أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الفصل السابع

في المرّة والتكرار

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث من تقديم أمرين :

الأمر الأوّل : في تعيين محلّ النزاع ، فهل هو مادّة الأمر أو هيئته؟

ذهب بعض ( وهو صاحب الفصول ) إلى أنّ النزاع في الهيئة فقط ، لأنّ المادّة هي المصدر بدون الألف واللام وهي تدلّ على صرف الطبيعة فقط بالاتّفاق.

ولكن أورد عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلاّعلى الماهية ( على ما حكاه السكّاكي ) لا يوجب كون النزاع هيهنا في الهيئة ( فقط ) كما في الفصول ، فإنّه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتّفاق على أنّ مادّة الصيغة لا تدلّ إلاّعلى الماهية ، ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات بل هو صيغة مثلها ، كيف وقد عرفت في باب المشتقّ مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى ، فكيف يكون مادّة لها بمعناه؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّته ( أيضاً ) كما لا يخفى.

أقول : نعم ، يمكن حصر محلّ النزاع في الهيئة ولكن ببيان آخر ، وهو أنّ المرّة والتكرار من خصوصّيات الطلب الذي هو مفاد للهيئة كما أنّ الوجوب والاستحباب والفور والتراخي أيضاً من شؤون الطلب وهو مفاد للهيئة.

الأمر الثاني : قد يقال بأنّ هذه المسألة مرتبطة بمسألة الإجزاء ، فعلى القول بالاجزاء يدلّ الأمر على المرّة ، وعلى القول بعدمه يدلّ على التكرار.

ولكن الحقّ أنّه لا ربط بين المسألتين ، لأنّ الإجزاء عبارة عن إتيان المأمور به على وجهه ، فلو كان المأمور به إتيان العمل مرّة فإتيانه كذلك يوجب الإجزاء ، ولو كان المأمور

٣٠١

به إتيانه مكرّراً فإتيانه مكرّراً يوجب الإجزاء ، فمسألة الإجزاء تكون في طول هذه المسألة ومتأخّرة عنها ، إذا عرفت هذين الأمرين فلنرد في أصل المسألة.

فنقول : المشهور بين المتأخّرين أنّ هيئة الأمر لا يدلّ على المرّة والتكرار بل يدلّ على صرف الطبيعة فقط غاية الأمر أنّها تحصل بفرد واحد.

والوجه في دلالتها على مجرّد الطبيعة هو التبادر فالمتبادر من قوله : « اغتسل » إنّما هو طلب طبيعة الغسل التي تحصل بإتيان مصداق واحد ونتيجته هو المرّة.

هذا ما استحسنه القوم وتلقّوه بالقبول ، ولكن الصحيح عندنا أنّها تدلّ على المرّة ولكن لا بالدلالة اللّفظيّة بل من باب مقدّمات الحكمة ، لأنّ المولى كان في مقام البيان ، فلو كان مطلوبه إتيان الطبيعة أكثر من مرّة واحدة لكان عليه البيان ، لأنّ القدر المتيقّن من مدلول اللفظ إنّما هو المرّة ، وإمّا التكرار فهو يحتاج إلى مؤونة زائدة ، وحيث إنّ المفروض كون المولى في مقام البيان ولا إهمال في مقام الثبوت ( لأنّ المولى إمّا أن أراد المرّة أو أراد التكرار ) ومع ذلك لم يأت في مقام الإثبات بما يدلّ على التكرار فنستكشف أنّ مطلوبه إنّما هو إتيان العمل مرّة.

نعم ، هيهنا امور لا بدّ من بيانها :

الأمر الأوّل : في ما نلاحظه من الفرق بين الأمر والنهي وإنّ الأمر يكفي في امتثاله إتيان فرد واحد بينما النهي لا بدّ لامتثاله من ترك جميع الأفراد مع أنّ المتعلّق في كليهما أمر واحد وهو الطبيعة ، والطبيعي موجود بوجود أفراده ، ونسبة الطبيعي إلى أفراده هي نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة أب واحد إلى الأبناء ، فكما أنّه يتحقّق بفرد واحد منه وبصرف وجوده في الأمر فليتحقّق تركه أيضاً بصرف تركه ولو بترك فرد واحد مع أنّه ليس كذلك بل لا بدّ في النهي من ترك جمع أفراد الطبيعي. فمن أين نشأ هذا الفرق؟

وقد اجيب عن هذا السؤال بوجوه عديدة :

الوجه الأوّل : أنّ الفرق يرجع في الحقيقة إلى خصوصيّة الوجود والعدم فإنّ وجود الطبيعة يتحقّق بوجود فرد واحد ، وأمّا عدمها فلا يتحقّق إلاّبترك الجميع.

ولكن يرد عليه : أنّ التحقيق كون العدم بديلاً للوجود فكما يتصوّر لوجود الطبيعة أفراد كثيرة كذلك يتصوّر لعدم الطبيعة اعدام كثيرة ، فإنّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأبناء كما مرّ آنفاً من دون فرق بين الوجود والعدم ، فكما أنّ وجود زيد يكون عين وجود

٣٠٢

طبيعي الإنسان ـ كذلك عدم زيد يكون عين عدم طبيعي الإنسان.

الوجه الثاني : أنّ متعلّق الأمر والنهي كليهما إنّما هو الطبيعة السارية في جميع الأفراد ولكن حيث إنّه لا يمكن الإتيان بجميع الأفراد ( بينما يمكن ترك جميعها ) وليس هناك قرينة على عدد معيّن فهذا بنفسه قرينة عقليّة على كفاية فرد واحد في الأمر دون النهي.

ويرد عليه أيضاً : أنّ غاية ما تقتضيه هذه القرينة العقليّة لزوم إتيان الطبيعة السارية في الأمر بقدر الإمكان لا كفاية فرد واحد منها كما لا يخفى.

الوجه الثالث : أنّ متعلّق الأمر والنهي هو الطبيعة المهملة ، وهي في النهي يوجد بترك جميع الأفراد ، ولكن في الأمر يدور أمرها بعد جريان مقدّمات الحكمة بين العام البدلي والعام الاستغراقي وحيث إنّ العام البدلي يكون أخفّ مؤونة من العام الاستغراقي من ناحية البيان ، أي يحتاج العام الاستغراقي إلى بيان زائد ، فمقتضى مقدّمات الحكمة كفاية فرد واحد على البدل.

وهذا أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّه لا دليل على أن يكون الشيوع والإطلاق في ناحية الوجود على نحو العام البدلي وفي ناحية العدم على نحو العام الاستغراقي بل لو كان الإطلاق في ناحية الوجود على نحو العام البدلي فليكن كذلك في العدم أيضاً.

الوجه الرابع : ( وهو المختار ) أنّ هذا الفرق يرجع في الواقع إلى الفرق الموجود بين طبيعة المصلحة وطبيعة المفسدة ، فإنّ تحصيل المصالح يقتضي الاكتفاء بالمرّة بخلاف دفع المفاسد فإنّه لا يتحقّق إلاّبترك جميع الأفراد ، فإنّ مفسدة الخمر أو السمّ مثلاً إنّما تترك فيما إذا تركنا جميع أفراد الخمر أو السمّ مع أنّ المصلحة الموجودة في شرب دواء خاصّ يتحقّق بفرد واحد منه ، وهذه قرينة عقليّة خارجيّة توجب أن يكون المتعلّق في الأوامر صرف وجود الطبيعة وفي النواهي ترك جميع الأفراد ، فإنّ الأوامر كاشفة عن مصالح في المتعلّق ، والنواهي كاشفة عن مفاسد فيه.

ولا إشكال في أنّ سيرة العقلاء في الموالي والعبيد أيضاً كذلك ومنشأها ما ذكرناه.

الأمر الثاني : في جواز التكرار وعدمه بعد ثبوت عدم دلالة الأمر على التكرار.

وقد ذكر فيه ثلاثة وجوه : ١ ـ أنّه جائز مطلقاً. ٢ ـ عدم الجواز مطلقاً ٣ ـ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله من التفصيل بين ما إذا كان الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى

٣٠٣

( كما إذا أمر المولى بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه العبد ) فلا يجوز ، وما إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لذلك ( كما إذا أمر بالماء ليشربه فأتى به ولم يشربه ) فعند ذلك له تبديل الامتثال ، أي يأتي بفرد آخر أحسن من الأوّل على أن يكون به الامتثال أيضاً لا بخصوص الفرد الأوّل.

وأورد عليه في المحاضرات : « بأنّ الصحيح هو عدم جواز الامتثال بعد الامتثال ، وذلك لأنّ مقتضى تعلّق الأمر بالطبيعة بدون تقييدها بشيء ( كالتكرار أو نحوه ) حصول الامتثال بإيجادها في ضمن فرد ما في الخارج ، لفرض انطباقها عليه قهراً ، ولا نعني بالامتثال إلاّ انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج ، ومعه لا محالة يحصل الغرض ويسقط الأمر ، فلا يبقى مجال للامتثال مرّة ثانيّة لفرض سقوط الأمر بالامتثال الأوّل وحصول الغرض به ، فالإتيان بها بداعيه ثانياً خلف ... ( إلى أن قال ) : ومن ضوء هذا البيان يظهر نقطة الخطأ في كلام صاحب الكفاية وهي الخلط بين الغرض المترتّب على وجود المأمور به في الخارج من دون دخل شيء آخر فيه وبين غرض الآمر ، كرفع العطش مثلاً حيث إنّ حصوله يتوقّف على فعل نفسه وهو الشرب زائداً على الإتيان بالمأمور به ، ومن الطبيعي أنّ المكلّف لا يكون مأموراً بإيجاده وامتثاله ، لخروجه عن قدرته واختياره ، فالواجب على المكلّف ليس إلاّتمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدّمات له ، فإنّه تحت اختياره وقدرته وهو يحصل بصرف الامتثال الأوّل » (١).

أقول : الحقّ هو جواز تبديل الامتثال وإنّ هذا البيان ليس جواباً عن ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من مثال تبديل ماء بماء أحسن قبل شربه وإهراق الأوّل ، فهل هذا تبديل للامتثال بآخر أو تكرار الامتثال فيما إذا أتى بماء أحسن من دون إهراق الماء الأوّل ، أي وضع ماء آخر إلى جنب الماء الأوّل أم لا؟ لا إشكال في أنّه وإن حصل الغرض من فعل العبد ولكن حيث إنّ غرض الآمر لم يحصل بعدُ يجوز عند العرف والعقلاء إتيان فرد آخر وإنّهم يعدّونه امتثالاً آخر لأمر المولى بل يمدحونه عليه ، ولعلّ جواز إتيان الصّلاة جماعة بعد إتيانها فرادى في الشرع من هذا الباب ، فالصحيح هو إمكان تبديل الامتثال أو تكراره في مقام الثبوت ، فلو

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٢٠٩.

٣٠٤

دلّ دليل في مقام الإثبات على عدم حصول الغرض الأقصى للمولى نعمل به من دون محذور.

الأمر الثالث : في أنّه هل المراد من المرّة والتكرار هو الفرد والأفراد ، أو الدفعة والدفعات؟ والفرق بينهما واضح حيث إنّه إذا كان المراد منهما هو الأوّل فبناءً على دلالة صيغة الأمر على المرّة لا بدّ في مقام الامتثال من إتيان فرد واحد ولا يجوز إتيان أكثر من الواحد ولو بدفعة واحدة ، بينما إذا كان المراد هو الدفعة والدفعات فبناءً على دلالة صيغة الأمر على المرّة يمكن إتيان أفراد عديدة دفعة واحدة.

وقد ذهب صاحب الفصول إلى الثاني ، واستدلّ بأنّه لو كان المراد هو الأوّل كان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي ، وهو البحث عن تعلّق الأوامر بالطبائع أو بالافراد ، فإنّ المبحوث عنه هناك أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة أو بالفرد وعلى القول بتعلّقه بالفرد هل يقتضي الفرد الواحد أو الأفراد؟ فيكون النزاع في ما نحن فيه جارياً على أحد القولين في تلك المسألة.

ولكن الحقّ أنّه لا ربط بين المسألتين ، أي يجري النزاع هنا حتّى على القول بتعلّق الأمر بالطبيعة فإنّا نقول : ولو كان متعلّق الأمر هو الطبيعة مع ذلك لا يجب إتيان أكثر من فرد واحد ولو في دفعة واحدة بنفس البيان السابق من اقتضاء مقدّمات الحكمة ذلك ، فلو قال المولى مثلاً « اعتق الرقبة » فلا يجوز عتق رقاب متعدّدة ولو في دفعة واحدة بعنوان امتثال واحد ، نعم أنّه يجوز بناءً على ما مرّ آنفاً من جواز تبديل الامتثال أو تكراره في ما إذا لم يحصل الغرض الأقصى للمولى.

فتلخّص : أنّ المراد من المرّة والتكرار إنّما هو الفرد والأفراد لا الدفعة والدفعات.

الأمر الرابع : في أنّه إذا أتى دفعة واحدة بافراد كثيرة فبناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة هل يعدّ هذا امتثالاً واحداً أو امتثالات متعدّدة؟

نقل عن المحقّق البروجردي رحمه‌الله في تهذيب الاصول بأنّه امتثالات متعدّدة محتجّاً بأنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّر الأفراد ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد ، لأنّ المجموع ليس له وجود غير وجود الأفراد ، فكلّ فرد محقّق للطبيعة ، ولمّا كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة أو التكرار ، فحينئذٍ إذا أتى المكلّف بافراد متعدّدة فقد أوجد المطلوب في ضمن كلّ فرد مستقلاً ، فيكون كلّ امتثالاً برأسه كما هو موجود بنفسه ، ونظير ذلك الواجب

٣٠٥

الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة ويكون جميع المكلّفين مأمورين باتيانها فمع إتيان واحد منهم يسقط الوجوب عن الباقي ، وأمّا لو أتى به عدّة منهم دفعة يعدّ كلّ واحد ممتثلاً ويحسب لكلٍ امتثال مستقلٍ لا أن يكون فعل الجميع امتثالاً واحداً ( انتهى ).

ثمّ أورد عليه : بأنّ وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته لا بوحدة الطبيعة وكثرتها ، ضرورة أنّه لولا البعث لم يكن معنى لصدق الامتثال وإن أوجد آلاف من أفراد الطبيعة ... إلى أن قال : وقياسه بالواجب الكفائي قياس مع الفارق لأنّ البعث في الواجب الكفائي يتوجّه إلى عامّة المكلّفين بحيث يصير كلّ مكلّف مخاطباً بالحكم ، فهناك طلبات كثيرة وامتثالات عديدة لكن لو أتى واحد منهم سقط البعث عن الباقي لحصول الغرض وارتفاع الموضوع ... بخلاف المقام » (١).

أقول : يمكن المناقشة في إيراده :

أوّلاً : بأنّه لو لم يكن كلّ مصداق امتثالاً برأسه لزم منه أن يكون الامتثال بأحد المصاديق لا بعينه ، ومن الواضح أنّ الواحد لا بعينه غير موجود في الخارج وإنّما هو من مخترعات الذهن ، فتأمّل.

ثانياً : أنّ قياس ما نحن فيه بالواجب الكفائي ليس قياساً مع الفارق بناءً على القول بأنّ متعلّق الواجب الكفائي عنوان « أحد المكلّفين » أو « جماعة من المكلّفين » وأنّه ليس المتعلّق جميعهم وأنّه مثل قول المولى « ليقم واحد منكم ويفتح الباب » وعلى كلّ حال الحقّ ما أفاده المحقّق البروجردي رحمه‌الله.

توضيح ذلك : إنّ المسألة لا تخلو عن احتمالات :

إمّا أن لا يكون هناك امتثال في الأمثلة المذكورة ، وفي مثل قوله : « أطعم فقيراً لكفّارة الصّيام » ، فأطعم فقراء في مجلس واحد ، مع عدم كون المطلوب بشرط لا ، فهذا ممّا لا مجال له قطعاً بل حصل الامتثال بطريق أكمل.

وإمّا أن يكون المطلوب الواحد لا بعينه ، أو المجموع من حيث المجموع ، ومن الواضح أنّ شيئاً من هذين العنوانين غير موجود في الخارج ، فالواحد لا بعينه موجود ذهني كما أنّ

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١١٣٢ ، طبع مهر.

٣٠٦

المجموع من حيث المجموع كذلك.

أو يقال أنّ المطلوب صرف الوجود ، وقد حصل في المثال وشبهه ولكن الإنصاف أنّ صرف الوجود أيضاً لا يخرج عمّا ذكر.

فلا يبقى إلاّ أن يقال أنّ كلّ واحد مصداق للامتثال.

إن قلت : الأمر الواحد كيف يكون له امتثالات متعدّدة؟

قلنا : لا مانع من ذلك ، ولكن يكون الثواب والأجر واحداً ، وإن هو إلاّمثل الواجب الكفائي بأن يقول المولى مخاطباً لغلمانه : « ليقم واحد منكم ويأتيني بالماء » ، فقام أكثر من واحد أو جميعهم فأتاه بماء في آنٍ واحد ، فلا شكّ في أنّ كلّ واحد امتثل أمر المولى ، ولكن لو كان هنا جزاء ، كان لا محالة مقسّماً بينهم ، وهكذا الأمر في باب الجعالة ، فإذا قال واحد : « من يأتيني بالماء مثلاً فله كذا » فأتاه جمع بالماء ، فلا شكّ أنّ كلّ واحد منهم عمل بمقتضى الجعالة ، ولكن للجميع اجرة واحدة تقسّم بينهم.

٣٠٧
٣٠٨

الفصل الثامن

في الفور والتراخي

هل الأمر يدلّ على الفور ، أو التراخي ، أو لا يدلّ على واحد منهما بل يدلّ على الطبيعة المجرّدة؟

فيه ثلاثة وجوه ، والصحيح عند المتأخّرين من الأصحاب هو الوجه الثالث لأنّ مفاد صيغة الأمر ومادّته بحكم التبادر ليس إلاّطلب إيجاد الطبيعة التي ليس فيها مرّة ولا تكرار ولا فور ولا تراخي أبداً ، بل تستفاد هذه الخصوصيّات من دليل آخر.

لكن الصحيح عندنا أنّها تدلّ على الفور أيضاً كماتدلّ على المرّة ، وذلك لأنّ العرف والعقلاء لا يعدّون العبد معذوراً إذا أخّر الامتثال.

هذا مضافاً إلى أنّ البعث التشريعي يطلب الانبعاث فوراً عند العقل كما في البعث التكويني ولا معنى لأنّ يكون البعث في الحال والانبعاث في المستقبل ، فإنّ البعث التشريعي بمنزلة دفع إنسان بيده لطلب خروجه من الدار مثلاً.

وإن شئت قلت : كما أن طبيعة الأمر والطلب تقتضي الوجوب كذلك تقتضي الفوريّة إلاّ أن يثبت خلافه.

ومن هنا لا بدّ في باب القضاء من إقامة دليل من الخارج على أنّ وقت القضاء موسّع ، وإلاّ مقتضى البيان المذكور أنّ وقته مضيّق فلابدّ من القضاء فوراً.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد من استدلّ على دلالة الأمر على الفور بأنّه من قبيل العلّة التكوينيّة ، فكما أنّ العلل التكوينيّة تقتضي معلولها فوراً فكذا العلل التشريعيّة مثل الأوامر فإنّه لا بدّ أن يحمل على ما ذكرناه ، وإلاّ فقد عرفت أنّ العلّة للتشريع هو نفس المولى ، والأمر لا يكون علّة تامّة للامتثال فلا يقاس بالعلل التكوينيّة التامّة.

٣٠٩

بقي هنا شيء :

وهو أنّه لو لم يمتثل المكلّف المأمور به فوراً فهل يجب عليه الإتيان فوراً ففوراً بناءً على القول بالفوريّة ، أو يسقط الحكم بالمرّة ، أو تسقط فوريته؟

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية : إنّ المسألة مبنية على أنّ مفاد الصيغة على القول بالفور هو وحدة المطلوب أو تعدّده؟ فإن كان على نحو تعدّد المطلوب بأن كان الإتيان بالمأمور به مطلوباً وإتيانه على الفور مطلوباً آخر ، فالواجب الإتيان به لو عصى في الفور ، وأمّا لو كان المجموع مطلوباً واحداً سقط الوجوب بعد عصيان الفوريّة ، ثمّ أضاف إليه بأنّه لو قيل بدلالتها على الفوريّة لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده ، ولازم ما ذكره كون الأمر ساكتاً عن الوحدة والتعدّد ، وعند الابهام من هذه الناحية يجب الرجوع إلى الاصول.

أقول : إن قلنا بأنّ الفوريّة مستفادة من البعث وإنّ بعث المولى مفهومه الانبعاث فوراً فهذا يدلّ على الانبعاث فوراً ففوراً ، ولا يسقط الحكم إلاّبإنعدام الموضوع أو الامتثال أو مضيّ الزمان إذا كان موقتاً وإلاّ وجب الإتيان به فوراً ففوراً.

والحاصل : أنّ طبيعة البعث كما عرفت تقتضي الفوريّة بحيث لا يسقط المطلوب بعصيان الفوريّة في زمان ، وظهر من ذلك أنّه لا ربط لها بمسألة تعدّد المطلوب كما يظهر من الأوامر في الموالي العرفيّة ، إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على سقوط الطلب عند عصيانه فوراً.

٣١٠

الفصل التاسع

الإجزاء في الأوامر

الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء ، أم لا؟

وقبل الورود في أصل البحث لا بدّ من تقديم امور :

الأمر الأوّل : في أنّ المسألة عقليّة أو لفظيّة؟

مقتضى تعبير المحقّق الخراساني رحمه‌الله في عنوان البحث ( كما نسب نفس التعبير إلى صاحب التقريرات ومن تأخّر عنهما أيضاً ) أنّه بحث عقلي ، حيث قال : « الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة » فإنّ الاقتضاء فيه يكون بمعنى العلّية لأنّه نسب إلى الإتيان دون صيغة الأمر فيبحث حينئذ في مبحث الإجزاء في أنّ العقل هل يحكم بالإجزاء بعد الإتيان بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه أو لا؟ فيكون البحث عقليّاً.

ولكن مقتضى ما نسب إلى المحقّق القمّي وصاحب الفصول رحمهما الله ومن تقدّمهما من الاصوليين أنّ البحث لفظي حيث إنّهم قالوا في عنوان البحث : « أنّ الأمر بالشيء يقتضي الإجزاء أم لا »؟ فنسبوا الاقتضاء إلى الأمر وهيئته.

ولا إشكال في أنّ لازم التعبير الأوّل بناءً على الاقتضاء المزبور لزوم إيقاع هذا البحث ضمن المباحث العقليّة مع أنّهم أوردوه في المباحث اللّفظيّة ( وهو نفس ما يرد عليهم بالنسبة إلى مباحث « جواز اجتماع الأمر والنهي » و « دلالة النهي في العبادة على الفساد » و « مقدّمة الواجب » و « دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه » حيث إنّ جميعها مباحث عقليّة وردت ضمن المباحث اللّفظيّة ).

ولكن هذا كلّه ما يقتضيه ظاهر التعبير في بدو النظر ، والصحيح إمكان كون البحث لفظيّاً

٣١١

حتّى بناءً على ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من التعبير.

توضيحه : أنّ الأوامر على قسمين : واقعية وظاهريّة ، والواقعيّة تنقسم أيضاً إلى قمسين : واقعية اختياريّة وواقعية اضطراريّة ( كالأمر بالتيمّم عند فقدان الماء ) والظاهريّة نظير الأمر بالاستصحاب عند الشكّ في الطهارة مثلاً مع اليقين السابق بها ، وسيأتي دخول كلا القسمين في محلّ النزاع ، ولا إشكال في أنّ النزاع يكون عقليّاً بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة الاختياريّة ، وأمّا بالنسبة إلى الواقعيّة الاضطراريّة والأوامر الظاهريّة فيمكن أن يكون النزاع لفظيّاً لأنّ البحث فيهما يدور في الواقع مدار دلالة أدلّتهما اللّفظيّة ( دليل التيمّم ودليل الاستصحاب مثلاً ) على الإجزاء واستظهاره منها وعدمه فيبحث فيهما عن مفاد ظواهر الأدلّة وهو بحث لفظي كما لا يخفى.

هذا كما يمكن أن يكون البحث عقليّاً حتّى بناءً على التعبير الثاني وهو ما نقل عن قدماء الأصحاب ونسب الاقتضاء فيه إلى الأمر دون الإتيان ، حيث إنّه يمكن أن يكون مرادهم من اقتضاء الأمر للإجزاء أنّ الأمر يدلّ على إرادة المولى للمتعلّق المأمور به ، والإرادة تدلّ على وجود غرض للمولى في المتعلّق ، وبعد إتيان المكلّف بالمأمور به يحصل الغرض عقلاً وبه تسقط الإرادة وبتبعه يسقط الأمر كذلك وهو معنى الإجزاء ، ولا إشكال في أنّه بحث عقلي فحسب ، وبهذا يندفع الإيراد المزبور الوارد على التعبير الأوّل بالنسبة إلى مبحث الإجزاء ويثبت أنّ مجرّد نسبة الاقتضاء إلى الإتيان ليس دليلاً على أنّ المسألة عقليّة ، مضافاً إلى عدم كون هذا التعبير أمراً متّفقاً عليه عند القوم كي يستكشف منه كون الاقتضاء في عنوان البحث بمعنى العلّية والتأثر عقلاً.

الأمر الثاني : في المراد من لفظ « على وجهه » المأخوذ قيداً في عنوان البحث

والاحتمالات فيه ثلاثة :

١ ـ أن يكون قيداً توضيحاً لكلمة « المأمور به » فيكون المعنى إتيان المأمور به مع جميع الشرائط المأخوذة فيه من ناحية الشرع.

٢ ـ أن يكون المراد منه نيّة الوجه وهو الوجوب والندب.

٣١٢

٣ ـ أن يكون قيداً احترازيّاً فيكون المعنى إتيان المأمور به مع جميع قيوده وشرائطه الشرعيّة والعقليّة المعتبرة فيه ، فيشمل الإتيان بالعبادات مع قصد القربة حتّى بناءً على مبنى القائلين بأنّ اعتباره بحكم العقل دون الشرع لعدم إمكان أخذه في المأمور به في لسان الشارع.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى الوجه الثالث لا الوجه الثاني لأنّه لا خصوصيّة له من بين القيود والشرائط حتّى يختصّ بالذكر في عنوان البحث ، مضافاً إلى عدم اعتباره عند معظم الأصحاب ، ومضافاً إلى أنّ من قال باعتباره لم يقل به إلاّفي خصوص العبادات ، ومحلّ النزاع في ما نحن فيه أعمّ منها ومن غيرها ، ولا الوجه الأوّل لأنّ ظاهر القيود الواردة في عنوان البحث أنّها قيود احترازيّة لا توضيحية ، مضافاً إلى أنّه يستلزم خروج التعبّديات عن حريم النزاع بناءً على ما اختاره من كون اعتبار قصد القربة في العبادات هو بحكم العقل لا بحكم الشرع وذلك لوضوح عدم كون الإتيان بها على الكيفية المعتبرة فيها شرعاً ، بلا مراعاة لما اعتبر فيها عقلاً ـ مجزياً قطعاً.

أقول : المختار هو الوجه الأوّل ، وذلك لما اخترناه من إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به ، مع أنّ الوجه الثالث لازمه كون مبنى جميع من عنون النزاع بالعبارة المزبورة هو مبنى المحقّق الخراساني رحمه‌الله من عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شرعاً وهو غير ثابت.

وبعبارة اخرى : إنّ شبهة عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شبهة حادثة في الأزمنة المتأخّرة ، فكيف يمكن أن يكون مبنى القدماء من الأصحاب عدم إمكان قصد القربة في المأمور به؟

الأمر الثالث : في معنى « الاقتضاء » الوارد في العنوان

فهل هو بمعنى العلّية والتأثير أو بمعنى الكشف والدلالة؟ ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله ( كما مرّ آنفاً في الأمر الأوّل ) إلى أنّه هو الاقتضاء بنحو العلّية ، ولذا قد نسب إلى الإتيان ، فلو كان المراد منه هو الدلالة والكشف كان الأنسب نسبته إلى الصيغة.

ثمّ قال : إن قلت : هذا إنّما يكون كذلك بالنسة إلى أمره لا بالنسبة إلى أمر آخر فلا يكون إتيان المأمور به في الأمر الاضطراري أو الظاهري علّة لاسقاط الأمر الواقعي الاختياري لأنّ النزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما ( الأمر الاضطراري والأمر الظاهري ) على نحو يفيد الإجزاء وعدمها.

٣١٣

قلنا : نعم لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما أيضاً في الاقتضاء بمعنى العلّية لأنّ كاشفية الدليل فيهما تكون كاشفية عن حصول تمام المصلحة وهو يكون صغرى لعلّية الإجزاء ، أي كلّما حصل تمام المصلحة حصل الإجزاء وحصول الإجزاء علّة لسقوط الأمر فيصحّ التعبير فيهما أيضاً بأنّ إتيان المأمور به علّة للإجزاء لأنّه كاشف عن صغرى علّية الإجزاء وهي حصول تمام المصلحة ( انتهى بتوضيح منّا ).

وقال في تهذيب الاصول ما حاصله : لا يتصوّر العلّية في ما نحن فيه بأيّ معنى فسّر به الإجزاء سواء فسّر بالكفاية أو بسقوط الأمر أو سقوط الإرادة ، أمّا الأوّل فلأنّها معنى انتزاعي لا يقع مورد التأثير والتأثّر التكوينيين ، وأمّا الثاني فلأنّ الإتيان ليس علّة مؤثّرة في سقوط الأمر كما أنّ السقوط والاسقاط ليسا من الامور القابلة للتأثير والتأثّر الذين هما من خصائص التكوين ، وأمّا الثالث فلأنّ منشأ إرادة المولى تصوّره المراد بما له من المصلحة وهي علّة لأمره بإتيان المأمور به فيكون الإتيان معلولاً للإرادة ، فكيف يصير المعلول علّة لانعدام علّته؟ فالأولى دفعاً لهذه التوهّمات أن يقال : إنّ الإتيان بالمأمور به هل هو مجزٍ أو لا؟ (١) ( انتهى ).

أقول : ولكن يرد عليه :

أوّلاً : أنّ الامور الانتزاعيّة وإن لم تقع مورداً للتأثير والتأثّر إلاّ أنّ لها منشأً للانتزاع ، وهو في ما نحن فيه تحقّق المصلحة وحصول الغرض ، فيمكن أن يقال بأنّ الإتيان علّة للإجزاء والكفاية باعتبار علّيته لمنشأ انتزاع الكفاية وهو حصول الغرض.

ثانياً : أنّ منشأ الإرادة ليس خصوص تصوّر المراد بما له من المصلحة بل هو بضميمة فقدان المراد كفقدان الماء في قولك « اسقني الماء » فيكون الفقدان موضوعاً للإرادة والطلب ، وبعد الإتيان يتبدّل الفقدان إلى الوجدان ، فينعدم موضوع الطلب بوجدان الماء مثلاً وبتبعه ينعدم نفس الطلب والأمر ، وهو أمر وجداني غير قابل للانكار فصار إتيان المأمور به علّة لسقوط الأمر وانعدامه.

وثالثاً : لا يندفع الإشكال بتبديل العنوان المزبور إلى ما ذكره من العنوان وهو « أنّ الإتيان

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٣٦ و ١٣٧ ، طبع مهر.

٣١٤

بالمأمور به مجزٍ » لأنّ حمل الخبر ( مجزٍ ) على المبتدأ ( الإتيان بالمأمور به ) في هذا العنوان أيضاً لا يخلو من أحد الأمرين : فإمّا أن يكون المبتدأ فيه علّة للخبر ، أو يكون كاشفاً عنه فيعود الإشكال.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لا مانع من كون الاقتضاء بمعنى العلّية إمّا لأنّ الإتيان علّة لمنشأ الإجزاء ( إذا كان بمعنى الكفاية ) أو لأنّه موجب لانعدام موضوع الأمر أو الإرادة ( إذا كان بمعنى سقوط الأمر أو سقوط الإرادة ) فما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله متين في محلّه.

الأمر الرابع : في معنى الإجزاء

ذهب بعض إلى أنّ لفظ الإجزاء المأخوذ في العنوان بمعنى الكفاية ، أي معناه اللغوي ، فلا يكون حقيقة شرعيّة ، وذهب بعض آخر إلى أنّه حقيقة شرعيّة وضع في لسان الشرع لاسقاط الإعادة.

أقول : الإنصاف رجوع أحد المعنيين إلى الآخر ، لأنّ من لوازم الكفاية الاسقاط فلا يكون حقيقة شرعيّة بل هو بمعناه اللغوي ، وحيث إنّ من مصاديق الكفاية في الفقه اسقاط الإعادة استعمل فيه استعمال الكلّي في بعض مصاديقه.

الأمر الخامس : الفرق بين المسألتين

أولاً : الفرق بين هذه المسألة ومسألة : المرّة والتكرار.

ثانياً : الفرق بينها وبين مسألة : أنّ القضاء هل هو بأمر جديد أو بالأمر الأوّل.

أمّا الأوّل : فربّما يتوهّم أنّه لا فرق بين المسألتين لأنّ لازم الإجزاء هو إتيان المأمور به مرّة واحدة ، ولازم عدم الإجزاء هو إتيانه مكرّراً ، وعليه فلا وجه لعقدهما مسألتين مستقلّتين.

لكن الفرق بينهما واضح جدّاً ، لأنّ البحث في مسألة المرّة والتكرار يكون في مقدار دعوة الأمر ومقدار المأمور به ، وأمّا في مسألة الإجزاء فيكون في كفاية إتيان المأمور به بما له من الدعوة سواء كان المأمور به واحداً أو أكثر ، والفرق بينهما واضح جدّاً.

أمّا الثاني : فربّما يتوهّم أيضاً بأنّه لا فرق بين مسألة الإجزاء ومسألة القضاء بأمر جديد ، لأنّ الإجزاء معناه كون القضاء بأمر جديد وعدم كونه تابعاً للأداء بل يكون الأمر باقياً في

٣١٥

خارج الوقت ، وعدم الإجزاء معناه تبعيّة القضاء للأداء وكون القضاء بالأمر الأوّل المتعلّق بالأداء ، فلا وجه أيضاً لعقدهما مسألتين مستقلّتين.

لكن هذا التوهّم أيضاً خاطىء ، لأنّ بينهما بون بعيد فإنّ القضاء يتصوّر فيما إذا لم يأت بالمأمور به أصلاً ، وعدم الإجزاء يتصوّر فيما إذا أتى بالمأمور به إمّا بأمر اضطراري أو بأمر ظاهري ولكنّه لا يكون مجزياً ، فالموضوع في إحدى المسألتين الإتيان مع عدم الإجزاء ، وفي الاخرى عدم الإتيان أصلاً ، وفرقهما واضح أيضاً.

إذا عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ البحث يقع في مقامات أربع :

١ ـ في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً سواء كان واقعياً أو ظاهريّاً أو اضطراريّاً عن أمر نفسه.

٢ ـ في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي الاختياري.

٣ ـ في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري الشرعي عن الواقعي.

٤ ـ في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري العقلي ( كحكم العقل بجواز الإفطار فيما إذا قطع بغروب الشمس مع عدم غروبها في الواقع ، ويعبّر عنها بتعبير أدقّ الأوامر الخياليّة لأنّ فيها يتخيّل بوجود الأمر في الواقع مع عدمه واقعاً ) عن الواقعي.

المقام الأوّل ـ إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن أمر نفسه

والحقّ أنّه لا إشكال في كون إتيان المأمور به فيها مجزياً عنها ، والدليل عليه هو العقل لأنّ الامتثال بعد الامتثال مع حصول الغرض تحصيل للحاصل.

ولكن قد خالف فيه أبو هاشم وعبدالجبّار من قدماء المتكلّمين من أهل السنّة فقالا : بأنّه يمكن القول بعدم الإجزاء فيها ، ومنشأ خطأهما وجود بعض الأمثلة في الفقه قد أمر فيها بإتمام العمل مع الأمر بإعادته كالحجّ الفاسد الذي أمر الشارع بإتمام مناسكه مع إيجابه الإعادة في السنة القابلة.

والمسألة عندنا لا إشكال فيها ولا غبار عليها لما مرّ من حكم العقل بالإجزاء وأمّا ما أشار إليه من مثال الحجّ ونحوه فالمستفاد من جملة من الرّوايات الواردة عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّها ليست من قبيل الامتثال بعد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد ، بل هناك أمران

٣١٦

يطلب كلّ واحد منهما من المكلّف امتثالاً يخصّ به ، ومن جملتها ما رواه زرارة قال : سألته عن مُحرمٍ غشى امرأته وهي محرمة قال : « جاهلين أو عالمين؟ » قلت : أجبني في ( عن ) الوجهين جميعاً ، قال عليه‌السلام : « إن كانا جاهلين استغفرا ربّهما ومضيا على حجّهما وليس عليهما شيء ، وإن كانا عالمين فرّق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه وعليهما بدنة وعليهما الحجّ من قابل ، فإن بلغا المكان الذي أحدثا فيه فرّق بينهما حتّى يقضيا نسكهما ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا » قلت : فأي الحجّتين لهما قال : « الاولى التي أحدثا فيها ما أحدثا ، والاخرى عليهما عقوبة ». (١)

حيث إنّ هذه الرّواية تدلّ على وجود أمرين في المسألة يكون لكلّ واحد منهما امتثال على حدّه ، أمر واقعي أوّلي وأمر واقعي ثانوي ، فلا تكون من باب الامتثال بعد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد حتّى يستفاد منها عدم إجزاء الإتيان بالمأمور به عن الأمر الأوّل.

بقي هنا شيء :

وهو جواز الامتثال بعد الامتثال في الجملة.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى جوازه وتبعه المحقّق النائيني رحمه‌الله (٢) وذهب المحقّق العراقي إلى عدم جوازه وتبعه بعض أعاظم العصر (٣).

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية : « لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبّد به ثانياً بدلاً عن التعبّد به أوّلاً لا منضمّاً إليه كما أشرنا إليه في المسألة السابقة وذلك فيما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض وإن كان وافياً به لو اكتفى به كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ ، فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعدُ ، ولذا لو اهرق الماء وإطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً كما إذا لم يأت به أوّلاً ، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه وإلاّ لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه ، نعم فيما كان الإتيان علّة تامّة لحصول

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٩ ، الباب ٣ من أبواب كفّارات الاستمتاع ، ح ٩.

(٢) راجع فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٢.

(٣) راجع المحاضرات : ج ٢ ، ص ٢٢٥.

٣١٧

الغرض فلا يبقى موقع للتبديل كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه بل لو لم يعلم أنّه من أي القبيل فله التبديل بإحتمال أن لا يكون علّة فله إليه سبيل ، ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد من الرّوايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة وأنّ الله تعالى يختار أحبّهما إليه » ( انتهى كلامه ).

وما ذكره من الرّواية إشارة إلى ما رواه أبو بصير قال قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : « اصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة وقد صلّيت فقال : صلّ معهم يختار الله أحبّهما إليه » (١).

واستدلّ القائل بعدم الجواز بما حاصله : إنّ الإتيان بالمأمور به في الخارج علّة تامّة لحصول الغرض الداعي إلى الأمر به ، والإجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذٍ بسقوط الغرض وسقوط الأمر بسقوطه بمجرّد الموافقة وإيجاد المأمور به فلا يبقى مقتضٍ للإتيان به ثانياً بوجه أصلاً ، نعم هذا مبني على القول بوجوب مطلق المقدّمة ، وأمّا إذا قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فلازمه جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً بعنوان امتثال الأمر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إيّاه ، لأنّ الغرض الداعي إلى الأمر باقٍ على حاله ، غايته أنّه ليس له الفاعلية والمحرّكيّة بعد الإتيان بالمأمور به أوّلاً بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا أنّه يسقط رأساً بمجرّد الإتيان به ، ولازم ذلك التفكيك بين « فعلية الأمر » و « فاعليته » وجواز الإتيان بالمأمور به ثانياً ، ونتيجة ذلك في فرض تعدّد الإتيان بالمأمور به هو وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا بهما معاً وصيرورة الفرد الآخر لغواً محضاً فلا يكون من باب الامتثال بعد الامتثال (٢).

أقول : الحقّ جواز تبديل الامتثال بالامتثال وفاقاً للمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله والدليل عليه أنّ الغرض المترتّب على الأمر يكون على نحوين : غرض يترتّب على فعل المكلّف وهو غرض ابتدائي كإتيان الماء ووضعه بين يدي المولى ، وغرض نهائي يترتّب على فعل المولى وهو رفع العطش الذي يترتّب على شرب المولى الماء ، وما لم يحصل الثاني كان المحلّ باقياً لتبديل الامتثال ويقوم الامتثال الثاني مقام الامتثال الأوّل ، وبعبارة اخرى : يعدّ الإتيان الأوّل امتثالاً لأنّه يوجب سقوط الأمر ، ويكون الإتيان الثاني امتثالاً آخر ( بدل الامتثال

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ١٠.

(٢) راجع نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣١٨

الأوّل ) لأنّه محصّل للغرض الذي لم يحصل بالامتثال الأوّل.

وأمّا قضيّة وجوب المقدّمة الموصلة وعدمه فالحقّ أنّه لا ربط لها بالمسألة لأنّها مختصّة بما إذا كان كلّ من المقدّمة وذي المقدّمة فعلاً للمكلّف مثل مقدّمية الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، بخلاف ما إذا كانت المقدّمة عملاً للمكلّف وكان ذو المقدّمة من عمل المولى كما في ما نحن فيه حيث إنّ الشرب فيه يكون عملاً للمولى.

هذا كلّه في مقام الثبوت ، أمّا في مقام الإثبات :

فنقول : يوجد في الفقه موردان يحتمل كون الإتيان الثاني فيهما مصداقاً لتبديل الامتثال إلى امتثال آخر :

أحدهما باب صلاة الكسوف حيث ورد فيه رواية يستدلّ بها للمسألة وهي خبر معاوية بن عمّار قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد ». (١)

لكن الإنصاف خروجها عن ما نحن فيه لأنّ الإعادة فيها تنشأ من أمر استحبابي فتكون امتثالاً لأمر آخر غير الأمر الأوّل ، وهو نظير الإتيان بالحجّ في العامّ الثاني والثالث ، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من احتماله ، وحينئذ لا تكون الرّواية شاهدة قطعية لجواز تبديل الامتثال ، ولا يصلح الاستدلال بها عليه.

ثانيهما : باب صلاة الجماعة.

والرّوايات الواردة فيه على طائفتين : طائفة تدلّ على إعادة الصّلاة في مقام التقيّة فتكون الإعادة لأجلها بحيث لولا التقيّة لما كان موجب لمشروعيتها فهي أجنبية عن محلّ الكلام ، وطائفة تدلّ على إعادة الصّلاة جماعة ، منها ما مرّ آنفاً من خبر أبي بصير قال قلت : لأبي عبدالله عليه‌السلام اصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة وقد صلّيت فقال : « صلّ معهم يختار الله أحبّهما إليه » ولا إشكال في أنّ هذه الرّواية ظاهرها تبديل الامتثال بالامتثال بقرينة ذيلها : « يختار الله أحبّهما إليه » فإنّه يدلّ على أنّ الامتثال الثاني يقوم مقام الامتثال الأوّل وأنّه بدل عنه ، نعم الإشكال في سندها.

ومنها ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبدالله عليه‌السلام في الرجل يصلّي الصّلاة وحده ثمّ يجد

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٨ من أبواب صلاة الكسوف ، ح ١.

٣١٩

جماعة ، قال : « يصلّي معهم ويجعلها الفريضة » (١) فإنّ ظاهر قوله عليه‌السلام « ويجعلها الفريضة » أيضاً أنّ الجماعة تقوم مقام الفرادى ويتقبّل الله الجماعة بعنوان الفريضة مقام الفرادى ، وإنّ الامتثال بالفرادى يتبدّل إلى الامتثال بالجماعة.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا : أنّ تبديل الامتثال إلى امتثال آخر جائز عقلاً وأنّ بعض الرّوايات الواردة في لسان الشرع يشهد عليه.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني : إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي الاختياري

الصحيح فيه طرح البحث في مقامين : مقام الثبوت ومقام الإثبات كما فعله المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث تكلّم :

أوّلاً : عن أنحاء الأمر الاضطراري ثبوتاً وبيّن مقتضى كلّ منها من حيث الإجزاء وجواز البدار قبل ضيق الوقت.

وثانياً : عن حال الأمر الاضطراري إثباتاً وأنّه من أي نحو هو؟ فهل هو من القسم المقتضي للإجزاء أو لا.

وحاصل بيانه في مقام الثبوت : أنّ الاضطراري إمّا أن يكون في حال الاضطرار مشتملاً على تمام مصلحته ( فيكون حاله كحال الاختياري في حال الاختيار ) وإمّا أن لا يكون مشتملاً على تمام مصلحته بل يبقى منه شيء ، وعلى الثاني إمّا أن يمكن تدارك الباقي وإمّا أن لا يمكن ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون الباقي بمقدار يجب أو بمقدار يستحبّ ، فهذه أربع صور :

أمّا الصورة الاولى : فيجزي الاضطراري عن الواقعي بلا كلام لاشتماله على تمام مصلحته ، وأمّا جواز البدار فيها وعدمه فيدور مدار كون الاضطراري بمجرّد الاضطرار مشتملاً على تمام مصلحة الواقعي أو بشرط الانتظار إلى آخر الوقت أو بشرط طروّ اليأس من الاختيار.

وأمّا الصورة الثانيّة : ( وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملاً على تمام مصلحة الواقعي وكان الباقي ممّا يمكن تداركه وكان بمقدار يجب ) فلا يجزي قطعاً ، وأمّا البدار فيها فيجوز ، غايته

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ١١.

٣٢٠