أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

العمل وهو واضح ، والآخر : بإتيانه بداعي أمره ، وهو ما يستفاد من إجماع الفقهاء على اعتبار قصد القربة فإنّه كدليل منفصل وارد بعد الأوامر العباديّة.

فإنّ المقصود من الأمر إنّما هو الدليل الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام ولا إشكال في أنّ الإجماع دليل شرعي يوجب القطع بصدور أمر من المعصوم عليه‌السلام يدلّ على اعتبار قصد القربة.

ويرد على جوابه الثاني : أنّا نختار الشقّ الثاني من كلامه وهو كون الأمر الأوّل تعبّديّاً لا يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل بغير داعي أمره ولكن مع ذلك لا يكون الأمر الثاني لغواً ، لأنّ الكاشف عن تعبّديّة الأمر الأوّل وعدم حصول الغرض منه إلاّبداعي أمره إنّما هو الأمر الثاني ، وليس هناك دليل آخر في مقام الإثبات إلاّ الأمر الثاني.

ثمّ إنّه لو فرضنا استحالة أخذ قصد الأمر في المأمور به بأمر واحد وانحصار طريق أخذه في أمرين ، فلا إشكال في أنّ الإطلاق الذي يتمسّك به في صورة عدم أخذ قصد الأمر بأمر ثانٍ ليس إطلاقاً لفظيّاً لأنّ المفروض عدم إمكان تقييد الأمر الأوّل بقصد الأمر حتّى يتصوّر فيه الإطلاق ، بل هو إطلاق مقامي ، وهو عبارة عن كون المولى في مقام بيان حكم أفراد كثيرة من دون أن يصوغه في قالب لفظي شامل لجميع الأفراد بل يذكر حكم كلّ فرد فرد بصيغته الخاصّة فيقول مثلاً : « كبّر ، اسجد ، اركع ... » فحينئذٍ لو شككنا في وجوب جزء خاصّ أو قيد خاصّ فليس هنا لفظ كان من الممكن أن يقيّده بذلك الجزء ، ومثل أن يقول السائل : « بيّن لي الأغسال الواجبة » وأجاب الإمام عليه‌السلام غسل الجنابة والحيض و ... من دون ذكر غسل الجمعة ، فيعلم منه بمقتضى الإطلاق المقامي عدم وجوبه ، أي أنّ المولى كان في مقام لو تعلّق غرضه بجزء آخر لذكره ، وحيث إنّه لم يذكره فلم يقل مثلاً « اقنت » في عرض سائر الأجزاء نستكشف عدم وجوبه ، وهذا نظير ما إذا قام الدائن في مقام تصفية الديون فأحصى كلّ مورد مورد من موارد الدين وترك المجلس بعنوان التصفية فلو شكّ المدين بعدئذٍ في وجود طلب آخر فله أن يتمسّك بإطلاق المقام ويقول : حيث إنّ الدائن كان في مقام التصفية ولم يذكر هذا المورد فهذا دليل على عدم بقاء مورد آخر لدينه ، فهذا إطلاق مقامي من باب أنّه ليس في البين لفظ صدر من جانب الدائن كقوله « لا دين لي عليك » حتّى يتمسّك بإطلاقه.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يمكن أخذ قصد القربة في المأمور به بثلاثة طرق : ١ ـ أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر الأوّل ، ٢ ـ أخذ قصد الأمر في الأمر الثاني ، ٣ ـ أخذ مطلق قصد القربة في المتعلّق الأعمّ من قصد الأمر وقصد المحبوبيّة وغيرهما ، وقد عرفت جواز الجميع.

٢٨١

هل الأصل في الأوامر هو التعبّديّة أو لا؟

إذا عرفت هذا المقدّمات فلنتكلم عن أصل البحث وهو مقتضى الأصل الأوّلي في الأوامر وأنّه هل هو التعبّديّة أو التوصّليّة؟

فنقول : فيه ثلاثة أقوال :

١ ـ أنّ الأصل هو التوصّلية وهو المختار.

٢ ـ أنّ الأصل هو التعبّديّة وهو المنقول من الكلباسي صاحب الإشارات.

٣ ـ فقدان الأصل اللّفظي فلابدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة وهو مختار المحقّق النائيني رحمه‌الله.

أمّا القول الأوّل : فقد ظهر بيانه ممّا ذكرنا من أنّه يمكن للمولى أخذ قصد الأمر ضمن أمر واحد أو أمرين فحيث لم يأخذه وكان في مقام البيان نتمسّك بإطلاق كلامه ، ونثبت به عدم اعتباره عنده.

وأمّا القول الثاني : فاستدلّ له بامور :

الأمر الأوّل : أنّ غرض المولى من الأمر هو إيجاد الداعي في المكلّف للعمل وإخراجه من حالة عدم إحساس المسؤوليّة إلى حالة إحساس المسؤوليّة في قبال المولى ، وكلّما حصل هذا الغرض حصل قصد القربة طبعاً لأنّه ليس إلاّ إحساس المكلّف بالمسؤوليّة في مقابل المولى وانبعاثه من بعثه وتحرّكه من تحريكه ، فالأصل الأوّلي في الأوامر أن تكون تعبّديّة ، والتوصّلية تحتاج إلى دليل خاصّ.

ولكن يمكن الجواب عنه :

أوّلاً : أنّه لا دليل على أنّ غرض المولى في أوامره هو تحريك العبد مطلقاً ، فإنّه أوّل الكلام حيث يمكن أن يكون غرضه تحريك العبد في ما إذا لم يكن متحرّكاً بنفسه ، فلو علم المولى بتحرّك العبد بنفسه وحركته إلى الماء مثلاً لرفع عطش المولى لم يأمره بإتيان الماء ، وهذا نظير ما ورد في بيان الإمام السجّاد عليه‌السلام حيث قال : « ولست اوصيكم بالدنيا فإنّكم بها مستوصون وعليها حريصون وبها مستمسكون ». (١)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٥ ، ص ١٤٧ ، طبع بيروت.

٢٨٢

ثانياً : أنّ وظيفة العبد إنّما هو تحصيل غرض المولى من المأمور به لا قصد التقرّب مثلاً حيث إنّ العقل يحكم بوجوب رفع عطش المولى مثلاً على أيّ حال : فلو اهرق الماء لا بدّ من إتيان ماء آخر مرّة اخرى وهكذا حتّى يرفع عطش المولى مع أنّه قد امتثل الأمر وأتى بالماء ، فإنّ هذا هو مقتضى حقّ الطاعة والعبوديّة.

وبعبارة اخرى : إنّ غرض المولى من أمره حصوله على ما هو موجود في المأمور به من المصلحة لا تحريك العبد إلى المأمور به بقصد امتثال أمره فحسب ، إلاّ إذا ثبت كون الغرض منه هو العبوديّة والتقرّب إليه.

الأمر الثاني قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) ببيان أنّها تدلّ على أنّ جميع الأوامر صدرت من جانب الباري تعالى للعبادة مخلصاً والاخلاص عبارة عن قصد التقرّب في العمل ، ولازمه أن تكون جميع الأوامر الشرعيّة تعبّديّة إلاّما خرج بالدليل.

والجواب عنه واضح : لأنّ الآية إنّما تكون في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد كما يشهد عليه بعض الآيات السابقة عليها وهو قوله تعالى : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )(٢) ، وكذلك بعض الآيات اللاّحقة وهي قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها )(٣).

بل وهكذا ما ورد في نفس الآية من التعبير بالحنفاء حيث إنّ الحنيف هو المائل من الباطل إلى الحقّ ، فيطلق على الإنسان الموحّد الذي لا يعبد إلاّ الله ، ولذلك وصفهم بعد ذلك بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة اللّذين هما من لوازم التوحيد بالله ومن أوصاف العباد الموحّدين ، على أيّ حال : إنّ الآية في مقابل المشركين وأهل الكتاب تدلّ على انحصار العبادة بالله تعالى وأنّ الناس امروا لأن لا يعبدوا إلاّ الله تعالى لا أنّ جميع الأوامر الشرعيّة الصادرة من جانب الله تعالى تكون تعبّديّة ، وأين هذا من ذاك.

ويشهد عليه أيضاً ذهاب المفسّرين ظاهراً على هذا المعنى ، فهذا هو المحقّق الطبرسي رحمه‌الله في

__________________

(١) سورة البيّنة : الآية ٥.

(٢) سورة البيّنة : الآية ١.

(٣) سورة البيّنة : الآية ٦.

٢٨٣

ذيل هذه الآية يقول : « أي لم يأمرهم الله تعالى إلاّلأن يعبدوا لله وحده لا يشركون بعبادة ، فهذا ممّا لا يختلف فيه الامّة ولا يقع منه التغيير » وقال في ذيل قوله تعالى ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) : « لا يخلطون بعبادته عبادة من سواه » وكذلك غيره.

أضف إلى ذلك أنّ المعنى المذكور للآية يستلزم منه التخصيص بالأكثر حيث إنّه لا ريب في أنّ أكثر الأوامر توصّلية.

مضافاً إلى أنّ لحن الآية آبية عن التخصيص لمكان التأكيدات العديدة الشديدة الواردة فيها كما لا يخفى.

الأمر الثالث : التمسّك بروايات تدلّ على أنّ الأعمال إنّما هي بالنيّات :

منها : ما رواه أبو حمزة عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : « لا عمل إلاّبنيّة ». (١)

ومنها : ما رواه اسحاق بن محمّد قال : حدّثني علي بن جعفر بن محمّد ، وعلي بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث. قال : « إنّما الأعمال بالنيّات ، ولكل امرىء ما نوى » (٢) وهكذا الرّواية الثانيّة والثالثة من نفس الباب.

وتقريب الاستدلال : إنّ هذه الرّوايات تدلّ على اعتبار نيّة القربة في جميع الأعمال بشهادة عموم التعبير بـ « الأعمال » في الرّواية الاولى ، والنكرة في سياق النفي في الرّواية الاولى ، فلابدّ من قصد القربة في جميع الأعمال إلاّما خرج بالدليل.

والجواب عنه :

أوّلاً : أنّه لا دليل على كون المراد من النيّة في هذه الرّوايات نيّة القربة بل لعلّها نيّة عنوان العمل بالنسبة إلى العناوين القصديّة حيث إنّ كثيراً ما يكون لعمل واحد عناوين عديدة ووجوه متفاوتة يتميّز كلّ واحد منها عن غيرها بالنيّة ، فمثلاً إذا أعطى زيد درهماً أمكن أن يكون من باب الأمانة أو الهبة أو الخمس أو الزّكاة أو أداء الدَين أو ردّ المظالم أو القبض ، ولكنّه تتميّز وتتعيّن بالقصد والنيّة.

وإن شئت قلت : لا بدّ في الرّواية من تقدير يدور أمره بين الاحتمالين : احتمال أن يكون

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١.

(٢) نفس المصدر.

٢٨٤

المقدّر الصحّة ، أي إنّما صحّة الأعمال بالنيّات ، واحتمال أن يكون المقدّر الأجر والثواب ، أي إنّما أجر الأعمال بالنيّات ، فعلى الأوّل يثبت مطلوب الخصم أي اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال كما لا يخفى ، وأمّا على الثاني فيكون معنى الرّواية أنّ ترتّب الثواب على الأعمال مشروط بقصد القربة فإزالة النجاسة

عن المسجد يترتّب عليها الثواب إذا تحقّقت بنيّة القربة لا أنّ صحّتها تتوقّف عليها ، واين هذا من تعبّديّة جميع الأعمال؟ وهذا الاحتمال الثاني هو المتعيّن في تفسير الرّواية بقرينة ما ورد في ذيل الرّواية الثانيّة من قوله عليه‌السلام :« ولكلّ امرىء ما نوى ، فمن غزى إبتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزّوجلّ ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّما نوى » ، والرّوايات يفسّر بعضها بعضاً.

وبعبارة اخرى : إنّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو في العبادة بالمعنى الأخصّ أي ما يشترط قصد القربة في صحّة العمل لا العبادة بالمعنى الأعمّ أي ما يعتبر في ترتّب الثواب عليه قصد القربة ، ولا إشكال في أنّ الجهاد من القسم الثاني ، فلو كانت الرّواية في مقام اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال لزم خروج مورد الرّواية عنها.

ويشهد لهذا التفسير للرواية أيضاً ما رواه أبو عروة السلمي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة ». (١)

وما رواه أبو ذرّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّة له قال يا أبا ذر : « ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّى في النوم والأكل ». (٢)

وثانياً : ما مرّ في الجواب عن الدليل الثاني من قضيّة التخصيص بالأكثر كما لا يخفى.

فقد تلخّص من جميع ذلك عدم تماميّة جميع الوجوه التي استدلّ بها للقول الثاني.

وأمّا القول الثالث : وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله من عدم وجود أصل لفظي في المقام فاستدلّ له بما حاصله « إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فيتصوّر الإطلاق فيما يتصوّر التقييد فيه ، وحيث إنّ التقييد ممتنع هنا يكون الإطلاق أيضاً ممتنعاً ، فيكون الحقّ حينئذٍ هو الإهمال وعدم الإطلاق مطلقاً ، ووجه كون الإطلاق من قبيل عدم الملكة لا العدم المطلق أنّ الإطلاق وإن كان عدمياً إلاّ أنّه موقوف على ورود الحكم على

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٥.

(٢) المصدر السابق : ح ٨.

٢٨٥

المقسم وتماميّة مقدّمات الحكمة فالتقابل بينهما لا محالة يكون تقابل العدم والملكة ، فإذا فرضنا في مورد عدم ورود الحكم على المقسم فلا معنى للتمسّك بالاطلاق قطعاً ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ انقسام المتعلّق بما إذا أتى به بقصد الأمر وعدمه يتوقّف على ورود الأمر فإنّه من الانقسامات الثانويّة ، فليس قبل تعلّق الأمر وفي رتبة سابقة عليه مقسّم أصلاً ، فالحكم لم يرد على المقسّم بل صحّة التقسيم نشأت من قبل الحكم فلا معنى للتمسّك بالاطلاق » (١).

والجواب عنه : ظهر ممّا سبق حيث إنّا لم نقبل عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق حتّى نلتزم بالإهمال بل قلنا بإمكانه من طرق ثلاثة : أخذ قصد الأمر في الأمر الأوّل ، وأخذه في الأمر الثاني ، وعدم انحصار التقرّب في قصد الأمر.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي.

الأصل العملي في المقام :

لو أنكرنا وجود الأصل اللّفظي إمّا من طريق عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به أو عدم كون المولى في مقام البيان ، فما هو مقتضى الأصل العملي في المقام؟ فيه ثلاثة وجوه :

الوجه الأوّل : أنّ الأصل هو البراءة بمقتضى العقل والنقل ونتيجته التوصّلية ، وهذا هو المختار.

الوجه الثاني : عدم جريان البراءة لا عقلاً ولا شرعاً بل الأصل هو الاشتغال ونتيجته التعبّديّة وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ومن تبعه.

الوجه الثالث : جريان البراءة الشرعيّة دون العقليّة.

أمّا القول الأوّل : فيظهر وجهه ممّا سنذكره في الجواب عن القول الثاني.

وأمّا القول الثاني : فاستدلّ لعدم جريان البراءة العقليّة فيه بما حاصله : إنّ الشكّ في المقام واقع في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، والعقل يستقلّ بلزوم الخروج عن عهدته ، فإذا علمنا أنّ شيئاً خاصّاً كالعتق مثلاً واجب قطعاً ، ولم نعلم أنّه تعبّدي يعتبر فيه قصد القربة ، أم

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١١٢ ـ ١١٣.

٢٨٦

توصّلي لا يعتبر فيه ذلك ، فما لم يؤت به بقصد القربة لم يعلم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم تعلّقه به ، فإذا لم يؤت به كذلك وقد صادف كونه تعبّديّاً يعبتر فيه قصد القربة فلا يكون العقاب حينئذ عقاباً بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

وببيان آخر : إنّ مردّ الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة إلى الشكّ في حصول الغرض من المأمور به بدون قصد القربة وعدمه ، وحيث إنّ تحصيل غرض المولى أيضاً لازم بحكم العقل كإتيان المأمور به فلابدّ أن يقصد القربة حتّى يتيقّن بتحصيل الغرض وسقوط ما وجب عليه والخروج عن عهدة ما اشتغلت ذمّته به.

وهذا نظير الشكّ في وجوب قصد الوجه والتمييز ، فإنّه إذا شكّ في اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادات وشكّ في دخلهما في الطاعة والغرض من المأمور به فلا مجال إلاّلأصالة الاشتغال ، نعم يمكن التخلّص عن الاحتياط وجريان أصالة الاشتغال فيهما بأنّهما ممّا يغفل عنه عامّة الناس ولا يلتفت إليه إلاّ الأوحدي منهم ، وفي مثله كان على الآمر بيان دخله في غرضه فحيث لم يبيّن يقطع بعدم دخله فيه ، فلا يجب الاحتياط حينئذٍ ( وأمّا قصد القربة فليس بهذه المنزلة ).

واستدلّ لعدم جريان البراءة الشرعيّة بأنّه لا بدّ في جريان أدلّة البراءة الشرعيّة كحديث الرفع وأخواته من شيء قابل للرفع والوضع ، وما نحن فيه ليس كذلك حيث إنّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي بل واقعي فلا يقبل الرفع.

إن قلت : إنّ دخل الجزء والشرط أيضاً واقعي ، فكيف يرفع بحديث الرفع ونحوه في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين؟

قلنا : إنّ دخلهما وإن كان واقعياً إلاّ أنّهما قابلان للرفع ، فبدليل الرفع يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك حتّى يجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام فإنّه علم فيه بثبوت الأمر الفعلي. ( انتهى ملخّص كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ومن تبعه في الاستدلال على أنّ الأصل هو الاشتغال ).

أقول : فيه مواقع للنظر :

الموقع الأوّل : للاشكال في المبنى ، فقد مرّ إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق بطرقه الثلاثة.

الموقع الثاني : ( وهو العمدة ) أنّه لا دليل على وجوب تحصيل غرض المولى ، بل على العبد

٢٨٧

أن يؤتي بمتعلّقات التكاليف الموجّهة إليه فقط حتّى لو كانت نسبة المصالح والملاكات إلى متعلّقات التكاليف من قبيل المسبّبات التوليديّة إلى أسبابها أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين ، لأنّ الواجب في الحقيقة إنّما هو ذات المتعلّق لا بما أنّه سبب أو علّة ، فالغسلتان والمسحتان في باب الوضوء مثلاً واجبتان بذاتهما لا بما إنّهما موجبتان للطهارة الباطنية ، لأنّ هذا أمر خفي علينا لا بدّ للشارع من بيان أسبابه ، فإذا شكّ في مدخلية شيء في تماميّة علّيته أو سببيته ولم يكن دليل على أخذه في متعلّق التكليف فلا دليل على لزوم الإتيان به على العبد فيكون الشكّ شكّاً في ثبوت التكليف وموجباً لجريان البراءة.

هذا كلّه بناءً على أن يكون حال متعلّقات التكاليف بالنسبة إلى ملاكاتها من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين ، وأمّا إذا كان من قبيل المعدّ والمعدّ له كما هو الحقّ فعدم وجوب تحصيل الغرض أوضح لأنّه ليس حينئذٍ من فعل العبد ، فاللازم عليه هو إتيان متعلّق التكاليف فقط.

وإن شئت قلت : إنّ العبد لا يفهم من أمر المولى بالصّلاة مثلاً إلاّلزوم الإتيان بالقيام والركوع والسجود ونحوها ، وأمّا كيفية الغرض وخصوصّياته وأنّه بأي طريق يحصل فهي من شؤون المولى ، وعليه أن يبيّن للعبد الأسباب الموصلة إليه كالطبيب الذي عليه أن يبيّن للمريض مقدار الدواء وطريق استعماله ، وأمّا كيفية تأثيره ومقداره فهو أمر مرتبط بالطبيب ولا يفهمه المريض وإلاّ صار طبيباً ، وحينئذٍ ليس على العبد إلاّ العمل بالمتعلّقات بمقدار ما وصل إليه من البيان.

نعم إذا علم العبد تفصيلاً بغرض المولى وبأنّه لا يحصل بمتعلّق الأمر فقط يجب عليه إتيان المشكوك أيضاً كما إذا أمره المولى بالإتيان بالماء وعلم أنّ الغرض منه رفع عطشه ، فلو اهرق الماء بعد وصوله بيد المولى كان اللازم على العبد الإتيان به مرّة اخرى لعدم حصول الغرض ، وأمّا في صورة الاحتمال أو العلم الإجمالي فلا يجب عليه إلاّ الإتيان بمتعلّق الأمر بمقدار البيان وإلاّ لم يبق مورد للبراءة مطلقاً بل يجري الاشتغال في جميع موارد الشكّ.

ثالثاً : سلّمنا بوجوب تحصيل الغرض على العبد لكن تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الغرض أيضاً كما تجري بالنسبة إلى المأمور به لأنّه يمكن للمولى أن يبيّن مقدار غرضه ، فكما أنّ المأمور به أمره دائر بين الأقلّ والأكثر كذلك الغرض ، فإنّه أيضاً مقول

٢٨٨

بالتشكيك ، نعم لو كان الغرض أمراً بسيطاً وكان أمره دائراً بين الوجود والعدم فالأصل هو الاشتغال مع قطع النظر عن ما مرّ آنفاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن التعبّدي والتوصّلي ، أي الفصل الثالث من مبحث الأوامر.

٢٨٩
٢٩٠

الفصل الرابع

وجوب المباشرة في الأوامر وعدمه

إذا دار الأمر بين المباشرة والتسبيب ، أي شككنا في أنّ امتثال الأمر الفلاني مشروط بالمباشرة أو يكفي التسبيب أيضاً أو يسقط الأمر حتّى بإتيان العمل تبرّعاً فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

توضيح ذلك : إنّ الأفعال على ثلاثة أقسام : قسم منها لا يقبل النيابة قطعاً ولا بدّ فيه من المباشرة كالصّلاة والصّيام في حياة المكلّف ، وقسم منها يقبل النيابة والتسبيب قطعاً كأداء الدَين بل يسقط بالأداء تبرّعاً ، وقسم منها يكون الأمر فيه دائراً بين الأمرين فلا نعلم هل تكفي فيه النيابة أو التبرّع أو لا؟ كوجوب قضاء صلوات الأب الميّت على ولده الأكبر ، فهل يجب عليه القضاء بالمباشرة أو يكفي التسبيب بغيره أو التبرّع من ناحية متبرّع ، ونظير بعض مناسك الحجّ كالطواف ورمي الجمرات ، ففي هذه الموارد ما هو مقتضى الإطلاقات والعمومات أوّلاً؟ وما هو مقتضى الأصل العملي ثانياً؟ فيقع البحث في مقامين.

وقد تعرّض لهذه المسألة بعض الأكابر في ذيل البحث عن التعبّدي والتوصّلي وذكر له مقدّمة ، وهي « أنّ خطاب المكلّف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون مشروطاً بعدم فعل الغير كما توهّم ، بل هو خطاب توجّه إليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري ، كما أنّ الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلّق بالجامع بين فعل المكلّف وفعل غيره كما يتعلّق به في الواجب التخييري ، وذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره ، وكما أنّ الخطاب لم يتعلّق به بنحو التخيير بينه وبين التسبيب إلى فعل غيره لأنّ الجامع الذي يحصل به الغرض ليس مشتركاً بين فعل المكلّف وبين التسبيب إلى فعل غيره بل بين فعل المكلّف وبين نفس فعل الغير ، وإنّما العقل يرشد إلى المكلّف إلى ما يسقط به التكليف عنه وهو

٢٩١

فعل الغير فيتسبّب إليه بما يراه سبباً لصدور الفعل من الغير » ( فتكون القضيّة في الفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره حينية لا مشروطة ولا من قبيل الجامع ).

ثمّ قال : « إذا عرفت هذه المقدّمة تعرف أنّ إطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقاً في جميع الأحوال وأزمنة الإمكان لا أنّه قضيّة حينية أي أنّه ثابت في حين دون حين وحال دون حال ، ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلّف وعدم حصول الغرض بفعل غيره » (١).

أقول : الحقّ أنّ فعل الغير كثيراً ما يكون في الموارد التي يسقط وجود الفعل عنه بفعل غيره من قبيل إفناء الموضوع الذي يوجب إفناء الحكم ، وهذه ليست قضيّة حينية ولا مشروطة ولا تخييريّة ، حيث إنّ القضيّة الحينيّة أو المشروطة تكون من قيود الحكم ولا ربط لها ببقاء الموضوع.

نعم إذا خيّر المكلّف بين أن يأتي بالفعل بنفسه أو الاستنابة فهو من قبيل الواجب التخييري ، فإذا شككنا في جواز التسبيب وانتفاء الموضوع بفعل الغير أو شككنا في تعيين الفعل عليه أو التخيير بين المباشرة والاستنابة ، فالإنصاف أنّ الإطلاق يقتضي المباشرة لأنّه إذا تعلّق خطاب المولى بعبده فما لم يحصل له اليقين بإمكان التسبيب فلا يجوز له التسبيب بالغير لأنّ ظاهر الخطاب أنّ المأمور إنّما هو العبد نفسه ، ومن هنا يعلم أنّ تمسّك بعض بإطلاق المادّة من « أنّ مقتضى إطلاق المادّة قيام المصلحة والغرض بها وإن صدرت من الغير ولو بتسبيب المخاطب » في غير محلّه لأنّ إطلاق المادّة يقيّد بإطلاق الهيئة ، أي ظاهر توجيه الخطاب الذي يقتضي حصره في فعل المأمور يمنع عن تماميّة إطلاق المادّة.

وإن شئت قلت : ما لم يثبت انتفاء موضوع الأمر أو حصول المطلوب كانت دعوته إلى الامتثال باقية ، وما لم يثبت التخيير بين المباشرة والتسبيب كان مقتضى الإطلاق هو المباشرة ، فعلى كلّ حال لا يجوز الاكتفاء بفعل الغير ما لم يقم عليه دليل.

أضف إلى ذلك أنّ القضيّة الحينية في أوامر الموالي إلى العبيد لا معنى لها ، لأنّ الإهمال في مقام الثبوت غير ممكن بل أمره دائر بين الإطلاق والتقييد ، والحينية لا بدّ أن ترجع إلى الواجب المشروط ، فتدبّر جيّداً.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٢٤٧.

٢٩٢

ثمّ إنّه لو فرض عدم كون المولى في مقام البيان أو لم يكن في البين لفظ بل كان الدليل لبّياً تصل النوبة إلى الأصل العملي ، والاحتمالات فيه ثلاثة :

١ ـ إنّ الأصل هو البراءة ونتيجتها كفاية فعل الغير كما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه‌الله فإنّه قال : إنّ مقتضى الأصل العملي هو البراءة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم الإجمالي باشتغال ذمّة المكلّف ، وهذا العلم الإجمالي غير موجود في محلّ الكلام لأنّه يعلم تفصيلاً بأنّه مخاطب بهذا الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره ، فلا يكون عدلاً لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلّفاً تخييراً بأحد الأمرين ، وبما أنّ المكلّف يعلم أنّه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له يشكّ بوجوبه عليه في حال إتيان الغير به يصحّ له الرجوع إلى البراءة في مقام الشكّ المذكور » (١).

٢ ـ إنّ الأصل الاشتغال ، وذلك ببيان أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل فيه هو التعيين ، ولازمه الاشتغال وعدم سقوط الفعل بفعل غيره.

٣ ـ التفصيل بين ما إذا كان التكليف دائراً بين فعل نفسه وفعل غيره تبرّعاً فالحقّ حينئذٍ مع المحقّق العراقي رحمه‌الله من أنّ الأصل هو البراءة ، لأنّ فعل الغير ليس عدلاً لفعل المكلّف حتّى يتصوّر التخيير ويكون المورد من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير كما مرّ ، وفي ما إذا كان التكليف دائراً بين فعل نفسه والاستنابة فالأصل هو الاشتغال ، حيث إنّ الاستنابة أيضاً تكون من فعل المكلّف ، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل فيه هو التعيين الذي لازمه الاشتغال.

أقول : الصحيح هو القول الثالث أي التفصيل ، أمّا إذا كان المحتمل من قبيل الواجب التخييري فلأنّه من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير بناءً على وجوب الاحتياط فيه ، وأمّا إذا كان من قبيل افناء الموضوع فلأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في انتفاء الموضوع وعدمه ، والأصل حينئذٍ هو استصحاب بقاء الموضوع أو الاشتغال كما لا يخفى.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٢٤٨.

٢٩٣
٢٩٤

الفصل الخامس

هل الأصل في الواجبات النفسيّة أو الغيريّة؟

والتعيينية أو التخييريّة؟ والعينية أو الكفائيّة؟

والمناسب ذكر هذه المسألة في البحث عن تقسيمات الواجبات في ذيل مبحث الأوامر كما لا يخفى.

وعلى كلّ حال البحث هنا أيضاً يقع في مقامين : في مقتضى الأصل اللّفظي ، ومقتضى الأصل العملي ، ولكن قبل الورود في أصل البحث لا بدّ أن نشير إجمالاً إلى ماهيّات هذه الامور.

فنقول : أمّا الواجب النفسي فهو عبارة عن ما يجب لنفسه وتكون مصلحته قائمة بنفسه بخلاف الواجب الغيري الذي يجب لغيره ويكون مطلوباً لكونه مقدّمة لغيره ، ونتيجته أن يكون وجوبه تابعاً لوجوب غيره كنصب السلّم للصعود على السطح ، والوضوء والاستقبال بالنسبة إلى الصّلاة.

وأمّا الواجب التعييني والتخييري فالاحتمالات فيهما كثيرة والجدير منها بالذكر هنا احتمالان :

الاحتمال الأوّل : أنّ الواجب التخييري عبارة عن وجوب عدّة امور يسقط ، بإتيان بعضها بخلاف الواجب التعييني الذي هو عبارة عن وجوب شيء واحد فلا يسقط إلاّبإتيان نفس ذلك الشيء.

الاحتمال الثاني : أن يكون الواجب التخييري عنوان أحد الفعلين أو أحد الأفعال فالوجوب تعلّق بجامع انتزاعي وهو عنوان « أحدهما » أو « أحدها » بخلاف الواجب التعييني الذي يتعلّق الوجوب فيه بشخص الفعل لا بالجامع.

٢٩٥

ونحن نبحث هنا بناءً على كلا المبنيين ، وأمّا أيّهما هو الصحيح فسنتكلّم عنه في ذيل مبحث الأوامر عند البحث عن تقسيمات الواجب.

وأمّا الواجب العيني والكفائي فيأتي فيه نظير ما مرّ في الواجب التعييني والتخييري ولكنّه بالنسبة إلى المكلّف لا المتعلّق ، فالواجب الكفائي يحتمل أن يكون الوجوب فيه متعلّقاً بجميع المكلّفين على نحو العموم الاستغراقي مع سقوط الوجوب بإتيان من به الكفاية ، ويحتمل أن يكون الوجوب فيه متعلّقاً بجامع أحد المكلّفين أو جماعة من المكلّفين.

إذا عرفت هذا فنقول : إذا شككنا في النفسيّة والغيريّة كما إذا شككنا في أنّ غسل الجنابة مثلاً واجب نفسي أو واجب غيري ، أو شككنا في التخييري والتعييني كما إذا شككنا في أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجب تعييني أو واجب تخييري يخيّر المكلّف بينها وبين صلاة الظهر ، أو شككنا في العينية والكفائيّة كما إذا شككنا في أنّ الجهاد واجب كفائي أو عيني ( ولا إشكال في أنّ الشكّ هذا من قبيل الشبهة الحكمية لا الموضوعيّة ) فيقع البحث في مقامين : الأوّل : في مقتضى الأصل اللّفظي ، والثاني : في مقتضى الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل : فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله وجماعة إلى أنّ مقتضى إطلاق الأوامر هو النفسيّة والعينية والتعيينيّة.

وهو واضح بالنسبة إلى النفسيّة والغيريّة ، فإذا قال المولى لعبده « اغتسل للجنابة » من دون أن يقيّده بشيء فلا إشكال في أنّ ظاهره وجوب غسل الجنابة مطلقاً سواء كانت الصّلاة أيضاً واجبة أو لا؟

وبعبارة اخرى : إنّ إطلاقه يقتضي عدم تقيّد وجوب غسل الجنابة بوجوب شيء آخر ، ولازمه النفسيّة.

وقد تمسّك بعض الأعلام أيضاً بإطلاق الأمر بالصّلاة من أنّ مقتضاه عدم تقيّد وجوب الصّلاة بغسل الجنابة ولازمه العقلي كون غسل الجنابة واجباً نفسياً ، وإليك نصّ كلامه : « لو كان لقوله تعالى « أقيموا الصّلاة » إطلاق فمقتضاه عدم تقييد الصّلاة بالطهارة أو نحوها فالتقييد يحتاج إلى دليل ومؤونة زائدة والإطلاق ينفيه ، ولازم ذلك هو أنّ وجوب الطهارة المشكوك نفسي لا غيري » (١).

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ١٩٩.

٢٩٦

وأمّا بالنسبة إلى التخييريّة والتعيينية فكذلك تمسّك المحقّق الخراساني رحمه‌الله بإطلاق الأمر لنفي التخييريّة وإثبات التعيينية وهو في محلّه لأنّ الواجب التخييري مقيّد بما إذا لم يأت بالبدل وإطلاق الصيغة ينفي هذا القيد.

نعم إنّه إنّما يكون تامّاً بالنسبة إلى مبنى وجوب جميع الأطراف مع سقوط وجوب كلّ من الأطراف بفعل أحدها حيث إنّه يرجع حينئذ إلى اشتراط وجوب كلّ منها بعدم الإتيان بالآخر ، والاشتراط منفيّ بإطلاق الصيغة ، وأمّا بناءً على مبنى كون الواجب عنوان أحد الأفعال أو أحد الفعلين فلا ، لأنّا لا نعلم من أوّل الأمر أنّ صلاة الجمعة واجب بما هي صلاة الجمعة أو بما أنّها أحد الفعلين ، أو أحد الأفعال ، ولا معنى للأخذ بالاطلاق هنا ، نعم ظهور العنوان في الخصوصيّة أعني خصوصيّة عنوان « الجمعة » ينفي عنوان « أحدهما » وهذا غير مسألة الإطلاق والتقييد ، فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا بالنسبة إلى العينية والكفائيّة فكذلك تمسّك المحقّق الخراساني رحمه‌الله بإطلاق صيغة الأمر لإثبات العينية في محلّه بناءً على مبنى من يقول في الواجب الكفائي : أنّ التكليف به متوجّه إلى عموم المكلّفين ( على نحو العموم الاستغراقي ) إلاّ أنّ وجوبه على كلّ مشروط بترك الآخر لأنّ مقتضى إطلاق الصيغة عدم الاشتراط فيثبت كونه واجباً عينياً.

وأمّا بناءً على مبنى من يقول : بأنّ التكليف في الواجب الكفائي متوجّه إلى أحد المكلّفين أو جماعة منهم لا بعينها فلا ، حيث إنّ المكلّف حينئذٍ لا يعلم من أوّل الأمر أنّ التكليف توجّه إلى نفسه أو إلى عنوان أحد المكلّفين ، كما إذا دقّ الباب فأمر المولى بفتح الباب ولا يعلم العبد من أوّل الأمر أنّه هل المولى وجّه الخطاب إلى شخصه وقال « افتح أنت الباب » أو وجّه الخطاب إلى أحد العبيد لا بعينه وقال « ليفتح أحدكم الباب » ، فليس في البين لفظ مشخّص حتّى ينعقد له إطلاق فيتمسّك به ، نعم يجري فيه ما مرّ سابقاً في الشكّ بين التخييريّة والتعيينيّة من أنّ ظاهر توجّه الخطاب إلى شخص أو صنف خاصّ أو أخذ عنوان معيّن في لسان الدليل هو اعتباره في الحكم ولازمه هو العينية.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ لازم الإطلاق في جميع الموارد ليس هو التوسعة في الأفراد بل قد يكون لازمه التضييق والتحديد ، حيث إنّ لازم التعيينية في ما نحن فيه هو تضييق الأفراد وحصرها في فرد واحد ، كما أنّ لازم العينية هو توسعة أفراد المكلّفين وتعميم التكليف بالنسبة إلى جميعهم.

٢٩٧

هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الأوّل وهو مقتضى الأصل اللّفظي.

وأمّا المقام الثاني : وهو مقتضى الأصل العملي فيبدو في أوّل النظر أنّ الأصل هو البراءة ، وهي تقتضي الغيريّة والتخييريّة والكفائيّة فإنّ القدر المتيقّن من وجوب الوضوء مثلاً هو وجوبه بعد الوقت ، وأمّا قبله فينتفي بأصل البراءة ، ولازمه نفي النفسيّة وإثبات الغيريّة ، وكذلك بالنسبة إلى التخييريّة والتعيينية ، لأنّ ما تمّت الحجّة بالنسبة إليه هو وجوب أحد الفعلين ، فإذا أتينا بالظهر مثلاً نشكّ في وجوب صلاة الجمعة وهو ينتفي بأصل البراءة ، وكذلك بالنسبة إلى الكفائيّة والعينية فإنّه بعد تصدّي الغير للعمل يشكّ المكلّف في الوجوب على نفسه ، وهو أيضاً ينتفي بأصل البراءة.

وبالجملة : إنّ القدر المتيقّن من الخطاب هو التخييريّة والكفائيّة والغيريّة وأمّا الزائد عليها فهو منفي بأصل البراءة.

هذا ما يبدو للإنسان في أوّل النظر ، ولكن عند التأمّل والدقّة يمكن التفصيل في التخييريّة والتعيينية والنفسيّة والكفائيّة على المباني المختلفة لأنّه بناءً على المبنى الأوّل في الواجب التخييري والكفائي ( من أنّ الخطاب توجّه إلى جميع الأطراف أو جميع المكلّفين ) فبعد إتيان أحد الأفراد أو أحد المكلّفين يقع الشكّ في سقوط البدل أو سقوط التكليف عن الآخرين ، وحيث إنّ المفروض أنّ التكليف تعلّق بالجميع فمقتضى استصحاب بقاء التكليف أو أصالة الاشتغال هو عدم سقوط التكليف كما لا يخفى ، فالبيان المزبور تامّ بناءً على أحد المبنيين فقط.

٢٩٨

الفصل السادس

الأمر عقيب الحظر

إذا ورد أمر عقيب الحظر أو عقيب توهّم الحظر فهل يدلّ على الإباحة أو على الوجوب؟ كقوله تعالى : ( ... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )(١). مع ما ورد في قوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(٢) ، فهل هو دليل على وجوب الصيد بعد الاستحلال أو يدلّ على جوازه فقط؟

وكقوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ )(٣) وقوله تعالى : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ). (٤)

وقوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ )(٥) فما هو مقتضى القاعدة عند الشكّ فيما إذا دار الأمر بين الجواز والوجوب؟

فيه أربعة أقوال :

١ ـ دلالته على الإباحة ، وهو المشهور عندنا.

٢ ـ دلالته على الوجوب كسائر الموارد ، وهو المنقول عن كثير من العامّة.

٣ ـ التفصيل بين ما إذا كان معلّقاً على زوال علّة الحرمة فيعود إلى ما قبله من الحكم ، وبين ما إذا لم يكن معلّقاً عليه فيكون ظاهراً في الوجوب ، ففي مثل قوله تعالى : ( فَإِذَا انْسَلَخَ

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١.

(٢) سورة المائدة : الآية ٢.

(٣) سورة البقرة : الآية ٢١٧.

(٤) سورة التوبة : الآية ٥.

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

٢٩٩

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) المرجع هو ما كان قبله من الحكم ، وهو جواز قتل المشركين لأنّ الأمر فيه معلّق على زوال علّة الحرمة وهي وجود الأشهر الحرم ( بخلاف قولنا لا تكرم زيداً يوم الجمعة وبعده أكرمه ).

٤ ـ عدم دلالته على شيء فليرجع إلى الاصول العمليّة.

والصحيح عندنا الأخير كما ذهب إليه جمع من المحقّقين لما قرّر في محلّه من أنّه إذا كان الكلام محفوفاً بما يحتمل القرينة فهو يوجب الإجمال ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ فيه أمر وهو قوله تعالى « فآتوهنّ » مثلاً وفي جنبه يوجد ما يحتمل القرينية وهو المنع والحظر السابق فيحتمل أن يكون قرينة على مطلق الجواز والإباحة ، أي يوجب عدم انعقاد ظهور للأمر في الوجوب.

هذا إذا كان الأمر والحظر في كلام واحد كالمثال المذكور ، وأمّا إذا كان في كلامين مثل الأمر بالصيد والحظر عنه الواردين في آيتين مختلفين فيمكن أن يقال أيضاً بأنّ العرف بعد ملاحظة النهي لا يرى ظهوراً للأمر في الوجوب ، فيكون كالقرينة المنفصلة.

وإن شئت قلت : يرفع اليد عن ظهوره بعد ورود هذه القرينة.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه إذا ورد نهي بعد الأمر كما إذا قيل « صم شهر رمضان ولا تصم بعده » فالإنصاف أنّ الكلام فيه هو الكلام في الأمر الوارد عقيب الحظر ، وهو الإجمال والرجوع إلى الاصول العمليّة بنفس البيان.

٣٠٠