أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

أوّلاً : أن الأوامر الشرعيّة كثيراً ما تكون تأكيداً للواجبات العقليّة.

وثانياً : أنّ عدم الحاجة إلى البيان في بعض الموارد لا يكون دليلاً على عدم إرادة المولى ، ويكفي في هذه المقامات وجود الإرادة ولو في نفس المولى.

الأمر الثالث : ما ورد في لسان الشارع من الأوامر الغيريّة التي تعلّقت ببعض المقدّمات فإنّها صدرت من جانب الشارع إمّا لوجوب خصوصيّة في تلك المقدّمات غير كونها مقدّمة ، أو من باب أنّها مقدّمة لبعض الواجبات ، والأوّل ممنوع بالاتّفاق ، فلا إشكال في أنّ وجوبها إنّما هو بملاك المقدّميّة ، فنتعدّى منها إلى سائر المقدّمات من باب تنقيح المناط.

ومن هذه الأوامر :

منها : قوله تعالى في باب الغسل : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ). (١)

ومنها : قوله تعالى في باب التيمّم : ( ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ). (٢)

ومنها : قوله تعالى في باب الوضوء : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ). (٣)

ومنها : قوله تعالى في آية النفر : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ). (٤)

ومنها : قوله تعالى في باب الجهاد : ( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ). (٥)

ومنها : قوله تعالى في آية السؤال : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ). (٦)

ومنها : قوله تعالى في آية النبأ : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا )(٧) ( حيث إنّ التبيّن ليس واجباً نفسيّاً لإمكان الاحتياط ).

ومنها : قوله تعالى في باب صلاة الجمعة : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦

(٢) سورة النساء : الآية ٤٣.

(٣) سورة المائدة : الآية ٦.

(٤) سورة التوبة : الآية ١٢٢.

(٥) سورة التوبة : الآية ٤١.

(٦) سورة الأنبياء : الآية ٧.

(٧) سورة الحجرات : الآية ٦.

٤٢١

ذِكْرِ اللهِ ). (١)

ومنها : قوله تعالى : ( إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ )(٢) ( حيث إنّ الامتحان واجب مقدّمة لتشخيص الإيمان والكفر ) إلى غير ذلك من الأوامر الغيريّة الواردة في الكتاب الكريم ، ففي جميع ذلك وأشباهها أمر الله تعالى بالواجبات الغيريّة المقدّميّة.

وقد توهّم بعض انحصار هذا القبيل من الأوامر في ما تعلّق بالطهارات الثلاث ثمّ استشكل على الاستدلال بها في المقام بأنّها ليست أوامر مولويّة بل إرشاديّة ترشد إلى شرطيّة الطهارات الثلاث فقط.

ولكنّه قد ظهر عدم انحصارها في ذلك ، مضافاً إلى أنّه سيأتي إن شاء الله تعالى في باب استصحاب الأحكام الوضعية من مباحث الاستصحاب من أنّ الشرطيّة والجزئيّة أمران منتزعان من الأحكام التكليفية كغيرهما من الأحكام الوضعية ، وبعبارة اخرى : أنّ الشرطيّة أو الجزئيّة متأخّرة عن الأمر رتبة ، وهي تنتزع من الأمر المولوي المتعلّق بالمأمور به ، فكيف يمكن أن يكون الأمر إرشاداً إليها؟ فتدبّر فإنّه حقيق به.

الأمر الرابع : ما نسب إلى أبي الحسن البصري الأشعري من أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، وحينئذٍ فإن بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق وإلاّ خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

واجيب عنه : بأنّا نلتزم بالشقّ الأوّل في كلامه ، وهو بقاء الواجب على وجوبه ولكن لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، لأنّا لا نقول حينئذٍ بوجوب ترك المقدّمة حتّى تكون ممتنعة شرعاً ويصير ذو المقدّمة غير مقدور ، بل نقول بعدم وجوبها شرعاً ، أي المراد من جواز تركها عدم المنع الشرعي عن تركها ، فتكون باقية على وجوبها العقلي ولا إشكال في أنّه لا يلزم حينئذٍ محذور عقلي في الأمر بذي المقدّمة.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بوجوب المقدّمة ، وقد عرفت تماميّة الوجوه الثلاثة الاولى بلا إشكال ، وإن كان بعضها كالأخير قاصراً عن إثبات المطلوب.

وأمّا القائلون بعدم وجوبها فاستدلّوا بلزوم اللغويّة مع وجود اللابدّية العقليّة.

__________________

(١) سورة الجمعة : الآية ٩.

(٢) سورة الممتحنة : الآية ١٠.

٤٢٢

ولكن الإنصاف أنّه في غير محلّه لأنّه أوّلاً : إنّ اللغويّة على تقدير لزومها تختصّ بما إذا كان وجوب المقدّمة ملازماً لجعل الشارع واعتباره إيّاه حيث يقال حينئذٍ : لا حاجة إلى جعله واعتباره من جانب الشارع مع وجود اللابدّية العقليّة ، ولكن الملازمة ممنوعة ، لأنّه يكفي في وجوب شيء في الواقع كونه محبوباً للمولى ومتعلّقاً لشوقه وإرادته واقعاً ، وهو حاصل في ما نحن فيه ، وبعبارة اخرى : اللغو في المقام إنّما هو جعل الحكم واعتباره ، ولا حاجة إليه في إثبات الوجوب الشرعي لكفاية إحراز الملاك في ذلك.

وثانياً : اللغويّة ممنوعة جدّاً ، لما عرفت من كفاية كونه تأكيداً ، فكم من واجب شرعي يكون تأكيداً في واجب عقلي!

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : عدم منافاة الوجوه الأربعة للمحتار

ما ذكرنا من الوجوه الأربعة لإثبات وجوب المقدّمة آنفاً لا ينافي مفاد التامّ منها ـ وهو الثلاثة الاولى ـ ما اخترناه سابقاً من وجوب المقدّمة الموصلة ، أمّا دليل الوجدان فلأنّه حاكم على أنّ الإنسان المريد لإتيان ذي المقدّمة إنّما يريد مقدّماته لايصالها إلى ذيها كما لا يخفى ، وأمّا الأوامر الغيريّة الواردة في لسان الشرع فالقدر المتيقّن منها أيضاً وجوب الموصل من المقدّمات ، فالقدر المتيقّن من مفاد قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) إنّما هو وجوب السعي الموصل إلى ذكر الله لا مطلق السعي ، وأمّا مقايسة التشريع بالتكوين فكذلك ، لأنّ المباشر لذي المقدّمة في الإرادة التكوينيّة إنّما يريد المقدّمات التي توصل إلى ذيها ، وهو واضح فليكن كذلك في الإرادة التشريعيّة.

أضف إلى ذلك ما مرّ بالنسبة إلى المقدّمة المحرّمة للواجبات حيث قلنا هناك أنّ حرمة المقدّمة إنّما ترتفع فيما إذا كانت المقدّمة موصلة فقط ، فكذلك في غيرها.

الأمر الثاني : في بيان تفصيلين في المسألة :

التفصيل الأوّل : التفصيل بين السبب وغيره ، بمعنى أنّ المقدّمة إذا كانت من الأسباب

٤٢٣

كالعقود والايقاعات بالنسبة إلى المسبّبات فتجب ، وإلاّ لو كانت من المعدّات كدخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلّم للكون على السطح ونحو ذلك فلا تجب ، وبعبارة اخرى : إن كان ذو المقدّمة من الأفعال التسبيبية التوليديّة كالزواج والطلاق والعتاق ونحو ذلك ممّا ليس بنفسه تحت القدرة والاختيار إلاّ أسبابها من العقود والايقاعات وكالإلقاء في النار للاحراق ونحوها ، فهذا ممّا تجب مقدّمته ، وإلاّ لو كان ذو المقدّمة من الأفعال المباشريّة كشراء اللحم والصعود على السطح ونحوهما ممّا كان بنفسه تحت القدرة والاختيار فهذا ممّا لا تجب مقدّمته.

والسرّ في الوجوب في الأوّل دون الثاني أنّ الواجب في الأوّل بنفسه ليس أمراً مقدوراً للمكلّف ، فلابدّ من صرف التكليف النفسي منه إلى مقدّمته بخلافه في الثاني فهو بنفسه مقدور له فلا ملزم لصرفه عنه إلى مقدّمته.

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : أنّه خروج عن محلّ النزاع لوجهين : أحدهما : أنّ محلّ النزاع ما إذا كان ذو المقدّمة واجباً على أيّ تقدير ، مع أنّ المفروض في الصورة الاولى لهذا التفصيل عدم وجوب ذي المقدّمة ، وثانيهما : أنّ النزاع في الوجوب الغيري للمقدّمة وعدمه ، مع أنّ الوجوب للمقدّمة في الصورة الاولى يكون نفسياً لأنّه نفس الوجوب الذي صرف إليها جاء من ناحية ذي المقدّمة.

وثانياً : إنّ المسبّب في الشقّ الأوّل أمر مقدور للمكلّف بواسطة سببه ، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فلا بأس بتعلّق التكليف به.

التفصيل الثاني : تفصيل المحقّق النائيني رحمه‌الله ، وإليك نصّ كلامه : « إنّ ما يسمّى علّة ومعلولاً إمّا أن يكون وجود أحدهم مغايراً لوجود الآخر في الخارج أو يكونا عنوانين لموجود واحد وإن كان انطباق أحدهما عليه في طول انطباق الآخر لا في عرضه ، أمّا ما كان من قبيل الأوّل كشرب الماء ورفع العطش فلا إشكال في أنّ الإرادة الفاعلية تتعلّق بالمعلول أوّلاً لقيام المصلحة به ثمّ تتعلّق بعلّته لتوقّفه عليها فيكون حال الإرادة التشريعيّة الآمريّة أيضاً كذلك ، وهذا معنى ما يقال من أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

وأمّا ما كان من قبيل الثاني كالإلقاء في النار والإحراق المتّصف بهما فعل واحد في الخارج وإن كان صدق عنوان الإلقاء متقدّماً على صدق عنوان الإحراق رتبة وكذلك عنوان الغسل والتطهير فقد بيّنا سابقاً أنّ كلاً من العنوانين قابل لتعلّق التكليف به كما في قوله عليه‌السلام : « اغسل

٤٢٤

ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » وقوله تعالى : ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) فإذا تعلّق بالمسبّب في ظاهر الخطاب فهو متعلّق بذات السبب في نفس الأمر لا محالة ، كما أنّه إذا تعلّق بالسبب فهو يتعلّق به بما أنّه معنون بمسبّبه ، وهذا القسم هو مراد العلاّمة الأنصاري رحمه‌الله في المحصّل في ما ذهب إليه من أنّ البراءة لا تجري عند الشكّ في المحصّل كما أشرنا إليه سابقاً ، فإذا كان الأمر بكلّ منهما أمراً بالآخر فلا معنى للاتّصاف بالوجوب الغيري فيكون هذا القسم خارجاً عن محلّ النزاع ، فلا وجه للتعبير بصرف الخطاب فإنّه فرع التعدّد ، والمفروض فيما نحن فيه هو الوحدة والاتّحاد » (١).

وقد أورد عليه بحقّ في هامش أجود التقريرات بالإضافة إلى تمثيله للقسم الثاني بعنواني الإلقاء والإحراق وبعنواني الغسل والتطهير « بأنّ الإلقاء غير الإحراق خارجاً وكذلك الطهارة بمعنى النظافة العرفيّة موجودة في الخارج بوجود مغاير لوجود الغسل ومترتّبة عليه بالوجدان ، وأمّا الطهارة الشرعيّة فهي حكم شرعي مترتّب على وجود موضوعه خارجاً وهو الغسل ، فكيف يعقل أن يكون عنوان الطهارة منطقباً على ما ينطبق عليه عنوان الغسل » (٢).

أقول : ويرد عليه أيضاً أنّه لا معنى لاتّحاد السبب مع المسبّب في الخارج لأنّ العلّة والمعلول وجودان مختلفان في عالم الخارج ، واتّحادهما خارجاً يوجب إنكار العلّية الخارجيّة كما لا يخفى ، هذا مضافاً إلى أنّ المفروض قيام الملاك بالمسبّب بعنوانه ، فالإرادة أوّلاً وبالذات إنّما تتعلّق به ولا يكون السبب بعنوانه إلاّواجباً غيريّاً ، فتأمّل.

وهيهنا تفصيل ثالث للمحقّق الحائري رحمه‌الله في درره ، وهو التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات مثل إنكسار الخشبة المتحقّق بإيصال الآلة قوّة الإنسان إليها ، وبين ما إذا لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر ، كما في إلقاء إنسان إلى السبع فيلقي حتفه ، أو إلقاء الشخص في النار فتحرقه ، ففي مثل الصورة الاولى يكون الأمر حقيقة متعلّقاً بالمسبّب لأنّ مثل إنكسار الخشبة بالآلة يعدّ عرفاً فعلاً من أفعال الإنسان وإن تحقّق بسبب الآلة ، فيكون وجوب السبب فيها من باب المقدّمة ، وأمّا في الصورة الثانيّة فحيث إنّ مثل الإحراق والقتل في المثالين ليس من أفعال الإنسان بل من أفعال الواسطة حقيقة يجب إرجاع الأمر المتعلّق

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) المصدر السابق : ص ٢١٩.

٤٢٥

بالمسبّب إلى السبب ، فيكون وجوب السبب نفسيّاً لا من باب المقدّمة (١).

أقول : يرد عليه أنّ المهمّ في المقام إنّما هو صدق عنوان المقدور وعدمه وكون ذي المقدّمة مقدوراً للإنسان أم لا ، لا صدق إنّها فعل للإنسان عرفاً وعدمه ، ولا إشكال في أنّ مثل الإحراق يصدق عليه أنّه مقدور للإنسان ، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ولو فرض عدم عدّه من أفعاله عند العرف ، بل الإنصاف صدق كونه فعلاً له عرفاً ولو بالتسبيب لقوّة السبب بالنسبة إلى المباشر في هذه المقامات ، والمهمّ أنّ الملاك في جميع هذه الموارد قائم بذي المقدّمة دون مقدّمته ، فتكون واجباً بالوجوب الغيري.

الأمر الثالث : التفصيل في وجوب المقدّمة

قد يفصّل في وجوب المقدمة بين الشرط الشرعي وغيره ، بمعنى أنّ مثل الطهارات الثلاث والستر والقبلة ونحو ذلك من الشرائط الشرعيّة واجب شرعاً ، نظراً إلى أنّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً ، فإنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادة كي يعرف بذلك أنّه شرط ، فإذا كان مع ذلك شرطاً يعرف أنّه واجب شرعاً وبه صار شرطاً ، وأمّا غيره من المقدّمات العقليّة والعاديّة كالسير إلى الحجّ أو دخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلّم للصعود على السطح ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه الواجب عقلاً أو عادةً فهو غير واجب شرعاً.

وقد اورد عليه :

أوّلاً : بأنّه ربّما يستفاد شرطيّة شيء من طريق بيان حكم وضعي كالطهارة التي تستفاد شرطيتها للصّلاة من قوله عليه‌السلام « لا صلاة إلاّمع الطهور » أو قوله عليه‌السلام : « صلّ مع الطهور » فلا تتوقّف إثبات شرطيّة الشرائط الشرعيّة على تعلّق أمر تكليفي بها حتّى يلزم منه تعلّق الوجوب بها شرعاً.

وثانياً : إنّ قبول وجوب المقدّمة في بعض المقدّمات كالمقدّمات الشرعيّة يستلزم قبوله في سائر المقدّمات لوحدة الملاك ، فإنّ ملاك الوجوب في المقدّمات الشرعيّة إنّما هو مقدّميتها للواجبات وهي موجودة في غيرها أيضاً.

__________________

(١) راجع درر الفوائد : ج ١ ، ص ١٢٢ ـ ١٩٩ طبع جماعة المدرّسين.

٤٢٦

ثالثاً : قد مرّ سابقاً أنّ الشرائط الشرعيّة ترجع حقيقة إلى شرائط عقليّة ومقدّمات عقليّة ، وأنّ غاية الفرق بينهما أنّ الكاشف عن التوقّف في المقدّمات الشرعيّة هو الخطاب الشرعي ، بينما الكاشف عن التوقّف في المقدّمات العقليّة هو العقل فقط.

رابعاً : إنّ لازم ما ذكر من أنّه « لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً » هو الدور المحال ، لأنّ الوجوب الشرعي أيضاً يتوقّف على كون المتعلّق شرطاً ، فالشرطيّة تتوقّف على الوجوب الشرعي ، والوجوب الشرعي أيضاً متوقّف على الشرطيّة ( هذا مع قطع النظر عن كون الشرطيّة للواجب منتزعة من الأمر بشيء واعتباره فيه ولكن مع ذلك لولا دخله في الملاك لما أمر به المولى الحكيم ).

الأمر الرابع : في مقدّمة المستحبّ

لا إشكال في أنّ بعض الوجوه المزبورة التي استدلّ بها لوجوب مقدّمة الواجب تعمّ مقدّمة المستحبّ أيضاً ، فتدلّ على ثبوت الملازمة بين المستحبّ ومقدّمته ، وهو ظاهر بالنسبة إلى دليل الوجدان ودليل تطابق الإرادتين ( الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة ) فإنّ الوجدان حاكم بأنّ المولى إذا تعلّقت إرادته غير الإلزاميّة بشيء تعلّقت بمقدّماته لا محالة كذلك ، كما أنّ العقل أيضاً يحكم بأنّ الإرادة التشريعيّة المتعلّقة بالمستحبّات كالإرادة التكوينيّة التي تتعلّق بعمل راجح غير إلزامي ، فكما أنّ المباشر لإتيان عمل راجح يريد مقدّماته على حدّ الرجحان فكذلك غير المباشر الذي أراد إتيان عمل بالتسبيب والتشريع.

هذا ـ مضافاً إلى جريان الوجه الثالث من الوجوه السابقة في المقام ، وهو الأوامر التي وردت في لسان الشارع وتعلّقت ببعض المقدّمات المستحبّة كالذهاب إلى المسجد والجلوس فيه منتظراً لإقامة الصّلاة عن جماعة وغيرهما.

الأمر الخامس : في مقدّمة الحرام

وفيها تفصيل نظير ما مرّ في مقدّمة الواجب ، فإنّها أيضاً تنقسم إلى أربعة أقسام :

أوّلها : ما يكون من قبيل الأسباب التوليديّة ، سواء كانت العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها كالإلقاء في النار بالنسبة إلى الإحراق.

ثانيها : ما يكون من قبيل العلّة الناقصة لايجاد ذي المقدّمة ولكن المكلّف يقصد بإتيانها

٤٢٧

التوصّل إلى الحرام وتكون موصلة إلى الحرام في الخارج أيضاً.

ثالثها : نفس القسم الثاني مع عدم الإيصال إلى ذي المقدّمة.

رابعها : نفس القسم الثاني أيضاً مع عدم قصد التوصّل بها إلى الحرام.

لا إشكال في حرمة القسم الأوّل والثاني بناءً على مبنى وجوب مقدّمة الواجب لنفس ما مرّ هناك ، أمّا دليل الوجدان ودليل تطابق الإرادتين فهما واضحان ، وأمّا النواهي الواردة في لسان الشارع المتعلّقة بالمقدّمات المحرّمة فهي كثيرة جدّاً ، والعجب من فتوى بعض الفقهاء بعدم حرمة مقدّمة الحرام مع إنّا نعلم بأنّ ملاك النهي في هذه الرّوايات إنّما هو مقدّميّة متعلّقاتها للحرام لا غير ، فإنّ من هذه النواهي ما مرّ بالنسبة إلى الخمر ولعن غارسها وحارثها وغيرهما من العناوين العشرة التي هي من مقدّمات شرب الخمر ، وأوضح من ذلك هو الرّوايات التي وردت في باب صلاة المسافر وتدلّ على وجوب القصر لمن كان سفره حراماً ، وقد أفتى بها الفقهاء بالاتّفاق بل لم يكتفوا بالأمثلة الواردة في هذه الرّوايات وتعدّوا إلى غيرها من أشباهها ، ولا إشكال في أنّ السفر في كثير من هذه الأمثلة مقدّمة للحرام وليس الحرام نفسه.

إن قلت : ملاك الحرمة في هذه المقدّمات كونها مصداقاً للاعانة على الإثم وهي حرام نفسي لا غيري.

قلنا : قد مرّ سابقاً أنّ إطلاق هذه الرّوايات يعمّ ما إذا أتى المكلّف بالمقدّمة لنفسه فقط ، فالتي وردت في باب الخمر تعمّ مثلاً من غرسها ليتنفع بها هو ولا إشكال في عدم صدق عنوان الإعانة والتعاون حينئذٍ فإنّه عنوان يصدق في خصوص ما إذا أتى بالمقدّمة بقصد توصّل الغير إلى الحرام.

وعلى أيّ حال : إذا كانت المقدّمة في هذه الرّوايات حراماً لمقدّميتها لا لخصوصيّة اخرى يستكشف من ذلك حرمة سائر مقدّمات الحرام أيضاً لوجود الملاك.

وأمّا القسم الثالث : من المقدّمات فلا إشكال أيضاً في عدم حرمتها إلاّمن باب التجرّي.

وأمّا القسم الرابع : منها فعدم حرمتها واضح لأنّ المفروض أنّه لم يقصد بها التوصّل إلى الحرام فهي ليست حراماً بالنسبة إليه لا واقعاً ولا ظاهراً.

نعم هذا إذا لم تكن موصلة إلى الحرام ، وأمّا مع فرض الإيصال وبناءً على قبول المقدّمة الموصلة ( كما هو المختار ) فلا إشكال في أنّها مصداق من مصاديق الحرام الواقعي حينئذٍ وأنّ من

٤٢٨

أتى بها ارتكب حراماً واقعاً إلاّ أنّه لا يعاقب على ذلك لعدم قصده التوصّل بها إلى الحرام وعدم فعلية الحرمة بالنسبة إليه.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني رحمه‌الله تفصيلاً في المقام وحاصله : التفصيل بين المقدّمات التي لا يبقى معها اختيار ترك الحرام أو المكروه على حاله بل بمجرّد الإتيان بها خارجاً يتحقّق الحرام أو المكروه قهراً كما في المقدّمة الأخيرة في الأفعال التسبيبية التوليديّة وبين غيرها من مقدّمات الأفعال الاختياريّة المباشريّة التي لو أتى بتمامها كان اختيار المكلّف باقياً محفوظاً على حاله ، إن شاء أتى بالفعل وإن شاء ترك ، ففي القسم الأوّل تتّصف المقدّمة بالحرمة لعدم توسّط الاختيار بينها وبين الفعل فتسري المبغوضيّة إلى الجميع ، وفي القسم الثاني لا تتّصف المقدّمة بالحرمة لتوسّط الاختيار بينهما ، فيكون المكلّف متمكّناً من ترك الحرام بعد حصول المقدّمات كما كان متمكّناً قبله ، فلا ملاك لتعلّق الحرمة بها ، وأمّا نفس الاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به التكليف للزوم التسلسل ( انتهى ).

ويمكن أن يوجّه كلامه بأنّ أفعال الإنسان على قسمين : قسم يخرج عن اختياره بعد تحقّقه كالسهم الذي خرج من القوس ، وهذا ما يسمّى بالأفعال التوليديّة ، وقسم يبقى تحت الاختيار حتّى بعد التحقّق فيمكن له تركه في كلّ آن كمسّ كتابة القرآن الذي يمكن للإنسان أن يرفع يده عنها ، فيكون مراد المحقّق الخراساني رحمه‌الله من تخلّل الاختيار في هذا القسم الثاني ومن كونه من قبيل الجزء الأخير للعلّة التامّة عدم خروجه عن سيطرته وسلطنته.

نعم ، مع ذلك يرد عليه ما مرّ منّا في مبحث الجبر والتفويض من أنّ الإرادة ليست غير اختياريّة بل هي إراديّة واختياريّة بذاتها ، ولا تحتاج في إراديتها إلى إرادة اخرى حتّى يلزم التسلسل.

هذا مضافاً إلى ما مرّ من الحرمة في هذا القسم الأخير إذا قصد به التوصّل وكانت موصلة إلى الحرام.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : ما نسب إلى بعض من أنّ حرمة المقدّمة في الأفعال التوليديّة المحرّمة نفسية لا غيريّة من باب أنّ النهي النفسي متعلّق بها لا بذيّها لعدم كونه مقدوراً للمكلّف ، « فإذا تعلّق

٤٢٩

النهي بالمسبّب في ظاهر الخطاب فهو متعلّق بذات السبب في نفس الأمر لا محالة كما أنّه إذا تعلّق بالسبب فهو يتعلّق به بما أنّه معنون بمسبّبه فإذا كان الأمر بكلّ منهما أمراً بالآخر فلا معنى للاتّصاف بالوجوب الغيري » (١).

ولكنّه غير تامّ ، لأنّ ذا المقدّمة في هذه الموارد أيضاً مقدور للمكلّف ، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فيمكن تعلّق الأمر أو النهي به حينئذٍ فإذا تعلّق النهي مع ذلك بالمقدّمة كان غيريّاً.

وإن شئت قلت : ملاك المبغوضيّة والحرمة قائم بنفس المسبّب لا السبب.

الأمر الثاني : ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ الحرام من مقدّمة الحرام بناءً على الملازمة إنّما هو الجزء الأخير إذا كانت أجزاء العلّة مترتّبة ، أو الواحد من الأجزاء إذا كانت عرضيّة ، لا أن تكون جميع المقدّمات محرّمة كما تجب جميع مقدّمات الواجب ، واستدلّ لذلك بمساعدة الوجدان عليه وبأنّ « الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود لا عن كلّ ما هو دخيل في تحقّقه لأنّ وجود سائر المقدّمات وعدمها سواء في بقاء المبغوض على عدمه ، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود ، وما هو سبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات ، وفي غيرها يكون المجموع كذلك وعدمه بعدم جزء منه » (٢).

أقول : إنّ الوجدان حاكم بأنّ المؤثّر في العدم والناقض له هو جميع المقدّمات معاً لا خصوص الأخير منها ، فإنّه من قبيل مصباح كهربائي يضاء بمائة زرّ مترتّبة ، فإنّ سبب الإضاءة حينئذٍ جميع المائة ولكلّ واحد

منها دخل في الإضاءة ، فتكون معاً ناقضة للعدم والظلمة لا خصوص الأخير منها ، فلو كان ايقاد السراج هنا مبغوضاً للشارع المقدّس كان جميع ما هو مؤثّر في هذا الأمر أيضاً مبغوضاً له بالملازمة.

وإن شئت قلت : عدم بعض هذه الأجزاء الطوليّة أو العرضيّة وإن كان كافياً في انعدام مبغوض المولى ولكن جميعها مؤثّرة في إيجاد مبغوضه بحيث لا يكفي بعضها فيه ، وحينئذٍ يسري البغض إليها جميعاً ، وفي الحقيقة ليس العدم مطلوباً بل الوجود مبغوض.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٤٤ ، طبع مهر.

٤٣٠

الفصل الحادي عشر

مسألة الضدّ

والتحقيق في المسألة يستدعي تقديم امور قبل الورود في أصل البحث :

الأمر الأوّل : في عنوان المسألة

قال بعضهم : « إنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه ، أو لا؟ » بل هو ظاهر أكثرهم ، والمعنون في كلماتهم ، وقال بعض آخر : « إنّ الملازمة ثابتة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه أو لا؟ » وهو مختار من جعل المسألة اصوليّة ، ولكن حيث إنّ المعنون في كلمات القوم غالباً هو الأوّل بل هو ظاهر أكثر أدلّتهم فيكون هو المختار لنا في المسألة ، والعجب من المحاضرات حيث إنّه مع اعترافه بأنّ النزاع في ثبوت الملازمة وعدمه مع ذلك جعل العنوان أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

الأمر الثاني : في أنّ المسألة عقليّة

أنّ المعروف بين الاصوليين كون المسألة عقليّة لعدم إرتباطها بباب الألفاظ وإن عنونوها في مباحث الألفاظ ، ولذلك يجري النزاع فيها وإن ثبت الأمر من غير طريق الألفاظ.

لكن الأولى أن يقال : إنّ المسألة عقليّة ولفظيّة معاً ، لأنّ من المسائل التي يتكلّم عنها في مقام الاستدلال وبيان الأدلّة هو الدلالات الثلاث ، وهي من أقسام الدلالة اللّفظيّة ، ولعلّ المدّعي للملازمة يدّعي اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ فتدخل في الدلالة اللّفظيّة أيضاً.

الأمر الثالث : في أنّ المسألة اصوليّة أو فقهيّة؟

وهذه المسألة اصوليّة عند من جعل العنوان ثبوت الملازمة وعدمه ، ومن جعله « أنّ الأمر

٤٣١

بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا » مال إلى كونها فقهيّة ، لأنّ الكلام حينئذٍ في حرمة الضدّ وعدمها وهي مسألة فقهيّة.

والصحيح أنّها من القواعد الفقهيّة لأنّ تعريف القاعدة الفقهيّة وهو « ما يشتمل على حكم كلّي لا يختصّ بباب دون باب أو بكتاب دون كتاب » صادق على حرمة الضدّ ، وهو واضح بعد أن كان المختار في عنوان المسألة أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ ولذلك لا يمكن إيكال تطبيق هذه المسألة على مصاديقها إلى المقلّد بل هو من وظيفة المجتهد كما في سائر القواعد الفقهيّة.

ولا نأبى مع ذلك عن ذكرها في الاصول وما أكثر نظائرها المذكورة في الاصول أيضاً.

الأمر الرابع : في المراد من كلمة الاقتضاء في عنوان المسألة.

ذهب المشهور إلى أنّه أعمّ من أن يكون بنحو المطابقة والعينية أو التضمّن أو الالتزام ، ويشهد له ما سيأتي في مبحث الضدّ العامّ من أنّ بعضهم ذهب إلى أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ، وبعض آخر إلى أنّ النهي عن ضدّ شيء جزء للأمر به ، وذهب ثالث إلى أنّه من لوازمه ، ولا إشكال في أنّ لازم هذا عموم معنى الاقتضاء في عنوان المسألة.

ويمكن أن يكون الاقتضاء هو التلازم غير البيّن الذي لا يكون من الدلالات اللّفظيّة بل اقتضاء عقلي.

الأمر الخامس : في المراد من كلمة الضدّ.

فهل المراد منه معناه الفلسفي وهو « أنّ الضدّين أمران وجوديان بينهما غاية التباعد » أو المراد منه معناه اللغوي فيعمّ النقيض الفلسفي أيضاً؟ الصحيح هو الثاني لأنّ من فروعات المسألة هو البحث عن الضدّ العامّ وهو أمر عدمي ويكون نقيضاً للفعل المأمور به بمعناه الفلسفي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام في ما نحن فيه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في الضدّ العام وهو ترك المأمور به.

٤٣٢

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ ( والمراد منه أمر وجودي يزاحم الفعل المأمور به ).

وقد وقع البحث عن الضدّ الخاصّ مقدّماً على البحث عن الضدّ العامّ في كلمات القوم لكن الأولى تأخيره لسهولة البحث فيه واختصاره فنقول :

أمّا المقام الأوّل : فالأقوال فيه أربعة :

أحدها : الاقتضاء بنحو العينية والمطابقة.

ثانيها : الاقتضاء بنحو التضمّن والجزئيّة.

ثالثها : الاقتضاء بنحو الالتزام إجمالاً أعمّ من أن يكون اللزوم لفظيّاً على نحو يكون النهي عن الضدّ من اللوازم البيّنة بالمعنى الأخصّ للأمر بالشيء أو عقليّاً على نحو يكون من اللوازم البيّنة بالمعنى الأعمّ.

رابعها : عدم الاقتضاء مطلقاً.

أمّا القول الأوّل : فلا إشكال في فساده ثبوتاً وإثباتاً ، أمّا مقام الإثبات فواضح ، لأنّ المفروض أنّ الصّلاة مثلاً وتركها اثنان ، وإنّ الأمر دعوة إلى الشيء والنهي زجر عن الشيء ، ولا معنى حينئذٍ للعينية.

وبعبارة اخرى : إنّ اللزوم ملاك الاثنينية لا الاتّحاد والعينية ، والبعث والزجر أمران مختلفان ، وأمّا مقام الثبوت فلأنّ ملاك الحرمة هو وجود مفسدة في متعلّقها ، كما أنّ ملاك الوجوب وجود مصلحة في متعلّقه ، فما لا مفسدة فيه لا حرمة له ، وما لا مصلحة فيه لا وجوب له ، ولا شكّ في أنّه ليس كلّ ما كان ذا مصلحة في فعله كان في تركه مفسدة ، بل كثيراً ما يساوق تركه فقدان المصلحة فقط ، وهذا واضح جدّاً.

وأمّا القول الثاني : فإنّه متفرّع على قبول تركّب الوجوب من طلب الفعل والمنع من الترك وهو ممنوع جدّاً ، لأنّ الوجوب معنى بسيط ، وهو البعث الشديد نحو الفعل ، في مقابل الحرمة التي هي الزجر الشديد عن الفعل.

وأمّا القول الثالث : فهو أيضاً غير تامّ لنفس ما مرّ في الجواب عن القول الأوّل ، لأنّ وجود الملازمة بين وجب شيء وحرمة ضدّه العامّ يستلزم وجود الملازمة بين وجود المصلحة في فعل ووجود المفسدة في تركه مطلقاً ، فيكون في ترك كلّ ذي مصلحة مفسدة ، وهو ممنوع كما مرّ.

٤٣٣

فظهر أنّ المتعيّن هو القول الرابع ، وهو عدم الاقتضاء مطلقاً ، نعم قد يعبّر بالاقتضاء مسامحة كما أنّه قد يكون من باب التلازم الاتّفاقي بأن تكون المصلحة في الفعل مقارنة للمفسدة في الترك ، كما هو كذلك في مثل الصّلاة والزّكاة وبعض الواجبات الاخر.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني : وهو البحث عن الضدّ الخاصّ كالصّلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد أو أداء الدَين ففيه قولان :

أحدهما : ما ذهب إليه بعضهم من أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

ثانيهما : ما عليه كثير من المحقّقين المتأخّرين وهو عدم الاقتضاء.

واستدلّ للقول الأوّل بوجهين :

الوجه الأوّل : ـ وهو العمدة ـ ما هو مبني على مقدّميّة ترك الضدّ للفعل المأمور به ، فيقال :

١ ـ إنّ ترك الضدّ مقدّمة للفعل المأمور به.

٢ ـ إنّ مقدّمة الواجب واجبة.

٣ ـ والأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه الذي هو الضدّ العامّ ، فلازم المقدّمة الاولى والثانيّة وجوب ترك الصّلاة لازالة النجاسة عن المسجد في المثال المعروف ، ولازم المقدّمة الثالثة حرمة فعل الصّلاة ونتيجتها بطلانها.

ولا يخفى أنّ النكتة الأصلية في هذا البرهان إنّما هي المقدّمة الاولى ولذلك تدور كلمات الأعاظم كالمحقّق الخراساني والميرزا النائيني والمحقّق العراقي رحمهم‌الله مدارها ، وقد ذكر لإثباتها وجهان :

الوجه الأوّل : أنّه قد قرّر في محلّه أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامّة ، وحيث إنّ العلّة مقدّمة على معلولها فيكون عدم المانع أيضاً مقدّماً على وجود المعلول ، والمعلول في ما نحن فيه فعل الواجب المأمور به كالازالة في المثال ، والمانع هو الصّلاة ، فيصير ترك الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة ، وهو المطلوب في المقدّمة الاولى من البرهان.

ويجاب عن هذا بعدّة أجوبة :

٤٣٤

الجواب الأوّل : أنّ التمانع إنّما هو بمعنى عدم الاجتماع في الوجود ، وهو لا يلازم مقدّميّة أحد المتمانعين للآخر وتقدّمه عليه رتبة ، بل غاية ما يقتضيه إنّما هو كون وجود أحدهما مع عدم الآخر في رتبة واحدة.

هذا حاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ، وقد قرّره المحقّق النائيني رحمه‌الله ببيان أوفى وهو « إنّ مرتبة مانعية المانع متأخّرة عن وجود المقتضي وعن وجود جميع الشرائط ، بمعنى أنّ الرطوبة مثلاً لا يمكن أن يقال : أنّها مانعة عن احتراق الجسم إلاّبعد وجود النار ومماسّتها مع الجسم القابل للاحتراق ، نعم يمكن أن يكون وجود الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق قبل وجود النار وقبل مماسّتها لذلك الجسم ولكن اتّصافها بصفة المانعية وفعلية هذه الصفة فيها لا يمكن إلاّبعد وجود المقتضي للاحراق وجميع شرائطه ، وعلى هذا الأساس ينكر إمكان كون شيء شرطاً لشيء ، ضدّه مانعاً عنه لأنّ مانعية الضدّ لا تتحقّق إلاّبعد وجود الشرط الذيي هو عبارة عن الضدّ الآخر ، وبعد وجود ذلك الضدّ الذي هو شرط يمتنع وجود هذا الآخر الذي يدّعي أنّه مانع ، وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين ، ومع امتناع وجوده كيف يمكن أن يكون مانعاً؟ ... ( إلى أن قال ) : إذا تقرّر ذلك. فنقول : توقّف وجود الإزالة على عدم الصّلاة ـ مثلاً ـ لا بدّ وأن يكون من جهة عدم المانع ، أي حيث إنّ وجود الصّلاة مانع عن وجود الإزالة ، وعدم المانع من أجزاء علّة الشيء ، والعلّة لا بدّ وأن توجد بجميع أجزائها وخصوصّياتها حتّى يوجد المعلول ومن جملتها عدم المانع ، وقد تبيّن أنّ كون الصّلاة مانعة عن وجود الإزالة لا يمكن إلاّبعد وجود المقتضي للازالة ووجود جميع شرائطها ، وقد عرفت ممّا تقدّم أنّه إذا وجد المقتضي للازالة لا يمكن أن يوجد المقتضي للصّلاة أصلاً لما ذكرنا من عدم إمكان اجتماع المقتضين للضدّين في عالم الوجود ، ففي هذا الفرض ( أي فرض وجود المقتضي للازالة ) لا بدّ وأن تكون الصّلاة معدومة لعدم وجود المقتضي لها ومع انعدامها كيف تكون مانعة عن وجود الإزالة؟ » (١).

هذا هو الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل وهو تامّ في محلّه.

الجواب الثاني : أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين يستلزم الدور ، لأنّه بناءً على المقدّميّة يكون

__________________

(١) راجع منتهى الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٨ ، للمحقّق البجنوردي رحمه‌الله.

٤٣٥

عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الضدّ الآخر ، ومن جانب آخر وجود أحد الضدّين مقدّمة لعدم الآخر ، فعدم القيام مثلاً مقدّمة لفعل الجلوس ، وفعل الجلوس أيضاً مقدّمة لعدم القيام ، وفي المثال المعنون في المقام يكون عدم الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة وفعل الإزالة أيضاً سبب لترك الصّلاة ، وهذا دور محال.

إن قلت : إنّ المقدّميّة هنا أمر فعلي من أحد الطرفين وشأني من طرف آخر ، بينما لا بدّ في تحقّق الدور من كون المتوقّف والمتوقّف عليه فعليين ، وبيان ذلك أنّ ترك الصّلاة مثلاً مقدّمة للازالة فعلاً ، ولكن الإزالة مقدّمة لترك الصّلاة فيما إذا لم يكن في البين صارف عن الصّلاة كعدم إرادتها لا مطلقاً ، أي عدم الصّلاة في صورة عدم إرادتها يستند إلى عدم المقتضي ووجود الصارف ، ولا يستند إلى الإزالة حتّى تكون الإزالة مقدّمة له.

قلنا : أنّه يكفي في تحقّق الدور مجرّد الشأنيّة للمقدّميّة ، بل يتحقّق الدور حتّى فيما إذا كان الطرفان كلاهما شأنيين ، فلا يمكن أن يكون كلّ من « الألف » و « الباء » مقدّمة للآخر حتّى شأناً.

الجواب الثالث : أنّ شأن وجود أحد الضدّين مع عدم الآخر شأن وجود أحد النقيضين مع ارتفاع الأخر ، فكما لا ترتّب ولا توقّف وجداناً بين وجود الإنسان مثلاً وارتفاع اللا إنسان بل إذا حصل سبب وجود الإنسان حصل الإنسان وارتفع اللا إنسان في رتبة واحدة من دون أن يرتفع اللا إنسان أوّلاً ثمّ يحصل الإنسان في المرتبة المتأخّرة ، كذلك إذا حصلت إرادة المأمور به حصل هناك أمران في عرض واحد بالوجدان فعل المأمور به وترك ضدّه ، فيكونان إذاً معلولين لعلّة واحدة لا تقدّم لأحدهما على الآخر.

وإن شئت قلت : أنّه لا ريب في كون وجود أحد الضدّين في رتبة وجود الضدّ الآخر ، ولا ريب أيضاً في كون وجود كلّ من الضدّين في رتبة عدم نفسه لأنّهما متناقضان ، ولازمه أن يكون وجود كلّ واحد من الضدّين في رتبة عدم الضدّ الآخر ، لأنّ مساوي المساوي مساوٍ ، فإذا كان وجود أحد الضدّين مساوياً لوجود الضدّ الآخر رتبة وكان وجود كلّ واحد منهما مساوياً لعدمه رتبة ـ كان وجود أحدهما مساوياً لعدم الآخر أيضاً رتبة ، وحينئذٍ لا ترتّب ولا توقّف بينهما وهو المطلوب.

الجواب الرابع : ما أفاده في تهذيب الاصول وحاصله : « أنّ العدم مفهوم اعتباري يصنعه

٤٣٦

الذهن إذا تصوّر شيئاً ولم يجده شيئاً إذا رجع إلى الخارج فهو مسلوب عنه أحكام الوجود والثبوت ، إذ لا شيئية له ، فلا تقدّم له ولا تأخّر ولا مقارنة ، بل كلّ الحيثيات مسلوبة عنه سلباً تحصيليّاً لا بمعنى سلب شيء عن شيء بل السلب عنه من قبيل الإخبار عن المعدوم المطلق بأنّه لا يخبر عنه ، فما يتكرّر بين كلمات المشاهير من أهل الفنّ من عدّ عدم المانع من أجزاء العلّة مرجعه إلى أنّ وجوده مانع عن تحقّق المعلول لا أنّ عدمه دخيل ، إذ العدم مطلقه ومضافه أقصر شأناً من أن يحوم حوله التوقّف لأنّه البطلان واللاشيئية » (١).

أقول : وهذا الجواب أيضاً متين في محلّه.

إلى هنا تمّ الكلام عن الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين استدلّ بهما للقول الأوّل في المقام.

الوجه الثاني : مسلك التلازم واتّحاد المتلازمين في الحكم ، ( وهو غير الوجه الأوّل الذي كان مبنياً على مقدّميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر ) وهو أيضاً يتوقّف على ثلاث مقدّمات :

١ ـ إنّ وجود أحد الضدّين ملازم لعدم الآخر وإلاّ يستلزم ارتفاع النقيضين ، لأنّ عدم الضدّ الآخر يكون نقيضاً لوجوده ، فإذا لم يكن وجود الضدّ الأوّل ملازماً لا لوجوده ولا لعدمه يستلزم ارتفاع النقيضين ، وهو واضح ( بل هذا هو معنى التضادّ ).

٢ ـ إنّ المتلازمين متساويان في الحكم فتتساوى مثلاً الإزالة وترك الصّلاة في الوجوب.

٣ ـ أنّ وجوب ترك فعل يقتضي النهي عن ضدّه وهو وجوده بمقتضى ما سبق في الضدّ العامّ. فيستنتج من هذه الثلاثة أنّ الأمر بالإزالة يقتضي حرمة فعل الصّلاة من دون حاجة إلى إثبات مقدّميّة ترك الصّلاة لفعل الإزالة كما في الوجه الأوّل.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بالنقاش في المقدّمة الثانيّة ، وحاصل بيانه أنّ غاية عدم اختلاف المتلازمين عدم اختلافهما في الحكم بحيث يكون كلّ واحد منهما محكوماً بحكم فعلي مغاير لحكم الآخر لا أن يكونا متّحدين في الحكم بل يجوز أن يكون الملازم محكوماً إنشاءاً بحكم مخالف لحكم ملازمه لكن قد سقط فعليّته بفعلية الأهمّ الملازم له ، كما إذا وجب انقاذ الغريق وحرم إنشاءاً ترك الصّلاة الملازم له لكن قد سقطت حرمته الفعليّة لأهمّية الانقاذ.

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٢ ، طبع مهر.

٤٣٧

لا يقال : إنّه إذا لم يجب أن يكون الملازم محكوماً بحكم ملازمه لزم خلوّه عن الحكم.

لأنّا نقول : أنّ عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي ولو كان إنشائيّاً لا الحكم الفعلي ، والملازم وإن لم يكن محكوماً فعلاً بحكم ملازمه ، ولكنّه محكوم واقعاً بحكم إنشائي ولو كان مخالفاً لحكم ملازمه.

أقول : ونضيف إلى ذلك : أنّه لا إشكال في جواز خلوّ الواقعة عن الحكم إنشاءً وفعلاً إذا لم تكن الواقعة ذات شأن كاللعب بالسبحة مثلاً ، أو يكون جعل الحكم فيها لغواً أو شبه ذلك ، بل لا بدّ للشارع جعل الحكم بالنسبة إلى الوقائع التي يبتلي به المكلّفون وتكون ذات شأن في الخارج ، وإلاّ يستلزم نقصان الشريعة المقدّسة ، وما نحن فيه من القسم الأوّل ، لأنّ جعل الوجوب لترك الصّلاة الملازم لفعل الإزالة لغو لا حاجة إليه مع وجوب الإزالة لأنّه يحصل بفعل الإزالة قهراً سواء أراده المكلّف أو لم يرده وسواء كان واجباً أو مباحاً.

إن قلت : ظاهر بعض الرّوايات والآيات أنّه ما من واقعة إلاّولها حكم في الشرع.

قلنا : هذه الرّوايات أو الآيات ناظرة إلى القسم الثاني من الوقائع ، أي الوقائع التي تكون ذات شأن في الواقع ويبتلى به المكلّف ممّا له فائدة.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة في هذا الوجه بالنسبة إلى المقدّمة الثالثة أيضاً حيث إنّها مبنيّة على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه العامّ ، لأنّ ترك الصّلاة ضدّ عام لفعل الصّلاة ، وقد مرّ في المقام الأوّل عدم نهوض دليل على ذلك.

فظهر أنّ السالم من الإشكال إنّما هو المقدّمة الاولى ، وهي وجود التلازم بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر ، ومن العجب إشكال تهذيب الاصول في هذه المقدّمة أيضاً حيث قال : « إنّ نقيض كلّ شيء رفعه لا إثبات هذا الرفع فنقيض قولنا « يصدق عليه السواد » هو « أنّه لا يصدق عليه السواد » لا أنّه يصدق عليه عدم السواد ، وكم فرق بين السالبة المحصّلة وبين الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول ، كما إذا قلت : « يصدق عليه أنّه ليس بسواد » (١).

وفيه : أنّ من المعلوم أنّ الضدّين لا يجتمعان في الوجود بلا إشكال ، وإذا لم يجتمع وجود أحد الضدّين مع وجود الضدّ الآخر ، يجتمع لا محالة مع عدمه لأنّ النقيضان لا يرتفعان ، وليس في البين قضيّة حتّى يتكلّم عن أنّ نقيضها سالبة محصّلة أو موجبة معدولة.

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، طبع مهر ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

٤٣٨

وإن شئت قلت : وجود البياض ملازم لعدم السواد إلاّ أنّه يصدق عليه عدم السواد ، وكم فرق بين الملازمة وبين صدقه عليه.

هذا ، وقد ظهر إلى هنا أنّه لا يمكن إثبات أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لا من طريق مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر ولا من طريق وجود التلازم بينهما ، ولكن لنا في المسألة بالنسبة إلى مسلك المقدّميّة تفصيل فنقول : ربّما يكون الضدّان فعلين قائمين بشخص واحد ، فلا إشكال في أنّ ترك أحدهما ليس مقدّمة لوجود الآخر بل إرادة أحدهما يلازم ترك الآخر قهراً ، فمثلاً حصول الجلوس ليس متوقّفاً على ترك القيام بل يحصل الجلوس وينعدم القيام في عرض واحد وفي رتبة واحدة بإرادة الجلوس فقط ، كما أنّ تحقّق النوم لا يكون متوقّفاً على اعدام اليقظة في الرتبة السابقة بل تنعدم اليقظة ويحصل النوم بإرادة النوم فقط.

وإن شئت قلت : إذا حصل الداعي لأحدهما يحصل الصارف عن غيره في رتبة واحدة.

وهذا بخلاف ما إذا كان الضدّان فعلين قائمين بشخصين كإشغال محلّ خاصّ من المسجد ، فإنّه لا يمكن إشغال زيد له إلاّبترك إشغال عمرو له ، أو كانا فعلين قائمين بشخص واحد ولكن المحلّ واحد وموضوع خارجي فلا يمكن أن يملأ إناء الماء مثلاً من اللبن بدون فراغه من الماء ، وهكذا كتابة شيئين في لوح واحد فلا يمكن كتابة أحدهما إلاّبعد محو الآخر ، فهنا يكون عدم أحدهما مقدّمة للآخر.

إن قلت : لازم هذا ـ التفريق بين الضدّين اللّذين كان أحدهما موجوداً من قبل ، وما ليس كذلك ، فالمقدّميّة حاصلة في الأوّل دون الثاني ، أي أنّها موجودة رفعاً لا دفعاً.

قلنا : عدم وجود أحد الضدّين من قبل في القسم الأخير لا يلازم عدم كونه مقدّمة ، بل لازمه حصول المقدّمة من قبل ، ففراغ الإناء من الماء لقبول اللبن ليس دليلاً على أنّ عدم الماء فيه لا يكون مقدّمة للبن ، بل معناه حصول المقدّمة من قبل ، وهو واضح.

وإلى ما ذكرنا يشير ما هو المعروف في محلّه من « أنّ التخلية قبل التحلية » ، نعم إنّ الأمثلة المتداولة في كلمات القوم في المقام كمثال الصّلاة والإزالة إنّما هي من القسم الأوّل ، ولعلّ ملاحظة هذه الأمثلة أوجبت إنكار المحقّقين للمقدّميّة في مطلق الأضداد ، فتدبّر جيّداً حتّى تعرف الفرق بين الموردين فإنّه دقيق.

٤٣٩

ثمرة البحث في مسألة الضدّ :

للمسألة ثمرتان :

الثمرة الاولى : نفس الحكم بحرمة الضدّ في صورة الاقتضاء ، فإنّه حكم فقهي ينشأ من النهي عن الضدّ ، ويوجب فعله العصيان والعقاب كما يوجب تركه بقصد الامتثال الثواب بناءً على ما مرّ سابقاً من أنّ الأمر الغيري أو النهي الغيري يوجب الثواب أو العقاب إذا أتى بالمأمور به أو المنهي عنه بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة « فتأمّل ».

الثمرة الثانيّة : فساد الضدّ إذا كان عبادة ، لأنّ النهي يدلّ على الفساد ، فتصير الصّلاة في المثال المزبور باطلة بناءً على الاقتضاء.

نعم ربّما يناقش فيه بأنّه مبني على كون متعلّق النهي مبغوضاً ، والنهي المقدّمي لا يوجب مبغوضيّة متعلّقه ، فلا يلزم منه فساده ، ولكن قد عرفت الإشكال فيه آنفاً.

كما يمكن المناقشة في المثال المعروف ، لأنّ بطلان الصّلاة مبني على فوريّة وجوب الإزالة أو أداء الدَين ، ولا إشكال في أنّها عرفيّة لا تنافي إتيان الصّلاة بسرعة ثمّ الإزالة أو أداء الدَين من دون فصل ( وإن كانت المناقشة في بعض الأمثلة لا تقدح في أصل الحكم ).

ثمّ إنّ الشّيخ البهائي ( قدّس الله نفسه ) أورد على هذه الثمرة بشيء انتهى إلى بحث الترتّب ، وهو أنّ بطلان الضدّ ليس متوقّفاً على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، بل أنّه ثابت بناءً على عدم الاقتضاء أيضاً ، لأنّ الأمر بالشيء لو لم يقتض النهي عن ضدّه فلا أقلّ من اقتضائه عدم الأمر بضدّه وإلاّ يلزم التكليف بالمحال لامتناع الجمع بين الضدّين ، فإذا لم يكن الضدّ مأموراً به بطل إذا كان عبادة لأنّ صحّتها متوقّفة على تعلّق الطلب بها.

وقد اجيب عنه بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّه يكفي في صحّة العبادة مجرّد قصد الملاك والمصلحة والرجحان الذاتي ، ولا ينحصر قصد القربة المعتبرة في العبادات بقصد الأمر فقط كي إذا سقط الأمر بطلت العبادة كما مرّ بيانه في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

الوجه الثاني : أنّ متعلّق الوجوب في الصّلاة مثلاً إنّما هو طبيعة الصّلاة ، وخصوصيّة الأفراد خارجة عن حيّز الأمر ، ولا إشكال في أنّ تكليف العباد بإيجاد ماهيّة لا يتوقّف على كون جميع أفرادها مقدورة ، وحينئذٍ سقوط الأمر بالنسبة إلى بعض الأفراد ( وهو الفرد المزاحم في ما نحن

٤٤٠