أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الاختيار الكامنة في النفس ، وإراديّة صفة الاختيار واختياريتها إنّما هي بذاتها فإنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، وذلك مثل أنّ المعلوم يكون معلوماً بتعلّق العلم به ، والعلم معلوم بذاته لا يتعلّق علم آخر به.

يبقى الكلام في توضيح نكتة أنّ الإرادة كيف تترشّح وتنشأ من صفة الاختيار الكامنة في النفس وأنّ النفس تخلقها وتوجدها بذاتها وبلا وسائط اخرى خارجيّة ، فنذكر في هذا المجال ما أفاده في رسالة الطلب والإرادة ، ونعم ما أفاد ، فإنّه جدير بالدقّة والتأمّل وإليك نصّ كلامه : « اعلم أنّ الأفعال الاختياريّة الصادرة من النفس على نوعين :

النوع الاوّل : ما يصدر منها بتوسّط الآلات الجرمانيّة كالكتابة والصياغة والبناء ففي مثلها تكون النفس فاعلة الحركة أوّلاً وللأثر الحاصل منها ثانياً وبالعرض ، فالبنّاء ، إنّما يحرّك الأحجار والأخشاب من محلّ إلى محلّ ويضعها على نظم خاصّ وتحصل منه هيئة خاصّة بنائيّة وليست الهيئة والنظم من فعل الإنسان إلاّبالعرض ، وما هو فعله هو الحركة القائمة بالعضلات أوّلاً وبتوسّطها بالأجسام ، وفي هذا الفعل تكون بين النفس المجرّدة والفعل وسائط ومبادٍ من التصوّر إلى العزم وتحريك العضلات.

النوع الثاني : ما يصدر منها بلا وسط أو بوسط غير جسماني كبعض التصوّرات التي يكون تحقّقها بفعّاليّة النفس وإيجادها لو لم نقل جميعها كذلك ، مثل كون النفس خلاّقة للتفاصيل ، ومثل اختراع نفس المهندس صورة بديعة هندسيّة ، فإنّ النفس مع كونها فعّالة لها بالعلم والإرادة والاختيار لم تكن تلك المبادىء حاصلة بنحو التفصيل كالمبادىء للأفعال التي بالآلات الجسمانيّة ، ضرورة أنّ خلق الصور في النفس لا يحتاج إلى تصوّرها والتصديق بفائدتها والشوق والعزم وتحريم العضلات ، بل لا يمكن توسيط تلك الوسائط بينها وبين النفس بداهة عدم إمكان كون التصوّر مبدئاً للتصوّر بل نفسه حاصل بخلاّقيّة النفس ، وهي بالنسبة إليه فاعلة بالعناية بل بالتجلّي لأنّها مجرّدة ، والمجرّد واجد لفعليات ما هو معلول له في مرتبة ذاته ، فخلاّقيته لا تحتاج إلى تصوّر زائد بل الواجدية الذاتيّة في مرتبة تجرّدها الذاتي الوجودي تكفي للخلاّقيّة ، كما أنّه لا يحتاج إلى إرادة وعزم وقصد زائد على نفسه.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ العزم والإرادة والتصميم والقصد من أفعال النفس ، ولم يكن سبيلها سبيل الشوق والمحبّة من الامور الانفعاليّة ، فالنفس مبدأ الإرادة والتصميم ، ولم تكن

٢٤١

مبدئيتها بالآلات الجرمائيّة بل هي موجدة لها بلا وسط جسماني ، وما كان حاله كذلك في صدوره من النفس لا يكون بل لا يمكن أن يكون بينه وبينها إرادة زائدة متعلّقة ، به بل هي موجدة له بالعلم والاستشعار الذي في مرتبة ذاتها ، لأنّ النفس فاعل إلهي واجد لأثره بنحو أعلى وأشرف » (١) ( انتهى ).

إن قلت : إن كانت النفس علّة تامّة وفاعلة للفعل باختيارها من دون دخالة شيء آخر من الخارج فلماذا صدر الفعل الفلاني منها في اليوم دون الأمس مع أنّ المعلول لا ينفكّ عن علّته التامّة؟

قلنا : المفروض أنّ النفس بما لها من صفة الاختيار تكون علّة تامّة للفعل ، ولا إشكال في أنّ هذه الصفة تقتضي بذاتها تخصيص الفعل بوقت دون وقت ، وهذا نظير ما يقال به في باب صفات الباري من أنّه تعالى مختار واختياره عين ذاته ، ولازمه تخصيص فعله ( وهو خلق حادثة فلانيّة كخلق الشمس والقمر ) بزمن خاصّ لا من الأزل.

والحاصل : أنّه يمكن قياس فعل العبد من هذه الجهة على فعل الله ، فهل العالم قديم؟ لا إشكال في حدوثه ، فهل العلّة التامّة لوجوده هو ذات الباري بما له من الإرادة والاختيار بل الإرادة والاختيار عين ذاته ، فلماذا حصل الخلق وحدث بعد أن لم يكن؟ فهل كانت هناك علّة من الخارج؟ والمفروض أنّه لم يكن هناك شيء فما العلّة في تخصيص حدوثه بوقت دون وقت؟

والجواب : أنّ ذاته تعالى بما له من الاختيار كان سبباً وعلّة ، وهكذا الكلام في أفعال العباد من هذه الجهة وإن كان يتفاوت مع أفعاله تعالى من جهات اخرى.

ثمّ إنّ لبعض المعاصرين ( قدس‌سرهم الشريف ) هنا كلاماً لا يخلو ذكره عن فائدة ، فإنّه قال في حلّ مشكلة الإرادة وقاعدة « إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » إنّ هذه القاعدة لو كانت قاعدة عقليّة لم يكن هناك معنى للالتزام بالتخصيص فيها ، لكن الصحيح أنّها ليست قاعدة عقليّة مبرهنة بل هي قاعدة وجدانيّة ، إذن فلابدّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة ، والفطرة السليمة تحكم أنّ هناك صفة في النفس وهي السلطنة ، وينتزع منها مفهوم الاختيار ، ومعناها إنّه حينما يتمّ الشوق المؤكّد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهراً ولا يدفعنا إليه أحد بل نقدم عليه بالسلطنة ، ونسبتها إلى الوجود والعدم وإن كانت متساوية لكنّها كافية

__________________

(١) رسالة الطلب والإرادة للإمام الخميني قدس‌سره : ص ١٠٨ ـ ١٠٩.

٢٤٢

في إيجاد المطلوب بلا حاجة إلى ضمّ شيء آخر إليها لأجل تحقّق أحد الطرفين ، فلا يجري فيه قاعدة « إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » وإلاّ لزم الخلف ، لأنّ السلطنة لو وجدت لا بدّ من الالتزام بكفايتها (١). ( انتهى ملخّصاً ).

وفيه : إنّا لا نجد فرقاً بين مفهوم السلطنة والاختيار ، وما ذكره ليس أمراً جديداً فقد عبّر بالسلطنة بدل الاختيار كما عبّر بعض آخر بهجوم النفس ( فإنّه عبارة اخرى عن إعمال الاختيار أي الاختيار الفعلي ) أو الطلب الموجود في النفس فلو لم يكن وجود الاختيار كافياً في حلّ هذه المشكلة فالتعبير عنه بعبارة اخرى لا يفيد في حلّها أيضاً فإنّه يبقى السؤال في أنّ هذه السلطنة متساوية النسبة إلى الوجود والعدم فترجيح أحد الطرفين يحتاج إلى مرجّح.

وإن شئت قلت : إنّ السلطنة كانت موجودة في النفس من الأوّل ، فلو كانت كافية بذاتها للوجود بلا ضمّ شيء إليها فلابدّ أن توجد الأفعال كلّها من قبل ولا معنى لتخصيص فعل بزمان دون زمان ، فلا يبقى طريق لحلّ هذه المشكلة إلاّما عرفت سابقاً.

أدلّة القائلين بالاختيار :

وأمّا القائلون بالاختيار فاستدلّوا لمقالتهم بوجوه أيضاً :

الوجه الأوّل : ما هو مشترك بين الإلهيين والمادّيين وهو الرجوع إلى الوجدان ، فإنّ الضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا على تعبير المحقّق الطوسي رحمه‌الله ( والمراد من الضرورة في كلامه ضرورة الوجدان لا ضرورة دليل العقل ).

وتوضيحه : أنّ الوجدان على نوعين : الوجدان الفردي والوجدان العمومي ، أمّا الوجدان الفردي فهو قاضٍ بوجود الفرق الواضح بين أفعالنا نظير ضربان القلب وجريان الدم في العروق وحركة يد المرتعش ، وبين أفعال اخرى لا تصدر من الإنسان إلاّبعد التصوّر والتصديق والإرادة سواء صدرت من الإنسان بلا تأمّل ومشقّة وبمجرّد تعلّق الإرادة والمشيّة عليه كحركة اليد غير المرتعش فإنّها تتحقّق بمجرّد الإرادة ، أو لا تتحقّق بمجرّد الإرادة بل تحتاج إلى حصول مقدّمات ومبادٍ كسيلان الدموع ، فلا إشكال في أنّ الوجدان حاكم على عدم

__________________

(١) راجع ، ج ٢ ، من تقريرات المحقّق الشهيد محمّد باقر الصدر رحمه‌الله ، ص ٣٦.

٢٤٣

اختياريّة القسم الأوّل كما لا إشكال في أنّه يقضي باختياريّة القسم الثاني والثالث ، بل لو اقيمت صورة الف برهان على العكس نعلم إجمالاً بوجود اختلال في بعض مقدّماته ، لأنّه لا يقاوم الوجدان.

وأمّا الوجدان العمومي فلا إشكال أيضاً في أنّ جميع العقلاء من الإلهي والمادّي حتّى القائلين بمذهب الجبر يحكمون بأنّ المسؤول في الجرائم والتخلّفات والجنايات إنّما هو الإنسان نفسه ، فيذمّونه ويجعلون لشخص المتخلّف غرامة معيّنة ، والقول بالجبر يستلزم كون جميع المحاكم القضائيّة ظالمة ويستلزم أن يكون جميع المجازات ظلماً.

وبعبارة اخرى : أنّ أصل المجازاة واستحقاق الظالم لها وجداني وإن كانت كيفيتها وخصوصّياتها اعتباريّة ومجعولة من قبل المقنّن المشرّع.

وهذا ممّا يقضي به الجبريون أيضاً بوجدانهم ، والمنكر إنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان ، نظير إنكار السوفسطائي لأصل الوجود والمثالي للوجود الخارجي ، فلا إشكال في أنّ القائلين بهذه المقالات يعترفون في مقام العمل بوجود الأعيان الخارجيّة كالنار والماء والهواء والسيارات والطيّارات فيطلبونها ويركبونها كسائر الناس من دون أي فرق.

كذلك العالم الجبري إذا قام في ميدان العمل ورأى نفسه في المجتمع البشري يلوم من غصبه حقّه ويشكو منه ويرى تعزيره وسجنه عدلاً بينما تكون جميع هذه الامور على اعتقاده ظلماً وجوراً.

ويؤيّد ما ذكرنا من قضاء الوجدان بالاختيار ما رواه في اصول الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه كان جالساً بالكوفة منصرفة من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ، ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أجل ياشيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلاّبقضاء من الله وقدر » فقال له الشّيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟ فقال له : « مه ياشيخ فوالله لقد عظّم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرّين » فقال له الشّيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له : « وتظنّ أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر

٢٤٤

والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالاحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان ، وقدريّة هذه الامّة مجوسها ، إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يُعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يملّك مفوّضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيين مبشّرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ».

فأنشأ الشّيخ يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك بالاحسان احسانا (١)

وفي نقل آخر (٢) رواه العلاّمة المجلسي في البحار بعد ذكر ما مرّ : ثمّ تلا عليهم ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) وفي نقل ثالث في البحار (٣) أيضاً بعد عدّه عليه‌السلام الموارد العشرة من قضاء الله تعالى وقدره قال : « كلّ ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا ».

وهذا الحديث الذي هو من غرر الأحاديث ومحكمات الأخبار المأثورة عن المعصومين عليهم‌السلام الذي تلوح عليه آثار الصدق ناظر إلى تفسير القضاء والقدر بالقضاء والقدر التشريعيين ( كما ورد في ذيله ) ثمّ تمسّك لإثبات بطلان مقالة الجبريين والقدريين بالوجدان الصريح من عشرة وجوه : أحدها : الثواب والآخر : العقاب والثالث : الأمر الرابع : النهي ... إلى آخر ما ذكره عليه‌السلام فإنّه لا يجتمع الثواب مع الجبر على الطاعة ولا العقاب مع الجبر على المعصية كما أنّه لا معنى للأمر على فرض الجبر على الطاعة لأنّه تحصيل للحاصل ، ولا في فرض الجبر على المعصية فإنّه تكليف بما لا يطاق ، وهكذا مسألة اللائمة والمحمدة والسؤال والعتاب كلّ ذلك لغو أو ظلم على القول بالجبر ، وهو أمر واضح لكلّ أحد.

الوجه الثاني : ما يختصّ بالالهيين وهو « دليل العدالة » وهو أنّ الجبر ينافي عدله تعالى كما أنّ القول بالتفويض ينافي التوحيد ويلزم منه خروجه تعالى عن سلطنته ، وقد نصّ على هذا

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ، ص ١٥٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ، ص ٩٥ طبع بيروت.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ، ص ١٢٥ طبع بيروت.

٢٤٥

المعنى أبو الحسن الرضا في عبارة وجيزة لطيفة وقد سأل عنه الراوي وقال : الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال : الله أعزّ من ذلك. قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : « الله أعدل وأحكم من ذلك » (١).

وقد أجاب عنه الأشاعرة بوجهين :

أحدهما : من طريق إنكار الحسن والقبح العقليين وإنّ الظلم ليس قبيحاً على الباري تعالى.

ثانيهما : أنّه لو سلّمنا وقبلنا الحسن والقبح عند العقل إلاّ أنّه لا يصدق الظلم على أفعاله تعالى حتّى يحكم العقل بقبحه لأنّها تصرّفات في ملك نفسه وله أن يتصرّف في ملكه بما يشاء كيف يشاء لا يسأل عمّا يفعل.

ويجاب عن الوجه الأوّل : بأنّه سفسطة مخالفة للوجدان ، مضافاً إلى أنّه مستلزم لانهدام أساس المذهب وهو معرفة الباري لأنّها مبنية على قبول وجوب التحقيق عن وجوده تعالى ، وهو مبني على وجوب شكر المنعم ووجوب دفع الضرر المحتمل وقبح تركهما ، وكذلك معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّها أيضاً متوقّفة على قبح اعطاء الله تعالى المعجزة بغير النبي الصادق الصالح لمقام النبوّة وإلاّ لو لم يكن اعطائه بالشيطان مثلاً قبيحاً لم تثبت النبوّة والرسالة ولم يحكم العقل بوجوب النظر إلى دعوى من يدّعي النبوّة ومعجزته.

وعن الوجه الثاني : بأنّه لا دليل على جواز تصرّف الإنسان مثلاً في مملوكاته مطلقاً بما شاء وكيف يشاء ، فلا يجوز له مثلاً إحراق أمواله بل العقل يحكم بخلافه وبجواز التصرّفات غير القبيحة ، كذلك بالنسبة إلى أفعال الباري تعالى فإنّ تصرّفاته لا تكون إلاّعن مصلحة ، ومن المعلوم أنّ ما ذكر قبيح مخالف للمصلحة.

الوجه الثالث : « دليل الحكمة » فإنّ القول بالجبر يلازم كون بعث الرسل وانزال الكتب لغواً ، لأنّه أمّا أن الله تعالى أراد طاعة عبده وأنّ ذات العبد مقتضية للطاعة فبعثه وزجره تحصيل للحاصل ، وإمّا أن لا تكون ذاته مقتضية للطاعة بل لها اقتضاء العصيان فيكون بعثه أو زجره تكليفاً بما لا يطاق وكلاهما ينافيان حكمة الباري تعالى.

وهذا الوجه تامّ حتّى بناءً على إنكار الحسن والقبح العقليين ، لأنّ كونه تعالى حكيماً ثابت بالنقل.

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ، ص ١٥٧.

٢٤٦

نعم أنّه وارد على مقالة من يقول : بأنّ الجبر في أفعال الإنسان ينشأ من إرادة الله تعالى ومشيّته الأزليّة ، ولا تدفع قول من يرى أنّه ناشٍ من عوامل اخرى أمّا نفسانيّة ذاتيّة للإنسان كعامل الوراثة ، أو خارجيّة عن ذاته كعامل الطبيعة والمجتمع إذا كانت قابلة للتغيير ولو جبراً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله أورد مسألة الجبر والاختيار في مبحث التجرّي أيضاً ، ثمّ ذكر هذا الوجه تحت عنوان « إن قلت » وأنّه ما فائدة انزال الكتب وإرسال الرسل؟ وأجاب عنه بأنّ فائدة انزال الكتب وإرسال الرسل هو انتفاع من حسنت سريرته منها وتكامله بها ، وإتمام الحجّة بالنسبة إلى من خبثت سريرته.

أقول : هذا البيان مثله من مثله بعيد جدّاً لأنّه لا معنى للانتفاع أو إتمام الحجّة بناءً على العلّية التامّة في مقام الذات ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ مقصوده من العلّية إنّما هو الاقتضاء لا العلّية التامّة ، ولكن هذا عدول عن ظاهر كلامه ومن يقول بمقالته ويحذو حذوه. هذا تمام الكلام في الأدلّة العقليّة لمذهبي الجبر والاختيار.

الأدلّة النقليّة على القول بالاختيار :

وأمّا الأدلّة النقليّة : من الآيات والرّوايات فهي كثيرة لكلّ من الطرفين ، فالجبريّون استدلّوا بطوائف خمسة من الآيات التي تدلّ بظاهرها على أنّ الفاعل إنّما هو الباري تعالى فقط ( ولعلّ من مناشىء القول بالجبر هو ظاهر هذا القبيل من الآيات مع الجمود على ظواهرها من دون ملاحظة سائر الآيات والقرائن العقليّة ) :

الطائفة الاولى : ما تدلّ على أنّه تعالى خالق لكلّ شيء كقوله تعالى : ( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )(١) وقوله تعالى : ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(٢) وقوله تعالى : ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ )(٣).

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٠٢.

(٢) سورة الرعد : الآية ١٦.

(٣) سورة الصافات : الآية ٩٦.

٢٤٧

والجواب عنها : أمّا الآيتان الأوّليان فالمراد من « كلّ شيء » فيهما إنّما هو الذوات والأعيان الخارجيّة بقرينة أنّ الكلام فيهما وفيما قبلهما من الآيات إنّما هو في خلق السموات والأرض وبقرينة أوائل الآية الثانيّة وهو قوله تعالى : ( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) فإنّه وارد في ما اتّخذوه شركاء لله تعالى وليست ناظرة إلى أفعال الإنسان كما لا يخفى.

وأمّا الآية الثالثة فهي أيضاً ناظرة إلى أوثانهم بما هي أوثان وذوات خارجيّة لا بما هي أعمال ، والشاهد على ذلك قوله تعالى « ما تنحتون » فإنّ كلمة « ما » هنا موصولة لا مصدريّة ، وبالجملة يستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذا القبيل من الآيات منصرفة إلى الأعيان والذوات الخارجيّة ، كما يشهد على ذلك كلمة « شيء » حيث إنّها أيضاً تنصرف إلى خصوص الأعيان غالباً ولا يطلق على العمل.

هذا ـ ولو سلّمنا عموم هذه الآيات بالنسبة إلى الأفعال أيضاً ، لكن قد عرفت أنّ إسناد العمل إلى الله تعالى لا يمنع عن إسناده إلى الإنسان نفسه ، لأنّ أحدهما في طول الآخر ، وهو معنى الأمر بين الأمرين كما سيأتي تفصيلاً إن شاء الله.

الطائفة الثانيّة : الآيات التي تدلّ على نفي المشيّة عن العبد نحو قوله تعالى : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (١).

والجواب عنها : أنّ مقتضى مذهب الأمر بين الأمرين عدم استقلال مشيّة العبد عن مشيّة الله تعالى وإن كانت إرادة العبد واختياره في طول ارادته وإنّ الله أراد أن يختار العبد ويريد الفعل الفلاني كما سيأتي في توضيح الأمر بين الأمرين مزيد بحث لذلك ، فمشيّة العبد حينئذ لا تنفكّ عن مشيّة الله أبداً ، وهذا لا ينافي الاختيار كما لا يخفى.

الطائفة الثالثة : الآيات التي تدلّ على نفي الفعل عن العباد كقوله تعالى : ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى )(٢).

ويمكن الجواب عنها بوجهين :

الجواب الأوّل : أنّ المراد منه نفي استقلال العبد في التأثير وكون الفاعل المستقلّ هو الله

__________________

(١) سورة الدهر : الآية ٣٠.

(٢) سورة الانفال : الآية ١٧.

٢٤٨

تعالى. وبعبارة اخرى : كما أنّ الوجود بالأصالة مختصّ بذاته تعالى ، وغيره موجود بإرادته ، فكذلك الأفعال الإنسانيّة منسوبة إلى الله تعالى بالأصالة ومنسوبة إلى العباد بسبب أنّ الله تعالى أعطاهم القدرة والاختيار والقوّة.

الجواب الثاني : أنّ هذا التعبير وارد في شأن غزوة بدر التي تختصّ بالامدادات الغيبية ونزول الملائكة حيث

إنّ القتل إمّا أن يكون قد تحقق بأيدي الملائكة ، فسلب القتل عن المقاتلين لا بأس به ، وإمّا أن يكون قد صدر من المقاتلين مع نصرة من الملائكة فكذلك يمكن سلب القتل عنهم بهذا الاعتبار ، أي لولا الامداد الغيبي ونصرة الملائكة لم تقدروا على شيء ، وحينئذ يصدق قوله تعالى : ( وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ).

هذا بالنسبة إلى الفقرة الاولى ، وأمّا الفقرة الثانيّة فالمراد منها أنّ تأثير الرمي كان من الله تعالى ، أي وما رميت إذ رميت رمياً مؤثّراً ، والشاهد على هذا وجود إسنادين في الآية ، فكما أنّه تعالى يسند الرمي إلى نفسه يسنده إلى رسوله أيضاً ، وهذا يشهد على أنّ المقصود من الرمي الأوّل إنّما هو رمي التراب أو الحصى ، ومن الرمي الثاني تأثيرها في قبض عيون الناظرين كما في الرّوايات (١) ، وبالجملة الفقرتين كلتيهما تفسّران بالقرينة المقاميّة الموجودة في الآية.

الطائفة الرابعة : ما تدلّ على أنّ الإيمان والعمل بجعل الله تعالى وبمساعدته نحو قوله تعالى : ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ )(٢) وقوله تعالى : ( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ )(٣).

والجواب عنها أوضح من الجواب عن الطائفة السابقة عليها ، فإنّها من قبيل التعبير الرائج بيننا من أنّ التوفيق بيد الله ، والتوفيق عبارة عن تهيئة أسباب الخير ومقدّمات العمل الصالح على حدّ الاقتضاء والاعداد لا العلّية التامّة كما لا يخفى ، وأمّا المراد من كتابة الإيمان فهو إثبات

__________________

(١) فقد ورد في الرّوايات أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : « ناولني كفّاً من حصى وناوله ورمى به في وجوه قريش فما بقي أحد إلاّ امتلأت عيناه من الحصى » ( تفسير البرهان ذيل الآية ١٧ من سورة الأنفال ) وفي الدرّ المنثور ذيل نفس الآية : « أخذ رسول الله قبضة من تراب فرمى بها ».

(٢) سورة ابراهيم : الآية ٤٠.

(٣) سورة المجادلة : الآية ٢٢.

٢٤٩

الإيمان واستقراره في القلب ، والمستفاد من الآية بقرينة الآيات السابقة عليها أنّ الحبّ في الله والبغض في الله يوجب ثبوت الإيمان ورسوخه في القلب ، فهو بمنزلة الجزاء والنتيجة لعمل اختياري صالح للإنسان ، أي التولّي والتبرّي في الله ، فلا ينافي كونه اختياريّاً ، فإنّ ما يكون بعض مقدّماته اختياريّاً اختياري.

الطائفة الخامسة : آيات الهداية والضلالة والتي تسندهما إلى الله تعالى وهي كثيرة :

منها : قوله تعالى : ( فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )(١).

ومنها : قوله تعالى : ( وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٢).

ومنها : قوله تعالى : ( مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )(٣).

ومنها : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٤).

ومنها : ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً )(٥).

والجواب عنها أيضاً واضح ، ولكن قبل بيان الجواب الأصلي والمختار ننقل هنا ما قاله بعض الأعلام في مقام الجواب عنها ، وهو أنّ الهداية على معانٍ ثلاثة :

المعنى الأوّل : أنّ الهداية بمعنى إرائة الطريق ومنه قوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )(٦).

المعنى الثاني : أنّها بمعنى الإيصال إلى المطلوب ، ومنه ما مرّ آنفاً من قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) فإنّ ما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو إرائة الطريق فقط لا الإيصال إلى المطلوب ( والمراد من الإيصال اعداد المقدّمات والتوفيق الموصل إلى المقصود ).

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآية ٤.

(٢) سورة النحل : الآية ٩٣.

(٣) سورة الأنعام : الآية ٣٩.

(٤) سورة القصص : الآية ٥٦.

(٥) سورة الأنعام : الآية ١٢٥.

(٦) سورة الشورى : الآية ٥٢.

٢٥٠

الثالث أنّها بمعنى ترتّب الثواب على العمل ، وتقابلها الضلالة بمعنى حبط الأعمال ، ومنه قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ )(١).

أقول : إن كان مراده تفسير الضلالة بالمعنى الأخير كما يظهر من بعض كلماته فهو واضح الإشكال ، فإنّ كثيراً من آيات الضلالة لا تلائم هذا المعنى ولا دخل لها بمسألة الثواب والعقاب ، وإن كان المراد إنّ كلاً من هذه المعاني الثلاثة للهداية تقابله الضلالة فهو حقّ لا ريب فيه ، فإنّ كثيراً من آيات الضلالة بمعنى سلب التوفيق وعدم اعداد المقدّمات نحو المطلوب كما ذكره كثير من المحقّقين ، وهذا أيضاً أمر اختياري ، لأنّ التوفيق وكذا سلبه من قبل الله لا يكون بلا دليل بل هو ناشٍ عن بعض أعمال الإنسان الحسنة أو السيّئة أو نيّاته وصفاته الحسنة والخبيثة.

والمختار في الجواب ـ عن مسألة الهداية والضلالة في القرآن ـ هو ما يستفاد من نفس الآيات الكريمة ، تارةً : على نحو الإجمال واخرى : على نحو التفصيل :

فالجواب الإجمالي : ما جاء في ذيل بعض الآيات المزبورة ( وهو قوله تعالى : ( فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإنّ قوله « وهو العزيز الحكيم » إشارة إجماليّة إلى أنّ مشيّة الله وإرادته ضلالة بعض العباد وهداية بعض آخر تنشأ من حكمته وعزّته ، فإنّ قدرته وعزّته متقاربة مع حكمته ومندرجة فيها ، ومشيّته ناشئة من كلتيهما معاً لا من القدرة فقط ، فإذا علمنا بأنّ إرادته تنشأ من الحكمة فإضلاله أو هدايته مبنية على ما يصدر من العباد أنفسهم من الأعمال السيّئة أو الحسنة ، وعلى أساس ما اكتسبوه من الاستحقاق أو عدم الاستحقاق للهداية والضلالة.

وأمّا الجواب التفصيلي : فهو ما تصرّح به كثير من الآيات من أنّ الهداية أو الضلالة تنشأ ممّا كسبته أيدي العباد وقدّمته أيديهم ، فبالنسبة إلى الهداية نظير قوله تعالى :

١ ـ ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا )(٢).

٢ ـ ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )(٣).

__________________

(١) سورة محمّد : الآية ٨.

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٦٩.

(٣) سورة التغابن : الآية ١١.

٢٥١

٣ ـ ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ )(١).

٤ ـ ( قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ )(٢).

٥ ـ ( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ )(٣).

والمراد من التقوى هنا ظاهراً هو حالة قبول الحقّ وعدم اللجاج.

وبالنسبة إلى الضلالة نظير قوله تعالى :

١ ـ ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ )(٤).

٢ ـ ( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(٥).

٣ ـ ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ )(٦).

٤ ـ ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ )(٧).

٥ ـ ( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ )(٨).

٦ ـ ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (٩).

فالمستفاد من الطائفة الأخيرة من الآيات أنّ أسباب الضلالة عبارة عن الفسق والظلم والكذب والكفر والاسراف والريب والاصرار على الكفر ، وهي بأجمعها امور اختياريّة تصدر من الإنسان وتوجب سلب توفيقه وقدرته على الهداية ، فيضلّ عن طريق الحقّ بسوء اختياره ، ولا إشكال في أنّ الآيات المطلقة التي تسند الهداية أو الضلالة إلى الله تعالى مطلقاً تقيّد بهذه الآيات طبقاً لقاعدة الإطلاق والتقييد وتفسّر بها ، ويستنتج أنّ هدايته فيض من

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ١٣ ـ ١٤.

(٢) سورة الرعد : الآية ٢٧.

(٣) سورة البقرة : الآية ٢.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٦.

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٥٨.

(٦) سورة الزمر : الآية ٣.

(٧) سورة المؤمن : الآية ٢٨.

(٨) سورة المؤمن : الآية ٣٤.

(٩) سورة المائدة : الآية ٦٧.

٢٥٢

جانبه يفاض على النفوس المستعدّة والقلوب المطهّرة بالأعمال الصالحة ، كما أنّ الضلالة عبارة عن قطع الفيض والاستعداد والتوفيق عن النفوس غير المساعدة وذلك بسبب الأعمال السيّئة والنيّات الخبيثة الصادرة عنهم ، فهذه الآيات مضافاً إلى أنّها غير دالّة على مذهب الجبر ، ظاهرة بل كالصريحة في مذهب الاختيار ، لأنّها بعد ضمّ بعضها إلى بعض تدلّ على أنّ الهداية والضلالة ناشئتان من الإنسان نفسه وإن كان ذلك بتسبيب إلهي من باب أنّ الأسباب تستمد قوتها من ساحته المقدّسة ، ومن هنا تنسب المسبّبات إليه تعالى أيضاً حقيقة.

الآيات الدالّة بصراحتها على نفي الجبر :

ثمّ إنّ هناك آيات كثيرة تدلّ على الاختيار بصراحتها أو ظهورها ، وهي على طوائف عديدة :

الطائفة الاولى : ما ينطق بمذهب الاختيار بالصراحة : نحو قوله تعالى ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً )(١) فإنّه يدلّ بوضوح على الاختيار خصوصاً بملاحظة ما قبله من الآية : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً )(٢) ( والمشيج بمعنى الخليط ) فإنّه يستفاد منه أنّ الإنسان بحسب الفطرة مخلوط ومعجون من أسباب الهداية والضلالة ولذلك يكون في موقف الابتلاء والامتحان بإرائة الطريق وهداية السبيل ، فهو إمّا يشكر فيهتدي ، وإمّا يكفر فيضلّ. وهو مجموع ما يستفاد من الآيتين ، ونحو قوله تعالى : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ )(٣).

وقوله تعالى : ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٤).

وقوله تعالى : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ )(٥).

الطائفة الثانيّة : ما يدلّ على أنّ الإنسان رهين لأعماله ، ولازمه كونه مختاراً وإلاّ لا يكون مرتهناً بها :

__________________

(١) سورة الدهر : الآية ٣.

(٢) سورة الدهر : الآية ٢.

(٣) سورة الكهف : الآية ٢٩.

(٤) سورة المزمّل : الآية ١٩.

(٥) سورة التكوير : الآية ٢٧ ـ ٢٨.

٢٥٣

منها : قوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )(١).

ومنها : قوله تعالى : ( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ )(٢).

ومنها : قوله تعالى : ( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ )(٣).

الطائفة الثالثة : ما يدلّ على حسرة أهل النار وتمنّيهم الرجوع إلى الدنيا لجبران ما فاتهم من الإيمان والأعمال الصالحة ، فلو كانوا مضطرّين في أعمالهم لم ينفعهم الرجوع إلى الدنيا ولو ألف مرّة.

منها : قوله تعالى : ( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ )(٤).

ومنها قوله تعالى : ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ )(٥).

ومنها قوله تعالى : ( لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ )(٦).

وكيف ينطق إنسان بذلك إذا لم ير نفسه مختارة؟

الطائفة الرابعة : جميع الآيات الدالّة على ترتّب الثواب والعقاب والمدح والذمّ والسؤال والعتاب على أعمال العباد ، فإنّها مع القول بالجبر لا معنى لها ولا تكون مقبولة لدى العقل السليم بل تكون خطابات غير معقولة وكلمات مزوّرة باطلة ( العياذ بالله ).

الطائفة الخامسة : جميع الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب الكريم الدالّة على تكليف الناس ، فإنّ لازم مذهب الجبر خلوّها عن المغزى والمحتوى ولغويّة تبليغ الأنبياء وجميع معلّمي الأخلاق ، لأنّها إمّا أن تكون تحصيلاً للحاصل أو تكليفاً بالمحال كما لا يخفى على أرباب النهى.

الطائفة السادسة : جميع الآيات الدالّة على الامتحان والاختيار كقوله تعالى : ( أَحَسِبَ

__________________

(١) سورة المدّثر : الآية ٣٨.

(٢) سورة الطور : الآية ٢١.

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٨٦.

(٤) سورة المؤمنون : الآية ٩٩ ـ ١٠٠.

(٥) سورة فاطر : الآية ٣٧.

(٦) سورة الزمر : الآية ٥٨.

٢٥٤

النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ )(١).

الطائفة السابعة : مجموع الآيات الدالّة على إسناد الأفعال إلى العباد حقيقة وهي كثيرة جدّاً كقوله تعالى : ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) فإنّ نسبة إيجاد الوسوسة في صدور الناس إلى الجنّ والانس دليل على أنّها مستندة إليهم حقيقة لا مجازاً ، والقرآن مشحون بمثل هذه الآيات.

وبها نجيب عن طائفة من الجبريين الذين يقولون : بأنّ إسناد الأفعال إلى العباد في الآيات الكريمة إسناد مجازي وإنّ عادة الباري تعالى جرت على أعمال إرادته عند إرادة الإنسان وإنّ العلّة التامّة إنّما هو إرادة الله فقط ، فإنّ هذا ينافي ظهور هذه الإسنادات بكثرتها في الحقيقة ، فإنّ حملها كلّها على المجاز مجازفة جدّاً.

إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة النقليّة والعقليّة الدالّة على نفي الجبر والتفويض.

بقي هنا امور :

الأوّل : في مسألة الأمر بين الأمرين

وهو مذهب أهل بيت العصمة الذين لا يزالون يدعون إليه في مقابل مذهبي الجبر والتفويض ، وقد وردت من جانبهم في هذا المجال روايات كثيرة في الجوامع المعتبرة للحديث ، وحيث إنّ بعض القائلين بهذا المذهب انسحب بالمآل إلى مذهب الجبر كمن يقول : بأنّ العلّة النهائيّة في إرادات الإنسان إنّما هي حسن سريرته أو سوئها ، كما أنّ بعضاً آخر انجرّ إلى مذهب التفويض كذلك ، فلابدّ أوّلاً من تفسير الأمر بين الأمرين وبيان حقيقته ثمّ إيراد جملة من تلك الرّوايات المأثورة عنهم عليهم‌السلام.

فنقول : إنّ « الأمر بين الأمرين » عبارة عن الجمع بين الأصلين : التوحيد الأفعالي ( أي فاعليته تعالى في الأفعال كلّها ) والعدالة ، فإنّ حقيقة هذا المذهب أنه لا يخرج الباري تعالى عن سلطانه المطلق في جميع الأشياء حتّى في الأفعال الاختياريّة للإنسان ، هذا من جانب ، ومن

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية ٢.

٢٥٥

جانب آخر لا يتّهمه بإجباره العباد على المعاصي ثمّ أخذهم بالعذاب.

وقد ورد عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله ». (١)

وعن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد ». (٢)

فلا يخفى أنّه جمع في هذين الخبرين بين عدالته تعالى وعدم ظلمه على العباد بإجبارهم وتكليفهم بما لا يطيقون ولا يقدرون على إتيانه أو على تركه وبين سلطانه وتوحيده في جميع الأفعال.

وعن اسماعيل بن جابر قال : كان في مسجد المدينة رجل يتكلّم في القدر والناس مجتمعون قال : فقلت ياهذا أسألك؟ قال : سل قلت : قد يكون في ملك الله تعالى ما لا يريد؟ قال : فأطرق طويلاً ثمّ رفع رأسه إليّ فقال : يا هذا لئن قلت أنّه يكون في ملكه ما لا يريد أنّه لمقهور ، ولئن قلت لا يكون في ملكه إلاّما يريد أقررت لك بالمعاصي قال : فقلت لأبي عبدالله عليه‌السلام سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا ، فقال : « لنفسه نظر أمّا لو قال غير ما قال لهلك » (٣) ، ( والمراد منه أنّه بسبب هذا الجواب أنجى نفسه من هلكة الكفر والعذاب لأنّ كلّ واحد من الأمرين الجبر والتفويض ينتهي إلى الكفر أحدهما يوجب سلب العدالة عنه تعالى عن ذلك وثانيهما يوجب الشرك في الأفعال ).

فقد ظهر لك أنّ معنى الأمر بين الأمرين أنّ أفعال العباد تكون باختيارهم وإرادتهم ولذلك يكونون مسؤولين ويجزون بالثواب أو العقاب في مقابل طاعتهم أو معصيتهم ، ولكن في نفس الوقت ومن جانب آخر تستند أفعالهم إلى الباري تعالى حقيقة لأنّ اختيارهم من جانب الله وتفاض إرادتهم من ناحيته تعالى إليهم في كلّ لحظة لحظة وهو القيّوم عليهم وعلى أفعالهم وجميع الأشياء ، وليس شيء منها خارجاً عن سلطانه وسطوته ، فاختيار الإنسان وإرادته ينشأ من اختياره تعالى الذي أفاضه عليه وحيث إنّ أفعال الإنسان الاختياريّة ناشئة من

__________________

(١) الوافي : ج ١ ، ص ٥٣٩ ، ح ٢ ، من الطبع الحديث.

(٢) المصدر السابق : ص ٥٤٠ ، ح ٤.

(٣) المصدر السابق : ص ٥٤٠ ، ح ٥.

٢٥٦

اختياره وإرادته تعالى فهي ناشئة حقيقة من اختيار الله وإرادته ، لأنّ إرادة الملزوم لا تنفكّ عن إرادة اللازم ، فهذا هو الأمر بين الأمرين.

فهو كما ذكره بعض الأعلام نظير ما إذا فرضنا أنّ يد العبد مشلولة لا يتمكّن من تحريكها إلاّ مع إيصال الحرارة إليها بالقوّة الكهربائيّة ، فأوصل المولى القوّة إليها بوساطة سلك الكهرباء الذي يكون زرّه بيد المولى فقام العبد باختياره بفعل حسن أو قبيح ، والمولى كان يعلم بذلك فحينئذ يكون الفعل اختياريّاً للعبد ويستند إليه حقيقة لأنّه صدر منه باختياره ، ويستند إلى مولاه أيضاً حقيقة لأنّ السلك بيد المولى وهو الذي يعطي القوّة للعبد آناً فآناً.

نعم ما يستند إلى العبد إنّما هو نسبة المسؤوليّة ، وما يستند إلى المولى إنّما هو نسبة الخالقية كما لا يخفى.

الثاني : دوافع القول بالجبر

وهي على ثلاثة أنواع : فلسفية ، روحية ( نفسانيّة ) ، سياسيّة.

أمّا الأسباب الفلسفية فهي امور :

١ ـ ملاحظة تفاوت الأشخاص من حيث الذاتيات والاستعدادات ، فبعضهم ذو سريرة حسنة ولبعضهم الآخر سريرة سيّئة خبيثة من أوّل الأمر وقبل التأثّر بتربية مربّ وتعليم معلّم من الخارج.

٢ ـ ملاحظة تأثير المحيط والعائلة ، فالذين تولّدوا في محيط طيّب وعائلة طيّبة لهم روحيات وصفات طيّبة أيضاً في الغالب ، وبخلاف الذين تولّدوا ونشأوا في محيط سيّىء أو عائلة غير أصيلة فلهم خلقيات وضيعة دنيئة غالباً.

٣ ـ الانغمار في مسألة التوحيد الأفعالي وتوهّم أنّه لا يلائم فاعلية غير الله تعالى في أفعاله.

٤ ـ عدم القدرة على حلّ مشكلة الإرادة وكيفية جريان قاعدة « الشيء ما لم يجب لم يوجد » مع القول بالاختيار وعدم الجبر ، فهذه الامور جميعاً أو شتاتاً صوّرت أنّ الحقّ مع مذهب الجبر ، غفلوا عن أنّ تأثير النفسانيات أو المحيط والمجتمع إنّما هي على حدّ الاقتضاء والعلّية الناقصة ، فربّ إنسان له سريرة حسنة لكن بسوء اختياره يهوى إلى النار ، وربّ إنسان له سريرة سيّئة ينجو بحسن اختياره ويعمل على تحسين سريرته وخلقياته ويكون من أهل الجنّة.

٢٥٧

وكذلك الذين يعيشون في المجتمعات الصالحة أو الفاسدة ، فليس شيء من ذلك علّة تامّة للسعادة والشقاوة والطاعة والمعصية بل الجزء الأخير هو إرادة الإنسان.

وكذلك قبول التوحيد بأقصى مراتبه لا ينافي القول بالاختيار كما عرفت تفصيل الكلام فيه ولا حاجة إلى مزيد توضيح أو تكرار.

وأمّا السبب الروحي والنفساني فهو ما يحاوله الإنسان عند الفشل والهزيمة من سلب المسؤوليّة عن نفسه وإسناد العلّة والسبب إلى أمر آخر جبري فيقول : « إنّي سيّىء الحظّ » مثلاً أو يقول : « فلان حسن الحظّ » وهكذا الحال في تبريره لسلوكه الشائن وأفعاله الشريرة من أجل التخلّص من الضغط الروحي والملامات الوجدانيّة فيقول : « أراد الله هكذا ولم يكن فعلي تحت اختياري وإرادتي ، بل كان مقدّراً من قبل ، ولا يمكن الفرار عن تقديره تعالى » أو « لا يمكن الفرار عن جبر المحيط والداوفع » إلى غير ذلك ، كما يشاهد في كثير من المسجونين الذين سجنوا بما قدّمت أيديهم من المآثم والكبائر.

وأمّا الأسباب السياسيّة فهي ما ينطق به تاريخ البشريّة من الاساليب المضلّلة لحكومات الجور وقوى الانحراف في طرح مسألة الجبر والقضاء والقدر لتوجيه تحكّماتهم وجناياتهم وبغرض تسليم الناس في مقابل رغباتهم الشرّيرة ولتخدير أفكارهم والتقدّم في مقاصدهم الخبيثة ، كما نسب في التاريخ إلى جنود المغول وكما جاء في كلمات بعض الأعاظم « أنّ الجبر والتشبيه امويان والعدل والتوحيد ( أو التوحيد والتنزيه ) علويّان » ومعناه أنّ بني اميّة كانوا ينشرون مذهب الجبر لتوجيه جناياتهم.

الثالث : في معنى السعيد سعيد في بطن امّه ...

أمّا ما استند به المحقّق الخراساني رحمه‌الله من الحديثين ( حديث : « السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه » وحديث « الناس معادن كمعادن المذهب والفضّة »).

وهما ممّا ورد في منابع الفريقين ، فأمّا الرّواية الاولى فقد رواها الكناني عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الشقي من شقى في بطن امّه الخبر » (١) ، ومن طريق العامّة (٢) رواها

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ، ص ١٥٣ ، والحديث بلفظ ما رواه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ورد في توحيد الصدوق : ص ٣٥٦ ، الباب ٥٨ ، ح ٣.

(٢) مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ، ص ١٧٦.

٢٥٨

عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفس التعبير.

وأمّا الرّواية الثانيّة فقد رواها الكليني رحمه‌الله عن سهل عن بكر بن صالح رفعه عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل ». (١)

كما أنّها رويت أيضاً من طريق العامّة (٢) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتقديم الفضّة على الذهب. وكيف كان يمكن تفسير مجموع الحديثين بوجهين :

الوجه الأوّل : حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه » على علم الباري تعالى بأنّه سيكون كذلك كما فسّره المعصوم عليه‌السلام بذلك في رواية اخرى رواها ابن أبي عمير قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الشقي من شقى في بطن امّه والسعيد من سعد في بطن امّه » فقال : « الشقي من علم الله وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال السعداء ... الحديث » (٣) ، فلا إشكال في أنّ الحديث بهذا المعنى يخرج عن ظاهره ولا ينافي اختيار الإنسان في أعماله كما لا يخفى.

الوجه الثاني : ما ينطبق على كلا الحديثين وهو الحمل على اختلاف الاستعدادات والمقتضيات الذاتيّة للأفراد ، والروايتان كلتاهما تعبّران عن أنّ الناس يختلفون من ناحية الاستعداد الذاتي للطاعة أو العصيان ، فبعضهم قريب إلى الطاعة في ذاته وبعض آخر قريب إلى المعصية كذلك ، لكن لا على حدّ الإلزام والعلّة التامّة بل على حدّ الاقتضاء ، نظير ما نشاهده من اختلاف الأفراد في استعدادهم للصيام مثلاً فبعضهم يجد في نفسه استعداداً للصوم أكثر من الآخر ، إلاّ أنّ هذا لا يعنى أنّه مجبور على الصّيام وأنّ الآخر مجبور على تركه ، وهكذا في الامور العارضة على الذات كالتفاوت الجغرافي واختلاف المناطق في الحرارة الجويّة في المناطق الحارّة أو الباردة أو لجهة شغلية كالتفاوت الموجود بين الخبّاز والبقّال بالنسبة إلى

__________________

(١) الروضة من الكافي : ص ١٧٧ ، ح ١٩٧.

(٢) مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ٥٣٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ، ص ١٥٧.

٢٥٩

الصّيام في شهر رمضان ، والحاصل أنّ صاحب الاستعداد القوي للصيام وكذا من يعيش في المناطق الباردة مثلاً يكون أقرب إلى طاعة الله من غيره وبهذه المناسبة يعدّ أقرب إلى السعادة من غيره من دون أن يكون ذلك علّة تامّة للطاعة أو المعصية.

إن قلت : سلّمنا ، ولكن أليس هذا الاختلاف بهذا المقدار مخالفاً للعدالة؟

قلنا : قد اجيب عن هذه الشبهة في لسان الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ببيان واضح وهو « إنّ أفضل الأعمال أحمزها ». (١)

وتوضيحه : أنّ التفاوت هذا إنّما يستلزم عدم العدالة فيما إذا لم تلاحظ تلك الخصوصيّة الذاتيّة أو العرضيّة في ميزان الأعمال وترتّب الثواب والعقاب مع أنّه لا ريب في دخلها في ميزان الأعمال ، فيكون أفضل الأعمال أحمزها وتلاحظ النسبة الموجودة بين الاستعداد والعمل ، فمن كان له استعداد أكثر وفرض أفضل للطاعة والعمل الصالح يطلب منه عمل أوفر وحصيلة أكثر ، ومن كان بعكس ذلك ولديه استعداد أشدّ للمعصية ينتظر منه عمل أقلّ وحصيلة أخفّ ولا ريب أنّ صلاة جار المسجد في المسجد لا تعادل في الفضيلة مع صلاة من يكون بعيداً منه ، وعين هذا الكلام يجري في الاختلافات الذاتيّة وتفاوت الاستعدادات الخلقية.

الكلام في القضاء والقدر :

وحيث انتهى الكلام إلى مسألة الجبر والاختيار ينبغي أن نتكلّم بكلام موجز عن مسألة القضاء والقدر التي هي من أهمّ المسائل كتاباً وسنّة وعقلاً لما بينهما من الصلة الوثيقة ، وقد ورد الكلام في القضاء والقدر في الأخبار المأثورة عن أئمّتنا عليهم‌السلام (٢).

ولا بدّ قبل بيان المختار في أصل المسألة من تقديم امور :

الأمر الأوّل : في أنّه ما الفرق بين المسألتين : مسألة الجبر والاختيار ومسألة القضاء والقدر؟

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٧٠ ، ص ١٩١.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ٥ ، فقد أورد فيه العلاّمة المجلسي رحمه‌الله روايات المسائل الثلاثة : مسألة الجبر والاختيار ، ومسألة السعادة والشقاوة ومسألة القضاء والقدر.

٢٦٠