أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

أقول : الحقّ ـ كما أفاد هذا العلم في دفع هذا التوهّم ـ عدم وجود قسم ثالث للواجب لأنّه يمكن أن تكون الموارد المزبورة من مصاديق الواجب الغيري لما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة لا ينشأ ولا يترشّح من وجوب ذي المقدّمة كترشّح المعلول من علّته حتّى لا يعقل وجوبها قبل إيجابه ، بل العلّة لوجوبها إنّما هي إرادة المولى ، وأمّا وجوب ذي المقدّمة فهو مجرّد داعٍ لارادته ، ومن المعلوم أنّ الداعي للإرادة كما يمكن أن يكون أمراً حالياً كذلك يمكن أن يكون أمراً استقبالياً ، هذا ـ وقد مرّ أنّ هذا هو أحد طرق حلّ الإشكال في المسألة ، وقد ذكرنا هناك طرقاً اخر لحلّها ، منها كون وجوب المقدّمة قبل إيجاب ذيها من باب وجوب حفظ غرض المولى وقد مرّ تفصيلها في البحث عن الواجب المعلّق فراجع.

الأمر الثاني : في ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه

والتحقيق في المسألة وتنقيح المقال فيها يحتاج إلى رسم مقدّمة قبل الورود في أصل البحث ، وهي أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق ، أو التفضّل؟

اختلفت فيه كلمات الفقهاء والمتكلّمين ، والمشهور والمعروف أنّه من باب الاستحقاق ، ولكن حكي عن الشّيخ المفيد رحمه‌الله وجماعة أنّه من باب التفضّل من الله سبحانه ، ولا إشكال في أنّ الظاهر من آيات الكتاب هو الأوّل حيث تعبّر عن الثواب بالأجر في عدد كثير منها (١) وأكثرها مربوطة بمسألة الجزاء في يوم القيامة ، ومن المعلوم أنّ كلمة « الأجر » ظاهرة عند العرف في الاستحقاق لا التفضّل فلا يعبّر عرفاً عن الضيافة والاطعام تطوّعاً وتقرّباً إلى الله تعالى مثلاً بأجر الضيوف كما لا يخفى ، كما أنّ ظاهر المقابلة بكلمة الباء في مثل قوله تعالى : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ )(٢) وقوله تعالى : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )(٣) أيضاً هو الاستحقاق ، بل وقوع المقابلة بين الأجر والفضل في مثل قوله تعالى : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ

__________________

(١) قد تكرّرت مادّة الأجر في القرآن الكريم أربعين مرّة بصيغة « أجرٍ » و « أجرٌ » وسبع وعشرين مرّة بصيغة « أجراً » وأكثرها واردة في أمر القيامة.

(٢) سورة الرعد : الآية ٢٤.

(٣) سورة النحل : الآية ٣٢.

٣٨١

وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ )(١) ظاهر في هذا المعنى أيضاً فإنّ الأجر والفضل إذا اجتمعا افترقا.

هذا ـ ولكن الإنصاف أنّ الاستحقاق هنا ليس من قبيل استحقاق العامل الأجير لُاجرة عمله ، فإنّ المكلّفين هم العبيد والله تعالى هو المولى ، ومن المعلوم أنّه يجب على العبيد اطاعة مواليهم لحقّ المولويّة والطاعة ، فإنّ العبد بجميع شؤونه وأمواله ملك للمولى ، فلا اختيار له في مقابله حتّى يطلب منه شيئاً بإزاء عمله بل أن الوجود كلّه هو من ساحته ويفاض على الموجودات آنفاً فآناً.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ التكاليف الشرعيّة الصادرة من جانب المولى الحقيقي مشتملة على مصالح ترجع إلى العباد أنفسهم ، فهي بحسب الحقيقة منّة من جانبه تعالى عليهم فكيف يستحقّون بإطاعاتهم وامتثالهم الأجر والاجرة؟ وكيف يستحقّ المريض أجراً من الطبيب بإزاء عمله بأوامر الطبيب؟ ( ولعلّ هذا هو مراد المفيد رحمه‌الله وأمثاله حيث ذهبوا إلى أنّه من باب التفضّل لا الاستحقاق ) بل الاستحقاق هنا بمعنى اللياقة لقبول التفضّل من جانب الباري تعالى ، أي أنّ من كان مطيعاً كان إنساناً كاملاً ، والإنسان الكامل يليق بإنعام الله تعالى وتفضّله عليه بمقتضى حكمة الباري فإنّ التسوية بين المطيع والعاصي والمؤمن والفاسق مخالف للحكمة.

وبعبارة اخرى : الاستحقاق للُاجرة والاستعداد لها ( بحيث يعدّ عدم اعطائها ظلماً ) شيء ، واللياقة للتفضّل شيء آخر ، والاستحقاق في ما نحن فيه بالمعنى الثاني لا الأوّل ، فلا يعدّ ترك الثواب حينئذٍ من مصاديق الظلم ، نعم أنّه ينافي حكمه الباري الحكيم لأنّ لازمه التسوية بين المطيع والعاصي.

وبهذا يظهر أنّ الاستحقاق في المقام لا ينافي التفضّل بل أنّه بحسب الحقيقة من مصاديقه.

نعم ، قد يجتمع مع تفضّل أكثر يعبّر عنه في لسان الآيات بالفضل كما يعبرّ عن الأوّل بالأجر ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) ( وقد مرّ آنفاً ) واختلاف التعبير ناظر إلى اختلاف مراتب الفضل فحسب ، فالتعبير بالأجر مخصوص بمرتبة من التفضّل يعطى على أساس الكسب والعمل ولياقة اكتسبها العبد بالطاعة وترك المعصية ،

__________________

(١) سورة فاطر : الآية ٣٠.

٣٨٢

والتعبير بالفضل مختصّ بمرتبة اخرى وليس على أساس العمل مباشرة.

ومع ذلك كلّه فالأصل في كلّ واحد منهما إنّما هو رحمة الربّ لا سعي العبد فلا يكون مقدارهما بمقدار العمل ، « وما قدر أعمالنا في جنب كرمك ، وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك » (١).

نعم أنّه مع حفظ النسبة بين أعمال العباد أنفسهم.

وما ذكرنا في المقام هو أحد طرق الجمع بين ما ورد في باب ثواب الأعمال التي يكون بعضها معارضاً بحسب الظاهر مع بعض آخر في تعيين مقدار الثواب حيث يكون الدالّ على الثواب الأكثر مشيراً إلى مرتبة الأجر والفضل معاً ويكون الدالّ على الأقلّ مشيراً إلى خصوص مرتبة الأجر فقط ، فتأمّل جيّداً.

الأمر الثالث : كيفية الثواب والعقاب الاخرويين

حكي في تهذيب الاصول آراء ثلاثة في كيفية الثواب والعقاب الاخرويين :

أحدها : أنّهما من لوازم الأعمال بمعنى أنّ الأعمال الحسنة والأفعال القبيحة في الدنيا تورث استعداداً للنفس حقيقة ، به يقتدر على إنشاء صور غيبية بهيئة من الحور والقصور وكذا في جانب الأعمال السيّئة.

ثانيها : الأخذ بظواهر الآيات والأخبار وهي أنّهما من المجعولات كالجزاءات العرفيّة في الحكومات والسياسيات.

ثالثها : أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق وإنّ العبد يستحقّ من عند ربّه جزاء العمل إذا أطاع أو عصى ، ولا يجوز له تعالى التخلّف عنه عقلاً في الطاعة وأمّا جزاء السيّئة فيجوز له العفو.

ثمّ أخذ في تحليل هذه الآراء وقال : « إنّ ترتّب الثواب والعقاب على المسلك الأوّل أمر مستور لنا ، إذ لا نعلم أنّ النفس بالطاعات والقربات تستعدّ لانشاء الصور الغيبية وإيجادها ، وعلى فرض العلم بصحّته إجمالاً فالعلم بخصوصّياتها وتناسب الأفعال وصورها الغيبية ممّا لا

__________________

(١) من دعاء أبي حمزة الثمالي.

٣٨٣

يمكن لأمثالنا ، نعم لا شبهة أنّ لإتيان الأعمال الصالحة لاجل الله تعالى تأثيراً في صفاء النفس وتحكيماً لملكة الانقياد والطاعة ولها بحسب مراتب النيّات وخلوصها تأثيرات في العوالم الغيبية ».

وقال في شرح المسلك الثاني بعد أن اعترف بأنّه ظاهر قوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها ) إلى غير ذلك ، وأنّه هو المرضي عند المحقّق النهاوندي رحمه‌الله على ما حكي عنه ـ ما نصّه : « لا شكّ أنّ التخلّف بعد الجعل قبيح لاستلزامه الكذب لو اخبر عنه مع علمه بالتخلّف كما في المقام أو لاستلزامه التخلّف عن الوعد والعهد لو أنشأه ، وامتناعهما عليه تعالى واضح جدّاً » ، ( ومقصوده أنّ ترتّب الثواب ليس من باب الاستحقاق بحيث يلزم من عدمه الظلم بل أنّه من باب العمل بالوعد والعهد ومن باب أنّ عدمه يلزم الكذب والتخلّف عن الوعد ).

وأمّا المسلك الثالث فقال « أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لأنّ من عرف مقام ربّه من الغنى والعظمة ومقام نفسه من الفقر والفاقة يعرف نقصان ذاته وإنّ كلّ ما ملكه من أعضاء وجوارح ونعم كلّها منه تعالى لا يستحقّ شيئاً إذا صرفه في طريق عبوديته » (١).

أقول : أمّا القول الأوّل : فمضافاً إلى ما أورده عليه ( من أنّه أمر مستور لنا ) يرد عليه أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات حيث إنّ ظاهرها أنّ الجنّة والنار خلقا من قبل كقوله تعالى : ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) وقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) فإنّ كلمة « اعدت » ظاهرة أو صريحة في أنّهما مخلوقان في الحال.

نعم هناك أمر يسمّى بتجسّم الأعمال وهو يستفاد من غير واحد من الآيات والرّوايات نظير ما ورد في باب الأعمال من أنّها تظهر للإنسان على أحسن صورة فيسأل عنها ما أنت؟ فتجيب بأنّي صلاتك أو صومك ، ولكن هذا شيء آخر غير ما ذكر لأنّ تبدّل العمل بصورة تناسبه شيء ، وخلق النفس صوراً غيبية بهيئة من الحور والقصور شيء آخر ، فتدبّر جيّداً.

وأمّا القول الثاني : فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا غبار عليه وأنّه موافق لظواهر الآيات

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٩٤ ـ ١٩٥ ، طبع مهر.

٣٨٤

والرّوايات ، فللثواب والعقاب مصداقان ، أحدهما ما اعدّ للعباد قبل العمل ، والثاني ما ينشأ من ناحية العمل ويتجسّم العمل فيه.

وأمّا القول الثالث : فإن كان المراد من الاستحقاق نظير استحقاق العامل الأجير للُاجرة ، فالحقّ ما أورده عليه من أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لنفس ما ذكره ، وإن كان المراد منه ما مرّ بيانه من اللياقة للمطيع وعدم المساواة بينه وبين العاصي فلا بأس به كما مرّ.

هذا كلّه في أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق أو التفضّل ، فلنرجع إلى أصل المسألة وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه.

فنقول : فيه وجوه أو أقوال :

١ ـ عدم ترتّب الثواب مطلقاً ، وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية.

٢ ـ ترتّب الثواب مطلقاً ، ولم نجد له قائلاً.

٣ ـ الفرق بين ما تعلّق به الأمر الأصلي وما تعلّق به الأمر التبعي ، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني.

٤ ـ ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّه يختلف باختلاف المباني الثلاثة المذكورة آنفاً في كيفية ترتّب الثواب والعقاب الاخرويين ، فعلى المبنى الأوّل لا فرق بين الواجبات النفسيّة والواجبات الغيريّة فكما أنّ الإتيان بالواجبات النفسيّة يوجب استعداد النفس لانشاء صور غيبية كذلك الإتيان بالواجبات الغيريّة ، لكن قد عرفت الإشكال في أصل المبنى وتصوّره في مقام الثبوت ، وعلى المبنى الثاني فلا فرق أيضاً بين القسمين من الواجبات حيث إنّه كما يجوز الجعل على أصل العمل يجوز الجعل على المقدّمات أيضاً ( من دون الالتزام بكونها عبادة برأسها ) كما يظهر من عدّة من الأخبار نظير ما ورد في باب زيارة الإمام الطاهر أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام من ترتّب الثواب على كلّ خطوة.

وعلى المبنى الثالث ـ على فرض صحّته ـ المبنى فرق بين الواجبات النفسيّة والغيريّة فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني ، لأنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيريّة ، لأنّها بمعزل من الباعثية لأنّ المكلّف حين إتيان المقدّمات لو كان قاصداً لامتثال الأمر النفسي فالداعي حقيقة هو ذاك الأمر دون الغيري ، وإن كان راغباً عنه معرضاً

٣٨٥

فلا معنى لإتيان المقدّمات لأجل ذيها (١).

٥ ـ التفصيل بين ما إذا أتى بالمقدّمات بشرط قصد التوصّل به إلى الواجب النفسي ، وما إذا أتى بها لا بهذا القصد ، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني ، ذهب إلى هذا التفصيل المحقّق النائيني رحمه‌الله وتلميذه المحقّق في المحاضرات ، والفرق بينهما أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله ذهب إلى أنّ الثواب المترتّب على المقدّمة نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة وليس ثواباً مستقلاً ، غاية الأمر أنّ الآتي بالواجب الغيري إن قصد به التوصّل إلى الواجب النفسي فهو شارع في الإطاعة من حين الشروع بالمقدّمة ويزيد الثواب حينئذ (٢) ، ولكن قال في المحاضرات أنّه ثواب مستقلّ فيستحقّ العبد على الإتيان بالمقدّمة وذيها ثوابين إذا قصد بإتيان المقدّمة التوصّل إلى الواجب النفسي (٣).

أقول : الحقّ في المسألة وجه آخر ، وهو ترتّب الثواب على المقدّمة بشرط قصد التوصّل بها إلى ذيها مضافاً إلى اشتراط الوصول الفعلي إلى ذي المقدّمة لولا المانع ، أي يترتّب الثواب على خصوص المقدّمة الموصلة مع قصد التوصّل بها بل يترتّب الثواب أيضاً حتّى لو لم يصل إلى ذي المقدّمة ولكن لحدوث مانع غير اختياري.

أمّا أصل ترتّب الثواب على المقدّمة في مقابل من ينكره على الإطلاق فلما اخترناه في الواجب النفسي في مقدّمة هذا البحث من أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه إنّما هو بمعنى لياقة يكتسبها العبد بطاعته وتقرّبه ، وإنّ حكمة المولى الحكيم تقتضي عدم التسوية بين المطيع والعاصي فإنّه لا إشكال في أنّ هذه اللياقة وهذا التقرّب يحصل وجداناً أيضاً لمن أتى بالمقدّمات بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة حيث إنّ العبد بإتيانه المقدّمات يتقرّب إلى الواجب ، والوجدان حاكم بأنّ المتقرّب إلى ما أوجبه الله تعالى متقرّب إلى الله نفسه.

ويؤيّد هذا بل يدلّ عليه ما ورد من الآيات والرّوايات التي تؤكّد جدّاً على ترتّب الثواب على بعض المقدّمات ، نظير قوله تعالى بالنسبة إلى مقدّمات الجهاد في سبيل الله بل ومقارناته :

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ص ١٩٥ ـ ١٩٦ ، طبع مهر.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٧٤.

(٣) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٣٩٧.

٣٨٦

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ )(١) ، ونظير ما وردت من الرّوايات الكثيرة بالنسبة إلى زيارة قبر الإمام أبي عبدالله عليه‌السلام ، وبالنسبة إلى الذهاب إلى المسجد وترتّب الثواب على كلّ خطوة ، وهكذا ما ورد بالنسبة إلى مقدّمات تحصيل العلم.

وأمّا ترتّبه على خصوص ما إذا قصد بإتيان المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة فلأنّ الأعمال بالنيّات ، والتقرّب المزبور إنّما يحصل فيما إذا قصد بالمقدّمة امتثال تكليف إلهي والوصول إلى واجبه.

وأمّا ترتّبه على خصوص المقدّمة الموصلة بالوصول الفعلي عند عدم المانع فلأنّه لو شرع بالمقدّمات ثمّ انصرف عنها من دون عذر لم يحصل له التقرّب المزبور كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يظهر أنّ ما قد يقال « من أنّ الثواب عند العرف والعقلاء لا يترتّب على المقدّمة بل هو إنّما يترتّب على خصوص ذي المقدّمة فإنّهم لا يعطون اجرة على ما يتحمّله الأجير للبناء مثلاً من مقدّمات الوصول إلى ذي المقدّمة كطيّ مسافة من بلدة إلى بلدة » ، في غير محلّه ، حيث إنّا قلنا أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه ليس من قبيل الاجرة للأجير بل هو بمعنى اللياقة والاستعداد لفضل الله تعالى ، والمعيار فيه إنّما هو القرب الذي يحصل للعبد وهو حاصل في الإتيان بالمقدّمات أيضاً.

كما يظهر أنّ المترتّب على المقدّمة ثواب مستقلّ وليس هو نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله لعدم ترتّب الثواب مطلقاً بحكم العقل ، بمعنى أنّه إذا أتى بالواجبات بما لها من المقدّمات لم يستقلّ العقل إلاّباستحقاق ثواب واحد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا الجواب عنه أيضاً ، لأنّه إن كان مراده ما إذا لم يقصد من المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة ، فالحقّ ما ذهب إليه من حكم العقل بعدم ترتّب ثواب مطلقاً ، وأمّا إن كان مراده ما إذا قصد بالمقدّمة الوصول إلى ذيها فالإنصاف أنّ ضرورة العقل على عكس ما ذكر ،

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١٢٠ و ١٢١.

٣٨٧

فإنّه حكم بترتّب الثواب على إتيان المقدّمة أيضاً ، لما يحصل منه من اللياقة والتقرّب كما مرّ.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ لازم كلامه رفع اليد عن ظواهر الآيات والرّوايات ( وحملها على بعض المحامل كما أنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله حملها على توزيع ثواب ذي المقدّمة على المقدّمة وأنّ المقدّمات مهما كثرت إزداد ثواب ذي المقدّمة لصيرورته حينئذٍ من أفضل الأعمال حيث صار أشقّها وأحمزها ) مع أنّه تكلّف واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال سائر الأقوال في المسألة وجوابها.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ الثواب كما يترتّب على المقدّمات يترتّب على لوازم المقدّمات أيضاً ، فكما يترتّب الثواب على تهيئة الزاد والراحلة وطيّ الطريق في مثال الحجّ ، كذلك يترتّب على تحمّل الأذى والتعب في هذا الطريق أو المرض الذي يعرضه فيه ، ويدلّ عليه ملاحظة العناوين الواردة في الآية المزبورة حيث إنّ أكثر هذه العناوين وهي « الظمأ » و « النصب » و « المخمصة » وما ينالونه من العدوّ من المصائب البدنيّة أو الماليّة أو العرضيّة ، وهكذا قطع الوادي حين الرجوع من الجهاد من ملازمات الفعل لأنفسه كما لا يخفى.

إن قلت : لازم ترتّب الثواب على فعل المقدّمة ترتّب العقاب على تركها ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

قلنا : بل نلتزم به فيما إذا ترك مقدّمة الواجب بقصد أن يترك ذيها ، وذلك لأنّ ترك المقدّمة مع هذا القصد يوجب بُعداً عن الله تعالى وهو ملاك العقاب ، مثل ما إذا منع الآخرين من بناء المساجد لكي يمنع الناس عن الصّلاة والعبادة ، نعم إذا ترك مقدّمة الواجب لا بقصد ترك أمر المولى سبحانه بل لما سوّلت له نفسه وغلبه هواه ( كما ورد في بيان الإمام السجّاد عليه‌السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي : إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخفّ ... ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المُرْخى عليّ ) فلا يعاقب على ترك المقدّمة عقاباً مستقلاً على عقاب ترك ذيها ، نعم لمّا كان تركها سبباً لترك الواجب فهو تارك للواجب عالماً عامداً.

ومن هنا يعلم ترتّب العقاب على فعل مقدّمة الحرام إذا أتى بها بقصد الإيصال إلى الحرام وقد صرّح به في بعض الرّوايات نظير ما ورد في شرب الخمر : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن في الخمر عشرة ، غارسها وحارثها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها

٣٨٨

ومشتريها وآكل ثمنها » (١) ، حيث إنّ ذا المقدّمة في باب الخمر إنّما هو شربه فقط ، وأمّا سائر العناوين ( غير آكل الثمن الذي يكون من اللوازم المترتّبة على بيع الخمر ) فهي من المقدّمات كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو من باب دخول هذه العناوين تحت عنوان جامع آخر محرّم ، وهو عنوان « الإعانة على الإثم » ، ومن المعلوم أنّه عنوان محرّم نفسي لا مقدّمي.

ولكن الظاهر من أدلّة حرمة التعاون على الإثم كقوله تعالى : ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) أنّه عنوان يرجع إلى فعل الغير ، أي المراد منه اعانة الغير على الإثم ، فلا يعمّ اعانة الإنسان نفسه على الإثم ، بينما هذه الرّواية تشمل من غرس الكرم بقصد أن يصنع من عنبها خمراً لنفسه أيضاً ، وهذا يشهد على أنّ اللعن فيها ليس بملاك تطبيق عنوان التعاون على الإثم فقط بل يشمله وغيره ، فتدبّر جيّداً.

الأمر الرابع : الكلام في الطهارات الثلاث

وقد اشتهر فيها الإشكال من ثلاثة جوانب :

الأوّل : أنّها تعدّ من العبادات ويترتّب عليها الثواب ، فكيف يجتمع مع القول بعدم ترتّب الثواب على المقدّمة؟

الثاني : أنّه يشترط فيها قصد التقرّب مع عدم إمكان التقرّب بالأمر الغيري المقدّمي.

الثالث : أنّ عباديّة هذه الطهارات متوقّفة على قصد أمرها الغيري مع أنّ قصد الأمر فيها أيضاً متوقّف على عباديتها ، لأنّ قصد الأمر متفرّع على تعلّق أمر بالمقدّمة بما هي مقدّمة ، والمقدّمة في المقام هي الطهارات الثلاث بوصف أنّها عبادة ، فيلزم الدور.

وقد اجيب عنها بوجوه :

الوجه الأوّل : ما هو المختار في الجواب عن الأوّل والثاني من إمكان التقرّب بالمقدّمة وترتّب الثواب عليها إذا أتى بها بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، الباب ٥٥ ، من أبواب كتاب التجارة ، ح ٤ ، وهناك روايات اخر بهذا المعنى في نفس الباب.

٣٨٩

وأمّا الإشكال الثالث ، أي إشكال الدور.

ففيه : إنّا نسلّم كون عباديّة الطهارات متوقّفة على قصد الأمر ، ولكن توقّف قصد الأمر على عباديّة الطهارات إنّما يوجب الدور فيما إذا كان المتوقّف عليه عباديتها في الرتبة السابقة على الأمر أو المقارنة معه ، مع أنّه عبارة عن اجتماع شرائط العبادة حين الامتثال ، أي إن تعلّق أمر المولى بها لا يحتاج إلى كونها عبادة حين الأمر بل إنّه يأمر بها لاجتماع شرائط العبادة فيها حين الامتثال ، وذلك نظير توقّف الأمر على قدرة المكلّف على الفعل ، فإنّه ليس معناه لزوم القدرة على الفعل حين الأمر بل تكفي قدرته حين الامتثال ، فلو كان العاجز ممّن يقدر على العمل بعد أمر المولى وحين الامتثال كان للمولى أن يأمره. ولذلك قد يقال : إنّ القدرة شرط للإمتثال لا للتكليف.

هذا كلّه بناءً على شرطيّة قصد الأمر في عباديّة العبادة ، وأمّا بناءً على ما مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي من أنّها ليست منوطة بقصد الأمر فالأمر أوضح وأسهل.

الوجه الثاني : ما أفاده الشّيخ الأعظم رحمه‌الله وتبعه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وكثير من الأعاظم ( وهو جيّد لا غبار عليه ) وحاصله : أنّ الطهارات عبادات في أنفسها مستحبّات في حدّ ذاتها ، فعباديتها لم تنشأ من ناحية الأمر حتّى يلزم الدور.

ولكن قد أورد عليه بوجوه أهمّها وجهان :

الأوّل : أنّ هذا تامّ في الوضوء وقد يقال به في الغسل أيضاً ، وأمّا التيمّم فلم يقل أحد باستحبابه النفسي.

ويمكن الجواب عنه : بأنّه بعد أن لم يكن إجماع على عدم مطلوبيّة التيمّم ذاتاً يكفي في إثباتها له ما ورد في الرّوايات من « أنّ التراب أحد الطهورين » إذا انضمّ إلى ما يستفاد من إطلاقات الباب من أنّ المستحبّ إنّما هو الكون على الطهارة في نفسه.

توضيح ذلك : أنّه قد ذكرنا في محلّه في الفقه من أنّ معنى كون الوضوء مستحبّاً نفسيّاً ليس هو مطلوبيّة الغسلتان والمسحتان فيه ، بل المطلوب ذاتاً إنّما هو الكون على الطهارة الذي يترتّب على الغسلتان والمسحتان ، ويعدّ غاية للوضوء ، وأنّه هو المقدّمة والشرط للصّلاة في الحديث المعروف « لا صلاة إلاّبطهور » ، ولا إشكال في أنّ مقتضى قوله عليه‌السلام« إنّ التراب أحد الطهورين » أنّ وزان التيمّم هو وزان الوضوء وأنّ كلّ ما يترتّب على الوضوء يترتّب على

٣٩٠

التيمّم أيضاً ، ومن الغايات المترتّبة على الوضوء هو الكون على الطهارة ، فيترتّب هو على التيمّم أيضاً ونتيجته كون التيمّم أيضاً ، مستحبّاً نفسيّاً بنفس المعنى في الوضوء.

الثاني : أنّ الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها كثيراً مّا يكون مغفولاً عنه ولا سيّما للعامي ، بل ربّما يكون الشخص معتقداً عدمه بإجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك ، ومع هذا يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بأمرها الغيري صحيحاً ، فلو كان منشأ عباديتها ذلك الأمر النفسي لم تقع صحيحة.

واجيب عنه : بأنّ الاكتفاء بقصد أمرها الغيري إنّما هو لأجل أنّه لا يدعو إلاّ إلى ما هو عبادة في نفسه ، فإنّها المقدّمة والمتعلّق للأمر الغيري ، فإذا أتى بالطهارات بداعي أمرها الغيري فقد قصد في الحقيقة إتيان ما هو عبادة في نفسه إجمالاً فيكون قصد الأمر الغيري عنواناً إجمالياً ومرآتاً واقعياً لقصد ما هو العبادة في نفسه.

الوجه الثالث : أنّ اعتبار قصد القربة في الطهارات ليس لأجل أنّ الأمر المقدّمي ممّا يقتضي التعبّديّة ( أي عدم حصول الغرض منه إلاّ إذا أتى بالفعل بداعي القربة ) بل لأجل أنّ ذوات تلك الحركات الخاصّة في الوضوء والغسل والتيمّم ليست مقدّمة للصّلاة بل هي بعنوان خاصّ تكون مقدّمة لها ، وحيث لا نعلم تفصيل ذلك العنوان المأخوذ فيها فنأتي بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري كي يكون إشارة إلى ذاك العنوان ، فإنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، فإذا أتينا بتلك الحركات بداعي وجوبها الغيري فقد أتينا بها بعنوانها الخاصّ المأخوذ فيها ، والحاصل أنّ قصد الأمر هنا إنّما هو لتحصيل العنوان القصدي لا للحصول على القربة الذي يتمكّن منها بقصد الطاعة.

ولكن يرد عليه إشكالات عديدة :

منها : أنّ لازمه كفاية تحقّق مجرّد العنوان في تحقّق الامتثال وعدم اعتبار عباديّته مع أنّ عباديّة الطهارات إجماعيّة.

وإن شئت قلت : أنّه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات الثلاث هو الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفاً أيضاً بأن كان أصل الداعي لإتيانه شيئاً آخر غير قربى فيقول مثلاً : إنّي آتٍ بالوضوء الواجب لأجل التبريد أو التنظيف ونحوهما من الدواعي النفسانيّة ، فيكون قصد الأمر حينئذ بنحو التوصيف كافياً

٣٩١

كالغائي كما إذا قال مثلاً : إنّي آتٍ بالوضوء لوجوبه شرعاً ، بل قصد الأمر بنحو التوصيف يكون أظهر في الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها من قصده غاية ، مع أنّه لا يكفي مثل هذا القصد قطعاً.

منها : أنّ هذا غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها كما لا يخفى.

الوجه الرابع : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وحاصله : أنّه لا وجه لحصر منشأ عباديّة الطهارات الثلاث في الأمر الغيري والأمر النفسي الاستحبابي ليرد الإشكال على كلّ منهما ، بل هناك منشأ ثالث وهو قصد الأمر النفسي الضمني الذي نشأ من جانب الأمر النفسي على ذي المقدّمة ، لأنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصّلاة مثلاً كما ينحلّ إلى أجزائها كذلك ينحلّ إلى شرائطها وقيودها.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك هو القول بعباديّة الشرائط مطلقاً من دون فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها لفرض أنّ الأمر النفسي تعلّق بالجميع على نحو واحد.

وأجاب عن ذلك بأنّ الفارق بينهما هو أنّ الغرض من الطهارات الثلاث ( وهو رفع الحدث ) لا يحصل إلاّ إذا أتى المكلّف بها بقصد القربة دون غيرها من الشرائط ، ولا مانع من اختلاف الشرائط من هذه الناحية بل لا مانع من اختلاف الأجزاء أيضاً بالعباديّة وعدمها في مرحلة الثبوت وإن لم يتّفق ذلك في مرحلة الإثبات ( أي أنّ أمر اعتبار قصد القربة وعدمه بيد المولى الآمر ، فله أن يلغى اعتباره حتّى عن بعض الأجزاء فضلاً عن الشرائط ) (١).

أقول : يرد عليه ما ذكرنا سابقاً من أنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاه مثلاً إنّما تعلّق باجزائها وتقيّدها بالشرائط ، وأمّا نفس الشرائط فهي خارجة عن ذات المأمور به ، ( كما قيل : التقيّد جزء والقيد خارجي ) فلا يمكن حلّ المشكل من هذا الطريق لأنّه يعود إلى الأمر المقدّمي لا محالة.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا في هذا المجال أنّ لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث طرق ثلاثه :

أحدها قصد الأمر الغيري.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

٣٩٢

ثانيها قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

ثالثها قصد الأمر النفسي الضمني ، والطريق الأوّل بنفسه يتصوّر على صورتين :

الصورة الاولى : قصد الأمر الغيري بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

الصورة الثانيّة : قصده لتحصيل عناوين الطهارات الثلاث ، فصارت الطرق أربعة ، وقد ناقشنا في اثنين منها ووافقنا على اثنين منها :

أحدهما : قصد الأمر الغيري لما مرّ من كفايته في العباديّة.

ثانيهما : قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

نكتتان :

النكتة الاولى : أنّه قد إتّضح ممّا ذكرنا أنّه لا إشكال في صحّة الوضوء مثلاً إذا أتى به قبل الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي أو بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة ( أي بعض الغايات الاخر غير الصّلاة التي لم يدخل وقتها بعد ) وهكذا بداعي الأمر النفسي الضمني بناءً على مختار المحقّق النائيني رحمه‌الله وإن مرّ الإشكال فيه ، وكذلك لا إشكال في الإتيان به بعد الوقت بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة أي الصّلاة.

إنّما الإشكال في جواز إتيانه بعد الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي ، فقد يتوهّم أنّ الوضوء بعد اتّصافه بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت خرج عن استحبابه النفسي لوجود المضادّة بين الأحكام الخمسة ، فلا يمكن اجتماع وصف الاستحباب والوجوب في زمان واحد.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بأنّه لا مانع من اجتماعهما في ما نحن فيه بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهتين : لأنّ الجهات في المقام متعدّدة ، فإنّ جهة الوجوب الغيري وهي المقدّميّة غير جهة الاستحباب النفسي الموجودة فيه.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ ملاك الاستحباب وهو المحبوبيّة الذاتيّة للطهارات لا يزول بعد دخول الوقت وبعد تعلّق الأمر الوجوبي الغيري بها بل هو باقٍ على حاله ، وذلك نظير أكل الفاكهة مثلاً فإنّه مطلوب في نفسه ، وهذه المطلوبيّة لا تزول بعد أمر الطبيب بأكلها بل هي باقية على حالها ، نعم أنّه يرتفع حدّها الاستحبابي أي الترخيص في الترك ، إذن فإن أتى

٣٩٣

المكلّف بها بقصد هذه المحبوبيّة ولو بعد دخول الوقت حصلت العبادة بلا إشكال.

النكتة الثانيّة : إذا أتى المكلّف بالطهارات الثلاث بداعي التوصّل إلى الواجب النفسي وكان غافلاً عن محبوبيّتها النفسيّة ، ثمّ بدا له في الإتيان بذلك الواجب أو نسيه أو مضى وقته ، فهل تقع الطهارات حينئذٍ عبادة حتّى يمكن له إتيان ذلك الواجب بعد الوقت أو إتيان سائر الغايات المترتّبة على الطهارات ، أو لا؟

يختلف الجواب باختلاف المباني في المقدّمة ، فإن قلنا بأنّ الواجب من المقدّمة إنّما هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة ، فلا إشكال في بطلان الطهارة حينئذٍ لعدم تحقّق شرط المقدّمة وهو الإيصال ، وإن قلنا بكفاية قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة وأنّه لا يضرّ عدم الإيصال الفعلي إلى ذي المقدّمة لوجود مانع فلا إشكال أيضاً في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة عند وجود المانع ، وحينئذٍ يمكن إتيان سائر الغايات ، وهكذا إن قلنا بأنّ الواجب هو المقدّمة مطلقاً كما لا يخفى.

هذا كلّه بناءً على اشتراط قصد الأمر في تحقّق العبادة.

وأمّا بناءً على عدم اعتباره وكفاية الحسن الذاتي ( وهو كون الفعل قريباً وحسناً ذاتاً ) مع الحسن الفاعلي ( أي كون الفاعل قاصداً للتقرّب به إلى الله ) كما هو الحقّ عندنا في محلّه فلا إشكال في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة ، فيصحّ الإتيان بسائر الغايات ، ومن هنا يظهر الحال فيما إذا اغتسل الجنب لصلاة الصبح ثمّ تبيّن له طلوع الشمس قبل أن يصلّي.

الرابع : تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي

إنّ الأصالة والتبعيّة تارةً : تلحظان بالنسبة إلى مقام الدلالة والإثبات كما لاحظهما المحقّق القمّي وصاحب الفصول رحمهما الله ، فعرّفهما المحقّق القمّي رحمه‌الله بأنّ الواجب الأصلي ما يكون مقصوداً بالإفادة من الكلام ، والواجب التبعي ما لا يكون مقصوداً بالإفادة من الكلام ، وإن استفيد تبعاً ، كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل.

وعرّفهما المحقّق صاحب الفصول رحمه‌الله بأنّ الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ ، أي غير

٣٩٤

لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعاً لوجوب غيره ، والتبعي بخلافه ، وهو ما فهم وجوبه تبعاً لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلاً كما في المفاهيم ، فالمناط في الأصالة والتبعيّة هو الاستقلال بالخطاب وعدمه ، فإن كان مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو الأصلي ، وإن فرض وجوبه غيريّاً تابعاً لوجوب غيره ، كما قال الله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... )(١) الآية ، وإن لم يكن مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو التبعي ، وإن فرض وجوبه نفسيّاً غير تابع لوجوب غيره ، كما إذا استفيد ذلك بنحو المفهوم.

فالمداليل الالتزاميّة اللّفظيّة تبعيّة عنده لعدم كونها واردة بخطاب مستقلّ ، وإنّما هي لازم لخطاب آخر ، بينما هي أصليّة عند المحقّق القمّي رحمه‌الله لكونها مقصوداً بالإفادة للمتكلّم.

وتارةً اخرى : تلحظان بلحاظ مقام الثبوت كما لاحظهما كذلك شيخنا الأعظم رحمه‌الله بناءً على ما في التقريرات ، فيكون الأصلي حينئذٍ عبارة عمّا تعلّقت به إرادة مستقلّة من جهة الالتفات إليه بما هو عليه من المصلحة ، والتبعي عبارة عمّا لم تتعلّق به إرادة مستقلّة لعدم الالتفات إليه بما يوجب إرادته كذلك ، وإن تعلّقت به إرادة إجماليّة تبعاً لإرادة غيره كما في الواجبات الغيريّة الترشّحيّة.

والمحقّق الخراساني رحمه‌الله اختار التفسير الأخير وأنّ التقسيم يكون بلحاظ مقام الثبوت لا بلحاظ مقام الإثبات والدلالة نظراً إلى أنّ لازمه عدم اتّصاف الواجب الذي لم يكن مفاد دليل لفظي بشيء من الأصلي والتبعي وهو كما ترى.

وهيهنا تفسير آخر وهو أنّ المراد من الأصلي ما اريد لذاته ، وبالتبعي ما اريد لغيره ، وهو أيضاً تقسيم بلحاظ مقام الثبوت ، ولا إشكال في رجوعهما حينئذٍ إلى الواجب النفسي والغيري وإنّما الاختلاف في التعبير.

أقول : إنّ لازم التفسير الثالث الذي هو تقسيم للواجب بلحاظ مقام الثبوت عدم جريان هذا التقسيم في الواجبات النفسيّة وكون جميعها من الواجبات الأصلية ، لأنّ الإرادة في الواجب النفسي مستقلّة قطعاً فإنّه لا معنى لكون الواجب نفسياً ذا مصلحة نفسية ملزمة ولا يكون منظوراً ومراداً بالاستقلال بل أنّه جارٍ في خصوص الواجبات الغيريّة ، فإنّها تارةً

__________________

(١) سورةالمائدة ، الآية ٦.

٣٩٥

تكون متعلّقة لإرادة مستقلّة للمولى كالوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، واخرى لا تتعلّق بها إرادة مستقلّة كما في كثير من الواجبات الغيريّة.

والمهمّ في المقام أنّ التعبير بالأصليّة والتبعيّة لم يرد في حديث ولا في آية من كتاب الله ولا تترتّب عليه ثمرة لا في الاصول ولا الفقه بل إنّهما مجرّد اصطلاح فحسب ، وحينئذٍ لا فرق بين أن يلاحظ بالنسبة إلى مقام الثبوت أو مقام الإثبات فإنّه لا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّه لو شككنا في أنّ الواجب أصلي أو تبعي ، فبناءً على التفسير الأوّل والثالث لا أصل في المسألة ، لأنّهما أمران وجوديان ، وبناءً على التفسير الثاني يكون الأصل العملي الجاري في المسألة هو استصحاب عدم تعلّق إرادة مستقلّة به ، وبه تثبت التبعيّة ، ولكن هذا إذا كان التقابل بين الأصلية والتبعيّة تقابل العدم والملكة ، أي كان الواجب التبعي أمراً عدميّاً وعبارة عمّا لم يتعلّق به إرادة مستقلّة ، وأمّا إذا كان التبعي أيضاً كالأصلي أمراً وجوديّاً وعبارة عمّا تعلّقت به إرادة إجماليّة تبعاً لإرادة غيره فلا تجري أصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة لإثبات أنّ المتعلّق هو إرادة إجماليّة تبعيّة إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، مضافاً إلى أنّه كما تجري أصالة عدم تعلّق الإرادة المستقلّة تجري أيضاً أصالة عدم تعلّق الإرادة التبعيّة ، فتتعارضان وتتساقطان ، ونتيجته عدم وجود أصل في المسألة الاصوليّة.

هذا كلّه بناءً على تصوّر ثمرة فقهيّة للمسألة ، وقد مرّ أنّه لا ثمرة للمسألة أصلاً لا في الاصول ولا في الفقه ، وحينئذٍ لا موضوع للأصل العملي الذي يجري فيما إذا كان في المسألة أثر شرعي ، ولذلك لا معنى للبحث عن الأصل بالنسبة إلى المسألة الفقهيّة أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن الجهة الرابعة من الجهات التي رسمناها قبل الورود في أصل البحث عن وجوب مقدّمة الواجب.

الجهة الخامسة : كيفية وجوب المقدّمة

إذا قلنا بوجوب المقدّمة ، فهل هي واجبة مطلقاً أو مشروطة بشرط؟ وعلى الثاني ، ما هو ذلك الشرط؟

٣٩٦

فيه أقوال عديدة وتفاصيل مختلفة :

القول الأوّل : ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية من أنّ وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة ، فإن كان وجوب ذي المقدّمة مطلقاً كان وجوب المقدّمة أيضاً مطلقاً ، ولا يعتبر فيه أيّة خصوصيّة ، وإن كان مشروطاً كان وجوب المقدّمة أيضاً مشروطاً.

القول الثاني : ما يلوح من كلام صاحب المعالم من اشتراط وجوب المقدّمة على القول به بإرادة ذي المقدّمة ، فإن أراد المكلّف الإتيان بذي المقدّمة وجبت المقدّمة وإلاّ فلا ، وإليك نصّ كلامه في مبحث الضدّ : « وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر ».

نعم ، قد يقال بأنّ « هذه العبارة ظاهرة بل نصّ في أنّ القضيّة حينية لا شرطيّة وأنّ وجوبها في حال إرادة الفعل المتوقّف عليها لا مشروطة بإرادته » (١) وسيأتي في القول الخامس إشارة إليه.

القول الثالث : ما نسب إلى شيخنا العلاّمة الأنصاري رحمه‌الله من أنّ الواجب هو المقدّمة المقصود بها التوصّل إلى ذيها ، فإن أتى بها ولم يقصد بها التوصّل فلا تقع على صفة الوجوب أصلاً.

والفرق بين هذا وسابقه أنّ إرادة الإتيان بذي المقدّمة بناءً على القول الأوّل شرط للوجوب فلا تجب المقدّمة إلاّبعد تحقّق إرادة إتيان ذي المقدّمة سواء قصد بإتيان المقدّمة التوصّل إلى ذيها أو أمر آخر كالكون على الطهارة في الوضوء مثلاً ، بينما هي بناءً على القول الثاني قيّد للواجب ، فالمقدّمة واجبة على أيّ حال سواء أراد إتيان ذي المقدّمة أو لم يرده ، ولكن يجب عليه حين إتيان المقدّمة قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة فتأمّل.

القول الرابع : مختار صاحب الفصول والذي اختاره في تهذيب الاصول أيضاً من أنّ الواجب إنّما هو خصوص المقدّمة الموصلة ، أي أنّ الواجب خصوص المقدّمة التي يترتّب

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٠١ ، طبع مهر.

٣٩٧

عليها ذو المقدّمة ، وأمّا إذا لم يترتّب عليها ذو المقدّمة فلا تقع على صفة الوجوب سواء قصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة أو لم يقصد.

القول الخامس : ما اختاره المحقّق العراقي والمحقّق النائيني وشيخنا الحائري رحمهم‌الله وهو نفس ما حمل عليه كلام صاحب المعالم آنفاً من أنّ الواجب هو المقدّمة حال إرادة الإتيان بذي المقدّمة على نهج القضيّة الحينية لا مقيّداً بها على نهج القضيّة الشرطيّة.

هذا كلّه هو الموقف القولي في المسألة ، وقبل الورود في أدلّة الأقوال ينبغي التنبيه على أمرين :

الأمر الأوّل : أنّ المنهج الصحيح في البحث يقتضي تأخّر هذا النزاع عن النزاع في أصل وجوب المقدّمة لأنّه من فروعه ، فكان ينبغي أن يتكلّم أوّلاً عن أصل وجوب المقدّمة ، وبعد إثباته يتكلّم ثانياً عن كيفية وجوبها وأنّه هل هو مطلق أو مقيّد بخصوصيّة ، ولكن حيث إنّ القوم قدّموه عليه فنحن أيضاً تبعاً لهم وتأسّياً بهم في منهج البحث نقدّمه عليه وننتظر تصحيح هذه المواقف في المستقبل إن شاء الله.

الأمر الثاني : أنّ كثرة الأقوال المزبورة وشدّة النزاع في المسألة ترشدنا إلى وجود معضلة هامّة فيها ، وهي معضلة المقدّمة المحرّمة كالدخول في الأرض المغصوبة الذي هو مقدّمة لانقاذ الغريق ، حيث إنّ لازم القول بوجوب المقدّمة مطلقاً من دون أي قيد وخصوصيّة ( كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ) هو جواز الورود في الأرض المغصوبة ولو لم يقصد به انقاذ الغريق ، وسواء تحقّق بعد ذلك انقاذ الغريق أو لم يتحقّق مع أنّه مخالف للوجدان الفقهي والارتكاز المتشرّعي.

فلحلّ هذه المعضلة والتخلّص عنها تمسّك كلّ واحد من المحقّقين بذيل قيد كما لاحظت في بيان الأقوال المزبورة.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ هيهنا مشكلة اخرى ، وهي ما اشير إليه في كلام صاحب الفصول من مسألة الضدّ الخاصّ ، حيث إنّ القول بوجوب المقدّمة مطلقاً لازمه بطلان الضدّ الخاصّ الذي يكون تركه مقدّمة لإتيان واجب أهمّ فيما إذا كان الضدّ أمراً عباديّاً كالصّلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد ، فحيث إنّ ترك الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة فبناءً على وجوب المقدّمة مطلقاً يجوز ترك الصّلاة ( بل يجب ) فيما إذا وجب عليه إزالة النجاسة سواءً قصد به التوصّل

٣٩٨

إليها أو لم يقصد ، وسواء تحقّق بعد ذلك الإزالة أو لم تتحقّق ، وسواء أراد الإزالة أو لم يردها مع أنّه أيضاً مخالف للوجدان والارتكاز الديني.

إذا عرفت هذا فنقول : استدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله على القول الأوّل ( أي أنّ وجوب المقدّمة مطلق إن كان ذو المقدّمة واجباً مطلقاً ومشروط إن كان ذو المقدّمة واجباً مشروطاً ) بالبداهة والضرورة وقال : « إنّ نهوض حجّة القول بوجوب المقدّمة ( على تقدير تسليمها ) على التبعيّة واضح لا يكاد يخفى وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة ».

ويبدو كلامه هذا جيّداً في بادىء النظر ولكن سيأتي عند التعرّض لأدلّة سائر الأقوال عدم مقاومته لها فانتظر.

وأمّا القول الثاني : وهو ما ذهب إليه صاحب المعالم من أنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذي المقدّمة ، فهو لم يستدلّ له بشيء ، وإنّما قال بأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة لا تنهض على أكثر من ذلك ، ولذلك فجوابه واضح لأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة تدلّ على وجود الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة ، والملازمة تقتضي تبعيّة أحدهما عن الآخر في الإطلاق والاشتراط وأن يكون أحدهما مثل الآخر في القيود والخصوصيّات إلاّما قام الدليل على خلافه ، هذا ـ مضافاً إلى أنّ لازمه كون وجوب المقدّمة تابعاً لإرادة المكلّف ودائراً مدار اختياره وعزمه وهو باطل قطعاً ، بداهة أنّ لازمه عدم الوجوب عند عدم الإرادة.

هذا كلّه مع قطع النظر عمّا مرّ من بعض الأعاظم من أنّ المستفاد من كلمات صاحب المعالم في مبحث الضدّ أنّ مراده إنّما هو القول الخامس وأنّه ليس شيئاً مستقلاً عنه.

وأمّا القول الثالث : ( وهو ما نسب إلى الشّيخ الأعظم رحمه‌الله من أنّ الواجب هو المقدّمة التي قصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة ) فقد اختلف في صحّة انتسابه إلى الشّيخ الأعظم رحمه‌الله أيضاً ، فقال بعض بأنّ مراده اشتراط قصد التوصّل إلى الواجب في مقام الامتثال والطاعة وترتّب المثوبة ، أي لا بدّ في مقام الإتيان بالمقدّمة والتقرّب بها إلى الله تعالى من قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة حتّى يترتّب عليها الثواب ، ولكن على فرض صحّة الانتساب يستدلّ لهذا القول بأنّ الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدّمة لا ذات الفعل فحسب ، وعليه فلابدّ في الإتيان بها من لحاظ هذا العنوان وإلاّ لم يأت بالواجب ، ولحاظ العنوان يساوق قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، فثبت المطلوب.

٣٩٩

إن قلت : لازم ذلك عدم حصول الغرض فيما إذا أتى المكلّف بالمقدّمة من دون التوصّل مع أنّه لا شبهة في حصوله فيما إذا كانت المقدّمة من التوصّليات.

قلنا : ربّما يسقط الغرض من المأمور به بما ليس بمأمور به ، فينتفي الواجب بانتفاء موضوعه ، وهذا ممّا يتّفق كثيراً ما في الواجبات التوصيلية كما إذا حصل تطهير المسجد بنزول المطر أو بماء مغصوب لم يكن التطهير به مأموراً به قطعاً ، ولكنّه لا ينافي اختصاص الوجوب بحصّة خاصّة من المقدّمة وهي الحصّة المقيّدة بقصد التوصّل.

وقد أورد عليه بما حاصله : إنّ الواجب إنّما هو ذات المقدّمة التي هي مقدّمة بالحمل الشائع ، وأمّا عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها كالمصالح والمفاسد الكامنة في متعلّقات الأحكام ( فهو في الواقع من الجهات التعليلية لوجوب المقدّمة لا من الجهات التقييديّة له ) فلو أتى بالمقدّمة بدون قصد التوصّل فقد أتى بالواجب ، وإلاّ لو لم يكن الواجب مطلق المقدّمة لم يجتز بما لم يقصد به التوصّل ولم يسقط به الوجوب قطعاً ، فلابدّ من نصب السلّم مرّة اخرى مثلاً بقصد التوصّل مع أنّه ممّا لم يقل به أحد ويخالفه حكم العقل القطعي ، ولا يقاس ذلك بمثل تطهير المسجد بمقدّمة محرمة كماء مغصوب أو بنزول المطر لأنّ عدم اتّصاف المقدّمة فيهما بالوجوب ليس إلاّلأجل المانع عنه ، وهو الاتّصاف بالحرمة في المثال الأوّل ، والخروج عن القدرة في المثال الثاني لا لفقد المقتضي فيه ، أي الملاك من التوقّف والمقدّميّة ، فلولا المانع لأتّصفا أيضاً بالوجوب قطعاً كغيرهما من الفرد المباح والفرد الداخل في القدرة.

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله في حاشية الكفاية تصدّى إلى توجيه مراد الشّيخ رحمه‌الله بما حاصله : أنّه فرق بين الواجبات العقليّة والواجبات الشرعيّة ، فإنّ الجهات التعليلية في الثانيّة غير الجهات التقييديّة فيها ، فإن الصّلاة مثلاً تكون الجهة التعليلية فيها النهي عن الفحشاء مثلاً ، وهو ليس قيداً لها حتّى يكون الواجب الصّلاة الناهية عن الفحشاء ، بخلاف الأحكام العقليّة فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الموضوع لحكم العقل ، فحكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب مثلاً حكم بحسب الواقع والحقيقة بحسن التأديب ، كما أنّ حكمه بقبح الضرب للايذاء حكم في الواقع بقبح الايذاء ، فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الجهة التقييديّة والموضوع للحكم ، وعلى هذا الضوء فبما أنّ مطلوبيّة المقدّمة ليست لذاتها بل لحيثية مقدّميتها والتوصّل

٤٠٠