أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الفصل العاشر

مقدّمة الواجب

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث من التكلّم في عدّة جهات :

الجهة الاولى : ما هي موضوعيّة مقدمة الواجب

في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاصوليّة أو أنّها مسألة فقهيّة ، أو أنّها كلاميّة ، أو هي من المبادىء الأحكاميّة للفقه؟ ففيها وجوه.

يمكن أن يقال أنّها اصوليّة نظراً إلى أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة إنّما هي الملازمة بين وجوب الشيء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك ، فيترتّب عليها وجوب المقدّمة شرعاً ، وهذا هو شأن المسألة الاصوليّة حيث إنّها تقع في طريق استنباط الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة ، ولا إشكال في أنّ وجوب المقدّمة شرعاً حكم كلّي فرعي إلهي يستنبط من وجود الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة بناءً على قبولها.

ويمكن أن يقال بأنّها فقهيّة نظراً إلى أنّ موضوعها فعل المكلّف وهو المقدّمة في المقام ، ومحمولها الحكم الشرعي وهو الوجوب ، والبحث في ما نحن فيه يقع في وجوب المقدّمة وعدمه.

ويمكن أن يقال بأنّها كلاميّة لأنّها تبحث عن ترتّب الثواب على فعل المقدّمة والعقاب على تركها ( بناءً على وجوبها ) وهذا هو شأن المسألة الكلاميّة ( حيث إنّها تبحث عن شؤون المبدأ والمعاد ) لا لأنّها مسألة عقليّة كما قد يتوهّم فإنّ مجرّد كون البحث عنها عقليّاً لا يوجب دخولها في المسائل الكلاميّة ، ضرورة أنّ المسائل الكلاميّة صنف خاصّ من المسائل العقليّة وهي التي يبحث فيها عن المبدأ والمعاد فحسب.

٣٤١

ويمكن أن يقال بأنّها من المبادىء الأحكاميّة للفقه كما ذهب إليه بعض المحقّقين المعاصرين (١) حيث قال : « إنّه كان للقدماء مباحث يبحث فيها عن معاندات الأحكام وملازماتها يسمّونها بالمبادىء الأحكاميّة ، ومنها هذه المسألة ».

ولا يخفى أنّ المبادىء الأحكاميّة في الحقيقة ترجع إلى المبادىء التصوّريّة ( فإنّ تصوّر وجوب المقدّمة يلازم تصوّر وجوب ذيها ) أو ترجع إلى المبادىء التصديقية لأنّه يمكن الاستدلال بوجوب المقدّمة على وجوب كثير من الأفعال في الفقه.

هذا كلّه هي الوجوه المتصوّر للبحث عن مقدّمة الواجب.

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « الظاهر أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، فتكون المسألة اصوليّة لا عن نفس وجوبها كما هو المتوهّم من بعض العناوين كي تكون فرعيّة ، وذلك لوضوح أنّ البحث كذلك لا يناسب الاصولي ، والاستطّراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه يكون من المسائل الاصوليّة ».

ويرد عليه : أنّ عنوان المسألة في كلمات الأصحاب عبارة عن أنّه « هل المقدّمة واجب ، أم لا؟ » وهو غير عنوان الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، والشاهد على ذلك وقوع المتأخّرين في حيص وبيص ، فذكر كلّ واحد منهم لكون المسألة على العنوان المزبور وجهاً.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله في مقام دفع كون المسألة فقهيّة : « علم الفقه متكفّل لبيان أحوال موضوعات خاصّة كالصّلاة والصّوم وغيرها ، والبحث عن وجوب كلّي المقدّمة التي لا تنحصر صدقها بموضوع خاصّ لا يتكفّله علم الفقه أصلاً » (٢).

وفيه : أنّه قد وقع الخلط بين العناوين الأوّليّة والعناوين الثانويّة ، لأنّ مثل عنوان مقدّمة الواجب كعنوان اطاعة الوالدين والوفاء بالنذر عناوين ثانويّة تتعلّق وتنطبق على مثل عنوان الصّلاة والحجّ الذي هو من العناوين الأوّليّة ، ولا فرق بين القسمين من العنوان إلاّفي أنّ أحدهما أوّلي والآخر ثانوي ويكون لكلّ منهما مصاديق كثيرة.

فمجرّد كون العنوان ذا مصاديق كثيرة لا يخرجها عن قسم المسائل الفقهيّة. إلاّ أن يرجع إلى ما نذكره عن قريب.

__________________

(١) وهو سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه‌الله فراجع نهاية الاصول : ص ١٤٢.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢١٣.

٣٤٢

والإنصاف أنّ هذه النزاعات والتطويلات قد نشأت من عدم التفكيك بين المسألة الاصوليّة والمسألة الفقهيّة وبين القاعدة الفقهيّة ، فإنّ المسألة من القواعد الفقهيّة وليست من المسائل الاصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة ، وسرّه يظهر بملاحظة ما ذكرنا في أوّل الاصول من معيار كون المسألة اصوليّة أو فقهيّة أو قاعدة فقهيّة ، فقد مرّ هناك : أنّ المسألة الاصوليّة هي القواعد التي لا تشمل على حكم شرعي بل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة العمليّة ، وإنّ المسألة الفقهيّة هي التي تبحث عن نفس الأحكام الفرعيّة الخاصّة والتكاليف الجزئيّة العمليّة في كلّ باب باب من أبواب الفقه المعدّة لعمل المقلّدين ، وأمّا القاعدة الفقهيّة فهي عبارة عن الأحكام الكلّية الفرعيّة التي تجري في جميع أبواب الفقه أو في أبواب عديدة من الفقه ، ولا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين مثل قاعدة « لا تعاد » التي تجري في جميع أبواب الصّلاة ، وقاعدة « لا حرج » التي تكون جارية في جميع أبواب الفقه ، فكلّ واحدة منهما تسمّى قاعدة لكونها كلّية ، وفقهيّة لكون الحكم فيها حكماً من الأحكام الفرعيّة الشرعيّة ( والمراد من الحكم هو الأعمّ من عقده الإثباتي والنفي فيشمل حتّى مثل مفاد قاعدة لا حرج الذي هو عبارة عن نفي الحكم لا الحكم نفسه ).

فظهر أنّ مسألة وجوب المقدّمة من القواعد الفقهيّة لأنّها حكم فرعي كلّي حتّى بناءً على عنوانها الآخر وهو ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته وعدمه ، لأنّ لازم وجود الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته إنّ المقدّمة واجبة بوجوب ذيها ، وعلى هذا لا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين ، فإنّه يحتاج إلى دقّة ونظر وإحاطة بامور لا يقدر عليها المقلّد ، كما في سائر القواعد الفقهيّة : فقد يكون وجوب المقدّمة معارضاً لحرمة ذاتيّة لا بدّ من ملاحظة الأرجح منهما كما في الدخول في الأرض المغصوبة لنجاة الغريق ، وقد يكون وجوب ذي المقدّمة مشروطاً إلى غير ذلك ممّا لا يسع المقلّد تشخيصها.

كما ظهر إلى هنا أنّه لا وجه لتغيير عنوان ذكره الأقدمون للمسألة إلى عنوان آخر ، والمسألة ليست لفظيّة كذلك ، فذكرها في باب الألفاظ استطّرادي كما أنّ ذكرها في علم الاصول مطلقاً كذلك.

٣٤٣

الجهة الثانية : في معنى الوجوب

لا إشكال في أنّ الوجوب في ما نحن فيه ليس بمعنى اللابديّة العقليّة ، لأنّه لا نزاع في وجوب المقدّمة عقلاً بهذا المعنى ، بل المراد منه الوجوب الشرعي الالهي وأنّه هل يكون العقل كاشفاً عن وجود الملازمة بين وجوب الشيء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك حتّى تكون نتيجتها وجوب المقدّمة شرعاً أو لا؟

كما أنّ المراد منه إنّما هو الوجوب الإجمالي الارتكازي بحيث لو إلتفت المولى إلى المقدّمة وتوقّف ذيها عليها حكم بوجوبها وجوباً تبعيّاً غيريّاً ، وليس المراد منه الوجوب تفصيلاً لعدم إلتفات المولى إليها غالباً.

الجهة الثالثة : في تقسيمات المقدّمة

قد ذكروا للمقدّمة تقسيمات عديدة :

الأوّل : تقسيمها إلى المقدّمة الداخليّة والمقدّمة الخارجيّة

والمراد من الداخليّة إنّما هي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها ، أي الأجزاء التي يتركّب منها المأمور به ، والمراد من الخارجيّة ما كان خارجاً عن المأمور به وكان له دخل في تحقّقه من الشرائط وعدم الموانع والمقتضى والأسباب.

ولكن قد يستشكل في كون الأجزاء مقدّمة للمأمور به بأنّ المقدّمة تجب أن تكون سابقة على ذي المقدّمة كما هو مقتضى تسميتها بها ، والأجزاء ليست هي سابقة عليه بل أنّها نفس ذي المقدّمة ، هذا ـ مضافاً إلى أنّ المقدّمة تجب أن تكون غير ذي المقدّمة ليترشّح الوجوب الغيري منه إليها على القول بالملازمة ، والأجزاء ليست مبائنة مع ذي المقدّمة بل هي عين ذي المقدّمة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله : بأنّ المقدّمة الداخليّة هي الأجزاء بما هي هي ولا بشرط ، وأمّا ذو المقدّمة أي الواجب فإنّما هو الأجزاء بشرط الاجتماع وإتّصال بعضها ببعض ، فتكون المقدّمة سابقة على ذيها ولو رتبة ، ومغايرة معه ولو اعتباراً.

ولكن يرد عليه : عدم كفاية التغيّر الاعتباري في المقام ، فإنّه أمر ذهني مجاله الذهن ،

٣٤٤

والمقدّمة وذو المقدّمة هما بمنزلة العلّة والمعلول في الخارج العيني ، ومجرّد المغايرة الذهنيّة غير كافٍ قطعاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى إمكان تصوّر المقدّمة الداخليّة وعدمه ، وقد ظهر أنّها أمر معقول يمكن تصوّرها.

ثمّ على فرض إمكان تصوّرها وقع البحث في أنّها هل هي داخلة في محلّ النزاع في المقام أو لا؟

واستدلّ لخروجها عنه بأنّ الأجزاء هي عين الكلّ خارجاً وإن تغايرا اعتباراً وحينئذٍ تجب الأجزاء بعين وجوب الكلّ ، غايته أنّه يجب الكلّ بوجوب نفسي استقلالي ويجب كلّ واحد من الأجزاء بوجوب نفسي ضمني ، أي في ضمن وجوب الكلّ ، ومن المعلوم أنّه بعد اتّصاف كلّ واحد من الأجزاء بالوجوب النفسي الضمني يكون اتّصافه بالوجوب الغيري لغواً بل غير ممكن عقلاً وذلك لامتناع اجتماع المثلين.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه‌الله : إنّ اجتماع الحكمين في شيء واحد لا يؤدّي إلى اجتماع المثلين بل يؤدّي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكّداً كما في الواجبين النفسيين مثل الظهر والعصر (١).

وأورد المحقّق العراقي ، على المحقّق النائيني رحمه‌الله : إنّ اندكاك أحد الوجوبين في الوجوب الآخر إنّما يصحّ في الواجبات فيما إذا كان ملاك أحدهما في عرض ملاك الآخر ، وليس كذلك مورد النزاع ، فإنّ ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء في طول ملاك الوجوب النفسي في الكلّ ، ومع اختلاف الرتبة يستحيل اتّحاد المتماثلين بالنوع (٢).

أقول : إنّ استحالة اجتماع المثلين بحكم العقل إنّما هو في الامور التكوينيّة الحقيقية لا الامور الاعتباريّة كما في ما نحن فيه ، فلا يلزم من اجتماع المثلين في المقام محذور غير اللغويّة.

وبالجملة : إنّ المستحيل عقلاً إنّما هو اجتماع البياضين أو البياض والسواد مثلاً في محلّ واحد لا اجتماع الوجوبين أو الوجوب والحرمة على شيء واحد كالصّلاة ( مثل صلاة الظهر الواجبة بنفسها وكمقدّمة لصلاة العصر فيوجب التأكّد ) وحينئذٍ لا مانع عقلاً من اجتماع وجوب نفسي

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢١٦.

(٢) بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣١٧.

٣٤٥

ووجوب غيري في الأجزاء.

والحقّ في المسألة أن يقال : إنّ وجوب الأجزاء ليس وجوباً مقدّمياً وإن فرضنا مقدّميتها للكلّ بنحو من التكلّف ، بل وجوب كلّ واحد منها وجوب ضمني فكأنّ الأمر بالكلّ انبسط على الأجزاء ، فكان كلّ جزء بعض المأمور به ، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الأمر المقدّمي الناشيء من الأمر بالكلّ ، فكما أنّ الحبّ المتعلّق مثلاً بدار أو كتاب أو طعام ينبسط على كلّ جزء جزء منها ويكون كلّ جزء بعض المحبوب ، كذلك الحال في الأمر بالصّلاة من ناحية المولى ، فالذي يتعلّق بجزء جزء من الصّلاة هو نفس ما يتعلّق بمجموعها ، ولا دليل على تعلّق إرادة اخرى بكلّ جزء غير الإرادة التي تعلّقت بالجميع حتّى يكون للأجزاء وجوب تبعي غيري غير الوجوب النفسي الضمني.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : في الشرائط ، فهل هي من المقدّمات الداخليّة أو الخارجيّة؟

لا إشكال في أنّ ذات الشرط خارج عن المأمور به وإن كان التقيّد به داخلاً ، كما اشتهر « التقيّد جزء والقيد خارجي » وذلك نظير المعجون الذي تركّب من أجزاء مختلفة وكان لاستعماله للمريض شرائط مثل أن يكون قبل الغذاء صباحاً وشبه ذلك ، فإنّ هذه الشرائط خارجة بذواتها عن المعجون ، ولكن تقيّد المعجون بها داخل فيه.

وبعبارة اخرى : إنّ استعماله مع تلك الشرائط يوجب عروض حالة وكيفية به ، والداخل في المعجون إنّما هو هذه الكيفية لا ذات الشرائط ، وهكذا الشرائط الشرعيّة في المخترعات الشرعيّة فانّ الوضوء مثلاً يوجب عروض وصف على المأمور به كوقوع الصّلاة حال الطهارة الحاصلة منه ، ويكون هذا الوصف داخلاً في المأمور به لا ذات الوضوء.

فظهر أنّ الشرائط إن لوحظت بذواتها فانّها تعدّ من المقدّمات الخارجيّة ، وإن لوحظ تقيّد المأمور به واتّصافه بها تكون من المقدّمات الداخليّة.

الأمر الثاني : في ثمرة البحث

وهي ممّا قلّ من تعرّض لها ولكن نقل في المحاضرات عن بعض الأعاظم رحمهم‌الله « أنّ الثمرة بين

٣٤٦

القول باتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتّصافها به في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بدعوى أنّه على القول الأوّل لا ينحلّ العلم الإجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ ، وذلك لأنّ مناط الانحلال هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل على كلّ تقدير ، وبما أنّ في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أنّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي ، والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي ، فلا انحلال في البين ، وعلى القول الثاني ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلّق بذات الأقلّ ( وهي المركّب من تسعة أجزاء مثلاً ) والشكّ البدوي في اعتبار أمر زائد ، وعندئذٍ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الزائد » (١).

أقول : إنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي الضمني سواء كانت متّصفة بالوجوب الغيري أيضاً أم لا ، فتجري البراءة عن الأكثر على أيّ حال : ولا صلة لها باتّصاف القدر المتيقّن من الأجزاء بالوجوب الغيري وعدم اتّصافه.

وإن شئت قلت : الوجوب الضمني ثابت على أيّ حال : وهو السبب للانحلال ، فوجود الوجوب الغيري وعدمه هنا سيّان.

هذا كلّه في التقسيم الأوّل للمقدّمة.

الثاني : تقسيمها إلى المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة

والعقليّة مثل العلّة بالنسبة إلى المعلول ، والشرعيّة مثل الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، والعاديّة كنصب السلّم للكون على السطح أو حفر البئر للوصول إلى الماء للوضوء والغسل ، والمهمّ في هذا التقسيم هو أن نعلم أنّ جميعها داخلة في محلّ النزاع أم لا؟ وأنّه هل يكون للتوقّف ( أي توقّف ذي المقدّمة على المقدّمة ) في جميع هذه الثلاثة معنى واحد ، أو يكون له في كلّ واحدة منها معنى على حده؟

والصحيح أنّ للتوقّف مفهوماً واحداً إلاّ أنّ الكاشف عنه تارةً يكون هو العقل واخرى الشرع وثالثة العادة ، كما أنّ الصحيح دخول جميعها في محلّ النزاع ، وذلك لأنّ المقدّمة الشرعيّة

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ص ٣٠١.

٣٤٧

والعاديّة ترجعان في الواقع إلى المقدّمة العقليّة ، والتفاوت بينهما أنّ الشرعيّة كشف عنها الشارع ، والعاديّة يكون ممّا لا بدّ منها بحسب العادة فهي من هذه الجهة عقليّة.

الثالث : تقسيمها إلى مقدّمة الوجوديّة ومقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم

وتعريف كلّ واحد منها واضح وكذلك مثاله الشرعي أو العرفي ، إنّما الكلام في دخول كلّ منها في محلّ النزاع وعدمه.

فلا إشكال في دخول إثنان منها فيه ، وهما مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة.

أمّا مقدّمة الوجود : فهي القدر المتيقّن منها ، حيث إنّ أصل النزاع في مقدّمة الواجب إنّما هو فيما يتوقّف على وجوده وجود ذي المقدّمة ، فكيف لا تكون مقدّمة الوجود داخلة فيه؟

وأمّا مقدّمة الصحّة : فلرجوعها إلى مقدّمة الوجود حتّى على القول بالأعمّ ، لأنّ الواجب والمأمور به بأمر المولى إنّما هو الصحيح من العمل ولا إشكال في توقّفه على مقدّمة الصحّة وإن لم يتوقّف المسمّى عليها كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

وأمّا مقدّمة الوجوب : فمن المعلوم خروجها عن محل النزاع ، إذ قبل تحقّق مقدّمة الوجوب لا وجوب للواجب حتّى يقع البحث في ترشّح الوجوب منه إلى مقدّماته ، وبعد تحقّقها لا معنى لترشّح الوجوب من الواجب إليها لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا مقدّمة العلم : فقد يقال أنّ وجوبها ليس من باب الملازمة وترشّح الأمر الغيري من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ، وذلك لعدم توقّف وجوب الواجب عليها كي يستقلّ العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف عليه وجوده ، بل المتوقّف عليها هو العلم بالواجب ، وذلك لإمكان حصول الواجب بدونها صدفة كما إذا غسل يده ولم يغسل شيئاً يسيراً ممّا فوق المرفق وقد صادف المقدار الواجب ، أو صلّى إلى إحدى الجهات الأربع ولم يصلّ إلى سائر الجهات وقد صادفت القبلة الواقعيّة ، وعليه ظهر أنّ وجوبها كان من باب استقلال العقل به تحصيلاً للأمن من العقوبة لا من باب الملازمة كما ظهر خروجها عن محلّ النزاع حتماً.

وببيان آخر : « لا شبهة في خروجها عن مورد البحث ، وذلك لأنّ الصّلاة التي وقعت إلى القبلة في المثال هي نفس الواجب وليست مقدّمة له ، وأمّا غيرها فهي مغايرة للواجب ولا

٣٤٨

تكون مقدّمة له وإنّما هي مقدّمة لحصول العلم بالواجب وفراغ الذمّة والأمن من العقاب » (١) ، هذا ما ذكره بعض الأعلام وهكذا غيره من سائر الأعلام ، فقد أرسلوا المسألة إرسال المسلّمات ، بل لم يعنونوها غالباً بزعم أنّ خروجها عن محلّ النزاع واضح.

ولكن مع ذلك كلّه فالحقّ عندنا أنّها داخلة في محلّ النزاع وذلك لرجوعها أيضاً إلى مقدّمة الوجود ، فإنّ المكلّف في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيان الواجب وإيجاده في الخارج إلاّ بإتيان جميع أطراف العلم الإجمالي كما أنّ المولى إذا أمر عبده مثلاً بجلب سارق اختفى في إحدى هذه البيوت العشرة والعبد يعلم إجمالاً بإختفائه فيها ، فلا إشكال في أنّ العبد ليس بقادر على جلب السارق إلاّبالبحث عنه في تلك البيوت ويعدّ عمله هذا عرفاً من مقدّمات امتثاله وإيجاد المأمور به في الخارج ، كذلك في الامور الشرعيّة ، فإنّ المكلّف بالصّلاة في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيانها إلاّبإيجادها إلى الجهات الأربع ، ويكون إتيان الصّلاة إلى جميع هذه الجهات مقدّمة للإتيان بالصّلاة المأمور بها في الخارج ، نعم قد تصادف الصّلاة الاولى للقبلة ولكن هذا أمر خارج عن اختيار المكلّف لا يتعلّق به التكليف ، ولذا لا يمكن للمولى أمره بخصوص ما يصادف في أوّل مرّة ، فلا يمكن تكليف العبد بتحصيل المأمور به إلاّ من طريق أربع صلوات. وبهذا يكون مردّ المقدّمة العلمية إلى مقدّمة الوجود ، أي أنها تعدّ مقدّمة العلم بلحاظ معيّن ومقدّمة الوجود بلحاظ آخر ، فتكون حينئذ داخلة في محلّ النزاع.

الرابع : تقسيمها إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر

والمقارن نظير القبلة والطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، والمتقدّم نظير عقد الوصيّة بالنسبة إلى ملك الموصى له ، والمتأخّر نحو الأغسال الليلية بالإضافة إلى صحّة صيام المستحاضة في اليوم الماضي عند بعض.

واستشكل في المتأخّر والمتقدّم بأنّ العلّة التامّة يجب عقلاً أن تكون مقارنة زماناً للمعلول وإن كانت مقدّمة عليه رتبة ، إذ لا يعقل التفكيك بينهما في الزمان ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنّا نشاهد أمثلة لهما في الشرع المقدّس كالأمثلة المزبورة كما نشاهدها في العرفيات نظير

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٣٠٣.

٣٤٩

ما إذا أمر المولى عبده بإستقبال زيد واعداده مقدّمات الاستقبال قبل قدومه من السفر ، فقدوم زيد في المستقبل شرط لوجوب الاستقبال وتهيئة مقدّماته في الحال ، ( هذا في المتأخّر ) ونظير ما إذا قال : إن جاءك زيد في يوم الخميس ففي يوم الجمعة يجب عليك اطعامه ( وهو في المتقدّم ) ، إذن لا بدّ لدفع الإشكال من توجيه لمثل هذه الموارد ، وقد تصدّى له المحقّق الخراساني ، ، وحاصل كلامه ببيان منّا : التحقيق في دفع هذا الإشكال أن يقال : إنّ الموارد التي توهّم انخرام القاعدة فيها لا تخلو : إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف ، أو للوضع ، أو للمأمور به ، أمّا إذا كان شرطاً للتكليف ( وكذلك الوضع ) فإنّ الإيجاب هو فعل من الأفعال الاختياريّة للمولى ، والشرط له ليس نفس المجيء السابق ( في المثال المتقدّم ) أو قدوم زيد في اللاحق كي يلزم تقدّم الشرط على المشروط أو تأخّره عنه ، بل هو نفس لحاظه وتصوّره ، وهو مقارن للايجاب ، وهكذا الأمر في الوضع ( كالوصيّة والصرف والسلّم في المتقدّم ، فالعقد سابق والملكيّة حاصلة عند الموت أو عند القبض ، وكالاجازة في العقد الفضولي في المتأخّر بناءً على الكشف ) فحكم المولى بالملكية فعل من أفعال الحاكم وليس شرطه نفس الاجازة المتأخّرة أو نفس الامور السابقة المعتبرة في الوصيّة والصرف والسلم للحكم ، بل الشرط هو نفس لحاظ تلك الامور وتصوّرها وهو مقارن للحكم بالوضع.

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّه كيف يمكن أن يكون اللحاظ دخيلاً في تكليف الآمر مع أنّ لازمه دخله في حصول المصلحة؟ ولا معنى له ، لأنّ اللحاظ والتصوّر مرآة للمصلحة التي توجد في الخارج وكاشف عنها ، فكيف يكون دخيلاً في إيجادها؟ فإنّ المولى يأمر بالاستقبال مثلاً لوجود مصلحة في مجيء زيد تؤثّر في إيجاب المولى بوجودها الواقعي لا بوجودها اللحاظي التصوّري ، كما أنّه كذلك في الامور التكوينيّة ، فإنّ العلّة لصناعة السرير مثلاً والداعي إليه إنّما هو المصالح الواقعيّة التي تترتّب عليها بوجودها الخارجي لا بوجودها الذهني.

وإن شئت قلت : علّة الحكم حقيقة هي إرادة المولى ولكن الداعي إليه هو المصالح الموجودة في الفعل خارجاً.

ثانياً : أنّه عمّم الإشكال إلى الشرط المتقدّم ، وهو خطأ جدّاً لأنّ استحالة التكفيك بين العلّة والمعلول تتصوّر بالنسبة إلى الجزء الأخير من العلّة لا سائر الأجزاء حيث إنّ شأن سائر

٣٥٠

الأجزاء شأن المعدّات في العلل الخارجيّة وتكون غالباً مقدّمة على وجود المعلول زماناً كوجود الحطب والآلة المحرقة في الإحراق.

ثالثاً : يمكن النقاش في بعض الأمثلة المذكورة في كلامه أيضاً كمثال العقد في الوصيّة والصرف والسلم حيث إنّ العقد بالنسبة إلى الملكيّة المتأخّرة فيها ليس من الشروط المتقدّمة لأنّه بوجوده الإنشائي مقارن لها وإن صارت الألفاظ معدومة حين صدور الإنشاء.

والأولى أن يقال : إنّ مقامنا هذا أيضاً يكون من موارد الخلط بين الامور التكوينيّة والامور الاعتباريّة ، فإنّا قد ذكرنا كراراً أنّ الأحكام الشرعيّة امور اعتباريّة لا واقع لها إلاّ اعتبار الشارع ولا صلة لها بالقواعد الحاكمة على الوجودات التكوينيّة الخارجيّة. وقضيّة استحالة التفكيك بين العلّة والمعلول تختصّ بالتكوينيات ، وأمّا الاعتباريات فأمر وضعها ورفعها وجعل الشرائط فيها مقارنة أو متأخّرة أو متقدّمة إنّما هو بيد الشارع المعتبر ، ولا يكون الشرط المعتبر فيها من مصاديق العلّة والسبب حتىّ يستلزم من تأخيره أو تقديمه محذوراً عقلاً ، فإنّ الشارع كما يمكن له اعتبار شرط مقارن للواجب يمكن له اعتبار شرط متقدّم عليه أو متأخّر عنه.

إن قلت : إنّ للشرائط الشرعيّة دخلاً في تحقّق المصالح المترتّبة على الواجبات ، ولا إشكال في أنّها مصالح واقعية تكوينيّة ، إذن كيف يمكن أن يؤثّر شرط اعتباري متأخّر في مصلحة تكوينيّة متقدّمة؟

قلنا : إنّ المصالح التكوينيّة المترتّبة على الواجبات الشرعيّة الاعتباريّة إنّما تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الواجب الاعتباري بجميع أجزائه وشرائطه المقارنة والمتأخّرة والمتقدّمة ، فمصلحة صيام المستحاضة مثلاً تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الصّيام بجميع شرائطه ومنها الغسل الليلي المتأخّر ولم يدّع أحد تحقّق المصلحة بمجرّد تحقّق الشرط المتقدّم أو المتأخّر فحسب ( أي يكون الشرط المتقدّم أو المتأخّر بمجرّده علّة في وجود المصلحة ) حتّى يلزم التفكيك بين العلّة والمعلول.

توضيح ذلك : إنّ منشأ عبادات الشرعيّة أنّها تعبّر عن نهاية الخضوع للشارع المقدّس ، وحينئذٍ نقول : كما أنّ الاحترامات العرفيّة كالقيام عند ورود الوالدين أو الاستاذ أو المولى وكالسلام والتحيّة إذا إشترطت بشروط متأخّرة ـ تنتزع منها عناوينها الخاصة وتترتّب

٣٥١

عليها مصالحها الواقعيّة ـ فيما لو تحقّقت تلك الشروط في ظرفها ، كذلك العبادات الشرعيّة حيث ينتزع منها هذا العنوان وتترتّب عليها مصالحها الخاصّة بعد تحقّق جميع الأجزاء والشرائط ، فقبل تحقّق الشرط المتأخّر لا تتحقّق مصلحة حتّى يستلزم انخرام قاعدة العلّية.

وما قد يقال : من « أنّ الاعتبار ليس مجرّد لقلقة اللسان بل للاعتبار واقع ، غايته أنّ واقعها عين اعتبارها ، وبعد اعتبار شيء شرطاً لشيء وأخذه مفروض الوجود في ترتّب الحكم عليه كما هو الشأن في كلّ شرط كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه » (١)

يدفعه : أنّه من قبيل قياس الشرائط الشرعيّة بالشرائط التكوينيّة ، فإنّ أخذ الشرط مفروض الوجود في ترتّب الأثر إنّما هو في التكوينيات لا في الاعتباريات كما هو ظاهر ، فلا مانع من جعل المتأخّر شرطاً في الاعتباريات.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله ذهب إلى امتناع الشرط المتأخّر وأنّه يؤول إلى الخلف والمناقضة ، وحاصل كلامه : أنّ القضايا في الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقية والمجعول الشرعي في القضايا الحقيقية لو قلنا بأنّه هي السببيّة دون المسبّبات عند وجود أسبابها لكان تأخّر الشرط عن المشروط به من تأخّر العلّة عن معلولها حقيقة ، وهو واضح الاستحالة ، وإذا قلنا بأنّ المجعول الشرعي هو نفس المسبّب وانما تنتزع السببيّة من جعل المسبّبات عند امور خاصّة كما هو الحقّ فلابدّ من أن يكون نسبة الشرائط إلى الأحكام نسبة الموضوعات إليها فكما يمتنع وجود المعلول قبل وجود علّته للزوم الخلف والتناقض ، كذلك يمتنع وجود الحكم قبل وجود موضوعه المقدّر وجوده في مقام الجعل (٢).

وفيه : أنّه سيأتي في البحث عن الواجب المشروط أنّ الشرائط لا ترجع إلى قيود الموضوع بل أنّها من شرائط الحكم نفسه ومن قيوده ، فانتظر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ إمكان الشرط المتأخّر أو المتقدّم عقلاً في الامور الاعتباريّة خلافاً للمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه‌الله.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ جميع الشروط المذكورة في هذا التقسيم إنّما هي داخلة في محلّ

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٨١.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٢٢٥.

٣٥٢

النزاع فيما إذا كانت شروطاً للمكلّف به لا التكليف كما لا يخفى فيحكم بوجوبها بناءً على وجوب المقدّمة.

هذا كلّه في الجهة الثالثة.

الجهة الرابعة : في تقسيمات الواجب

ينقسم الواجب أيضاً إلى تقسيمات عديدة :

الأوّل : تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط

وهو من أهمّ مسائل مبحث مقدّمة الواجب ، والواجب المطلق نظير الصّلاة بالنسبة إلى الوضوء مثلاً ، والمشروط نظير الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة.

وأمّا تعريف كلّ واحد منهما فقال المحقّق الخراساني ، : قد ذكر لكل منهما تعاريف وحدود ، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود ، وربّما اطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض على الطرد والعكس مع أنّها كما لا يخفى تعريفات لفظيّة لشرح الاسم وليست بالحدّ ولا بالرسم.

ثمّ قال : والظاهر أنّه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط ، بل يطلق كلّ منهما بما له من معناه العرفي ، كما أنّ الظاهر أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان وإلاّ لم يكد يوجد واجب مطلق ، ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الامور ، لا أقلّ من الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل.

أقول : إنّ كلامه مقبول عندنا بتمامه إلاّما مرّ كراراً من قوله بأنّ التعاريف التي تذكر لموضوعات علم الاصول هي من قبيل شرح الاسم ، فقد مرّ أيضاً في جوابه أنّ هذا لا يلازم كون القوم أيضاً في مقام شرح الاسم فقط بل إصرارهم على ذكر قيود للتعريف لأن يصير جامعاً ومانعاً ، وكذلك مناقشات كلّ واحد منهم في سائر التعاريف بعدم الطرد أو العكس والدفاع عمّا ذكره ـ بنفسه من أوضح الشواهد على أنّهم في مقام ذكر تعاريف حقيقية للموضوعات المختلفة كما هو واضح ، مضافاً إلى أنّ ما يفيد المبتدىء في هذه الأبحاث هو

٣٥٣

التعريف الجامع للأفراد والمانع عن الأغيار ، نعم التعاريف شرح الاسمية إنّما تفيد اللغوي لا المدقّقون في الأبحاث العلمية كما هو ظاهر.

رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة :

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هيهنا بحثاً له أهمية خاصّة ، وهو أنّ القيود المأخوذة في لسان الأدلّة بعنوان الشرط أو غيره هل هي حقيقة راجعة إلى الهيئة أو المادّة؟ مع تسالم الكلّ على أنّ ظاهر القضيّة الشرعيّة رجوعها إلى الهيئة بل هو معنى الاشتراط وتعليق الجزاء على الشرط ، فمعنى « إن جاءك زيد فأكرمه » مثلاً أنّ وجوب الإكرام مقيّد بمجيء زيد ومعلّق عليه بل قد اعترف بهذا الظهور العرفي من هو مخالف للمشهور في المسألة وهو الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله ، إلاّ أنّه يقول : لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور ( لمحذور عقلي ) وإرجاع القيد إلى المادّة فيكون معنى قولك « إن استطعت يجب عليك الحجّ » حينئذٍ « أنّه يجب عليك من الآن إتيان الحجّ عند تحقّق الاستطاعة » فيكون القيد وهو الاستطاعة في المثال من قيود الواجب ، مع أنّ ظاهر القضيّة أنّه من قيود الوجوب ، نعم أنّه يقول : فرق بين قيد الواجب الذي يستفاد من القضيّة الشرطيّة وسائر قيود الواجب ، فيجب تحصيل القيد وإيجاده في الخارج في الثاني دون الأوّل قضاء لحقّ القضيّة الشرطيّة.

واستدلّ لمقالة الشّيخ الأعظم رحمه‌الله أو يمكن أن يستدلّ لها بامور :

الأمر الأوّل : أنّ مفاد الهيئة من المعاني الحرفيّة ، وقد قرّر في محلّه أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاصّ ، أي المعنى الحرفي جزئي حقيقي ، ومن البديهي أنّ الجزئي لا يقبل التقييد والإطلاق.

وببيان آخر : أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بأسرها ، ولو لم يكن الجميع كذلك فلا أقلّ من خصوص مفاد هيئة الأمر ، أي الطلب ، فلا إشكال في كونه إيجاديّاً ، والمعنى الإيجادي جزئي حقيقي ، فإنّ الإيجاد هو الوجود ، ولا ريب في أنّ الوجود الخارجي عين التشخّص والجزئيّة فلا يقبل التقييد والإطلاق.

ولكن يرد عليه : أنّه قد مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة أنّ كون الموضوع له خاصّاً ليس معناه كونه جزئيّاً حقيقيّاً بل أنّه بمعنى الجزئي الإضافي ، فمعنى الابتداء في قولنا : « سر من

٣٥٤

البصرة إلى الكوفة » مثلاً كلّي تتصوّر له أفراد كثيرة بملاحظة وجود بوّابات كثيرة مثلاً للبصره أو الكوفة وأمكنة متعدّدة لابتداء السير ، فالامتثال لهذا الْامر له مصاديق كثيرة ، وكلّ ما كان له مصاديق كثيرة كان كلّياً.

وأمّا كونها إيجاديّة وأنّ الإيجاد جزئي حقيقي فيمكن الجواب عنه أيضاً بأنّه كذلك ، أي يكون الإيجاد جزئيّاً حقيقيّاً ، ولكن البحث هنا ليس بحثاً عن التقييد بمعنى التضييق والتخصيص بل أنّه بحث عن التقييد بمعنى التعليق ، وسيأتي في الوجه الرابع أنّ أحدهما غير الآخر حيث إنّ التعليق إيجاد على فرض ، فيمكن تعليق الإيجاد أو الوجود على شيء مفروض الوجود وإن لم يمكن تقييده ، فلا مانع مثلاً من تعليق وجود إكرام زيد ولو بنحو خاصّ على مجيئه وإن كان جزئيّاً حقيقياً.

الأمر الثاني : ما يستفاد من كلمات بعض الأعاظم من أنّ المعنى الحرفي وإن كان كلّياً إلاّ أنّه ملحوظ باللحاظ الآلي ولا يلحظ استقلالاً حتّى يمكن تقييده ، حيث إنّ التقييد أو الإطلاق من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي (١).

ويرد عليه : أيضاً إنّا لم نقبل في محلّه كون المعاني الحرفيّة معاني مرآتيّة آليّة بمعنى المغفول عنها ، بل قد ذكرنا هناك أنّه ربّما يكون المعنى الحرفي أيضاً مستقلاً في اللحاظ بهذا المعنى ويكون تمام الالتفات والتوجّه إليه كما إذا قلت : هل الطائر في الدار أو على الدار؟ ومرادك السؤال عن « الظرفيّة » و « الاستعلاء » في مثل الطائر الذي تعلم بوجود نسبة بينه وبين الدار ، لكن لا تدري أنّ هذه النسبة هي الظرفيّة أو الاستعلاء.

نعم ، إنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الخارجي والذهني ، ولا إشكال في أنّ التبعيّة في الوجود لا تلازم كون المعنى الحرفي مغفولاً عنه ، فقد وقع الخلط هنا بين التبعيّة في الوجود الذهني وعدم قيام المفهوم بنفسه وبين الغفلة عنه مع أنّ بينهما بون بعيد.

الأمر الثالث : لزوم اللغويّة حيث أنّه إذا كان الوجوب استقبالياً فلا ثمرة للايجاب والإنشاء في الحال ، وبعبارة اخرى : إذا لم يكن المنشأ طلباً فعليّاً يكون الإنشاء لغواً.

والجواب عنه واضح : لأنّ المفروض أنّ أحكام الشارع أحكام كلّية تصدر على نهج

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٣١.

٣٥٥

القضايا الحقيقية وشاملة لجميع المكلّفين الواجدين منهم للشرائط المذكورة فيها وغيرهم ، فوجوب الحجّ مثلاً يشمل المستطيع فعلاً ومن سيستطيع ، وعندئذٍ لا بدّ من صدور الخطاب بشكل القضيّة الشرطيّة حتّى يكون فعليّاً بالنسبة إلى من كان الشرط محققاً له الآن ، واستقبالياً بالنسبة إلى من يحصل الشرط له فيما بعد ، أي يكون الخطاب الواحد بالنسبه إلى بعض فعليّاً وبالنسبة إلى آخر مشروطاً تقديريّاً ، والغفلة عن هذه الحقيقة أوجبت الإيراد باللغويّة.

أضف إلى ذلك أنّه ربّما يلزم تقديم الإنشاء لمراعاة حال المكلّف ولو كان الإنشاء شخصيّاً لكي لا يواجه التكليف فجأةً بل يكون على ذكر منه فيهيّء نفسه للامتثال ، أو مراعاة حال نفسه فلا يكون بحاجة إلى خطاب جديد مثلاً ، فلعلّه لا يتمكّن في ذلك الوقت من الإيجاب والإنشاء ( وهذا ما يجري حتّى في القضايا الشخصيّة فضلاً عن الحقيقية الكلّية ) إلى غير ذلك من المصالح.

الأمر الرابع : أنّ الإنسان إذا توجّه إلى شيء وإلتفت إليه فلا يخلو : إمّا أن يطلبه أم لا ، ولا ثالث في البين ، لا كلام على الثاني ، وعلى الأوّل لا يخلو من أنّ الفائدة إمّا أن تقوم بطبيعي ذلك الشيء من دون دخل خصوصيّة من الخصوصيّات فيها ، أو تقوم بحصّة خاصّة منه ، وعلى الأوّل فطبيعي أن يطلبه المولى على إطلاقه وسعته ، وعلى الثاني يطلبه مقيّداً بقيد خاص ، وهذا القيد ، تارةً يكون اختياريّاً واخرى غير اختياري ، وعلى الأوّل تارةً يكون مورداً للطلب والبعث ، وذلك كالطهارة مثلاً بالإضافة إلى الصّلاة ، واخرى لا يكون كذلك بل أخذ مفروض الوجود ، وذلك كالإستطاعة بالإضافة إلى الحجّ ، وعلى الثاني أي فرض كونه غير اختياري فهو لا محالة أخذ مفروض الوجود في مقام الطلب والجعل لعدم صحّة تعلّق التكليف به ، وكزوال الشمس بالإضافة إلى وجوب الصّلاة ، وعلى جميع التقادير فالطلب فعلي ومطلق ، والمطلوب مقيد من دون فرق بين كونه اختياريّاً أو غير اختياري ، ونتيجته رجوع القيد بشتّى ألوانه إلى المادّة.

ويرد عليه : أيضاً أنّ الاحتمالات لا تنحصر في ما ذكر ، والحصر ليس بحاصر ، بل هنا احتمال آخر لم يشر إليه المستدلّ في كلامه ، حيث إنّ الإنسان إذا إلتفت إلى شيء فإمّا أن لا يطلبه مطلقاً فلا كلام فيه ، وإمّا أن يطلبه مطلقاً أي لا يكون طلبه مشروطاً بشيء ومعلّقاً على

٣٥٦

شيء ، ( وإن كان مطلوبه مقيّداً بشيء أحياناً ) وإمّا أن يكون طلبه معلّقاً على شيء فهو لا يطلب ولا يبعث إلاّبعد حصول ذلك الشيء كالإستطاعة ، وما ذكره من الصور العديدة إنّما هي من شقوق القسم الأوّل ( أي ما إذا كان طلبه مطلقاً ) ، وأمّا القسم الأخير فلم يأت به في كلامه ( وإن أتى بمثاله وهو الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة والصّلاة بالنسبة إلى دلوك الشمس ) حيث إنّ كلامه في تقسيمات الواجب والمطلوب لا في تقسيمات الوجوب والطلب ، والقسم الأخير أي التعليق في الطلب هو المراد من الواجب المشروط عند المشهور ، وسيأتي بيان ماهيته.

الأمر الخامس : أنّ رجوع الشرط إلى الهيئة دون المادّة يوجب تفكيك الإنشاء عن المنشأ ، فالإنشاء يكون فعليّاً والمنشأ وهو وجوب الإكرام في مثال « إن جاءك زيد فأكرمه » يكون استقبالياً حاصلاً بعد المجيء ، وهذا غير معقول بل هو أسوأ حالاً من تفكيك العلّة عن المعلول حيث إنّ العلّة والمعلول أمران واقعيان ، ويكون الواقع فيهما متعدّداً ، بخلاف الإنشاء والمنشأ أو الإيجاد والوجود أو الإيجاب والوجوب فإن الواقع فيهما واحد يكون إنشاءً أو إيجاداً أو إيجاباً إذا نسب إلى الفاعل ، ويكون منشأً أو وجوداً أو وجوباً إذا نسب إلى القابل.

وقد اجيب عنه بوجوه :

الوجه الأوّل : ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الإنشاء حيث تعلّق بالطلب التقديري ، فلابدّ أن لا يكون الطلب حاصلاً فعلاً قبل حصول الشرط وإلاّ لزم تخلّف الإنشاء عن المنشأ.

وبعبارة اخرى : أنّ الطلب في الواجب المشروط تقديري ، ولازمه عدم فعلية الطلب والإنشاء ، فلو كان الطلب فعليّاً يستلزم الخلف.

ولكن الإنصاف أنّه لا يندفع به الإشكال بل هو أشبه بالمصادرة ، لأنّ الكلام في إمكان هذا النحو من الإنشاء بالوجدان مع أنّ الإنشاء هو الإيجاد ، والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم ، فإمّا وجد الإنشاء أو لم يوجد ولا ثالث له حتّى يسمّى بالإنشاء التقديري.

الوجه الثاني : ما أفاده بعض الأعلام وهو مبني على ما اختاره في المعاني الحرفيّة ( من أنّ الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل ) ، فإنّه قال : « الصحيح أن يقال أنّه لا مدفع لهذا الإشكال بناءً على نظرية المشهور من أنّ الإنشاء

٣٥٧

عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ضرورة عدم إمكان تخلّف الوجود عن الإيجاد وأمّا بناءً على مختارنا ( وهي ما مرّ آنفاً ) فيندفع الإشكال المذكور من أصله » (١).

أقول : وقد بني على هذا المبنى في معنى الإنشاء نتائج كثيرة في علم الاصول :

أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان حيث إنّ الوجدان حاكم بأنّ البائع مثلاً في قوله « بعت » إنّما يكون في مقام إيجاد شيء في عالم الاعتبار لا الأخبار عن اعتبار موجود في نفسه.

وثانياً : أنّ لازمه تطرّق احتمال الصدق والكذب في الإنشاء كالاخبار ( حيث إنّ الإبراز المذكور في كلامه لو كان مطابقاً لما في ضمير المبرز فهو صادق وإلاّ كان كاذباً ) وهو ممّا لا يلتزم به أحد.

وثالثاً ـ وهو العمدة ـ أنّ الإنشاء إيجاد في عالم اعتبار العقلاء والقوانين العقلائيّة ( لا في عالم الخارج ولا في عالم الذهن ) فتوجد بقول البائع « بعت » ملكيّة قانونيّة في عالم الاعتبار في مقابل الملكيّة الخارجيّة والسلطنة الخارجيّة على الأموال ، وبعبارة اخرى : كانت الملكيّة والسلطة في أوّل الأمر منحصرة عند العقلاء في السلطة الخارجيّة ثمّ أضافوا إليها قسماً آخر من السلطة وهي السلطة القانونيّة واعتبروا لايجادها أسباباً لفظيّة وغيرها ، فما ذكره من أنّ « الإيجاد في عالم الخارج لا معنى له ، وفي عالم النفس لا يحتاج إلى الإنشاء اللّفظي » مدفوع بأنّه إيجاد في وعاء اعتبار العقلاء بالتوسّل بأسبابها.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ ما ذكره لا يتصوّر بالنسبة إلى بعض أنواع الإنشاء مثل النداء والإشارة فإنّه لا معنى لوجود شيء في نفس المنادي أو المشير بإسم النداء والإشارة بل الموجود قبل التلفّظ بأداة النداء أو الإشارة إنّما هو إرادة النداء أو الإشارة فحسب ، وأمّا نفس النداء أو الإشارة فإنّما توجد بأداتها مع نيّتها.

وبهذا يظهر أنّ الحقّ في حقيقة الإنشاء إنّما هو مذهب المشهور من أنّه إيجاد لا إخبار.

الوجه الثالث : ما أفاده في تهذيب الاصول وإليك نصّ كلامه : « إنّ الخلط نشأ من إسراء حكم الحقائق إلى الاعتبارات التي لم تشمّ ولن تشمّ رائحة الوجود حتّى يجري عليه أحكام الوجود ، ولعمري أنّ ذلك هو المنشأ الوحيد في الاشتباهات الواقعة في العلوم الاعتباريّة إذ

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٢ ، ص ٣٢٣.

٣٥٨

الإيجاد الاعتباري لا مانع من تعليقه ، ومعنى تعليقه أنّ المولى بعث عبده على تقدير وإلزام ، وحكم شيئاً عليه لو تحقّق شرطه ، ويقابله العدم المطلق أي إذا لم ينشأ ذلك على هذا النحو » (١).

أقول : إنّا لا ننكر ما يقع كثيراً مّا من الخلط بين الامور التكوينيّة والاعتباريّة وما يترتّب عليه من الإشكالات الكثيرة ، وما أكثرها في الفقه والاصول ، ولكن هذا ليس بمعنى عدم حكومة ضابطة في الاعتباريات مطلقاً ، والسرّ في ذلك والنكتة التي صارت مغفولاً عنها في المقام هي أنّه فرق بين المعتبر والاعتبار ، وإنّ ما يكون من الامور الاعتباريّة إنّما هو المعتبر ، وأمّا نفس الاعتبار فهو أمر تكويني ومحكوم للقوانين الحاكمة على التكوينيات ، فاعتبار الوجوب وإيجاده أمر تكويني دائر أمره بين الوجود والعدم ولا يتصوّر شيء ثالث بينهما ، ومجرّد تسمية شيء باسم الوجود التقديري أو المعلّق مصادرة إلى المطلوب ولا يرفع المحذور في المسألة ، ولذا لا يجتمع الاعتبار في زمان معيّن مع عدمه لعدم جواز الجمع بين النقيضين ، ومن هذا الباب ما نحن بصدده وهو أنّ الإيجاد الاعتباري لا معنى لكونه معلّقاً على شيء.

أضف إلى ذلك أنّ مسألة الوجود المعلّق والاشتراط بالقضيّة الشرطيّة لا تختصّ بالاعتباريات حتّى يكون مفتاح حلّ المشكل في اعتباريّة المسألة ، بل تتصوّر أيضاً في الامور التكوينيّة كما في قولك : « إن طلعت الشمس فالنهار موجود » فوجود النهار الذي صار معلّقاً على طلوع الشمس ليس من الاعتباريات كالملكية ، فهو إمّا موجود في الخارج أو ليس بموجود ولا ثالث بينهما فيعود الإشكال.

المختار في مسألة الواجب المشروط

الوجه الرابع : ما يعتبر حلاً نهائيّاً في المسألة ، وهو عبارة عن تحليل معنى الاشتراط والتأمّل في حقيقة مفهوم « إن » الشرطيّة وما يسمّى في اللّغة الفارسيّة بـ « اگر » ، فنقول لا إشكال في أنّ مفاد كلمة « إنّ » ( اگر ) يساوق معنى كلمة « افرض » أي أن الإنسان يفرض أوّلاً وجود شيء في الخارج ثمّ يحكم عليه بحكم ويرتّب عليه آثاراً ، فيفرض مثلاً طلوع الشمس أوّلاً ثمّ يرتّب عليه وجود النهار ، فالقضية الشرطيّة حينئذٍ عبارة عن حكم على فرض.

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦ ، طبع مهر.

٣٥٩

توضيح ذلك : الإنسان تارة ينظر ويرى أنّ الشمس قد طلعت فيحكم بأنّ الشمس طالعة من غير شرط ، واخرى يكون الناظر في ظلمات الليل ولكن يفرض وجود الشمس ثمّ يحكم بوجود النهار في وعاء فرض وجود الشمس فيقول : « إن طلعت الشمس فالنهار موجودة » ، وكذلك في الإنشائيات.

وبعبارة اخرى : إنّ للإنسان في أحكامه الإخباريّة والإنشائيّة حالتين ، فتارةً يكون مطلوبه في الإنشائيات أو ما يخبر عنه في الإخباريات موجوداً في عالم الخارج بالفعل ، فيبعث إليه أو يخبر عنه من دون قيد وتعليق ، واخرى لا يكون موجوداً في الخارج فيفرض وجوده أوّلاً ثمّ يحكم عليه إخباراً أو إنشاءً.

إن قلت : على أيّ حال : هل وجد شيء في الخارج من ناحية حكمه أو لم يوجد؟

قلنا : قد وجد شيء في الخارج ولكن معلناً على فرض ، نظير ما إذا كانت أُمّ تعيش في فراق ولدها فتتصوّر مجيء ولدها فتحنّ إليه وتسيل دموعها من شوق لقائه ، فإنّ سيلان دمعها وبكاؤها أمر تكويني موجود في الخارج ولكن بعد فرضها وتصوّرها مجيء ولدها ، ونظير ما إذا تصوّر المولى عطشه وإشتاقت نفسه بعد ذلك الفرض والتصوّر إلى الماء ، فأمر عبده بقوله « إذا كنت عطشاناً فاسقني » فإشتياقه إلى الماء ثمّ بعثه إلى إتيان الماء وجد في الخارج ولكنه مترتّب على فرضه عطشه ، فطلبه وبعثه متوقّف على هذا الفرض ، وحيث إنّه فرض ولا وجود له في الخارج فعلاً فيمكن أن يقال بأنّه لا إيجاب ولا وجوب كما ذهب إليه المشهور.

وبعبارة اخرى : الوجوب وجد بالإيجاب ولكن متأخّراً عن فرض ومعلّقاً على تقدير موجود في عالم الذهن ولا عالم الخارج ، لأنّ المفروض أنّ الفرض ليس بإزائه شيء في الخارج حين الفرض.

والحاصل : أنّ هذا الإيجاب موجود من جهة وغير موجود من جهة ، فهو موجود بعد فرض وجود الشرط في افق الذهن وغير موجود من دون هذا الفرض.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مآل القضايا الحقيقية إلى قضايا شرطيّة حيث إنّها صادقة حتّى مع عدم وجود ما أخذ بعنوان الموضوع فيها حين صدورها وجعلها ، فقضيّة « النار

٣٦٠