أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

بها ، فالمطلوب الجدّي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي إنّما هو نفس التوصّل (١).

وقد ناقش فيه بعض الأعلام « بأنّ رجوع الجهات التعليلية في الأحكام العقليّة إلى الجهات التقييديّة وإن كان في نهاية الصحّة والمتانة إلاّ أنّه أجنبي عن محلّ الكلام في المقام ، وذلك لما تقدّم في أوّل البحث من أنّ وجوب المقدّمة عقلاً بمعنى اللابدّيّة خارج عن مورد النزاع وغير قابل للانكار ، وإنّما النزاع في وجوبها شرعاً الكاشف عنه العقل ، وكم فرق بين الحكم الشرعي الذي كشف عنه العقل وحكم العقل ، وقد عرفت أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعيّة لا ترجع إلى الجهات التقييديّة ، فما أفاده رحمه‌الله لا ينطبق على محلّ للنزاع » (٢).

أقول : الأولى في مقام الدفاع عن مقالة الشّيخ رحمه‌الله أن نقول : أنّه قد وقع الخلط في المقام بين العناوين القصديّة التي لا تتحقّق بدون القصد كعنوان التأديب الذي يحصل بالضرب المقصود منه التأديب ( وإلاّ يكون ظلماً وإيذاءً ) وبين غيرها من العناوين كعنوان الغصب الذي يحصل بالتصرّف في مال الغير من دون طيب نفسه وإن لم يقصد به الغصب ، والمقدّمة في ما نحن فيه إنّما تكون من القسم الأوّل ، فلابدّ في تحصيلها إلى قصد المقدّميّة ، وهو يساوق قصد التوصّل بها إلى ذيها.

لكن الإنصاف أنّه لا دليل على كونه من القسم الأوّل بل المقامات مختلفة ، فلذا ينتقض بمثل نصب السلّم الذي يحصل بلا قصد التوصّل أيضاً ، فالإشكال باقٍ على حاله فإنّه لا يجب نصبه مرّة اخرى بقصد التوصّل قطعاً.

بقي هنا شيء :

وهو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّه وقع النزاع في تعيين مراد الشّيخ الأعظم رحمه‌الله ، فهل مقصوده اعتبار قصد التوصّل قيداً في المقدّمة كما هو الظاهر من كلماته وكان هو مدار البحث إلى هنا ، أو أنّ مقصوده اعتباره في مقام الامتثال وترتّب المثوبة ( كما أيّده في تهذيب الاصول ) (٣) وأنّ من أراد التقرّب بالمقدّمة إلى الله تعالى وترتّب الثواب عليها فليأت بها بقصد التوصّل بها إلى ذيها ،

__________________

(١) حكاه عنه في المحاضرات : ج ٢ ، ص ٤٠٦.

(٢) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٤٠٧.

(٣) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، طبع مهر ، ص ٢٠٢.

٤٠١

وحينئذٍ لا إشكال في صحّة ما إدّعاه حتّى بناءً على مبنى القائل بوجوب المقدّمة مطلقاً ، حيث إنّه لا خلاف في اعتبار قصد التوصّل في مقام الطاعة لترتّب المثوبة ، أو أنّ مراده ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله بعنوان احتمال ثالث في كلامه ، وهو اعتبار قصد التوصّل قيداً في خصوص حال المزاحمة كما إذا كانت المقدّمة محرّمة ، وقال أنّه تساعد عليه جملة من عبارات التقرير ، وكان الاستاذ المحقّق السيّد العلاّمة الإصفهاني رحمه‌الله ينسب ذلك إلى الشّيخ رحمه‌الله ولا نعلم أنّ نسبته هذه هل كانت مستندة إلى استظهار نفسه أو إلى سماعه ذلك من المحقّق سيّد أساتيذنا العلاّمة الشيرازي رحمه‌الله عن استاذه المحقّق العلاّمة الأنصاري رحمه‌الله » (١)؟ ولكن يرد عليه ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله فأنّه بعد تقريبه وتوجيهه بأنّ « المقدّمة إذا كانت محرّمة وتوقّف عليها واجب فعلي فغاية ما يقتضيه التوقّف المزبور في مقام المزاحمة هو ارتفاع الحرمة عن المقدّمة فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل ، وأمّا مع عدم قصده فلا مقتضى لارتفاع حرمتها ».

أورد عليه : بأنّ المزاحمة إنّما هي بين حرمة المقدّمة ووجوب ما يتوقّف عليه ولو لم نقل بوجوب المقدّمة أصلاً ، فالتزاحم إنّما هو بين وجوب إنقاذ المؤمن وحرمة التصرّف في الأرض المغصوبة مثلاً ، فلا مناصّ عن الالتزام بارتفاع الحرمة لفرض كون الواجب أهمّ سواء في ذلك القول بوجوب المقدّمة والقول بعدمه فاعتبار قصد التوصّل في متعلّق الوجوب المقدّمي أجنبي عمّا به يرتفع التزاحم المذكور بالكلّية » (٢).

أقول : وما أفاده متين.

وجوب المقدّمة الموصلة

أمّا القول الرابع : هو ما ذهب إليه صاحب الفصول من وجوب المقدّمة الموصلة ، أي وجوب خصوص المقدّمة التي تنتهي إلى ذي المقدّمة ( وقد كان يعتقد بأنّه ممّا لم يتفطّن له غيره ) واستدلّ له بثلاثة وجوه :

الوجه الأوّل : أنّ العقل لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب شيء وطلب مقدّماته التي في سلسلة علّة وجود ذلك الشيء في الخارج بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢٣٥.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ص ٢٣٩.

٤٠٢

الواجب ، وأمّا ما لا يقع في سلسلة علّته ويكون وجوده خارجاً مفارقاً عن وجود الواجب فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً ، ونتيجته وجوب خصوص المقدّمة الموصلة.

الوجه الثاني : إمكان تقييد المقدّمة بقيد الإيصال من جانب المولى وجداناً لأنّه بنفسه دليل على انحصار حكم العقل في المقدّمة الموصلة ، وإلاّ لو كانت دائرة حكم العقل أوسع منها لم يمكن تقييد ما حكم به العقل.

الوجه الثالث : أنّ الواجب على المكلّف إنّما هو تحصيل غرض المولى فحسب ، ولا إشكال في أنّ غرضه من إيجاب المقدّمة هو الوصول إلى ذي المقدّمة ، فيكون الواجب خصوص ما يوصله إلى ذي المقدّمة.

ولكن قد أورد عليه أيضاً بامور :

الأمر الأوّل : أنّ العقل لا يفرّق بين الموصل وغيره لأنّ ما يتوقّف عليه الواجب خارجاً إنّما هو ذات المقدّمة ، والملازمة ثابتة في الخارج بين وجود ذاتها ووجود ذي المقدّمة.

الأمر الثاني : أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس هو الوصول إلى ذي المقدّمة بل إنّما هو التمكّن من الوصول ، ومن المعلوم أنّ التمكّن من الوصول يترتّب على المقدّمة مطلقاً لا خصوص الموصلة منها.

وبعبارة اخرى : إنّ المتوقّع من كلّ شيء ما يكون صدوره منه ممكناً ، فالمتوقّع من نصب السلّم مثلاً ليس هو الوصول إلى السطح لأنّه بمجرّده لا يوجب الوصول إليه بل يتوقّع منه إمكان الوصول إلى السطح ، كما أنّ المتوقّع من الوضوء إنّما هو التمكّن من الإتيان بالصّلاة ، ولا إشكال في أنّ هذا التمكّن يوجد في جميع المقدّمات فإنّ المكلّف بالوضوء يصير قادراً على الصّلاة ، سواء أتى به بنيّة الصّلاة أو لا؟

نعم ، إنّه كذلك في المقدّمات التوليديّة حيث إنّ ما يترتّب عليها إنّما هو الوصول إلى ذي المقدّمة لا مجرّد التمكّن منه ، لكن ليست المقدّمة في محلّ النزاع منحصرة في العلل التامّة والأسباب التوليديّة.

الأمر الثالث : إذا أتى المكلّف بالمقدّمة ولم يأت بذي المقدّمة بعد فإمّا أن يسقط الأمر الغيري المتعلّق بها أو لا يسقط ، لا مجال للثاني لأنّ بقاء الأمر الغيري على حاله مع حصول

٤٠٣

المقدّمة في الخارج تحصيل للحاصل ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون السقوط لأجل العصيان أو لفقد الموضوع أو لموافقة الخطاب وحصول الامتثال ، والأول غير حاصل لفرض الإتيان بالمقدّمة ، وكذا الثاني لبقاء وجوب ذي المقدّمة ، فيتعيّن الثالث وهذا هو المطلوب ، إذ لو كان الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة لم يسقط الأمر الغيري ، فالسقوط كاشف عن أنّ الواجب هو مطلق المقدّمة ولو لم توصل إلى ذيها.

أقول : يمكن الدفاع عن صاحب الفصول :

أوّلاً : بأنّ للمولى نوعين من الغرض : غرض ابتدائي وهو التمكّن من الوصول إلى ذي المقدّمة ، وغرض نهائي وهو الوصول إلى نفس ذي المقدّمة ، فليس الغرض منحصراً في إمكان الوصول ، فإذا تحقّق الأوّل بقي الثاني.

ثانياً : صحيح أنّ المتوقّع من كلّ شيء لا بدّ أن يكون خصوص ما يترتّب عليه من الأثر وما يمكن صدوره منه ، وأنّ المترتّب على إيجاد المقدّمة إنّما هو التمكّن من الوصول لا نفس الوصول ، ولكن لا إشكال في أنّ الوصول به إلى ذي المقدّمة يكون مقدوراً للمكلّف ، فللمولى أن يطلب من المكلّف خصوص الوصول إلى ذي المقدّمة ، وأنّ يكلّفه بخصوص مقدّمة توصّله إلى ذي المقدّمة ، لأنّ ملاك صحّة التكليف بشيء إنّما هو كونه مقدوراً للمكلّف وهو حاصل في المقام.

ثالثاً : نحن لا نوافق سقوط الأمر بإيجاد مطلق المقدّمة مع عدم ترتّب ذي المقدّمة عليه بل إنّه باقٍ على فعليّته وداعويّته ما لم يأت بذي المقدّمة ، أي أنّ بقاء داعويته مشروط بعدم الإتيان بذي المقدّمة على نحو الشرط المتأخّر ، فإن أتى بذي المقدّمة يسقط الأمر بالمقدّمة عن داعويته ، وما دام لم يأت بذي المقدّمة تكون الداعويّة باقية على حالها ، كما أنّه كذلك في إجزاء الواجب النفسي بالنسبه إلى الأمر النفسي الضمني المتعلّق بكلّ جزء جزء ، فسقوطه عن الفعليّة والداعويّة مشروطة بنحو الشرط المتأخّر بإتيان سائر الأجزاء وإن كان لا يجب تحصيل الحاصل ، فما نحن فيه من هذه الجهة أشبه شيء بأجزاء الواجب النفسي.

ثمّ إنّه مضافاً إلى ما اورد على صاحب الفصول من الإشكالات الثلاثة المزبورة ذكر بعضهم لمقالته ثلاثة توالٍ فاسدة :

الأوّل : أنّ لازم مقالته كون ذي المقدّمة تابعاً في وجوبه وعدمه لإرادة المكلّف في المقدّمات

٤٠٤

المحرّمة ، وهو واضح البطلان لأنّ لازمه عدم الوجوب عند عدم الإرادة.

وبيان الملازمة : إنّ انقاذ الغريق مثلاً المتوقّف على الدخول في الأرض المغصوبة إنّما يكون واجباً فيما إذا كان الدخول في الأرض المغصوبة ممكناً ، والدخول في الأرض المغصوبة إنّما يصير ممكناً فيما إذا كان مباحاً ، وإباحته تتوقّف على كونه موصلاً إلى ذي المقدّمة بناءً على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، والإيصال إلى ذي المقدّمة متوقّف على إرادة المكلّف الوصول إليه ، ونتيجته توقّف وجوب الانقاذ على إرادة المكلّف.

وبعبارة اخرى : لو لم يرد المكلّف الوصول إلى ذي المقدّمة لم تكن المقدّمة موصلة قطعاً ومع عدم إيصالها تكون باقية على حرمتها ، ومع بقاء حرمتها تكون غير ممكنة شرعاً ، وإذا كانت المقدّمة غير ممكنة يسقط ذو المقدّمة عن وجوبه ، فوجوب ذي المقدّمة تابع لإرادة المكلّف.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه مغالطة واضحة ، لأنّ كلاً من إيجاد ذي المقدّمة وإمكان المقدّمة معلول لعلّة واحدة ، وهي إرادة المكلّف ، أي إذا أراد المكلّف الوصول إلى ذي المقدّمة صارت المقدّمة مباحة ممكنة قطعاً فإباحتها وبالمآل الوصول إلى ذي المقدّمة متوقّف على إرادة المكلّف ، ولا إشكال في أنّ إرادته اختياريّة ومقدورة له ، ونتيجته أن يكون كلّ من المقدّمة وذي المقدّمة مقدوراً له بالواسطة ، فيصحّ تكليفه بإتيانهما.

الثاني : لزوم الدور ، لأنّ مردّ هذا القول كون الواجب النفسي مقدّمة للمقدّمة لفرض أنّ ترتّب وجوده عليها قد اعتبر قيداً لها ، فيلزم كون وجوب الواجب النفسي ناشئاً من وجوب المقدّمة وهو يستلزم الدور ، فإنّ وجوب المقدّمة على الفرض إنّما نشأ من وجوب ذي المقدّمة فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار.

والجواب عنه أوّلاً : إنّه من قبيل الدور المعي الذي ليس محالاً عقلاً حيث إنّ كلّ واحد من المقدّمة وذي المقدّمة يتوقّف على أمر ثالث وهو إرادة المكلّف فهما معلولان لعلّة واحدة.

وثانياً : يمكن أن يقال : إنّ وجوب ذي المقدّمة لا يتوقّف على وجوب مقدّمته قطعاً ، لأنّ المفروض أنّه واجب نفسي ، نعم يلزم من وجوب المقدّمة الموصلة وجوب غيري آخر لذي المقدّمة زائداً على وجوبه النفسي ولا مانع منه ، وهو جيّد.

الثالث : أنّه يستلزم محذور التسلسل ، لأنّ الواجب إذا كان هو خصوص المقدّمة الموصلة ، فبطبيعة الحال تكون المقدّمة مركّبة من جزئين : ذات المقدّمة وقيد الإيصال ، وكلّ من هذين

٤٠٥

يكون مقدّمة لوجود المركّب منهما ، فننقل الكلام إلى هذين الجزئين ، فهل هما واجبان مطلقاً ، أو مع قيد الإيصال؟ والأوّل خلاف الفرض ، والثاني يوجب تركّب كلّ من الجزئين من ذات وقيد وهكذا إلى أن يتسلسل.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ هذا مبني على كون الأجزاء الداخليّة مقدّمة للمركّب مع أنّه قد أنكرناه سابقاً وقلنا أنّها عبارة عن نفس المركّب لا مقدّمة له.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ التسلسل ممتنع في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة ، فإنّها تدور مدار الاعتبار كلّما أمسك المعتبر من اعتبارها انتهت.

ولقد أجاد بعض الأعلام حيث قال : « والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الالتزام بوجوب المقدّمة الموصلة لا يستدعي اعتبار الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري أصلاً ، والسبب في ذلك هو أنّ الغرض من التقييد بالايصال إنّما هو الإشارة إلى أنّ الواجب إنّما هو حصّة خاصّة من المقدّمة ، وهي الحصّة الواقعة في سلسلة العلّة التامّة لوجود الواجب النفسي دون مطلق المقدّمة ، وبكلمة اخرى : أنّ المقدّمات الواقعة في الخارج على نحوين :

أحدهما : ما كان وجوده في الخارج ملازماً لوجود الواجب فيه وهو ما يقع في سلسلة علّة وجوده.

وثانيهما : ما كان وجوده مفارقاً لوجوده فيه وهو ما لا يقع في سلسلتها ، فالقائل بوجوب المقدّمة الموصلة إنّما يدّعي وجوب خصوص القسم الأوّل منهما دون القسم الثاني ، وعليه فلا يلزم من الالتزام بهذا القول كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري ، فإذن لا موضوع لإشكال الدور أو التسلسل أصلاً » (١).

هذا كلّه في القول الرابع.

امّا القول الخامس : وهو وجوب المقدّمة حال الإيصال ، ذهب إليه شيخنا الحائري والمحقّق النائيني والمحقّق العراقي قدس‌سرهم ( كما مرّ ) فإنّهم بعد أن لاحظوا حكم الوجدان بوجوب المقدّمة الموصلة ومن جانب آخر استلزام هذا الحكم محاذير عقليّة كالدور والتسلسل التجأوا إلى هذا

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٤١٤ ـ ٤١٥.

٤٠٦

القول تخلّصاً عن تلك المحاذير مع اتّحاده بذلك القول في الأثر ، وهذا بنفسه أحد الوجهين اللّذين يمكن الاستدلال بهما لمقالتهم.

والوجه الثاني : ما أفاده المحقّق الحائري رحمه‌الله في درره وهو أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها لأنّ تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي ، ولو لاحظ مقدّمة منفكّة عمّا عداها لا يريدها جزماً ، فإنّ ذاتها وإن كانت مورداً للإرادة لكن لمّا كانت المطلوبيّة في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات معها لم تكن كلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدّمات » (١).

والحاصل : أنّ الواجب هو المقدّمة حين ملاحظة سائر المقدّمات أي حين لحاظ الإيصال إلى ذي المقدّمة لأنّ ملاحظة سائر المقدّمات تساوق ملاحظة الإيصال إلى ذي المقدّمة كما لا يخفى.

وقد ورد هذا المعنى ببيان آخر في كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله أيضاً فإنّه بعد أن ناقش في المقدّمة الموصلة على نحو يكون التوصّل قيداً للواجب قال : « لكن مع ذلك لا تكون الذات مطلقاً واجبة بل الذات من حيث الإيصال والمراد بالذات من حيث الإيصال هو الذات في حال الإيصال ، على وجه يلاحظ المقدّمة وذا المقدّمة توأمين ، من دون أن يكون أحدهما قيداً للآخر ، بل يلاحظ المقدّمة على ما هي عليها من وقوعها في سلسلة العلّة ، فإنّه لو كانت سلسلة العلّة مركّبة من إجزاء فكلّ جزء إنّما يكون جزء العلّة إذا كان واقعاً في سلسلة العلّة لا واقعاً منفرداً ، فإنّ لحاظ حال إنفراده ينافي لحاظه جزءً للعلّة بل إنّما يكون جزء العلّة إذا لوحظ على ما هو عليه من الحالة ، أي حالة وقوعه في سلسلة العلّة من دون أن تؤخذ سائر الأجزاء قيداً له ، ففي المقام يكون معروض الوجوب المقدّمي هي الذات لكن لا بلحاظ إنفرادها ولا بلحاظ التوصّل بها بأن يؤخذ التوصّل قيداً بل بلحاظها في حال كونها ممّا يتوصّل بها ، أي لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأميّة » (٢).

ولكن يمكن النقاش فيه أيضاً بأنّ الأحكام في مقام الثبوت لا تخلو من أحد الأمرين ، فإمّا أن تنشأ على نحو القضيّة المطلقة ، أو على نحو القضيّة المشروطة المقيّدة ، ولا شيء ثالث في البين

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ١١٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٣ طبع جماعة المدرّسين.

٤٠٧

يسمّى بالحصّة التوأمة على بعض التعابير ، وبالقضيّة الحينية على تعبير آخر ، لأنّه لا إهمال في مقام الثبوت ، فإنّ المولى إمّا أن يطلب الوضوء مثلاً مع تقيّده بقيد الإيصال فيكون من قبيل القضيّة المشروطة ، أو لا يطلبه في الواقع كذلك فيكون من قبيل القضيّة المطلقة ، ولا نعقل شيئاً ثالثاً في مقام الثبوت والواقع.

وقد يجاب عن هذه المناقشة بأنّه يمكن تصوير شقّ ثالث في مقام الثبوت وهو ما قد يعبّر عنه بالتضيّق الذاتي في المعلول بالنسبة إلى علّته ، فإنّ كلّ نار مثلاً لا توجد مطلق الحرارة بل إنّما توجد الحرارة المضيّقة بها نفسها ، فالحرارة بالنسبة إليها لا مطلقة وهو واضح ، ولا مقيّدة لأنّ في التقييد يكون القيد والمقيّد في رتبة واحدة ، والحرارة معلولة للنار ، والمعلول ليس في رتبة علّته فلابدّ من القول أنّ الحرارة مضيّقة بالنار في مرتبة الذات ، وهكذا في ما نحن فيه ، فالوضوء لا مطلق بالنسبة إلى الصّلاة ولا مقيّد بها ، لكونهما في رتبتين ، فيكون مضيّقاً بها بتضيّق ذاتي ، ولعلّ هذا هو المراد من الحصّة التوأمة.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً : بأنّ التضيّق الذاتي أمر مقبول في باب العلّة والمعلول ، وقد مرّ كراراً أنّ مثل المقام ليس من ذلك الباب ، فإنّ العلّة لوجوب الوضوء إنّما هي إرادة المولى لا وجوب الصّلاة ، بل وجوب الصّلاة من قبيل الداعي للمولى إلى إيجاب الوضوء فقياس الوضوء ، بالنسبة إلى الصّلاة بالحرارة بالنسبة إلى النار مع الفارق ، ولا يمكن تصوير شقّ ثالث باسم التضيّق الذاتي فيه ، بل يدور الأمر فيه بين الإطلاق والاشتراط كما عرفت ، وحيث إنّه ليس من باب العلّة والمعلول فلا مانع من التقييد والاشتراط فيه ، أي يقول المولى : إنّما اريد هذا الوضوء مقيّداً بإيصاله إلى الصّلاة ، فرجع الكلام بالمآل إلى المقدّمة الموصلة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ جميع الأقوال غير تامّة إلاّ القول الرابع وهو مقالة صاحب الفصول.

فنقول : الحقّ في المسألة هو هذا القول ، أي وجوب المقدّمة الموصلة ويمكن أن يستدلّ له بامور ثلاثة :

الأمر الأوّل : الوجدان ، وهو العمدة ، فإنّ الوجدان الفقهي في المقدّمات المحرّمة حاكم بأنّ تبديل حكم حرمة المقدّمة إلى جوازها بل وجوبها منحصر فيما إذا أوصل المكلّف إلى ذي المقدّمة ، فمن دخل الدار المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد عصى ، ومن دخلها وأنقذ الغريق فقد

٤٠٨

أطاع وامتثل حتّى في ما إذا لم يكن من قصده الانقاذ ، نعم إنّه تجري حينئذٍ على المولى فيعاقب على التجرّي بناءً على ترتّب العقاب عليه ، كما أنّه إذا قصد الانقاذ ولم ينقذ لعذر فقد عصى ولم يمتثل أمر المولى في الواقع ولكن لا يعاقب عليه لكونه معذوراً بحسب قصده واعتقاده ، وبعبارة اخرى : يترتّب على فعله مفسدة من دون المصلحة الراجحة ولكنّه معذور لعدم علمه بذلك.

الأمر الثاني : أنّ العقل لا يأبى عن النهي عن المقدّمة غير الموصلة بأن يقول الآمر الحكيم مثلاً ، إنّي اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إليه ولا اريد المسير الذي لا يتوصّل به إليه ، فإنّ جواز هذا النهي عند العقل شاهد على أنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة لأنّه لا تخصيص في حكم العقل.

الأمر الثالث : تقيّد الغرض بالمقدّمة الموصلة ، حيث إنّ الغرض وهو الوصول إلى ذي المقدّمة يترتّب على خصوص الموصلة كما مرّ ، وأمّا قول المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّ الغرض هو التمكّن من الوصول وهو يترتّب على مطلق المقدّمة فقد مرّ الجواب عنه بأنّه غرض ابتدائي ، والغرض النهائي إنّما هو الوصول إلى ذي المقدّمة.

ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة :

وقد ذكر لها عدّة ثمرات :

الثمرة الاولى : ما عرفت في المقدّمات المحرّمة كالدخول في الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق حيث إنّه إن قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً يصير الدخول فيها مباحاً وإن لم يقصد به الانقاذ ولم يتحقّق بعده الانقاذ ، وأمّا إن قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فلا يصير الدخول مباحاً إلاّ في صورة تحقّق الانقاذ خارجاً ، نعم أنّه لا يعاقب على الدخول إذا قصد به الانقاذ ولم يقدر عليه لمانع كما مرّ آنفاً.

الثمرة الثانيّة : بطلان الوضوء ( وسائر المقدّمات العباديّة ) فيما إذا أتى به ولم يأت بالصّلاة بعده بناءً على عدم كون الوضوء مطلوباً نفسيّاً واعتبار قصد الأمر في العبادة ، لأنّه إن قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فحيث إنّ هذا الوضوء لم يكن موصلاً فلم يكن مأموراً به فوقع باطلاً ، بخلاف ما إذا كان الواجب مطلق المقدّمة ( ويجري مثل هذا الكلام في أمثال الوضوء كالغسل وغيره ).

٤٠٩

الثمرة الثالثة : ما ذكره كثير من الأصحاب من أنّه بناءً على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً تكون عبادة تارك الضدّ الواجب الأهمّ باطلة كصلاة تارك الإزالة بناءً على أن يكون ترك الضدّ مقدّمة لإتيان الضدّ الآخر ، فيكون ترك الصّلاة واجباً لكونه مقدّمة للازالة الواجبة ، فيكون فعلها حراماً لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ، والضدّ العامّ للترك الواجب هو الفعل ، فتكون العبادة باطلة.

وأمّا بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة تقع الصّلاة صحيحة ، لأنّ اشتغال المكلّف بالصّلاة في صورة ترك الإزالة كاشف عن وجود صارف عن الإزالة وعن عدم إرادتها ، فلم يكن ترك الصّلاة موصل إلى الإزالة لوجود هذا الصارف ، فلم يكن واجباً ، فلا يكون فعلها حراماً ، ونتيجته صحّة الصّلاة.

ولكن أورد على هذه الثمرة شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله ( على ما في تقريراته ) بما لفظه : « إنّ الترك الخاصّ ( يعني به الترك الموصل ) نقيضه رفع ذلك الترك وهو أعمّ من « الفعل » ( مثل فعل الصّلاة ) و « الترك المجرّد » لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ مطلق كما قرّر في محلّه فيكون الفعل لازماً لما هو من أفراد النقيض ، وهذا يكفي في إثبات الحرمة ، وإلاّ لم يكن الفعل المطلق محرّماً فيما إذا كان الترك المطلق واجباً ( أي بناءً على وجوب المقدّمة مطلقاً ) لأنّ الفعل على ما عرفت ليس نقيضاً للترك لأنّه أمر وجودي ونقيض الترك إنّما هو رفعة ( ترك الترك ) ، ورفع الترك إنّما هو يلازم الفعل مصداقاً وليس عينه كما هو ظاهر عند التأمّل.

فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل فكذلك يكفي في المقام ( إلى أن قال ) غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط ، وأمّا النقيض للترك الخاصّ فله فردان وذلك لا يوجب فرقاً فيما نحن بصدده كما لا يخفى » (١) ( انتهى ).

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله : بأنّ فعل الصّلاة بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا يكون إلاّمقارناً لما هو النقيض ، وهو رفع الترك الموصل الذي يجامع مع الفعل تارةً ومع الترك المجرّد غير الموصل اخرى ، ولا يكاد يسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه فضلاً عمّا يقارنه أحياناً ، نعم لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمه لا أن يكون محكوماً بحكمه ، وهذا بخلاف فعل الصّلاة على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، لأنّه حينئذٍ

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ٧٨.

٤١٠

بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا أن يكون ملازماً لترك الترك ، فإنّ الفعل حينئذٍ وإن لم يكن عين الترك بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّه متّحد به عيناً وخارجاً فإن كان الترك واجباً فلا محالة يكون الفعل منهياً عنه قطعاً.

أقول : الإنصاف أنّ الحقّ مع الشّيخ الأعظم رحمه‌الله حيث يقول : إنّ نقيض الترك الموصل له مصداقان : أحدهما : فعل الصّلاة ، والآخر : الترك غير الموصل ، فيكون فعل الصّلاة من مصاديق النقيض لا من مقارناته لأنّه يكون من قبيل الصّوم الذي هو عبارة عن ترك المفطّرات مع قصد القربة ، ولا إشكال في أنّ لنقيضه مصداقين : أحدهما : الإفطار بأحد المفطّرات ، وثانيهما : ترك المفطّرات بدون قصد القربة ، فكلّ من الأمرين مصداق لترك الصّيام لا من مقارناته ، ولذلك كلّ واحد منهما يوجب المعصية ومخالفة أمر الصووم.

وإن شئت قلت : يرد نفس الإشكال على المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضاً حيث إنّ فعل الصّلاة كما لا يكون نقيض الترك الموصل بل يكون من مقارناته أو لوازمه كذلك لا يكون نقيض الترك المطلق ، حيث إنّ نقيض الترك إنّما هو ترك الترك لا الفعل كما صرّح به الشّيخ الأعظم رحمه‌الله أيضاً في ذيل كلامه المزبور ، فظهر إلى هنا أنّ إشكال الشّيخ الأعظم رحمه‌الله على الثمرة الثالثة تامّ في محلّه.

ويرد إشكالان آخران على هذه الثمرة :

الإشكال الأوّل : أنّ قيد الإيصال شرط الواجب لا الوجوب وحينئذٍ يجب تحصيله على أيّ حال : أي يكون ترك الصّلاة الموصل واجباً حتّى مع وجود الصارف عن الإزالة.

وبعبارة اخرى : يجب على المكلّف أمران : ترك الصّلاة وإيصاله إلى الإزالة ، ولا يوجب ترك أحدهما سقوط الآخر عن الوجوب ، فلا يوجب ترك الإيصال إلى الإزالة سقوط المقدّمة ، أي ترك الصّلاة عن الوجوب ، كما أنّ ترك الصّلاة لا يوجب سقوط الوضوء عن الوجوب ( فإنّه شرط للواجب لا الوجوب ).

الإشكال الثاني : سلّمنا أنّ الصّلاة تقع صحيحة بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ولكنّها تقع صحيحة بناءً على وجوب مطلق المقدّمة أيضاً ، وذلك من طريق القول بالترتّب إذا قلنا بعدم دلالة الأمر بشيء على النهي عن ضدّه الخاصّ ، اللهمّ إلاّ أن يقال أنّه خروج عن الفرض.

٤١١

الجهة السادسة : في ثمرة القول بوجوب المقدّمة

إن قلنا بأنّ المسألة اصوليّة وأنّ البحث فيها في ثبوت الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها وعدمها فلا إشكال في أنّ الثمرة حينئذٍ هي ثبوت الملازمة بين وجوب كلّ واجب ووجوب مقدّماته ، وهي ثمرة لمسألة اصوليّة تقع كبرى قياس استنباط الأحكام الفرعيّة فيقال مثلاً : الملازمة ثابتة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، والصّلاة واجبة فتجب جميع مقدّماتها ، وأمّا إن قلنا بأنّ المسألة قاعدة فقهيّة كما هو المختار ومقتضى ما عنونه المشهور ( من أنّ المقدّمة واجبة أم لا؟ ) فتكون النتيجة وجوب كلّ مقدّمة وهو حكم كلّي فرعي يستنتج منه أحكام فرعيّة جزئيّة.

ولكن قد خالف فيه بعض وقال بأنّ هذه الثمرة لا أثر لها ، أمّا أوّلاً : فلأنّ هذا الوجوب ممّا لا أثر له حيث إنّه وجوب غيري لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب ولا يمكن التقرّب به.

وأمّا ثانياً : فلما ذكره بعض الأعلام من أنّه لا إشكال في اللابدّية العقليّة في باب المقدّمة ، ومعها يكون إيجاب آخر شرعي لغواً لا أثر له.

ولكن كلا الوجيهن غير تامّ أمّا الأوّل : فلما مرّ من إمكان التقرّب بالواجب الغيري وأنّه يترتّب عليه أيضاً الثواب.

وأمّا الثاني : فلأنّه يرجع في الحقيقة إلى عدم وجوب المقدّمة شرعاً مع أنّ النزاع في ترتّب الثمرة وعدمه مبني على وجوب المقدّمة كذلك.

هذا كلّه في الثمرة الاولى وهي امّ الثمرات.

ثمّ إنّه قد ذكروا لبحث مقدّمة الواجب ثمرات اخرى :

الثمرة الاولى : أنّه على القول بوجوب المقدّمة إذا نذر الإتيان بواجب شرعي فيحصل البرء من النذر بالإتيان بمقدّمة من مقدّمات الواجب ، وعلى القول بعدمه لا يحصل البرء به.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ هذا ليس ثمرة لمسألة اصوليّة تقع كبرى لقياس الاستنباط بل إنّه بحث موضوعي في أنّه هل تكون المقدّمة من مصاديق عنوان الواجب الذي تعلّق به النذر أو لا؟ والمعروف أنّ

٤١٢

البحث عن الموضوعات الخارجيّة لا يعدّ مسألة فقهيّة وإن كان لنا كلام فيه في محلّه إجمالاً.

وقد أورد عليه ثانياً : بأنّ البرء وعدمه تابعان لقصد الناذر ، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه ربّما يقصد الناذر ما يصدق عليه عنوان الواجب مهما كان ، ولا إشكال في أنّه حينئذٍ إن قلنا بوجوب المقدّمة يحصل البرء بإتيانها أيضاً وإلاّ فلا.

الثمرة الثانيّة : أنّه على القول بوجوب المقدّمة لا يجوز أخذ الاجرة على المقدّمة لحرمة أخذ الاجرة على الواجبات ، بخلاف ما إذ لم نقل بوجوبها فيجوز أخذها عليها.

ويرد عليه أيضاً : أنّه ليس ثمرة اصوليّة ، فإنّ جواز أخذ الاجرة على المقدّمة أو عدمه حكم جزئي يستنبط من كبرى فقهيّة ، وهي عدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات.

واستشكل عليه أيضاً : بأنّ أخذ الاجرة على الواجب لا بأس به ، وتوضيح ذلك أنّ عمل الإنسان تارةً : يرجع نفعه إلى نفسه فحسب كما إذا أتى بواجب توصّلي لا نفع فيه للغير ، فلا إشكال في عدم جواز أخذ الاجرة عليه من الغير لعدم الفائدة فيه للغير ، فيكون سفهيّاً وهو خارج عن محلّ البحث ، واخرى : يرجع نفعه إلى الغير ولكنّه عمل عبادي كما إذا أتى بصلاة أو صوم للغير ، فيمكن أن يقال أيضاً بعدم جواز أخذ الاجرة عليه من باب منافاته مع قصد القربة ، وهذا أيضاً خارج عن محلّ الكلام ، وثالثة : يكون العمل من التوصّليات ويرجعه نفعه إلى الغير أيضاً كتطهير المسجد الذي يوجب سقوط وجوبه عن الغير فإنّ هذا هو محلّ الكلام ، فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله وكثير من الأعلام إلى جواز أخذ الاجرة عليه لعدم جريان إشكال السفاهة ولا إشكال قصد القربة فيه ، وأمّا ثبوت عدم جوازه في بعض الواجبات بل في بعض المستحبّات فهو من باب أدلّة خاصّة تدلّ على لزوم إتيانه مجّاناً كما في تجهيز الميّت أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الأذان ، وإلاّ لو لم تثبت المجّانيّة فلا إشكال في جواز أخذ الاجرة.

أقول : قد ذكرنا في محلّه في المكاسب المحرّمة عدم جواز أخذ الاجرة حتّى في مثل المقام ، لأنّ ذلك ينافي الوجوب ، لأنّ معنى وجوب شيء كونه وظيفة على العبد ، ويوجد عند العرف والعقلاء نوع تضادّ بين أداء الوظيفة وأخذ الاجرة ، ويعدّ أخذ الاجرة على إتيان الوظيفة باطلاً عندهم ، فيكون أكل المال به أكلاً للمال بالباطل ، وبذلك يصدق موضوع قوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) بل لعلّ هذا هو دليل من قال بالمجّانيّة وحرمة أخذ الاجرة في

٤١٣

مثل تجهيز الميّت ، وإلاّ لا يوجد دليل لفظي خاصّ يدلّ عليها ، وشرح هذا الكلام يطلب من محلّه من أبحاثنا في المكاسب المحرّمة.

الثمرة الثالثة : حصول الفسق بترك الواجب النفسي مع مقدّماته الكثيرة على القول بوجوبها وعدم حصوله على القول بعدمه ، نعم هذا إذا كان ترك الواجب النفسيْ من الصغائر دون الكبائر وإلاّ لكان تركه بنفسه موجباً للفسق.

واجيب عنها بوجوه :

الوجه الأوّل : إنّه لا يترتّب العقاب على ترك المقدّمة حتّى يوجب تحقّق المعصية ، وإن قلنا بترتّب الثواب على فعلها كما مرّ فتأمّل.

الوجه الثاني : أنّ المعصية تتحقّق بترك أوّل مقدّمة من المقدّمات ومعه لا يكون العاصي متمكّناً من إتيان ذي المقدّمة وحينئذٍ لا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام حتّى يتحقّق به الاصرار على المعصية الموجب لارتفاع العدالة وحصول الفسق.

ولكن يمكن الجواب عن هذا بأنّ التارك للمقدّمة الاولى وإن كان تاركاً في الواقع لخصوصها مباشرةً ولكنّه تارك أيضاً لذي المقدّمة بالتسبيب ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

اللهمّ إلاّ أن يقال : الاصرار على المعصية عنوان عرفي لا يتحقّق إلاّبترك واجبات مستقلّة لا واجبات مرتبطة بعضها ببعض ـ يحصل بها غرض واحد للمولى.

الثمرة الرابعة : لزوم اجتماع الأمر والنهي في المقدّمات المحرّمة بناءً على وجوب المقدّمة ، فعدم جواز إتيان المقدّمة حينئذٍ متوقّف على القول بإمتناع الاجتماع وترجيح جانب الحرمة بخلاف ما إذا قلنا بعدم وجوب المقدّمة.

ولكن يرد عليها : إنّها ليست ثمرة لمسألة اصوليّة ، لأنّ البحث عن أنّ المقدّمة هل هي مجمع لعنواني الأمر والنهي أو لا ، بحث عن موضوع لمسألة اصوليّة ، فهو من مبادىء مسائل علم الاصول لا من نفسها ولا من المسائل الفقهيّة.

وقد أورد عليها أيضاً :

أوّلاً : أنّ مقدّمة الواجب ومسألة اجتماع الأمر والنهي مختلفان موضوعاً ، فإنّ موضوع مسألة الاجتماع هو ما له جهتان تقييديتان يتعلّق الأمر بإحداهما والنهي بالاخرى ، وهذا بخلاف مقدّمة الواجب فإنّ عنوان المقدّميّة ليس من الجهات التقييديّة بل التعليليّة ، لأنّ

٤١٤

معروض الوجوب المقدّمي هو ذات المقدّمة ، والمقدّميّة علّة لعروض الوجوب على الذات ، وعليه فلا يتصوّر في المقدّمة جهتان تقييديتان حتّى يتعلّق الأمر بإحداهما والنهي بالاخرى ، نعم أنّها تندرج في مسألة النهي عن العبادة إن كانت المقدّمة عبادة ، وفي مسألة النهي عن المعاملة إن كانت معاملة.

ولكن يمكن الجواب عنه : بأنّ الحيثيات التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع في الواقع إلى الحيثيات التقييديّة ، فإذا حكم العقل بوجوب المقدّمة شرعاً لأنّها مقدّمة كان الواجب حينئذ هو عنوان المقدّمة لا ذاتها.

وثانياً : بأنّه لا يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المحرّمة حتّى على القول بالوجوب ، وذلك لأنّ المقدّمة إن كانت منحصرة في الفرد المحرم منها كإنحصار المركوب في الدابّة المغصوبة مثلاً فلا محالة تقع المزاحمة حينئذٍ بين وجوب ذي المقدّمة كالحجّ في المثال وبين حرمة مقدّمته كالركوب ، فعلى تقدير كون وجوب الحجّ أهمّ من حرمة مقدّمته لا تتّصف المقدّمة إلاّ بالوجوب ، وعلى تقدير كون حرمة المقدّمة أهمّ من وجوب الحجّ لا تتّصف المقدّمة إلاّ بالحرمة ، فعلى التقديرين لا يجتمع الوجوب والحرمة في المقدّمة حتّى تندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي ( هذا مع قطع النظر عن المراد بالاستطاعة في المثال ).

وإن لم تكن المقدّمة منحصرة في الفرد المحرّم فلا تتّصف المقدّمة المحرّمة بالوجوب حتّى يلزم الاجتماع لأنّ حرمتها تمنع عن سراية الوجوب الغيري إليها.

ويمكن الجواب عنه أيضاً : بأنّه تامّ بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي وانحصار المقدّمة بالمحرّمة ، وأمّا بناءً على القول بجواز الاجتماع وعدم سراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه متعلّق الأمر في صورة عدم الانحصار فلا موجب لتخصيص الوجوب حينئذٍ بخصوص المقدّمة المباحة ، وذلك لأنّ لكلّ من دليلي الأمر والنهي إطلاقاً يشمل المقدّمة المحرّمة أيضاً.

وثالثاً : بأنّه لو سلّمنا صغرويّة المقدّمة المحرّمة لمسألة الاجتماع إلاّ أنّه لا يترتّب عليها ثمرة عمليّة ، وذلك لأنّ المقدّمة إمّا توصّلية وإمّا تعبّديّة ، فعلى الأوّل يمكن التوصّل بالمقدّمة إلى ذي المقدّمة من دون فرق بين القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، ومن دون فرق بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه ، لأنّ التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ذاتي وغير مستند إلى الأمر بها فيحصل مطلقاً ، وعلى الثاني ( أي ما إذا كانت المقدّمة تعبّديّة كما إذا كانت من الطهارات الثلاث ) ففائدة المقدّمة ـ وهي التوصّل بها إلى ذيها ـ لا تترتّب عليها بناءً على امتناع الاجتماع

٤١٥

من دون فرق بين وجوب المقدّمة وعدمه ، وتترتّب عليها بناءً على جواز الاجتماع من دون فرق أيضاً بين وجوب المقدّمة وعدمه.

توضيح ذلك : إذا قلنا بجواز الاجتماع وكانت المقدّمة عباديّة ( وهي منحصرة حينئذٍ في الطهارات الثلاث ) كانت المقدّمة صحيحة يترتّب عليها ذوها ، وهي الصّلاة ، وإن لم نقل بوجوب المقدّمة لأنّ حسنها الذاتي في الطهارات الثلاث يكفي في صحّتها وعباديتها فلا حاجة إلى تعلّق أمر مقدّمي بها ، وأمّا إذا قلنا بإمتناع الاجتماع فتكون المقدّمة باطلة لا يترتّب عليها ذوها بلا فرق أيضاً بين وجوب المقدّمة وعدمه ، لأنّها باطلة لوقوع المزاحمة بين الأمر والنهي ، لأنّ المفروض هو امتناع الاجتماع وترجيح جانب النهي ، هذا إذا كانت المقدّمة واجبة ، وإلاّ كان البطلان أوضح.

أقول : يمكن الجواب عن هذا الإيراد أيضاً بأنّه لقائل أن يقول : بعدم الحسن الذاتي للطهارات الثلاث فيحتاج لعباديتها حينئذٍ إلى قصد الأمر ، فوجوب المقدّمة يوجب صحّة الطهارات الثلاث حتّى عند من أنكر حسنها الذاتي ( بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي وكفاية الأمر المقدّمي في قصد القربة ).

الجهة السابعة : في تأسيس الأصل في المسألة

وفائدته تعيين من يجب عليه إقامة الدليل ويكون قوله مخالفاً للأصل الأوّلي في المقام ، ومن لا يجب عليه إقامة الدليل لكون قوله موافقاً للأصل ، وهذا واضح لا غبار عليه.

لا إشكال في أنّه لا معنى للأصل العملي في ما نحن فيه إذا كانت المسألة اصوليّة ، أي كان المبحوث عنه فيها وجود الملازمة وعدمه بين وجوب المقدّمة شرعاً ووجوب ذيها ، كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وذلك لأنّ الملازمة ممّا ليست لها حالة سابقة عدميّة كي تستصحب إلاّ على القول بالاستصحاب للعدم الأزلي.

وأمّا بناءً على كون المسألة فقهيّة أو قاعدة فقهيّة أي كون النزاع في وجوب المقدّمة وعدمه ، فمقتضى أصل الاستصحاب عدم وجوبها ، لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً لو قيل به أمر حادث مسبوق بالعدم ، فإذا شكّ فيه يستصحب عدمه.

٤١٦

ولكن استشكل عليه في المحاضرات : بأنّ موضوع الاستصحاب وإن كان تامّاً إلاّ أنّه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الإتيان بها لأجل لا بدّية الإتيان بها على كلّ تقدير (١).

أقول : يمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب في المقام إنّما هو الوجوب الشرعي أو عدمه ، وهو نفسه أثر شرعي ، وليس المستصحب موضوعاً من الموضوعات حتّى لا يمكن استصحابه إلاّ إذا ترتّب عليه أثر شرعي ، وبعبارة اخرى : المفروض في المقام حصول الشكّ في وجوب المقدّمة بعد أن كان جعله معقولاً وعدم كونه لغواً ، فإذا فرضنا أنّ إيجاب المقدّمة شرعاً لا يكون لغواً مع وجود اللابدّية العقليّة وفرضنا حصول الشكّ في إيجابها ، فلا إشكال في جواز استصحاب عدمه لأنّ الوجوب بنفسه أثر شرعي وليس المستصحب موضوعاً حتّى يحتاج إلى أثر شرعي يترتّب عليه.

نعم إنّه مبني على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما هو المشهور ، وأمّا إذا قلنا بعدم جريانه فيها كما هو المختار فلا يجري الاستصحاب هنا.

هذا بالنسبة إلى أصل الاستصحاب.

وأمّا البراءة فقد يقال بعدم جريانها بكلا قسميها : « أمّا العقليّة فلأنّها واردة لنفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض أنّه لا عقاب على ترك المقدّمة وإن قلنا بوجوبها ، والعقاب إنّما هو على ترك الواجب النفسي فتدبّر ، وأمّا الشرعيّة فبما إنّها وردت مورد الامتنان فيختصّ موردها بما إذا كانت فيه كلفة على المكلّف ليكون في رفعها بها امتناناً ، والمفروض أنّه لا كلفة في وجوب المقدّمة حيث لا عقاب على تركها » (٢).

ولكن يمكن الجواب عنه بالنسبة إلى البراءة الشرعيّة بأنّ دليلها لا ينحصر في حديث الرفع حتّى يحتاج في جريانها إلى صدق الامتنان ، بل هناك وجوه اخرى تدلّ عليها كما تأتي في محلّها في مبحث البراءة فتأمّل.

إلى هنا تمّ الكلام عمّا أردنا إيراده من المقدّمات قبل الورود في أصل البحث عن وجوب المقدّمة وعدمه.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٤٣٥.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ ، ص ٤٣٥.

٤١٧

أدلّة القول بوجوب المقدّمة

اختلف الأعلام في وجوب المقدّمة على أقوال ، فذهب المشهور إلى وجوبها وتبعهم المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية والمحقّق النائيني رحمه‌الله ، وذهب جماعة إلى عدم الوجوب وهو مختار تهذيب الاصول والمحاضرات ، وقد يكون هناك بعض التفاصيل في المسألة.

ولا بدّ قبل بيان أدلّة القولين أو الأقوال بيان الفرق بين الوجوب الشرعي واللابدّية العقليّة ، فنقول أمّا اللابدّية العقليّة ، فمعناها واضح ، بل هي من قبيل القضايا قياساتها معها فإنّ معنى كون شيء مقدّمة لشيء آخر توقّفه عليه تكويناً وخارجاً عند العقل ، أي أنّ العقل يدرك هذا التوقّف الخارجي ويكشف عنه بنحو القطع والبتّ من دون أن يعتبر شيئاً ، وأمّا الوجوب الشرعي فهو أمر اعتباري وعبارة عن قانون يجعله الشارع ويعتبره في عالم الاعتبار ، فيكون الفرق بين الأمرين حينئذٍ هو الفرق بين الجعل وعدم الجعل ، وبين الأمر الاعتباري والأمر التكويني.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدلّ لوجوب المقدّمة بامور عديدة :

الأمر الاوّل : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من مقايسة الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة وإليك نصّ كلامه : « لا ينبغي الإشكال في وجوب المقدّمة لوضوح أنّه لا يكاد يتخلّف إرادة المقدّمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشيء مقدّمة وأنّه لا يمكن التوصّل إلى المطلوب إلاّ بها ، وإن أردت توضيح ذلك فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فهل ترى أنّك لو أردت شيئاً وكان ذلك الشيء يتوقّف على مقدّمات يمكنك أن لا تريد تلك المقدّمات؟ لا ، بل لا بدّ من أن تتولّد إرادة المقدّمات من إرادة ذلك الشيء قهراً عليك ، بحيث لا يمكنك أن لا تريدها بعد الالتفات إلى المقدّمات ، وإلاّ يلزم أن لا تريد ذا المقدّمة ، وهذا واضح وجداناً ، وإرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل » (١).

ولكن قد اورد عليه :

أوّلاً : بأنّ « البرهان لم يقم على التطابق بين التشريع والتكوين لو لم نقل بقيامه على خلافه ، وتوضيح الفرق أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمات من الفاعل المريد ، لملاك أنّه يرى أنّ الوصول إلى

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٤.

٤١٨

المقصد وإلى الغاية المطلوبة لا يحصل إلاّبإيجاد مقدّماته ، فلا محالة يريده مستقلاً بعد تماميّة مقدّماتها ، وأمّا الآمر غير المباشر فالذي يلزم عليه هو البعث نحو المطلوب وإظهار ما تعلّقت به إرادته ببيان وافٍ ، بحيث يمكن الإحتجاج به على العبد ، ويقف العبد به على مراده حتّى يمتثله ، وأمّا إرادة المقدّمات فلا موجب له ولا غاية ، بعد حكم العقل بلزوم إتيانها ، والحاصل أنّه فرق بين المباشر والآمر فإنّه لا مناصّ في الأوّل عند تعدّد الإرادة ، لأنّ المفروض إنّه المباشر للأعمال برمّتها فلا محالة تتعلّق الإرادة بكلّ ما يوجده بنفسه ، وأمّا الآمر فيكفي في حصول غرضه بيان ما هو الموضوع لأمره وبعثه ، بأن يأمر به ويبعث نحوه ، والمفروض أنّ مقدّمات المطلوب غير خفي على المأمور ، وعقله يرشد إلى لزوم إتيانها فحينئذٍ لأيّ ملاك تنقدح إرادة اخرى متعلّقة بالمقدّمات؟ » (١).

وثانياً : بأن ترشّح إرادة من إرادة اخرى بمعنى كون إرادة الواجب علّة فاعلية لارادتها من غير احتياج إلى مبادىء اخر كالتصوّر والتصديق بالفائدة ممّا لا أصل له ، لأنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على الفرض هو الشارع الفاعل المريد المختار ، وإنّ سبب الوجوب إنّما هو نفس المولى وإرادته ، فتوقّف ذي المقدّمة على المقدّمة يكون حينئذٍ داعياً لايجابه المقدّمة ، لا أن يكون سبباً بنفسه لوجوبها (٢).

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين :

أمّا الوجه الثاني : فلأنّه يمكن أن يقال بأنّ مراد المحقّق النائيني رحمه‌الله ومن يحذو حذوه من الترشّح إنّما هو أنّ المولى الحكيم يريد المقدّمات عند إرادة ذيها لا محالة ، أي إذا تعلّقت الإرادة بذي المقدّمة تعلّقت مبادئها من التصوّر والتصديق وغيرهما بمقدّماتها أيضاً ، غاية الأمر أنّها إرادة غيريّة تبعيّة ، مع كونها في نفس الوقت مولويّة لا إرشاديّة ، فليس المقصود من الترشّح التولّد القهري غير الإرادي حتّى يقال بأنّه لا أصل له ، بل المراد منه التلازم بين الإرادتين ، بمعنى أنّ المولى الحكيم إذا التفت إلى توقّف ذي المقدّمة على مقدّماتها يتولّد في نفسه مبادىء إرادتها بمقتضى حكمته.

إن قلت : ليس الكلام في الإرادة وتولّدها في نفس المولى بل الكلام في جعل قانون واعتبار

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٢١ طبع مهر.

(٢) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٠ و ٢٢١ ، طبع مهر.

٤١٩

حكم على المقدّمة ، والإرادة لا تكفي فيه ، بل يكون جعل الحكم لغواً.

قلنا : وجود حكم العقل في مورد لا يوجب لغويّة حكم الشارع في ذلك المورد ، كما نلاحظه في حكم الشارع بوجوب الاحسان أو استحبابه وحرمة الظلم ونحوهما ، ولذلك قيل ( ونعم ما قيل ) « إنّ الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة » وبعبارة اخرى : حكم الشارع في موارد حكم العقل يكون تأكيداً لحكم العقل ولا لغويّة في التأكيد ، هذا أوّلاً.

وثانياً : لا حاجة في وجوب المقدّمة إلى جعل واعتبار فعلي من طريق الخطابات الأصليّة بل يمكن كشف حكم الشارع من ناحية كشف وجود الشوق والإرادة ، أي من ناحية كشف مبادىء الحكم ووجود ملاكه فإنّه يساوق الحكم نفسه كما سيأتي بناءً على قول المنكرين للترتّب من أنّ تزاحم المهمّ مع الأمر بالأهمّ يوجب عدم فعليّة الأمر بالمهم ، ولكنّه مع ذلك لا يوجب بطلان المهمّ العبادي بعد ترك الأهمّ لوجود الملاك ، فتدبّر جيّداً.

وأمّا الوجه الأوّل : فالجواب عنه أنّه لا إشكال في أنّ الفعل التسبيبي أيضاً يعدّ فعلاً للمولى كالفعل المباشري ويستند إلى المولى ، وإذاً كيف يمكن أن يتسامح الفاعل في مقدّمات فعليه ، فإن أراد المولى صعود العبد إلى السطح حقيقتاً فلا محالة يريد نصب السلّم وغيره من المقدّمات أيضاً ، وإن أراد أمير العسكر من عسكره فتح بلد حتماً وتعلّقت إرادته به حقيقة فسوف تتعلّق إرادته بمقدّماته من تهيئة التداركات وإيجاد النظام بين أفراد العسكر وتهيئة طرح للعمليّات بلا ريب ، نعم قد يكون وضوح الإتيان بالمقدّمات للعبد بحيث لا يحتاج المولى إلى مزيد بيان ، ولكن لا بمعنى أنّه لا يريدها بل بمعنى أنّه لا يحتاج إلى بيان هذا الأمر لوضوحه.

هذا كلّه في الدليل الأوّل على وجوب المقدّمة ، وقد ظهر أنّه تامّ في محلّه.

الأمر الثاني : ما ذكره بعضهم من أنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات ، أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله ، ويقول مولويّاً : « ادخل السوق وإشتر اللحم » مثلاً بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب « ادخل » مثل المنشأ بخطاب « اشتر » في كونه بعثاً مولويّاً ، فحيث تعلّقت إرادته بشراء اللحم ترشّحت منها له إرادة اخرى بدخول عبده السوق بعد الالتفات إليه وأنّه يكون مقدّمة له كما لا يخفى.

أقول : قد ظهر ممّا ذكرنا في مقام الدفاع عن الوجه الأوّل ضعف ما أُورد على هذا الوجه في المحاضرات من أنّ الوجدان حاكم على الخلاف للزوم اللغويّة فتدبّر ، فإنّك قد عرفت :

٤٢٠