ، وكذلك الألفاظ بالنسبة إلى معانيها في ما نحن فيه ، فإنّ حقيقة الوضع جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات التي توضع على الأشياء الخارجيّة.

أقول : وهذا أحسن ما يمكن أن يقال في المقام ، إلاّ أنّه يتصوّر في خصوص الوضع التعييني ، أمّا في التعيّني فلا ، لعدم جعل ولا إنشاء فيه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ علينا اختيار قول خامس يشمل ويعمّ كلا نوعي الوضع ، وهو أن يلتزم بالتفكيك بين النوعين في حقيقتهما ويقال : إنّ الوضع التعييني حقيقته جعل اللفظ علامة للمعنى كما مرّ في القول الرابع ، وامّا التعيّني فحقيقته هو الانس الذي يحصل من كثرة استعمال اللفظ التي توجب تبادر المعنى إلى الذهن من سماع اللفظ كما مرّ في القول الثاني ، فلابدّ من الجمع بين تعريفين من التعاريف السابقة كيما يكون التعريف تامّاً وجامعاً لجميع أنواع الوضع.

٤٨

٢ ـ من الواضع؟

الكلام في تعيين شخص الواضع وإنّه مَن هو؟ فهل هو الله تعالى أو إنسان خاصّ ، أو جماعة خاصّة من أبناء البشر ، أو أفراد غير معروفين؟

من الواضح أنّ الأنبياء كانوا يتكلّمون بلسان قومهم كما قال تبارك وتعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(١) ، ومنه يعلم عدم نزول الألفاظ عليهم من ناحية الله تعالى ، كما أنّ الظاهر عدم دلالة شيء من النصوص أيضاً على كون الواضع هو سبحانه أو أنبيائه عليهم‌السلام ولو فرض قبول ذلك في خصوص اللسان الذي كان يتكلّم به آدم عليه‌السلام فلا شكّ في أنّه غير مقبول بالنسبة إلى اللغات الاخر التي هي كثيرة جدّاً.

أمّا أن يكون الواضع شخصاً خاصّاً أو جماعة معينة فهو أيضاً لا دليل عليه من التاريخ على ما بأيدينا ، بل الوجدان حاكم على خلافه ، لأنّا نجد بوجداننا إبداع ألفاظ جديدة ولغات حديثة على أساس الحاجات اليوميّة الاجتماعيّة ، على مدى القرون والأعصار من دون وجود واضع خاصّ معروف في البين ، فيتعيّن حينئذٍ كون الواضع عدّة أفراد مختلفين في كلّ عصر من الأعصار وفي كلّ زمان ومكان.

وأمّا منشأ اختلاف اللغات فالظاهر أنّ السبب الوحيد هو انتشار الأقوام المختلفة في أقطار الأرض وتباعد كلّ قوم عن سائر الأقوام ، خصوصاً بعد ملاحظة عدم وجود وسائل الاعلام الموجودة في يومنا هذا بينهم حتّى تنتقل لغة خاصّة من قوم إلى قوم ، وحينئذٍ لا بدّ لكلّ قوم من اتخاذ لغة خاصّة وفقاً لحاجاتهم وبتبعه تتعدّد اللغات ويختلف بعضها عن بعض.

٣ ـ الكلام في أقسام الوضع

لا بدّ في كلّ وضع من موضوع وموضوع له ، وحيث إنّ الواضع يحتاج إلى تصوّر اللفظ والمعنى ينقسم الوضع إلى أقسام ويتنوّع إلى أنواع بلحاظ اختلاف المعنى من حيث الكليّة والجزئيّة ، وباعتبار أنّ المعنى الموضوع له تارةً يتّحد مع ما يتصوّره الواضع ، واخرى يختلف ،

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآية ٤.

٤٩

فالأقسام الحاصلة أربعة.

الأوّل : أن يكون المعنى المتصوّر مفهوماً عامّاً ، أي معنىً كلّياً ، ويوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك المفهوم ، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له أيضاً عامّاً ( ونعني بالوضع هنا المعنى المتصوّر ).

الثاني : هو أن يتصوّر معنىً عامّاً ويضع اللفظ لمصاديقه ، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

الثالث : أن يكون الوضع والموضوع له كلاهما خاصّين.

ولا كلام في إمكان جميع هذه الوجوه الثلاثة ، إنّما الكلام في قسم رابع وهو أن يتصوّر معنىً جزئيّاً ويضع اللفظ لكلّيه ، كأن يتصوّر زيداً مثلاً ويضع اللفظ للإنسان.

فالمشهور ذهبوا إلى استحالة هذا القسم وتبعهم المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، ولكن المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله نقل عن بعض طريقاً لإمكانه ، واستدلّ المحقّق الحائري رحمه‌الله أيضاً لإمكانه بوجه آخر.

أمّا المشهور فاستدلّوا للإستحالة بأنّ الخاصّ من حيث كونه خاصّاً لا يكون مرآة للعام وعنواناً له بخلاف العكس ، فإنّ العامّ شامل لأفراده ووجه لها.

واستدلّ بعض القائلين بالجواز ( على ما حكاه المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله في نهايته : « بأنّه كالمنصوص العلّة ، فإنّ الموضوع للحكم فيه شخصي ومع ذلك يسري إلى كلّ ما فيه العلّة وكذلك إذا وضع لفظ لمعنى باعتبار ما فيه من فائدة ، فإنّ الوضع يسري إلى كلّ ما فيه تلك الفائدة ، فيكون الموضوع له عامّاً مع كون آلة الملاحظة خاصّاً » (١).

ويرد عليه : أنّ العلّة في منصوص العلّة تكشف في الواقع عن إنشاء حكم عامّ فتكون جملة « لأنّه مسكر » مثلاً جملة خبريّة تخبر عن ذلك الحكم الكلّي ، وليست جملة إنشائيّة ، وبعبارة اخرى : أنّ هنا قضيّتين : قضيّة « لأنّه مسكر » وقضيّة تقع كبرى للقياس وهي « كلّ مسكر حرام » ، والمنشأ الحقيقي هو القضيّة الثانيّة التي أنشأ فيها حكم عامّ ، وأمّا القضيّة الاولى فتكون كاشفة عنها ، وهكذا في ما نحن فيه ، فإنّ تصوّر الجزء لأجل خصوصيّة فيه يكشف عن تصوّر

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ، ص ٢٠ ، طبع الطباطبائي.

٥٠

كلّي سابق عليه ، فيكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له العامّ لا من قبيل الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

وقال المحقّق الحائري رحمه‌الله في هذا المقام ما إليك نصّه : « يمكن أن يتصوّر هذا القسم فيما إذا تصوّر شخصاً وجزئيّاً خارجياً من دون أن يعلم تفصيلاً بالقدر المشترك بينه وبين سائر الأفراد مثله كما إذا رأى جسماً من بعيد ولم يعلم بأنّه حيوان أو جماد ، فلم يعلم إنّه داخل في أيّ نوع من الأنواع ، فوضع لفظاً بإزاء ما هو متّحد مع هذا الشخص في الواقع ، فالموضوع له لوحظ إجمالاً وبالوجه ، وليس الوجه عند هذا الشخص إلاّ الجزئي ، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقّلاً عنده إلاّبعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص » (١).

ويرد عليه أيضاً : أنّ الجزئي المذكور في المثال ليس عنواناً لكلّيه بل ينتقل الإنسان فيه بحسب الواقع من الشخص الجزئي إلى مفهوم عامّ إجمالاً وهو عنوان « ما هو متّحد مع هذا الشخص » ( كما اعترف به في ذيل كلامه ) فيلاحظه ويتصوّره ثمّ يضع اللفظ بإزائه ، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له أيضاً عامّاً.

ثمّ إنّ لبعض الأعاظم في المقام كلاماً لا يخلو عن نظر وإن كان جديراً بالقبول في النظر الأوّل ، وإليك نصّه : « الحقّ إنّهما ( الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ وعكسه ) مشتركان في الامتناع على وجه والاكان على وجه آخر ، إذ كلّ مفهوم لا يحكي إلاّعمّا هو بحذائه ويمتنع أن يكون حاكياً عن نفسه وغيره ، والخصوصيّات وإن اتّحدت مع العام وجوداً إلاّ أنّها تغايره عنواناً وماهية ، فحينئذٍ إن كان المراد من الموضوع له في الأقسام هو لحاظه بما هو حاكٍ عنه ومرآة له فهما سيّان في الامتناع ، إذ العنوان العامّ كالانسان لا يحكي إلاّعن حيثيّة الإنسانيّة دون ما يقارنها من الخصوصيّات لخروجها عن حريم المعنى اللابشرطي ، والحكاية فرع الدخول في الموضوع له ، وإن كان المراد من شرطيّة لحاظه هو وجود أمر يوجب الانتقال إليه فالانتقال من تصوّر العامّ إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان » (٢).

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه من قبيل الخلط بين المفهوم والمصداق ، فإنّ العامّ بمفهومه وإن كان لا يحكي عن الأفراد بخوصّياتهم ، ولكن إذا لوحظ بقيد الوجود يكون إشارة إليها إجمالاً ،

__________________

(١) درر الفوائد : طبع جماعة المدرّسين ، ص ٣٦ ، طبع مهر.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٨ ، طبع مهر.

٥١

بخلاف الخاصّ فإنّه مع قيد الوجود أيضاً لا يحكي إلاّعن بعض أفراد العامّ ، فتأمّل جيّداً.

فظهر من جميع ما ذكر أنّ الصحيح إمكان الأقسام الثلاثة الاولى من الوضع دون الرابع.

٤ ـ المعاني الحرفيّة

لا إشكال في وجود القسم الأوّل والثالث من الأقسام المذكورة للوضع ( أي ما إذا كان الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً ، أو كان الوضع خاصّاً والموضوع له خاصّاً ) في الخارج ، فمن القسم الأوّل أسماء الأجناس ، ومن الثالث الأعلام الشخصيّة.

أمّا القسم الثاني فقد وقع البحث في وقوعه خارجاً ، والمشهور على ذلك ، وعدّوا من مصاديقه المعاني الحرفيّة وما شابهها ، فينبغي البحث والتحقيق في حقيقة المعاني الحرفيّة لما يترتّب عليه في أبواب الواجب المشروط وغيره على قول بعض.

وهذا البحث يستدعي نظراً كلّياً إلى الأقوال المعروفة والآراء الموجودة فيه قبل الورود في تفصيله.

فنقول : هنا أقوال خمسة ننظر إليها إجمالاً ثمّ نتكلّم عن أدلّتها ونقدها تفصيلاً :

القول الأوّل : أنّ الحروف لا معاني لها بل هي علامات للمعاني الاسميّة كالاعراب في الكلمات المعربة ، فكما أنّ الرفع مثلاً علامة للفاعل ، والنصب علامة للمفعول ، كذلك الحروف ، فكلمة « من » مثلاً علامة لابتداء السير في جملة « سرت من البصرة إلى الكوفة » و « إلى » علامة لانتهائه ، والقائل به « محمّد بن حسن الرضي » من أعلام القرن السابع في كتابه الموسوم بشرح الكافيّة ( وإن كان المستفاد من بعض كلماته القول الثاني الآتي ذكره ) والإنصاف أنّ صدر كلامه وإن كان يدلّ على القول الثاني فإنّه ذكر فيه « إنّ معنى « من » ومعنى « لفظ الابتداء » سواء ، إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر بل معناه الذي في نفسه مطابقة ، ومعنى « من » مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي » كما أنّ ذيل كلامه قد يشعر بالقول الأوّل فإنّه قال : « فالحرف وحده لا معنى له أصلاً إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدلّ على أنّ في ذلك الشيء فائدة ما » (١).

__________________

(١) شرح الكافيّة : ج ١ ، ص ١٠.

٥٢

ولكن المحصّل من مجموع كلامه كما لا يخفى على من راجعه ودقّق النظر فيه هو القول الخامس الذي ستأتي الإشارة إليه من أنّ الحروف تدلّ على معانٍ غير مستقلّة في الذهن والخارج.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وهو عكس الأوّل ، وحاصله إنّه لا فرق بين الحروف والأسماء في كون معاني كليهما استقلاليّة ، فلا فرق بين « من » مثلاً وكلمة « الابتداء » في دلالة كليهما على الابتداء.

إن قلت : فلماذا لا يمكن استعمال أحدهما في موضع الآخر؟

قلت : إنّه ناشٍ من شرط الواضع لا إنّه مأخوذ في الموضوع له ، فإنّ الواضع اعتبر لزوم استعمال « من » فيما إذا لم يكن معنى الابتداء ملحوظاً استقلاليّاً وشرط في كلمة الابتداء استعمالها فيما إذا لم يكن المعنى آلياً.

القول الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وحاصله : إنّ معاني الحروف كلّها إيجاديّة يوجد بها الربط بين أجزاء الكلام ، فإنّ « من » في جملة « سرت من البصرة إلى الكوفة » مثلاً توجد الربط بين كلمتي « البصرة » و « سرت ».

والظاهر من كلامه إنّها ليست حاكيات عن معانيها بل وضعت لإنشائها ، فإنّ « في » مثلاً لا تحكي عن الظرفيّة بل توجدها في قولك « زيد في الدار ».

القول الرابع : ما أفاده بعض الأعلام ، وملخّصه : إنّ المعاني الحرفيّة وضعت لتضييق المعاني الاسمية ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة كما سيأتي توضيحه (١).

القول الخامس : قول كثير من المحقّقين. وهو أنّها وضعت للحكاية عن النسب الخارجيّة والمفاهيم غير المستقلّة وهو الأظهر من الجميع.

توضيحه : أنّ المفاهيم والمعاني على قسمين : مستقلّة وغير مستقلّة ، فالمستقلّة نحو « مفهوم السير » وغير المستقلّة مثل ابتدائه وانتهائه ، وكما نحتاج في بيان المعاني المستقلّة والحكاية عنها إلى ألفاظ ، كذلك في المعاني غير المستقلّة ، فمثلاً كما نحتاج في بيان معنى « زيد » و « قائم » إلى لفظ زيد قائم ، كذلك نحتاج في بيان نسبة زيد إلى قائم وصدور القيام عن زيد إلى وضع لفظ ، وهو

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ص ١٨ ـ ١٩.

٥٣

هيئة « زيد قائم » ونحتاج في بيان كيفية السير من حيث الابتداء والانتهاء في قولك « سرت من البصرة إلى الكوفة » أيضاً إلى كلمتي « من » و « إلى » ، هذا ملخّص الكلام في بيان الأقوال الخمسة في المقام.

أقول : أمّا القول الأوّل : فالأحسن في مقام الجواب عنه أن يقال : إنّه مخالف لما يتبادر من الحروف إلى الذهن عند استعمالها ، وقياسه بالاعراب قياس مع الفارق ، لأنّه يتبادر من كلمة « في » مثلاً في جملة « زيد في الدار » معنى خاصّ ، والحال أنّه لا يتبادر شيء من علامة الرفع في « زيدٌ » في تلك الجملة.

أمّا القول الثاني : فغاية ما يقال في توضيحه : أنّ خصوصيّة كلّ واحد من الاسم والحرف نشأت من جانب الاستعمال لا الوضع ، لأنّه إن كان الموضوع له خاصّاً فلا يخلو من أحد الأمرين ، إمّا أن يكون المراد الخاصّ الجزئي الخارجي فإنّه خلاف الوجدان ، لأنّ في نحو « في الدار » لا يكون المصداق واحداً جزئيّاً بل إنّه كلّي لشموله لكل موضع من الدار ، وإمّا أن يكون المراد جزئيّاً ذهنياً فيستلزم كون الموضوع له معنىً مقيّداً بوجوده في الذهن ، لأنّ لحاظ المعنى قيد له وهو باطل لوجوه :

أحدها : لزوم تعدّد اللحاظين حين الوضع ، لأنّ الوضع حينئذٍ يلاحظ المعنى الملحوظ في الذهن وهو خلاف الوجدان.

ثانيها : لزوم عدم إمكان انطباق المعنى الحرفي على الخارج لأنّه مقيّد بكونه في الذهن.

ثالثها : لزوم كون الموضوع له في جميع الأسماء حتّى في أسماء الأجناس خاصّاً لأنّه إذا كان « كونه ملحوظاً في غيره » جزءً لمعنى الحرف ، يكون « اللحاظ في نفسه » أيضاً جزءً للمعنى الاسمي لأنّ المفروض كونهما موضوعين على منهاج واحد ، فيكون معنى الاسم جزئيّاً حقيقيّاً ذهنيّاً أيضاً ، وهو خلاف ما هو المتّفق عليه في أسماء الأجناس من كون الموضوع له فيها عامّاً.

فثبت ممّا ذكرنا أنّ هذا القيد إنّما يكون عند الاستعمال لا في الموضوع له.

إن قلت : فلا فرق حينئذٍ بين الاسم والحرف ، وهو يستلزم إمكان استعمال أحدهما موضع الآخر.

قلنا : الفرق بينهما منحصر في غاية الوضع ، فوضع الاسم لأن يراد في نفسه ، ووضع الحرف لأن يراد في غيره ، وهي تمنع عن استعمال أحدهما موضع الآخر ( انتهى ).

٥٤

أقول يرد عليه : أنّ هذا في الحقيقة شرط من ناحية الواضع لو قلنا به ، وهو لا يوجب إلزاماً لغيره من المستعملين ، فيستلزم أن يكون الاسم والحرف مترادفين ، إلاّ أن يقال : إنّ شرط الواضع يوجب محدوديّة في الموضوع له التي تعبّر عنها في بعض الكلمات بالتضييق الذاتي ، وفي كلام المحقّق العراقي رحمه‌الله بالحصّة التوأمة ، ولكن هذا يرجع في الحقيقة إلى تغاير الموضوع له فيهما فلا تكون الحروف متّحدة مع الأسماء في الموضوع له.

وبعبارة اخرى : الذي يوجب قبوله من الواضع إنّما هو ما يكون في دائرة الوضع فإن كان هناك شيء خارج عنها وكان الموضوع له مطلقاً بالنسبة إليه فلا مانع حينئذ في استعمال تلك اللّفظة على نحو عامّ ، فلو شرط الواضع عدم استعماله بدون ذاك القيد لم يقبل منه لأنّه بما هو واضع لم يأخذه قيداً فكيف يجب قبول هذا الشرط؟

أمّا القول الثالث : وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) فيرد عليه أمران لا محيص عنهما :

الأوّل : ( وهو العمدة ) إنّه لا معنى لأن توجد النسبة بلفظ لا معنى له ، ولا يدلّ على مفهوم ، فإن لم يكن لكلمة « في » مثلاً معنى الظرفيّة فلا يمكن إيجادها بها في الكلام كما لا يخفى ، فاللازم دلالة الحروف أوّلاً وبالذات على معنى وحكايتها عنه ثمّ إيجاد النسبة الكلاميّة بها في ضوء تلك الحكاية.

الثاني : أنّه لو كانت معاني الحروف إيجاديّة فلا سبيل للصدق والكذب إليها كما هو كذلك في جميع الإنشائيات فلا معنى لكون قضيّة « زيد في الدار » صادقة أو كاذبة ، وهذا كما ترى.

نعم لا إشكال في إيجاديّة معاني بعض الحروف نحو حروف النداء وحروف التمنّي والترجّي والقسم والتأكيد التي تشكّل قسماً خاصّاً من الحروف كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

أمّا القول الرابع : فقد مرّت الإشارة إليه وإليك توضيحه من ملخّص كلامه :

قال في هامش أجود التقريرات : « والتحقيق أن يقال : إنّ الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة بل التضييق إنّما هو في عالم المفهوميّة ... توضيح ذلك : إنّ كلّ مفهوم اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيّات

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٦.

٥٥

المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة أو بالقياس إلى حالات شخص واحد ، ومن الضروري أنّ غرض المتكلّم كما يتعلّق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلّق بإفادة حصّة خاصّة منه كما في قولك « الصّلاة في المسجد حكمها كذا » ، وحيث إنّ حصص المعنى الواحد فضلاً عن المعاني الكثيرة غير متناهية ، فلابدّ للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصيص المعنى وتقييده ، وليس ذلك إلاّ الحروف والهيئات ... وبذلك يظهر أنّ إيجاد الحروف لمعانيها إنّما هو باعتبار حدوث الضيق في مرحلة الإثبات والدلالة ، وإلاّ لكان المفهوم متّصفاً بالاطلاق والسعة ... وإمّا باعتبار مقام الثبوت فالكاشف عن تعلّق القصد بإفادة المعنى الضيّق إنّما هو الحرف » (١).

أقول : يرد عليه امور :

أحدها : إنّ هناك قسماً ثالثاً من الحروف لا يجري فيه شيء ممّا ذكره كالحروف العاطفة فإنّها ليست إنشائيّة كما أنّها ليست لبيان الحصص الخاصّة من المعاني الاسميّة وغيرها.

ثانيها : إنّه قد تكون الحروف لتضييق النسب الموجودة في الكلام التي هي بنفسها من المعاني الحرفيّة كقولك « عليك بإكرام زيد في دارك » فإنّ كلمة « في » هنا إنّما هي لتضييق نسبة الإكرام إلى زيد لا تقييد الإكرام ولا تقييد نفس زيد كما لا يخفى على المتأمّل.

ثالثها : وهو العمدة ما أوردناه سابقاً على مذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو أنّ التضييق لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن يكون مع الحكاية والدلالة على الخارج أو بدونها ، فإن لم يكن مع الدلالة فلا معنى له ، وإن كان مع الحكاية والدلالة فيكون دور الحروف أوّلاً هو الدلالة على معنى والحكاية عن الخارج ، ثمّ تضييق المعاني الاسميّة بواسطتها.

أمّا القول الخامس : فقد مرّ بيانه ويزيدك توضيحاً : إنّ الموجودات الممكنة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : وجود في نفسه لنفسه ، أي وجود مستقلّ في الذهن والخارج وهو الجوهر ، نحو الروح والجسم.

الثاني : وجود في نفسه لغيره فيكون مستقلاً في المفهوم فقط ولكن إذا وجد وجد في

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٨ ـ ١٩.

٥٦

الموضوع وهو العرض ، نحو البياض والسواد.

الثالث : وجود في غيره لغيره فلا استقلال له لا في المفهوم ولا في الخارج.

ولكلّ من هذه الأقسام في عالم اللفظ كلمات تدلّ عليها وما يدلّ على القسم الثالث منها هو الحروف : فهي تدلّ على مفاهيم غير مستقلّة في الذهن والخارج وتكون حاكيات عنها كما يظهر بمراجعة الوجدان ولا تدلّ على الإيجاد أو التضييق إلاّبسبب دلالتها على ما ذكرنا كما مرّ.

ولقد أجاد بعض الأعاظم حيث قال : إنّ معاني الحروف غير مستقلّة في أربع جهات : في الوجود الخارجي ، والوجود الذهني وفي الدلالة ، بمعنى إنّ دلالتها على المعاني ليست بمستقلّة فلا يكون لكلمة « في » مجرّداً عن الاسم أو الفعل مدلولاً ، وفي كيفية الدلالة ، فلا استقلال لها في الإفراد والتثنية والجمع مثلاً بل تكون تابعة لموردها ، فإن كان المورد مفرداً تكون دلالتها على النسبة أيضاً مفردة وهكذا.

هذا ولكن مع ذلك كلّه فهنا سؤالان نذكرهما ونجيب عنهما :

١ ـ ما هو الدليل على أنّ الحروف وضعت للقسم الثالث من هذه المفاهيم؟ فإنّ ما ذكر هو مجرّد دعوى.

الجواب : هو بأنّه مقتضى حكمة الوضع ، لأنّا نشاهد في الجمل الخبريّة وغيرها اموراً لا يحكي الاسم عنها ولا الفعل ، فالحكمة تقتضي أن توضع بإزائها أيضاً كلمة كما وضعت للمعاني الاسميّة والفعليّة ، وليست هي إلاّ الحروف ، ويدلّ عليه التبادر أيضاً.

٢ ـ ما هو الوجه فيما إذا استعملنا الحروف في الواجب تعالى أو الممتنع ، وقلنا مثلاً : « هو الذي في السماء إله » أو « اجتماع النقيضين في محلّ واحد محال » ، فكيف تدلّ كلمة « في » في الجملة الاولى على وجود نسبة حقيقية بين الواجب والسماء ، وفي الثانيّة على وجود نسبة بين « اجتماع النقيضين » الذي لا وجود له ، و « محلّ واحد »؟ أليس هذا من المجاز؟

الجواب : هو أنّ حكمة الوضع في الألفاظ هي رفع الحاجات اليوميّة ، وبالطبع يكون المقياس هو المعاني الممكنة الاعتياديّة ، بل ربّما لم يكن الواضع معتقداً بالواجب ، أو لا يتحقّق له تصوّر للممتنع ، وحينئذٍ يكون الموضوع له للألفاظ هو خصوص الممكنات أوّلاً وبالذات ، فإذا استعمل في الواجب أو الممتنع يوسّع المعنى أو يضيق ، وسيأتي بيانه وتوضيحه إن شاء الله تعالى في مبحث المشتقّ.

٥٧

هذا ولكن هذا القول وإن كان قويّاً من بعض الجهات لكن لا يشمل تمام أقسام الحروف كما يظهر ذلك عند بيان القول المختار.

المختار في المعاني الحرفيّة

الحقّ أنّ الحروف على أقسام مختلفة لا يمكن جعلها تحت عنوان واحد ، فقسم منها حاكيات عن النسب والحالات القائمة بغيرها على المنهج الذي مرّ في القول الخامس ، وقسم آخر إيجادي إنشائي نحو « ليت » و « لعلّ » و « حروف النداء » وما أشبهها لا تحكي عن شيء بل ينشأ بها معانيها ، وقسم ثالث منها علامات لربط الكلام مثل حروف الاستئناف والعطف في الكلام ، وقسم رابع يكون لها معنى اسمي نحو كاف التشبيه التي تكون بمعنى « مثل » ، كلّ ذلك يعلم ممّا ذكرناه في نقل الأقوال السابقة ونقدها مع ما يعلم بالتبادر منها فلا يمكن سوق جميع الحروف سياقاً واحداً.

إن قلت : فلا جامع بين المعاني الحرفيّة ، فيكون الحرف مشتركاً لفظيّاً يطلق على أربعة معان.

قلنا : أوّلاً : إنّا لا نأبى عن ذلك.

وثانياً : يمكن أن يتصوّر للثلاثة الاولى جامعاً وهو « ما ليس له معنى مستقلّ » لا في الذهن ولا في الخارج أعمّ من أن يكون على نحو السالبة بانتفاء الموضوع كالقسم الثالث ، أو كان له معنى غير مستقلّ وهو القسم الأوّل والثاني ، أمّا القسم الرابع فإنّه وإن كان له معنى مستقلّ إلاّ أنّه يلحق بالثلاثة لشباهته بها لفظاً ، بل ومن حيث المعنى من بعض الجهات يكون التشبيه الذي هو مفاد الكاف قائماً بالطرفين ، وهما المشبه والمشبه به ، فيمكن ادخاله تحت ذلك الجامع ببعض الملاحظات ، ولكن العمدة إنّه لا دليل على لزوم أخذ الجامع بينهما كما عرفت.

إن قلت : يمكن أن يقال : إنّ كاف التشبيه تحكي وتدلّ على المماثلة الخارجيّة الواقعيّة بين زيد والأسد مثلاً في جملة « زيد كالأسد » فلا فرق حينئذٍ بينهما وبين معنى الابتداء ، فكما إنّ معنى الابتداء قائم في حرف « من » كذلك المماثلة تكون قائمة بالمشبه والمشبه به ، وعليه يكون معنى الكاف غير مستقلّ كسائر المعاني الحرفيّة.

قلنا : هذا في الحقيقة خلط بين عدم الاستقلال في الوجود الخارجي والوجود الذهني ، فإنّ

٥٨

المماثلة وإن لم تكن مستقلة في الوجود الخارجي كجميع العوارض لا سيّما ما كانت ذات إضافة ، ولكنّها معنى مستقل في الذهن ، ولذلك يمكن جعل كلمة « مثل » محلّه ، بخلاف معنى « من » و « في » فإنّهما غير مستقلّين في افق الذهن كما هما كذلك في الخارج ، ولا يمكن جعل « الابتداء » و « الظرفيّة » محلّهما.

وبقي هنا امور :

١ ـ إنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ ، لأنّ « من » مثلاً لم توضع للابتداء الكلّي المتصوّر في الذهن حين الوضع ، بل وضعت لمصاديقه الجزئيّة في الخارج ، لأنّها تحكي عن الابتداء الذي تكون حالة لغيره في مثل « سرت من البصرة إلى الكوفة » فيكون الموضوع له خاصّاً لجزئيّة المصداق ، والوضع عامّاً لعدم إمكان إحصاء هذه المصاديق لكثرتها ، فنحتاج في تصوّرها إلى تصوّر جامع وعنوان مشير إليها ، ولولا ذلك لم يكن فرق بينه وبين لفظ الابتداء.

هذا كلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل من الحروف.

أمّا القسم الثاني وهي التي تدلّ على المعاني الإيجاديّة فيكون الموضوع له فيها جزئيّاً حقيقيّاً خارجياً لأنّها وضعت للإنشاء الذي هو إيجاد ، ومن المعلوم أنّ ما يوجد بكلمة « يا » مثلاً في جملة « يازيد » هو النداء الجزئي الخارجي لا تعدّد ولا تكثّر فيه.

أمّا القسم الثالث الذي يكون من قبيل العلامة فلا يتصوّر فيه الوضع والموضوع له المعهودان في باب الألفاظ اللّذين هما محلّ الكلام ( لعدم دلالته على معنى ).

وأمّا القسم الرابع فلا نأبى فيه من كون الوضع فيه عاماً والموضوع له أيضاً عامّاً كأسماء الأجناس ، ولكنّه قليل جدّاً.

٢ ـ إنّ معاني الحروف وإن كانت غير مستقلّة لا تلاحظ في أنفسها بل تلاحظ في غيرها لكن ليس هذا بمعنى الغفلة عنها وعدم النظر إليها كما قيل ، بل ربّما تكون هي المقصود بالبيان فقط ، كما يقال : « هذا عليك لا لك » فيكون قصد المتكلّم فيها معنى « على » و « اللام » ، ولا يكون غيرهما مقصوداً بالذات ، وسيأتي في باب الواجب المشروط ثمرة هذه النكتة بالنسبة إلى القيود الواردة في الجملة وأنّها هل ترجع إلى المادّة أو الهيئة؟ فقال بعض استحالة رجوعها إلى

٥٩

الهيئة لكونها من المعاني الحرفيّة ، وهي مغفول عنها لا ينظر إليها ، ولكن ظهر ممّا ذكرنا في المقام أنّ عدم استقلال معاني الحروف لا يساوق عدم النظر إليها وصيرورتها مغفولاً عنها ، بل المراد قيامها بالطرفين في الذهن والخارج ، فلا إشكال في جواز تقييدها بالقيود الواردة في الجملة.

٣ ـ إنّه لا يمكن المساعدة على ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في الواجب المشروط ( من رجوع القيد إلى المادّة بدليل أنّ المعنى الحرفي جزئي حقيقي لا يقبل التقييد ، وأنّ الهيئة الدالّة على الوجوب في الواجب المشروط من المعاني الحرفيّة ) لما ظهر من أنّ الموضوع له في الحروف كثيراً ما يكون جزئيّاً إضافياً ذا أفراد كثيرة ، يقبل التقييد ، بل يكون غيره فيها نادراً جدّاً ، نعم في الحروف الإيجاديّة الإنشائيّة الموضوع له جزئي حقيقي لأنّ الإنشاء من قبيل الإيجاد ، والإيجاد والوجود لا يكونان إلاّجزئيّاً حقيقيّاً.

٤ ـ إنّ الفرق بين المعاني الحرفيّة والأسماء المرادفة لها نحو كلمة « الظرفيّة » بالنسبة إلى معنى « في » هو أنّ الظرفيّة الحرفيّة قائمة بخصوص الظرف والمظروف حتّى في الذهن بخلاف الظرفيّة الاسميّة فإنّها مجرّدة عن الطرفين في الذهن ، وإن كانت قائمة بهما في الخارج ، فالفرق بينهما فرق جوهري ليس منحصراً في مجرّد اشتراط الواضع كما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

٥ ـ إنّ معنى ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه وهو : « الكلمة اسم وفعل وحرف ، والاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره ليس ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله فانه لحفظ ظاهر الحديث وقوله في ذيله : « والحرف ما أوجد معنىً في غيره » ذهب إلى أنّ معنى الحرف إيجادي ، وكأنّ هذا هو منشأ ما ذهب إليه بعض آخر من الأكابر من أنّ معنى الحرف عبارة عن تضييق المعاني الاسميّة.

بل إنّ لهذا الحديث مضافاً إلى كونه ظنّياً من ناحية السند ( لكونه خبراً واحداً فلا ينتقض به الأمر القطعي ) تفسيراً آخر.

فنقول : أمّا الفقرة الاولى منها ( الاسم ) فمعناها واضح لا إشكال فيه.

وأمّا الفقرة الثانيّة ( الفعل ) فيحتمل فيها معنيان :

الأوّل : أنّ مادّة الفعل مثل « الضرب » مفهوم اسمي لا دلالة له على الزمان لكن يدلّ عليه هيئة الفعل ، فهيئة « ضرب » مثلاً تدلّ على زمان وقوع الضرب ويكون بهذا المعنى منبأً عن حركة المسمّى ، فالمراد من الحركة حينئذٍ هو الزمان.

٦٠