أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

حارّة » قضيّة حقيقيّة صادقة مع عدم وجود نار في الخارج بل عدم وجود معدّاتها وأسبابها وليس ذلك إلاّلأنّها راجعة إلى قضيّة شرطيّة ، أي « كلّما وجد في الخارج شيء وكان ناراً فهي حارّة » فأوّلاً فرض وجود نار في الخارج ثمّ حكم عليها بأنّها حارّة ، وهذا هو مراد من قال : إنّ عقد الوضع في القضايا الحقيقية يرجع إلى القضايا الشرطيّة ، أي يوجد بين القضيّة الحقيقية والشرطيّة قرابة وشباهة ، حيث إنّ كلاً منهما حكم على فرض ، لا أنّ كلّ شرط يرجع إلى قيد الموضوع كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله بل أنّه قيّد للحكم كما هو ظاهر القضيّة الشرطيّة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الحقّ مع المشهور وأنّ القيود في القضايا الشرطيّة راجعة إلى الهيئة لا إلى المادّة خلافاً لما نسب إلى الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله.

بقي هنا امور :

الأوّل : في ثمرة النزاع في المسألة

من الواضح أنّ الثمرة في هذا النزاع تظهر في تحصيل المقدّمات المفوّتة كتهيئة الزاد والراحلة وأخذ الجوازات بالنسبة إلى الحجّ ، فبناءً على مذاق المشهور لا دليل على وجوبها لعدم وجوب ذي المقدّمة على الفرض ، وأمّا على المبنى المنسوب إلى الشّيخ الأعظم رحمه‌الله فتحصيلها واجب قبل مجيء زمان الواجب ، فيجب مثلاً حفظ الماء قبل مجيء وقت الصّلاة إذا كان تحصيل الطهارة بعد مجيء وقت الصّلاة متوقّفاً عليه ، وكذلك تحصيل مقدّمات السفر إلى الحجّ بعد حصول الاستطاعة وقبل الموسم.

نعم ربّما يجب تحصيل المقدّمات حتّى على مبنى المشهور ، وهو ما إذا علمنا بفوت غرض المولى في صورة عدم تحصيل المقدّمات ، فإنّ العقل يحكم حينئذ بحفظ غرض المولى لمكان حقّ الطاعة والمولويّة ، كما إذا علم العبد بأنّه لو لم يحفظ الماء الآن يبقى المولى عطشاناً في المستقبل ، فلا إشكال في أنّه لو لم يحفظ الماء وصار المولى عطشاناً صار مستحقّاً للملامة والمؤاخذة ، وفي الشرعيات نظير ما إذا علمنا ببعض القرائن مثلاً بإهتمام الشارع بالصّلاة مع الطهارة المائيّة وأنّ غرضه منها لا يحصل بغيرها ، فيحكم العقل بحفظ الماء ولو قبل مجيء زمان وجوب الصّلاة.

٣٦١

الثاني : في محلّ النزاع

هل أنّ البحث عن وجوب المقدّمة هو خصوص الواجب المطلق ، أو يكون الواجب المشروط أيضاً داخلاً في محلّ النزاع؟

الحقّ كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه‌الله دخول كلا القسمين فيه ، غاية الأمر بناءً على وجوب المقدّمة يكون وجوب مقدّمات الواجب المطلق مطلقاً أيضاً ووجوب مقدّمات الواجب المشروط مشروطاً ، وإلاّ يلزم زيادة الفرع على الأصل كما لا يخفى ، فإذا كان وجوب الحجّ مشروطاً بالاستطاعة كان وجوب مقدّماته كتحصيل الزاد والراحلة وأخذ الجوازات مشروطاً بالاستطاعة.

الثالث : دخول مقدّمات الواجب المشروط في محل النزاع

بناءً على دخول مقدّمات الواجب المشروط في محلّ النزاع لا إشكال في أنّ المقدّمة التي أخذت بعنوان الشرط في حكم المولى كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ فلا يكون تحصيلها واجباً ، أمّا بناءً على مذاق المشهور فهو واضح لأنّه قبل حصول مثل هذه المقدّمة أي الاستطاعة لم يتعلّق وجوب بالحجّ حتّى تكون مقدّمته واجبة ، وبعد حصول الاستطاعة وإن صار الحجّ واجباً ولكن لا معنى لترشّح الوجوب إلى هذه المقدّمة ، أي الاستطاعة لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا بناءً على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه‌الله فلأنّه صرّح بنفسه بأنّه وإن كانت جميع المقدّمات حتّى مثل الاستطاعة المأخوذة شرطاً في القضيّة الشرطيّة من الشرائط الوجوديّة وإنّ جميع القيود ترجع إلى المادّة ولكن على نحو لا يترشّح عليه وجوبه.

ولكن الإنصاف أنّ هذا لا يخلو من نوع من التناقض ، فكيف يمكن أن يكون شيء من المقدّمات الوجوديّة ومع ذلك لا يكون تحصيله واجباً ولم يترشّح عليه وجوب ذي المقدّمة؟

وبعبارة اخرى : كيف يكون الحجّ مثلاً واجباً مطلقاً وتكون الاستطاعة قيداً لوجوده ومع ذلك لا يطلبه المولى من العبد في صورة عدم استطاعته بل يطلبه منه إذا حصلت إتّفاقاً؟

الرابع : هل أنّ العلم من الشرائط العامّة للتكليف؟

لا إشكال في أنّ العلم من الشرائط الأربعة العامّة للتكليف ، ولكن مع ذلك وقع البحث في

٣٦٢

وجوب تحصيله وعدمه ، وأنّه هل يكون تحصيله غير واجب كسائر شرائط التكليف ، أو له خصوصيّة من بينها فيجب تحصيله؟ وهكذا بالنسبة إلى العلم بالمكلّف به ، فإذا علمنا بأصل وجوب الحجّ مثلاً وعلمنا أيضاً بحصول الاستطاعة في السنة اللاّحقة فهل يجب تحصيل العلم بمسائل الحجّ أو لا؟ المعروف والمشهور وجوب تحصيل العلم في القسم الأوّل ، أي العلم بأصل التكليف ، ويمكن أن يستدلّ له بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ تحصيل العلم واجب نفسي ، فهو واجب مع قطع النظر عن كونه مقدّمة لواجب آخر ، وتدلّ عليه آيات وروايات نظير ما ورد في بعض الأخبار من أنّه يسأل عن الإنسان يوم القيامة : هلاّ عملت؟ يقول : ما علمت ، فيقال له : هلاّ تعلّمت؟ وما ورد عن الصادق عليه‌السلام : « ليت السيّاط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الدين » ، ونظير آية النفر التي تدلّ على وجوب تحصيل العلم ووجوب تعليمه معاً.

وفيه : أنّ العلم في أمثال المقام طريقي لا موضوي ، ولذا لو أتى بالواقع من طريق الاحتياط أجزأه قطعاً ولا يؤاخذ على ترك تحصيل العلم مع أنّه لو كان واجباً نفسياً لم يجز العمل بالاحتياط في موارد الجهل بالحكم.

الوجه الثاني : العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة حيث يقتضي تحصيل العلم التفصيلي بها للامتثال.

وهو جيّد في الجملة ، ويمكن النقاش فيه بأنّ لازمه عدم وجوب الفحص وتحصيل العلم بالتكليف إذا علم بالمقدار المعلوم إجمالاً وانحلّ العلم الإجمالي بسبب ذلك ، مع أنّ الفحص واجب مطلقاً حتّى مع الشكّ البدوي في وجوب تكليف.

الوجه الثالث : حكم العقل ( أو بناء العقلاء ) وهو العمدة ، فإنّ العبد موظّف في مقابل مولاه وحقّ العبوديّة والطاعة أن يفحص عن تكاليف المولى في مظانّها ، نعم ، له العمل بالاحتياط وترك تحصيل هذا العلم ، وأمّا الأخذ بالبراءة من دون فحص فهو أمر غير جائز كما يتّضح لك بالرجوع إلى أهل العرف في مناسبات الموالي مع عبيدهم.

نعم بعد الفحص بالمقدار المتعارف بين العقلاء يجوز التمسّك بالبراءة لعدم العلم بتحقّق التكليف مع أنّه لو كان من شرائط الوجود لكان الأصل فيه الاشتغال.

هذا كلّه في العلم بالتكليف.

٣٦٣

وأمّا العلم بالمكلّف به فكذلك يمكن القول بوجوب تحصيله في الجملة ، وهو ما إذا علم بحصول الاستطاعة وعدم إمكان تحصيل العلم بالمناسك في الموسم ، فلا يبعد حينئذ القول بوجوب تحصيل العلم بها من باب حفظ غرض المولى مع أنّه ليس الحجّ واجباً فعلاً.

ثمّ إذا شككنا في أنّ الواجب مطلق أو مشروط فما هو مقتضى القاعدة؟ سيأتي الكلام عنه في ذيل البحث عن الواجب المعلّق فانتظر.

إلى هنا تمّ الكلام في التقسيم الأوّل للواجب.

الثاني : تقسيم الواجب إلى المنجز والمعلّق

وقد عرّف الواجب المنجّز في كلام صاحب الفصول المبتكر لهذا التقسيم بما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة ، وعرّف الواجب المعلّق بما يتعلّق وجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور كالحجّ ( بالنسبة إلى حلول زمانه ) فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ، ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له (١).

نعم أنّه عمّم المعلّق في ذيل كلامه إلى ما يتوقّف على أمر مقدور أيضاً ، وقال : « واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه ، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجباً قبل حصوله ، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابة المغصوبة » (٢).

ولكن يمكن النقاش في تمثيله للمقدور بالحجّ المنذور المتوقّف على ركوب الدابّة المغصوبة لأنّ ركوب الدابّة المغصوبة غير مقدور شرعاً والمنع الشرعي كالمنع العقلي ، وكان يمكن له التمثيل بأمر مقدور مباح لا يترشّح إليه الوجوب وهو ما إذا أخذه المولى قيداً للواجب بنحو لا

__________________

(١) الفصول : ص ٧٩.

(٢) المصدر السابق : ص ٨٠ ـ ٨١.

٣٦٤

يجب تحصيله كما إذا قال المولى : « حجّ عند إستطاعة ». أو « صلّ عند ما تتطهّر » فإنّ ظاهرهما وجوب الحجّ والصّلاة فعلاً مع أنّ وجود الحجّ متوقّف على حصول الاستطاعة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف ، كما أنّ وجود الصّلاة متوقّف على حصول الطهارة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف.

نعم قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يرد عليه ما أورده المحقّق الخراساني رحمه‌الله عليه بقوله : « لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر » فكأنّه رحمه‌الله لم يلاحظ ذيل كلامه.

كما ظهر أنّه لا فرق بين الواجب المشروط على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه‌الله والواجب المعلّق على التعريف المزبور حيث إنّه أخذ في الواجب المعلّق جميع ما أخذه الشّيخ في الواجب المشروط من كون القيد فيه راجعاً إلى المادّة لا الهيئة وكونه ممّا لا يترشّح عليه الوجوب ، مع أنّه شرط للوجود لا الوجوب إلاّ إذا أخذنا بصدر كلامه الذي حصر الواجب المعلّق فيه بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور ، حيث إنّ كلام الشّيخ رحمه‌الله في الواجب المشروط يكون أعمّ منه وممّا يتوقّف حصوله على أمر مقدور.

نعم ، الفرق بين الواجب المعلّق والواجب المشروط على مبنى المشهور واضح فإنّ القيد عندهم في الواجب المشروط راجع إلى الهيئة والوجوب لا الواجب والوجود كما مرّ.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذهب جماعة من الأعلام إلى إمكان الواجب المعلّق وجماعة آخرون إلى استحالته ، واستدلّ القائلون بالاستحالة بامور :

الأمر الأوّل : ما أفاده الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله من أنّه لا يمكن تصوّر شيء ثالث في الواجب غير المطلق والمشروط.

ولا يخفى أنّ كلامه في محلّه ولكن بناءً على مختاره في الواجب المشروط ، حيث إنّه حينئذ يرجع أحدهما إلى الآخر كما مرّ آنفاً وليس الواجب المعلّق قسماً ثالثاً للواجب ، وأمّا بناءً على مبنى المشهور ، فالفرق بين الواجب المعلّق والمطلق والمشروط واضح فإنّه إن لم يكن الواجب مقيّداً بقيد سمّي بالواجب المطلق وإن كان مقيّداً ورجع القيد إلى الهيئة سمّي بالواجب المشروط وإن كان مقيّداً ولكن رجع القيد إلى المادّة كان على قسمين : فإمّا أن يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة فيسمّى منجزاً ، وهو في الواقع قسم من الواجب المطلق ، وإمّا أن لا

٣٦٥

يترشّح منه إليه فيسمّى معلّقاً.

الأمر الثاني : لزوم انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب وهو محال ببيانين :

أحدهما : مقايسة التشريع بالتكوين ، فإنّ الطلب الإنشائي في التشريعيات إنّما هو بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات في التكوينيات ، فكما أنّ الإرادة في التكوينيات لا تنفكّ عن المراد ( وهو حركة العضلات ) وإن كان المراد متأخّراً رتبة فليكن الطلب الإنشائي في التشريعيات أيضاً غير منفكّ عن المطلوب وإن كان المطلوب متأخّراً رتبة ، وعليه فلا يمكن أن يكون الطلب في الواجب المعلّق حالياً والمطلوب استقبالياً متأخّراً عن الطلب زماناً.

ثانيهما : الرجوع إلى حقيقة بعث المولى ، فإنّها عبارة عن إيجاد ما يكون داعياً إلى العمل ، فلو بعث المولى إلى الحجّ ، أي أوجد الداعي إليه في نفس العبد ، فيستحيل أن لا ينبعث إليه العبد.

ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً وحلاً ، أمّا النقض فلانّه ينتقض بالواجبات المطلقة فيما إذا كانت لحصولها في الخارج مقدّمات عديدة لا بدّ في تحصيلها من زمان طويل.

وأمّا الحلّ فلأنّ الإرادة ليست بمعنى الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات من دون تخلّل شيء بين الشوق وحركة العضلات لأنّ لازمه الجبر كما لا يخفى ، بل يتخلّل بينهما شيء آخر يسمّى بالاختيار ، فللمكلّف المنع عن حركة العضلات ، ولا إشكال في أنّ لازمه إمكان الانفكاك بين البعث والانبعاث وبين الطلب والمطلوب.

وإن شئت قلت : يمكن المناقشة في المقيس عليه وهو الإرادة التكوينيّة بأنّها كما تتعلّق بأمر حالي فلا تنفكّ عن المراد زماناً كذلك تتعلّق بأمر استقبالي متأخّر فتنفكّ عنه زماناً ، كما إذا تعلّقت الإرادة بالسفر إلى بلاد بعيدة بعد أشهر ، فيكون فعلاً بصدد مقدّمات السفر وتحصيل معدّاتها ، فتعلّقت الإرادة من الآن بالسفر بعداً ( وإلاّ لم يكن المريد فعلاً بصدد تحصيل المقدّمات ) ولازمه انفكاك الإرادة عن المراد زماناً.

الأمر الثالث : عدم قدرة المكلّف على المكلّف به في حال البعث على المفروض في المقام مع أنّها من الشرائط العامّة.

ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً : بأنّه ينتقض بالواجب المطلق إذا كان له مقدّمات تحتاج إلى الزمان وبوجوب أجزاء الواجب جميعاً حين الشروع في العمل مع أنّ المكلّف ليس قادراً

٣٦٦

مثلاً على التشهّد والتسليم حين تكبيرة الإحرام فإنّ قدرته على الأجزاء تحصل شيئاً فشيئاً ، وما لم يأت بالتكبير لا يكون قادراً على القراءة في محلّها المفروض وهكذا.

وحلاً : بأنّه لا دليل على اعتبار القدرة على المكلّف به قبل مجيء زمان العمل بل القدرة المعتبرة في التكليف عقلاً هي القدرة على المكلّف به في زمان المكلّف به فإنّه كثيراً ما يتّفق أنّ العبد لا يكون قادراً على الإتيان بالمأمور به حين البعث ولكنّه يصير قادراً عليه بنفس البعث والتحريك ، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ العقل لا يمنع عن بعثه بمجرّد عدم قدرته على العمل فعلاً.

الأمر الرابع : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وحاصله : أنّ امتناع الواجب المعلّق في الأحكام الشرعيّة التي تكون على نهج القضايا الحقيقيّة بمكان من الوضوح بحيث لا مجال للتوهّم فيه ، لأنّ معنى كون القضيّة حقيقيّة هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعاً للحكم فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القيود ، ولا فرق بين أن يكون القيد هو الوقت أو أمر آخر ، وحينئذ ينبغي أن يسأل ممّن قال بالواجب المعلّق أنّه أي خصوصيّة للوقت حيث قلت بتقدّم الوجوب عليه ولم تقل بذلك في سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك الكلّ في أخذه قيداً للموضوع (١).

أقول : لا يخفى أنّ هذا الوجه مبتنٍ على مبنى المحقّق النائيني رحمه‌الله في أنّ جميع القيود المأخوذة في الأحكام ترجع حقيقة إمّا إلى الموضوع أو إلى المأمور به ، مع أنّه قد مرّ عدم تماميّة المبنى وأنّ الاشتراط في الواجب المشروط يكون من قبيل التعليق والتقدير لا التقييد ، أي أنّ المولى إذا لم تكن شرائط مطلوبه حاصلة في الحال فأوّلاً يفرض تلك الشرائط ، ثمّ يحكم في وعاء ذلك الفرض بمطلوبه ، فيكون إيجابه وحكمه إيجاب وحكم على فرض ، فيرجع شرطه وفرضه إلى الحكم ، أي « يجب مثلاً على المكلّف الحجّ إن استطاع » لا إلى الموضوع حتّى يكون مآل تعبيره « يجب على المستطيع الحجّ » ، فعلى المبنى المختار في حقيقة الواجب المشروط الحقيق بالتصديق لا يتمّ ما ذكره.

الأمر الخامس : ما هو المختار في مقام الإشكال على الواجب المعلّق وهو أنّ الواجب المعلّق مستبطن لنوع من التضادّ في إنشائه حيث إنّ المولى يقول يوم الاثنين : « يجب عليك غسل يوم

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ١٨٦.

٣٦٧

الجمعة أو صيامه. فإمّا أن يكون هو كناية عن وجوب تهيئة المقدّمات ، فلا بأس به كما سيأتي ، ولكن حينئذٍ لا يكون الواجب معلّقاً بل أنّه من مصاديق الواجب المشروط ، لأنّ المفروض عدم وجوب ذي المقدّمة ، وإمّا يكون دالاً على أنّ غسل يوم الجمعة أو صيامه واجب من يوم الاثنين مع أنّ ظرف امتثاله هو يوم الجمعة ، فهو متضمّن لنحو من التضادّ ، لأنّ كلّ بعثٍ يطلب من العبد انبعاثاً وكلّ طلب يتعقّب امتثالاً ، فلو كان الوجوب فعليّاً يوم الاثنين كان معناه وجوب الامتثال في ذلك اليوم مع أنّ المفروض أنّ زمان الامتثال هو يوم الجمعة فلازم وجود الطلب يوم الاثنين هو فعلية الوجوب في ذلك اليوم ، ولازم عدم وجوب امتثاله يوم الاثنين عدم فعليّة الوجوب في ذلك اليوم ، وليس هذا إلاّ التضادّ.

والشاهد على ما ذكرناه ما تسالم عليه الفقهاء على أنّه لو مات المكلّف بعد استطاعته في الطريق فلا يجب قضاء الحجّ عنه مع تصريحهم بأنّ الوجه في ذلك أنّ الاستطاعة هي أعمّ من الاستطاعة الماليّة والبدنيّة والطريقية والزمانيّة ، فإنّ هذا أقوى شاهد على أنّ ارتكازهم الفقهي والمتشرّعي يكون على أنّ جميع هذه الأربعة شرط لوجوب الحجّ لا خصوص الاستطاعة الماليّة ، ولذلك أوّلوا ما ورد في بعض الرّوايات ممّا ظاهره وجوب القضاء بامور اخرى ، وذكروا في توجيهه وجهان : أحدهما : حمله على الاستحباب ، والثاني : حمله على من استقرّ عليه الحجّ من قبل.

إن قلت : إنّ مثل هذا التعبير ( أي يجب عليك من هذا اليوم إكرام زيد يوم الجمعة ) شائع عند العرف.

قلنا : شيوع مثل هذا التعبير عند العرف يحتمل فيه وجوه اخرى :

منها : أن يكون من قبيل الواجب المشروط ، فترجع القضيّة المزبورة إلى قولك : إذا كان يوم الجمعة كان عليك إكرام زيد ) ويرجع مثل قولك « أكرم ضيوفي يوم الجمعة » إلى قولك : « إذا كان يوم الجمعة وقدم ضيوفي فأكرمهم » خصوصاً بملاحظة ما مرّ من أنّ الأحكام القانونيّة ترجع إلى قضايا حقيقيّة ، والقضايا الحقيقية أيضاً ترجع إلى قضايا شرطيّة.

ومنها : أن يكون مجازاً بعلاقة الأوّل والمشارفة كما إذا قلت « جاء زيد » مع أنّه لم يجيء بعدُ ، بل سيأتي عن قريب.

ومنها : أن يكون كناية عن إيجاب تهيئة المقدّمات ، بأن يكون مراد المولى من تصريحه

٣٦٨

بوجوب إكرام ضيوفه يوم الجمعة من هذا اليوم وجوب تهيئة مقدّمات الإكرام من هذا اليوم ، وأمّا الاحتمال الآخر الذي يكون احتمالاً رابعاً في المسألة وهو أن يتعلّق الوجوب من الآن بذي المقدّمة ( لا المقدّمة ) الذي يأتي فيما بعد فمردود لاشتماله على التناقض كما مرّ ، وليت شعري كيف يرضى القائل بالواجب المعلّق بمثل هذا التناقض الواضح بأن يقول المولى للعبد : « أيّها العبد اريد منك الآن إكرام زيد في يوم الجمعة » فله أن يقول في جوابه : « إن كنت تريد الآن فلماذا تقول يوم الجمعة؟ وإن كنت تريد يوم الجمعة فلماذا تقول الآن؟ » إلاّ أن يكون مرادك تهيئة المقدّمات من الآن.

ثمرة المسألة :

والثمرة التي تتصوّر في المسألة وهي التي دعت صاحب الفصول إلى القول بالواجب المعلّق إنّما هي حلّ فتاوى في الفقه لم يكن لها توجيه عنده إلاّكونها من قبيل الواجب المعلّق.

منها : فتواهم بوجوب تهيئة مقدّمات الحجّ قبل الموسم وبعد الاستطاعة.

ومنها : فتواهم بوجوب الأغسال في الليل للجنب والحائض والمستحاضة في شهر رمضان قبل طلوع الفجر.

ومنها : فتواهم بوجوب تعلّم أحكام الصّلاة قبل مجيء وقتها إذا علم بعدم القدرة على التعلّم بعده ، فكأنّ صاحب الفصول لم ير طريقاً للتخلّص عن هذه الفتاوي إلاّ القول بتصوّر قسم للواجب سمّاه بالواجب المعلّق.

ولكن الإنصاف أنّ الطريق ليس منحصراً في ذلك بل هناك طرق اخرى لتوجيهها يمكن قبول بعضها :

منها : طريق الواجب المشروط على نحو ما نسب إلى الشّيخ الأعظم رحمه‌الله ، ولكن قد مرّ أنّه نفس الواجب المعلّق وليس أمراً آخر.

ومنها : أنّ الإجماع قام على وجوب هذه الامور وجوباً نفسياً تهيّئياً ، أمّا كونه نفسياً فلعدم إمكان ترشّحه من وجوب ذي المقدّمة بناءً على أنّ المفروض عدم كون ذي المقدّمة واجباً فعلاً ، وأمّا كونه تهيئياً فلأنّه وإن لم يترشّح من وجوب ذي المقدّمة ولكن الحكمة فيه هي التهيّؤ

٣٦٩

لإتيان ذي المقدّمة في زمانه ، فلا يتصوّر لتركه عقاب مستقلّ بل حيث إنّ تركه يؤدّي إلى ترك ذي المقدّمة في ظرفه فيكون العقاب مترتّباً على خصوص ترك ذي المقدّمة فحسب.

ومنها : أن يكون من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، أي يكون إدراك ذي المقدّمة في ظرفه شرطاً متأخّراً لوجوب هذه المقدّمات من الآن ، فمثلاً إدراك الحجّ في الموسم شرط متأخّر لوجوب مقدّماته قبل الموسم.

ولكن هذا خلاف ظاهر الأدلّة ، لأنّ ظاهرها أنّ الشرط المذكور فيها من قبيل الشرط المقارن.

ومنها : أنّ حفظ أغراض المولى يقتضي عقلاً وجوب إتيان المقدّمات المزبورة قبل حلول زمان الواجب عند الشارع ، أي العقل يكشف عن وجوبها شرعاً ، فإذا علمنا أنّ غرض الشارع تعلّق بالحجّ مثلاً على أيّ حال : وأنّه لا يرضى بتركه ( كما أنّه كذلك بالنسبة إلى مثل الحجّ ) فلا مانع من إيجاب الشارع تحصيل المقدّمات قبل الموسم من باب أنّ انتظاره إلى أيّام الحجّ يساوق تعطيل الحجّ غالباً ، بل هو نقض للغرض ، وهو قبيح على المولى الحكيم.

وبالجملة هناك قرينة عقليّة على وجوب المقدّمات التي يوجب تركها تفويت غرض المولى ومصلحة الواجب.

وهنا طريق آخر لحلّ الإشكال ، وهو أنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها وإن كانت ثابتة ولكنّهما ليسا من قبيل العلّة والمعلول بل كلاهما من قبيل الحكم والإرادة الصادرة من نفس المولى ، والملازمة من قبيل الداعي ، والعلّة في الواقع نفس المولى بالنسبة إلى الجميع.

وكما أنّ وجود شيء في الحال يمكن أن يكون داعياً إلى أمرٍ ـ كذلك وجوده في المستقبل.

إن قلت : فعلى هذا لا بدّ من وجوب جميع المقدّمات قبل مجيء زمان الواجب كالوضوء ومعرفة القبلة بالنسبة إلى الصّلاة.

قلنا : إنّه كذلك في خصوص المقدّمات التي يوجب تركها تفويت الغرض في زمانه حتماً لا مثل الوضوء الذي يحتمل إمكان تحصيله في الوقت.

بقي هنا شيء :

إذا شككنا في أنّ القيد يرجع إلى الوجوب أو إلى الوجود ، وبتعبير آخر : يرجع إلى الهيئة أو

٣٧٠

إلى المادّة ، فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

أمّا الأصل العملي فنقول : لا بدّ فيه من التفصيل بين الشرط المشكوك رجوعه إلى المادّة أو الهيئة وبين مشروطه.

أمّا الشرط كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، فلا إشكال في أنّ مردّ الشكّ فيه إلى الشكّ في وجوب تحصيله وعدمه ، والأصل حينئذٍ هو البراءة كما لا يخفى ، وقد أفتى به بعض الفقهاء في باب صلاة الجمعة بإنّ إقامة صلاة الجمعة من شرائط الوجوب لا الواجب لظاهر قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ... ) حيث إنّ ظاهرها أنّ السعي إلى ذكر الله وحضور الجمعة متوقّف على إقامتها من قبل جماعة والنداء إليها ، وبدون ذلك لا يجب الحضور. ولو فرض الشكّ في ذلك فالأصل هو البراءة عن وجوب الإقامة.

وأمّا بالنسبة إلى المشروط كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة ، فيتصوّر فيه حالات ثلاثة :

فتارةً : لا يحصل الشرط فلا تتحقّق الاستطاعة فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل هو البراءة عن وجوب الحجّ ، لأنّ الشكّ في كون الاستطاعة شرطاً للوجوب أو للواجب يسري إلى المشروط ، ونتيجته الشكّ في أصل وجوب الحجّ والأصل فيه البراءة.

واخرى : يتحقق الشرط فتتحقق الاستطاعة مثلاً ، فلا كلام في وجوب الحجّ وهو واضح.

وثالثة : فيما لو تحقق الشرط ثمّ زال ، فيتصوّر له أيضاً ثلاث حالات :

الاولى : ما إذا علمنا أنّ الشرط قد شُرط حدوثاً وبقاءً فلا إشكال في عدم وجوب الحجّ من دون حاجة إلى جريان البراءة ، للعلم بعدم وجوبه حينئذٍ ، وذلك نظير صحّة البدن بالنسبة إلى الصّيام فإنّه شرط له حدوثاً وبقاءً.

الثانيّة : ما إذا علمنا أنّ الشرط هو شرط حدوثٍ فحسب فلا كلام أيضاً في وجوب المشروط لحصول شرطه.

الثالثة : ما إذا شككنا في أنّه شرط حدوث وبقاء معاً أو حدوث فقط ، فالأصل هو الاستصحاب لثبوت وجوب المشروط بحدوث الشرط ، فإذا شككنا في بقائه من جهة الشكّ في شرطيّة بقاء الشرط كان الأصل هو استصحاب بقاء الوجوب.

إن قلت : لا بدّ في الاستصحاب من وحدة الموضوع ( أي موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ) وهي مفقودة في المقام لأنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المستطيع ،

٣٧١

والمفروض زواله بقاءً.

قلنا : الموضوع للقضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المكلّف ، وأمّا الاستطاعة فهي تعدّ من حالات الموضوع لا مقوّماته ، وعنوان المكلّف باقٍ على الفرض ، وسيأتي في مباحث الاستصحاب تعيين الملاك في كون شيء من حالات الموضوع أو مقوّماته.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل العملي ، وهو البراءة في موردين والاستصحاب في مورد واحد.

أمّا الأصل اللّفظي : فيدور الأمر فيه في الواقع مدار إطلاق المادّة وإطلاق الهيئة وأنّه هل يقدّم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة حتّى تكون نتيجته رجوع القيد إلى المادّة وكون الشرط شرطاً للواجب ، أو يكون المقدّم إطلاق المادّة فيرجع القيد إلى الهيئة ونتيجته كون الشرط شرطاً للوجوب؟

ذهب الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله إلى تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة ، ويمكن الاستدلال له بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي ، ومن المعلوم أنّ الإطلاق الشمولي ممّا يقدّم على البدلي ، فإذا شككنا مثلاً في قوله تعالى : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) أنّ قيد الاستطاعة يرجع إلى هيئة « لله على الناس » التي مفادها وجوب الحجّ ، أو يرجع إلى المادّة ( وهي الحجّ ) قدّمنا إطلاق الهيئة ، وصارت النتيجة وجوب الحجّ مطلقاً مع اشتراط صحّته بالاستطاعة ، يعني يجب تحصيل الاستطاعة له.

الوجه الثاني : أنّ تقييد الهيئة ممّا يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة بخلاف العكس ، أي لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ لاطلاق المادّة فإذا فرض تقييد مفاد الهيئة وهو الوجوب بالاستطاعة مثلاً فلا يبقى محلّ لاطلاق الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة ، إذ الحجّ لا ينفكّ عن الاستطاعة فيقيّد بتقييد الوجوب قهراً ، بخلاف ما إذا فرض تقييد الحجّ بالاستطاعة ، فيبقى معه مجال لاطلاق الوجوب ، وذلك لجواز تقييده حينئذ بالاستطاعة ، ومن المعلوم أنّه كلّما دار الأمر بين تقييدين أحدهما يبطل محلّ الإطلاق في الآخر دون العكس كان العكس أولى ، لأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً ولكنّه خلاف الأصل ، ورجوع القيد إلى المادّة لازمه ارتكاب خلاف واحد للأصل لأنّه تقييد واحد ، ورجوع القيد إلى الهيئة لازمه ارتكاب خلافين للأصل لأنّه يرجع إلى تقييدين.

٣٧٢

إن قلت : كيف يستدلّ الشّيخ الأعظم رحمه‌الله بهذا الوجه مع أنّه قائل برجوع القيد إلى المادّة؟ على أيّ حال : فلا يتصوّر عنده تقييد الهيئة عقلاً حتّى يدور الأمر بينه وبين تقييد المادّة.

قلنا : إنّه كذلك ولكنّه كان يحتمل رجوع القيد إلى الهيئة في ظاهر اللفظ ومقام الإثبات ، وأنّه وإن كان يرجع إلى المادّة لبّاً ولكن لهذا الظهور أثر عملي ، وهو عدم ترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى مثل هذا القيد ، فقد مرّ منه أنّ القيود الراجعة إلى المادّة على قسمين : قسم يكون راجعاً إلى المادّة في ظاهر اللفظ أيضاً فيترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إليه فيجب تحصيله ، وقسم لا يكون راجعاً إليها في ظاهر اللفظ ، فهو وإن كان راجعاً إليها لبّاً ولكن نستكشف من عدم أخذه قيداً للمادّة في ظاهر اللّفظ ومقام الإثبات عدم ترشّح الوجوب إليه ، أي عدم وجوب تحصيله.

فظهر أنّ لرجوع القيد إلى الهيئة وعدم رجوعه إليها ثمرة حتّى على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه‌الله ، فالوجه الثاني المذكور لمقالته في مقام الشكّ أيضاً لا غبار عليه من هذه الناحية.

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين.

أمّا الوجه الأوّل : فيجاب عنه أوّلاً : بأنّ « تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي غير صحيح لأنّ الذي يستفاد من الإطلاق ليس إلاّكون ما وقع موضوعاً للحكم تمام العلّة لثبوته ، وأمّا الشمول والبدليّة بمعنى كون الحكم شاملاً لجميع الأفراد أو فرد منها ، أو بمعنى أنّ الطلب هل يسقط بإيجاد فرد منها أو بإيجاد كلّها فغير مربوط بالاطلاق بل لا بدّ في استفادة أيّ واحد من الشمول والبدل من إلتماس دليل آخر غير الإطلاق » (١) ، وهذا الجواب تامّ لا غبار عليه.

وثانياً : بأنّ المناط في تقدّم أحد الإطلاقين على الآخر ليس هو كونه شمولياً فإنّ الشمولي ليس بأقوى من البدلي ، بل هو الاستناد إلى الوضع وعدمه ، فإذا كان العموم الشمولي مستنداً إلى الوضع كما في صيغة كلّ ونحوها ، والإطلاق البدلي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كالاطلاقات المنعقدة لأسامي الأجناس نوعاً قدم العموم الشمولي الوضعي على الإطلاق البدلي المستفاد من مقدّمات الحكمة لكن لا بملاك كونه شوليّاً بل بملاك كونه وضعيّاً وأنّه أظهر من البدلي حينئذٍ ، وإذا انعكس الأمر فكان العموم الشمولي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كما في « أحلّ الله البيع » والإطلاق البدلي مستنداً إلى الوضع كما في كلمة « أيّ » ، قدّم الإطلاق البدلي

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٨٧ ، طبع مهر.

٣٧٣

الوضعي على العموم الشمولي المستفاد من مقدّمات الحكمة ، وعليه ففي المقام حيث إنّ كلاً من إطلاق الهيئة وإطلاق المادّة مستند إلى مقدّمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.

وثالثاً : لو سلّمنا أقوائيّة الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي لكن لا نسلّم إنّها توجب تقديم الشمولي على البدلي ما لم يصل إلى حدّ الظهور العرفي للفظ في الشمول بحيث تعدّ البدليّة مخالفة للظهور.

وأمّا الوجه الثاني : فالجواب عنه واضح ، لأنّ الأمر في ما نحن فيه دائر بين تقييد وتقييد ، لا بين تقييد وتقييدين : لأنّ تقييد الهيئة يوجب ارتفاع موضوع التقييد في المادّة على نحو السالبة بانتفاع الموضوع لا إنّه يلازم تقييدها مع بقاء موضوعه ، فإن قيّدنا الهيئة لزم تقييد واحد ، وإن قيّدنا المادّة لزم تقييد واحد أيضاً فالأمر دائر بين تقييد وتقييد.

إلى هنا تمّ الكلام عن التقسيم الثاني للواجب.

الثالث : تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري

وقد عرّف الأصحاب الواجب النفسي بأنّه عبارة عن ما أمر به لنفسه ، والغيري بأنّه عبارة عن ما أمر به لغيره.

وهيهنا إشكال معروف وهو أنّ هذا التعريف يوجب كون جلّ الواجبات غيريّة لأنّها إنّما وجبت لغيرها وهو المصالح التي تترتّب عليها ، فينحصر الواجب النفسي في مثل معرفة الله تعالى حيث إنّها مطلوبة لذاتها.

ولعلّ هذا أوجب عدول المحقّق الخراساني رحمه‌الله من التعريف المشهور إلى قوله في الكفاية : « فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري وإلاّ فهو نفسي ، سواء كان الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة بالله أو محبوبيته بما له من فائدة مترتّبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليات ».

ولكنّه أورد عليه أخيراً بما حاصله : أنّ أكثر الواجبات النفسيّة التي أمر بها لأجل ما فيها من الخواصّ والفوائد على هذا تكون واجبات غيريّة ، فإنّ تلك الفوائد لو لم تكن لازمة واجبة

٣٧٤

لما دعت المولى إلى إيجاب ذي الفوائد فينطبق حينئذٍ على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

ثمّ ذكر في مقام دفع هذا الإيراد وتصحيح التعريف ما حاصله : إنّ الخواص والفوائد المترتّبة على أكثر الواجبات النفسيّة وإن كانت لازمة قطعاً ولكنّها حيث كانت خارجة عن تحت قدرة المكلّف لم يصحّ تعلّق التكليف بها لتكون واجبة وينطبق على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

وأجاب عنه : بأنّ الفوائد وإن كانت بنفسها خارجة عن تحت القدرة ولكنّها مقدورة للمكلّف بالواسطة ، وهي تكفي في صحّة تعلّق التكليف بها فإنّ القدرة على السبب قدرة على المسبّب ، ولذا قد يؤمر بالتطهير والتمليك والطلاق إلى غير ذلك من المسبّبات التي هي خارجة بنفسها عن تحت القدرة.

ثمّ صحّحه بطريق آخر وحاصله : أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه ولم يؤمر به إلاّلحسنه الكذائي وإن كان مقدّمة لواجب آخر ، أي لما يترتّب عليه من الخواصّ والفوائد اللازمة الواجبة ، والواجب الغيري ما أمر به لأجل واجب آخر وإن كان معنوناً بعنوان حسن في نفسه كما في الطهارات الثلاثة ( انتهى ).

واستشكل عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله : بأنّ « حسن الأفعال المقتضى لايجابها إن كان ناشئاً من كونها مقدّمة لما يترتّب عليها من المصالح فإشكال لزوم كون جلّ الواجبات واجبات غيريّة قد بقي على حاله ، وإن كان الحسن ثابتاً لها في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن ما يترتّب عليها من المصالح فلازمه أن لا يكون الوجوب المتعلّق بها متمحّضاً في النفسيّة ولا في الغيريّة لثبوت ملاكهما حينئذٍ كما في أفعال الحجّ فإنّ المتقدّم منها واجب لنفسه ومقدّمة للمتأخّر فلا يكون وقع للتقسيم حينئذٍ أصلاً » (١).

ثمّ أجاب المحقّق المذكور عن أصل الإشكال بأنّ « الأفعال بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات التي يتوسّط بينها وبين المعلول امور غير اختياريّة ، فلا يمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة بها ، فكذلك التشريعيّة لما بيّنا من الملازمة بينهما إمكاناً وامتناعاً ، فهي

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٦٧.

٣٧٥

من قبيل الدواعي لتعلّق الإرادة بالأفعال لا أنّها بأنفسها تحت التكليف حتّى يكون الأمر المتعلّق بالأفعال مترشّحاً من الأمر المتعلّق بها ، وما قيل من أنّها مقدورة بالواسطة ولا فرق في القدرة بين أن تكون بلا واسطة وأن تكون بالواسطة قد عرفت ما فيه من أنّه إنّما يتمّ في الأفعال التوليديّة لا في العلل المعدّة » (١).

أقول : يمكن النقاش في جميع ما ذكر ، أمّا ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعنوان الحلّ النهائي للاشكال من أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه ، ففيه : أنّه لا تتصوّر عبادة يكون لها حسن ذاتي مع قطع النظر عن المصالح التي تترتّب عليها بعد تعلّق الأمر بها التي هي عبارة عمّا ورد في قوله عليه‌السلام : « فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك والصّلاة تنزيهاً عن الكبر والصّيام ابتلاءً لاخلاص الخلق والحجّ تقوية للدين والجهاد عزّاً للإسلام » (٢) وغير ذلك من نظائره ، حتّى في مثل السجود والركوع حيث إنّا لا نعقل لحسنهما معنىً غير ما يترتّب عليهما من المصالح من تربية النفوس والقرب إلى الله ، نعم أنّه يتصوّر في مثل معرفة الله وغيرها من أشباهها.

وبهذا يظهر ما في كلام بعض الأعلام في المحاضرات حيث إنّه سلّم وجود حسن ذاتي في مثل السجود والركوع مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ أفعال الواجبات بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات لا الأسباب.

ففيه : أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات ، حيث إنّ ظاهرها أنّ الصّلاة مثلاً بنفسها مع جميع اجزائها وشرائطها علّة للتنزيه عن الكبر أو للنهي عن الفحشاء والمنكر ، وهكذا الصّوم بالنسبة إلى الاخلاص ، والجهاد بالنسبة إلى العزّة ، والحجّ بالنسبة إلى تقوية الدين ، ولا أقلّ من أنّها مقتضية تؤثّر أثرها مع اجتماع شرائطه لا أنّها معدّات لإفاضة تلك المصالح من جانب الله تعالى.

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ المصالح التي تترتّب على الأفعال امور خارجة عن دائرة علم المكلّفين بتفاصيلها ، وبالتبع خارجة عن دائرة قدرتهم بل أنّها معلومة للمولى وتكون

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٦٧.

(٢) نهج البلاغة : ح ٢٥٢.

٣٧٦

دواعي لأوامره ، وحينئذ لا يعقل تكليف العباد بتحصيلها ولا محالة تكون فوق دائرة الأمر لا تحته.

ويشهد لما ذكرنا امور :

الأمر الأوّل : ما اشير إليه من أنّ العبد غالباً يكون جاهلاً بتفاصيل المصالح التي تترتّب على الأحكام ، فهو يعلم إجمالاً بوجود رابطة بين الصّلاة مثلاً والنهي عن الفحشاء وإنّ الصّيام جنّة من النار ، وأمّا الجزئيات والخصوصيّات فهي مجهولة له بل قد لا يعلم بعض المصالح لا تفصيلاً ولا إجمالاً كجعل صلاة الصبح ركعتين ، هذا مضافاً إلى كون المصلحة في كثير من مواردها ليست دائمية وبمنزلة العلّة بل بصورة الأغلبية وبمثابة الحكمة كعدم اختلاط المياه في وجوب الأخذ بالعدّة.

الأمر الثاني : أنّ المصلحة قد تكون في نفس الأمر والإنشاء ولا مصلحة في متعلّقه كما في الأوامر الامتحانيّة في الشرع ونظير الأوامر التي تصدر من جانب الموالي العرفيّة أو الامراء عند نصبهم لمجرّد تثبيت المولويّة أو الأمارة.

الأمر الثالث : أنّ المصلحة قد لا تترتّب على فعل مكلّف خاصّ حتّى يؤمر بتحصيلها بل أنّها تترتّب على أفعال جماعة من المكلّفين بل قد تترتّب على أفعال أجيال منهم نظير أمر الإمام عليه‌السلام في تلك الرّواية المعروفة بكتابة الأحاديث للأجيال القادمة في غيبة الإمام عليه‌السلام ، فإنّ المصلحة التي تترتّب على هذا الأمر تظهر بعد مضيّ مدّة طويلة من الزمان ، نسلاً بعد نسل ، وجماعة بعد جماعة.

نعم مع ذلك كلّه قد يبيّن المولى شيئاً من المصالح لمجرّد تشويق العباد وإيجاد الرغبة والداعي فيهم إلى إتيان التكاليف نظير قوله تعالى « إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر » ونظير جميع الرّوايات التي وردت في باب علل الشرائع.

إن قلت : إن لم تكن المصالح داخلة في دائرة الحكم الشرعي للمكلّف فكيف يقال بوجوب حفظ الغرض في كلماتهم كما مرّ كراراً في الأبحاث السابقة؟

قلنا : المراد من الغرض الواجب تحصيله في هذا التعبير إنّما هو نفس المأمور به قبل تعلّق الأمر به أو شبه ذلك لا الآثار والمصالح المترتّبة عليه ، فالغرض من الحجّ مثلاً ( الذي تمسّكنا في إثبات وجوب مقدّماته المفوتة فيه من قبيل تهيئة الزاد والراحلة بوجوب حفظ الغرض ) إنّما

٣٧٧

هو نفس مناسك الحجّ التي لا يرضى الشارع بتركها لا ما يتربّ عليها من المصالح.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تعريف المشهور للواجب النفسي والغيري ممّا لا غبار عليه ، وإنّ ما اورد عليه من الإشكال المعروف ليس بوارد ، فالواجب النفسي هو ما أمر به لنفسه ، والغيري ما أمر به للوصول إلى واجب آخر.

ثمّ إنّه إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري كما إذا شكّ في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي مطلوب لنفسه أو أنّه واجب لأجل واجب آخر كالصّلاة والصّيام؟ فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

وقد مرّ إجمال البحث عنه في الفصل الخامس من مبحث الأوامر ، وقلنا هناك أنّ موضعه الأصلي هو البحث في تقسيمات الواجب :

فنقول : أمّا الأصل اللّفظي فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّ مقتضى إطلاق صيغة الأمر كون الواجب نفسياً لا غيريّاً ، لأنّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم في مقام البيان.

وقد أورد عليه أوّلاً : إنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب فإنّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبيّة إلاّبواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها عليه لا بواسطة مفهومها ، ومن المعلوم أنّ الفرد من الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يعقل فيه التقييد والإطلاق ، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيريّاً (١).

ولكن اجيب عنه : إنّ مفاد الهيئة ليس الأفراد بل هو مفهوم الطلب لأنّ الطلب الحقيقي من الصفات الخارجيّة كالشجاعة والجود ونحوهما لا الامور الاعتباريّة كالزوجيّة والملكيّة وغيرهما ممّا يقبل الإنشاء بالصيغة ( نعم إنّ منشأ الطلب الإنشائي ربّما يكون هو الطلب الحقيقي ) ومن المعلوم أنّ مفهوم الطلب الإنشائي ممّا يقبل التقييد والإطلاق ، فقد وقع الخلط بين المفهوم والمصداق.

أقول : يرد عليه ما مرّ في اتّحاد الإرادة والطلب من أنّ الطلب ليس قائماً بالنفس بل القائم

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ٦٧ ، الهداية : ١١ من وجوب مقدّمة الواجب.

٣٧٨

بها هو الإرادة وهي غير الطلب ، وأمّا الطلب فالحقيقي منه عبارة عن التصدّي الخارجي نحو المطلوب ، والإنشائي منه إنّما هو بعث الغير واغرائه إلى المطلوب ولا إشكال في أنّ البعث إيجاد والإيجاد أمر جزئي حقيقي لا يقبل الإطلاق والتقييد.

والأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال : إنّ الجزئي وإن استحال تقييده بعد تحقّقه في الخارج إلاّ أنّه لا ريب في إمكان تقييده وتضييقه قبل الإيجاد من باب « ضيق فم الركّية ».

وأورد على التمسّك بالاطلاق ثانياً : بأنّ « المعاني الحرفيّة وإن كانت كلّية إلاّ أنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها أعني المعاني الاسمية لكونها قد إتّخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية ، وما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه ، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق والتقييد إليه؟ لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولاً عنه بخصوصه وهذا خلف » (١).

والجواب عنه واضح وذلك لما مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة من أنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الذهني والخارجي ، وهو لا يلازم كونها مغفولاً عنها بل أنّها قد تصير ملحوظة وملتفتاً إليها بتمام اللحاظ والتوجّه ، نظير ما نقل عن المحقّق نصير الدين الطوسي رحمه‌الله حيثما حضر في محضر درس المحقّق رحمه‌الله صاحب الشرائع وأفتى المحقّق باستحباب التياسر في القبلة لأهل العراق فسأله المحقّق الطوسي رحمه‌الله : التياسر من القبلة أو إلى القبلة؟

فأجاب المحقّق رحمه‌الله بقوله : « من القبلة إلى القبلة » ، فلا مانع من إطلاق المعنى الحرفي وتقييده من هذه الناحية أيضاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي ، فقد تحصّل أنّ التمسّك بالاطلاق تامّ.

أمّا الأصل العملي فيما إذا لم يكن هناك إطلاق فيتصوّر له ثلاث صور :

الصورة الاولى : ما إذا شككنا في النفسيّة والغيريّة قبل مجيء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له ، كما إذا شككنا قبل الظهر في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي أو غيري للصّلاة ، فلا إشكال في أنّ الأصل في هذه الصورة إنّما هو البراءة ، فإنّه إن كان غيريّاً لم يجب الإتيان به لعدم وجوب ذي المقدّمة فعلاً.

__________________

(١) حكاه في بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٧٣.

٣٧٩

الصورة الثانيّة : ما إذا شككنا فيها بعد مجيء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له وبعد فعليّة وجوبه ، فالأصل فيه أيضاً هو البراءة عن وجوب إتيانه قبل إتيان ذي المقدّمة ، لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في وجوب إتيانه قبل ذي المقدّمة ، أي يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة ، أعني شرطيّة الغسل للصّلاة مثلاً ، والأصل فيه هو البراءة ، نعم يجب الإتيان بهذا الواجب على كلّ حال للعلم بوجوبه حينئذ ، إمّا لنفسه أو لغيره.

الصورة الثالثة : ما إذا جاء وقت ما يحتمل كونه ذا المقدّمة ومضي وقته كما إذا صارت المرأة حائضاً بعد دخول وقت الصّلاة بعد أن كانت جنباً ، فلا نعلم أنّ غسل الجنابة واجب غيري حتّى يظهر سقوط وجوبه بسقوط وجوب الصّلاة أو أنّه واجب نفسي حتّى يكون باقياً على وجوبه؟

لا إشكال في أنّ الأصل هو الاستصحاب حيث إنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في سقوط وجوب ثبت من قبل ، والأصل بقاؤه ( بناءً على قول القائلين بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ).

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : هل أنّ هنا واجباً آخراً

ما أفاده بعض الأعلام من أنّه « قد يتوهّم أنّ هنا قسماً آخر من الواجب لا يكون نفسياً ولا غيريّاً ، وذلك كالمقدّمات المفوتة مثل غسل الجنب ليلاً لصوم غد ، وركوب الدابّة ونحوه للإتيان بالحجّ في وقته بناءً على استحالة الواجب التعليقي.

أمّا أنّه ليس بواجب غيري فلأنّ الواجب الغيري على مسلك المشهور ما كان وجوبه معلولاً لوجوب واجب نفسي ومترشّح منه ، فلا يعقل وجوبه قبل إيجابه ، وأمّا أنّه ليس بواجب نفسي فلأنّ الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب ، والمفروض أنّ ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه وإنّما يستحقّ العقاب على ترك ذي المقدّمة » (١).

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٣٨٧.

٣٨٠