أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « ... لكن لتظهر الأفعال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب » (١) ) وبالنتيجة إبراز الملكات النفسانيّة في صور الأعمال لأن يستعدّ الإنسان بذلك للرشد والتكامل.

وإن شئت قلت : إنّ حقيقة الأوامر الامتحانيّة مطلقاً سواء في الخالق والمخلوق عبارة عن مجرّد إنشاءات ليست ورائها إرادة حقيقيّة ، تصدر من المنشىء الآمر لاظهار الصفات النفسانيّة والسريرة الباطنية في مقام العمل بداعي كشف المجهول في امتحان المخلوق ، وظهور الأفعال واستحقاق الثواب والعقاب في امتحان الخالق ، فنتعلّق الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي هو العمل ، وأمّا الإرادة الجدّية والطلب الحقيقي فلا يتعلّقان بنفس العمل ، بل بكشف المجهول ( في المخلوق ) واستحقاق الثواب والعقاب ( في الخالق ).

ومن هنا يعلم أنّ الموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الأمر الإنشائي المتّحد مع الإرادة الإنشائيّة لا الأمر الجدّي ولا الطلب الواقعي ..

الثاني : تكليف العصاة

وبيانه أنّه لا شكّ في أنّ التكاليف الإلهيّة تشمل المطيع والعاصي كما تشمل المؤمن والكافر ، كما لا شكّ في أنّ حقيقة التكليف هي طلب الفعل أو طلب الترك ، فهو تبارك وتعالى طلب من العصاة أيضاً إتيان المكلّف به مع أنّه لو كان الطلب هو عين الإرادة لم يمكن عصيان العصاة لأنّ لازمه تخلّف إرادته تعالى عن مراده وهو محال كما قال في كتابه الكريم : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )(٢) فلابدّ من التفكيك بين الإرادة والطلب ، وهو المطلوب.

والجواب عنه : أنّ لله تعالى إرادتين : إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة ، وقد وقع الخلط بينهما هنا ، فإنّ عدم إمكان تخلّف الإرادة عن المراد إنّما هو في الاولى لا الثانيّة ، فإنّ الثانيّة أي الإرادة الإنشائيّة في الباري تعالى متعلّقها هو إتيان العبد العمل باختياره وبإرادته ، فإنّ المفروض أنّ العبد أيضاً مختار ومريد ، تارةً يريد الفعل واخرى يريد الترك.

وبالجملة الموجود في تكاليف العصاة إنّما هو الإرادة التشريعيّة والطلب التشريعي لا

__________________

(١) نهج البلاغة : ح ٩٣.

(٢) سورة يس : الآية ٨٢.

٢٢١

الإرادة التكوينيّة والطلب التكويني ، وبعبارة اخرى : المتعلّق لامتثال العبد وإتيان العمل هو إرادته التشريعيّة وطلبه التشريعي وأمّا إرادته التكوينيّة وطلبه التكويني فإنّما تعلّق باختيار العبد وكونه مختاراً ، فوقع الخلط في الواقع في كلام الأشاعرة بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة ، والاختلاف إنّما هو بين الإرادة التكوينيّة والطلب التشريعي وهو لا يلازم اختلاف الإرادة والطلب التشريعيين أو التكوينيين.

الثالث : تكليف المطيعين

وبيانه على مبناهم في مسألة الجبر ؛ إنّ فيها أيضاً يوجد الطلب دون الإرادة لأنّ الإرادة تتعلّق بالمقدور ، والمقدور للإنسان عبارة عن ما ليس فيه مجبوراً ، وحيث إنّه مجبور في تكاليفه فليست مقدورة له فلا تتعلّق بها الإرادة ، وحينئذٍ تنفكّ عن الطلب.

والجواب عنه : أنّه لو كان المراد إرادة الإنسان وطلبه فكما لا إرادة له في غير المقدور له بناءً على كونه مجبوراً لا طلب له أيضاً ، وبعبارة اخرى : الطلب والإرادة إمّا يتعلّقان معاً بغير المقدور أو لا يتعلّقان معاً ، ولا معنى لتعلّق أحدهما دون الآخر.

ولو كان المراد إرادة الله تعالى فإنّه كما طلب تشريعاً أراد أيضاً تشريعاً ، ولا يمكن التفكيك بينهما كما مرّ بيانه آنفاً في الجواب عن الدليل الثاني ، وبالجملة قد وقع الخلط في هذا الدليل أيضاً بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة وبين إرادة الخالق وإرادة المخلوق.

هذا ـ مضافاً إلى فساد المبنى وهو كون الإنسان مجبوراً كما سيأتي إن شاء الله تعالى ومضافاً الى أنّه لا يناسب مبناهم من إنكار الحسن والقبح بالنسبة إلى أفعال الباري تعالى. وأنّ تكليفه تعالى العباد بما لا يكون مقدوراً لهم غير قبيح.

الرابع : أنّ للمحقّق النائيني رحمه‌الله هنا كلاماً يكون بمنزلة دليل رابع لاختلاف الإرادة مع الطلب وإليك نصّ كلامه : « إنّ الكلام في اتّحاد الطلب والإرادة يقع في موضعين :

الأوّل : في اتّحاد مفهومهما وعدمه.

والثاني : في أنّ الموجود في النفس المترتّب عليه حركة العضلات هل هو امور ثلاثة : التصوّر والتصديق بالفائدة والشوق المؤكّد المعبّر عنه غالباً بالإرادة كما هو المعروف ، أو هناك أمر آخر متوسّط بين الإرادة والحركة ، ونسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى فاعله لا نسبة

٢٢٢

الكيف إلى موضوعه ( كما ذهب إليه جماعة من محقّقي المتأخّرين ).

أمّا الكلام في الموضع الأوّل : فحاصله أنّ المدّعي للوحدة وجداناً إن أراد أنّ المفهوم من أحدهما هو عين المفهوم من الآخر بأن يكون لفظا الطلب والإرادة مترادفين فالإنصاف أنّ الوجدان على خلاف ما ادّعوه ، فإنّ الإرادة باتّفاق الجميع عبارة عن الكيف النفساني القائم بالنفس ، وأمّا الطلب فهو عبارة عن التصدّي لتحصيل الشيء في الخارج فلا يقال : طالب الضالّة ، إلاّلمن تصدّى لتحصيلها في الخارج دون من يشتاق إلى تحصيلها فقط وإن لم يتصدّ لتحصيلها في الخارج ، وإطلاقه على الفعل النفساني بناءً على ثبوت مرتبة اخرى غير الإرادة فإنّما هو من باب أخذ الغايات وترك المبادىء كما في إطلاق الأكل على مجرّد البلع دون مضغ ، وإن أراد أنّهما مفهومان متغايران غاية الأمر أنّهما يصدقان على أمر واحد باعتبارين فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى الدعوى الاولى إلاّ أنّه أيضاً فاسد في حدّ ذاته ، فإنّ الإرادة كما عرفت من مقولة الكيف والطلب من مقولة الفعل ، ويستحيل صدق المقولتين على أمر واحد باعتبارين لتباينهما.

وأمّا الموضع الثاني : فالحقّ فيه أيضاً أنّ هناك مرتبة اخرى بعد الإرادة تسمّى بالطلب وهو نفس الاختيار وتأثير النفس في حركة العضلات وفاقاً لجماعة من محقّقي المتأخّرين ، ومنهم المحقّق صاحب الحاشية رحمه‌الله ، والبرهان عليه أنّ الصفات القائمة بالنفس من الإرادة والتصوّر والتصديق كلّها غير اختياريّة فإن كانت حركة العضلات مترتّبة عليها من غير تأثير النفس فيها وبلا اختيارها فيلزم أن لا تكون العضلات منقادة للنفس في حركاتها وهو باطل وجداناً ، وللزم أن تصدق شبهة أمام المشكّكين في عدم جواز العقاب بأنّ الفعل معلول للإرادة ، والإرادة غير اختياريّة وأن لا يمكن الجواب عنها ولو تظاهر الثقلان كما ادّعاه ، وأمّا الجواب عنها بأنّ استحقاق العقاب مترتّب على الفعل الاختياري أي الفعل الصادر عن الإرادة وإن كانت الإرادة غير اختياريّة فهو لا يسمن ولا يغني من جوع بداهة أنّ المعلول لأمر غير اختياري غير اختياري.

والحاصل : أنّ علّية الإرادة للفعل هادم لأساس الاختيار ومؤسّس لمذهب الجبر بخلاف ما إذا أنكرنا علّية الصفات النفسانيّة من الإرادة وغيرها للفعل ، وقلنا : بأنّ النفس مؤثّرة بنفسها في حركات العضلات من غير محرّك خارجي ، وتأثيرها المسمّى بالطلب إنّما هو من

٢٢٣

قبل ذاتها فلا يلزم محذور أصلاً ويثبت الأمر بين الأمرين.

إن قلت : إنّ الأمر الرابع الذي بنيت عليه ثبوت الأمر بين الأمرين هل هو ممكن أو واجب؟ لا سبيل إلى الثاني وعلى الأوّل فهل علّته التامّة اختياريّة أو غير اختياريّة وعلى الأوّل يلزم التسلسل ، وعلى الثاني يتمّ مذهب الجبر.

قلنا : لا إشكال في كونه حادثاً وممكناً إلاّ أنّه نفس الاختيار الذي هو فعل النفس وهي بنفسها ، تؤثّر في وجوده فلا يحتاج إلى علّة موجبة لا ينفكّ عنها أثرها ، إذ العلّية بنحو الإيجاب إنّما هي في غير الأفعال الاختياريّة ، نعم لا بدّ في وجوده من فاعل ، وهو النفس ، ومرجّح وهي الصفات النفسانيّة ، والاحتياج إلى المرجّح إنّما هو من جهة خروج الفعل عن العبثية ، وإلاّ فيمكن للإنسان إيجاد ما هو منافر لطبعه فضلاً عن إيجاد ما لا يشتاقه لعدم فائدة فيه ، ثمّ إنّ المرجّح المخرج للفعل عن العبثية هي الفائدة الموجودة في نوعه دون شخصه بداهة أنّ الهارب والجائع يختار أحد الطريقين وأحد القرصين مع عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص » (١) ( انتهى ملخّص كلامه ).

وهناك عدّة ملاحظات في كلامه :

الاولى : أنّه قد ظهر بملاحظة تاريخ المسألة أنّها ليست مسألة لفظيّة لغويّة حتّى نتكلّم عن معنى الإرادة والطلب في اللّغة ، فلا يمكن أن يكون النزاع في اتّحادهما مفهوماً ولغويّاً بل أنّه بحث كلامي وقع في اتّحادهما أو اختلافهما خارجاً بحسب ما اختاروه في بحث صفات الباري.

الثانيّة : أنّ الإرادة في تعريفهم ليست هي الشوق المؤكّد النفساني كما قال ، كما أنّ دعوى كونه معروفاً ليست بثابتة ، وإنّما الإرادة في تعريفاتهم عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات ، فهي في الواقع عبارة عن تلك المرحلة الرابعة المحرّكة للعضلات ، وهي نفس الطلب أو الاختيار أو تأثير النفس على ما جاء في كلامه ، فكلّ من الطلب والإرادة يطلق على تلك المرتبة ، فاللازم هو اتّحاد الإرادة والطلب فتأمّل.

الثالثة : أنّ ما ذكره من المراحل الأربعة في إرادة الإنسان خارج عن محلّ النزاع بأسره ،

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٨٨ ـ ٩٢.

٢٢٤

لأنّ النزاع في إرادة الله تعالى وطلبه لا إرادة الإنسان وطلبه ، وفي الباري تعالى لا تتصوّر هذه المراحل ، بل طلبه عين إرادته ، وإرادته عين علمه على ما هو المعروف.

الرابعة : مع غضّ النظر عمّا ذكر ، فلا ريب في أنّ الكلام في الطلب التسبيبي لا المباشري ، فإنّ النزاع إنّما هو في الأوامر ، وهي ما تتعلّق بفعل العباد ، فتكون عبارة عن طلب الفعل بواسطة العبد ، ولو سلّمنا لزوم الجبر من عدم الالتزام بالمراحل الأربعة المزبورة فهو إنّما في الطلب النفساني المباشري لا التسبيبي والإنشاء الخارجي ، لأنّ انتفاء المرحلة الرابعة في طلب الآمر لا يلازم الجبر في أفعال العبد المأمور.

الخامسة : أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون اختياريّة فلا يمكن أن يقال أنّها دائماً غير اختياريّة.

وأمّا ما ورد في كلامه ممّا يتعلّق بمسألة الجبر والاختيار من الإشكال والجواب فسنتكلّم عنها إن شاء الله عن قريب عاجل ، كما سنتكلّم أنّ الإرادة عين الاختيار فهي فعل إرادي بذاتها لا بإرادة اخرى ، وعلى كلّ حال فهذا مرتبط بحلّ مشكلة الجبر لا مسألة اتّحاد الطلب والإرادة.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا ما في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية حيث قال : الحقّ ( كما عليه أهله وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة ) هو اتّحاد الطلب والإرادة بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة فهما متّحدان مفهماً وإنشاءً وخارجاً ، وفي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، ولو أبيت إلاّعن كونه موضوعاً للطلب مطلقاً سواء كان حقيقيّاً أو إنشائيّاً فلا أقلّ من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي ، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس ذلك ، فإنّ المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة واختلافهما في المعنى المنصرف إليه اللفظ ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة.

ثمّ قال في ذيل كلامه : أنّه يمكن ممّا حقّقناه أن يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً ، حقيقيّاً وإنشائيّاً ،

٢٢٥

ويكون المراد بالمغايرة هو اثنينية الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة فيرجع النزاع لفظيّاً ( انتهى ملخّص كلامه ).

وقد ظهر ممّا ذكرنا ما يرد عليه :

أوّلاً : من أنّ النزاع ليس لفظيّاً لغويّاً بل هو نزاع متأصل موجود في علم الكلام من قديم الأيّام ، كما مرّ بيانه.

وثانياً : ما ادّعاه من انصراف الطلب إلى الطلب الإنشائي عند إطلاقه دعوى بلا شاهد ودليل ، كما أنّ دعوى كثرة استعماله في الإنشائي ليست بثابتة ، والشاهد على ذلك موارد استعماله في الكتاب الكريم حيث إنّه استعمل فيه في أربعة موارد واريد منه في جميعها الطلب الحقيقي ، كما أنّ التعبيرات الرائجة بيننا كطالب العلم وطلبة وطالب المال وطالب الضالّة يراد من جميعها الطلب الحقيقي ، نعم الطلب من الغير ظاهر في الإنشائي كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق العراقي رحمه‌الله في توجيه مذهب القائلين بالتعدّد ، وحاصله : أنّ هنا معنى آخر للطلب غير العلم والإرادة والحبّ والبغض ، وهو البناء والقصد المعبّر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات حيث إنّه من جملة أفعال النفس ، ولذا قد يؤمر به كالبناء في باب الاستصحاب وفي الشكوك المعتبرة في الصّلاة ، وقد ينهى عنه كما في التشريع المحرّم ، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وإن خالفها في أنّها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس ، فيمكن توجيه كلمات القائلين بالتعدّد بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد ، والإرادة على تلك الكيفية النفسانيّة (١).

ولكن يرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من البناء النفساني هو الاعتقاد الجازم بشيء فهذا ليس من الطلب في شيء ، وإن كان المراد ما هو المحرّك للعضلات نحو العمل فليس إلاّ الإرادة ، وإن كان المراد البناء الذي يوجد مثله في باب التشريع وشبهه كما يظهر من كلماته فهذا وإن كان من أفعال النفس وكان مبايناً للإرادة ولكنّه ليس من الطلب في شيء أيضاً ، وتسميته طلباً لا يغيّر الواقع الذي هو عليه.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالتعدّد.

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٢٦

وأمّا القائلون باتّحادهما فاستدلّوا لها بوجوه :

أحسنها التمسّك بالوجدان حيث إنّا إذا راجعنا إلى أنفسها لا نجد أمرين : أحدهما : الطلب ، والثاني : الإرادة ، بل الإرادة من الغير إنّما هي البعث نحو العمل وتسمّى طلباً أيضاً ، هذا في الإنشائيات ، وكذلك في الإخباريات فلا نجد في أنفسنا شيئين : أحدهما : العلم ، والثاني : الكلام النفسي ، بل الموجود في النفس شيء واحد ، تارةً يسمّى بالعلم ( وهو التصوّر والتصديق ) واخرى يسمّى بالكلام النفسي.

هذا بالنسبة إلى أنفسنا ، وكذلك بالنسبة إلى الباري تعالى ، فإنّا بوجداننا لا نتصوّر ما وراء علمه وقدرته شيئاً يسمّى بالكلام النفسي حتّى نصدّقه ، والتصديق فرع التصوّر وكذلك لا نتصوّر وراء الإرادة ( وإرادته عين علمه ) شيئاً باسم الطلب النفساني ، وإذا لم يمكن تصوّره لم يمكن تصديقه ، وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : ذهب بعض الأعلام تبعاً لُاستاذه المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى اختلاف الإرادة والطلب ببيان آخر يقرب ممّا مرّ ، وهو أنّ الإرادة بواقعها الموضوعي من الصفات النفسانيّة ، ومن مقولة الكيف القائم بالنفس ، وأمّا الطلب فهو من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار حيث إنّه عبارة عن التصدّي نحو تحصيل شيء في الخارج ، ومن هنا لا يقال : طالب الضالّة أو طالب العلم إلاّلمن تصدّى خارجاً لتحصيلهما.

وبكلمة اخرى : أنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً ، فلا يصدق على مجرّد الشوق والإرادة النفسانيّة.

ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا : « طلبت زيداً فما وجدته » أو « طلبت من فلان كتاباً مثلاً فلم يعطني » وهكذا ، ضرورة أنّ الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي وليس إخباراً عن الإرادة والشوق النفساني فحسب من دون الفرق بين أن يكون متعلّقاً بفعل نفس

٢٢٧

الإنسان وأن يكون متعلّقاً بفعل غيره ، فتحصّل أنّ الطلب مباين للإرادة مفهوماً ومصداقاً (١). ( انتهى ملخّصاً ).

أقول : يرد عليه أيضاً :

أوّلاً : ما مرّ كراراً من أنّ النزاع ليس لغويّاً بل النزاع في ما اصطلح عليه الأشاعرة بالنسبة إلى الباري تعالى وإلتزموا بوجود صفتين له تعالى ، أحدهما يسمّى بالطلب والآخر يسمّى بالإرادة ، ونتيجته أنّ الطلب غير الإرادة ، لا أن يكون النزاع في أنّ مفهوم الطلب في اللّغة هل هو عين مفهوم الإرادة أو لا؟

ثانياً : لو سلّمنا كون النزاع لغويّاً فالصحيح أنّ للطلب في اللّغة قسماً واحداً يتعلّق بالفعل الخارجي فحسب ولا يكون له قسم آخر يسمّى بالطلب النفساني فقوله « إنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً » لا محصّل له ، كما أنّ ما ذكره من الأمثلة تشهد لذلك ، فإنّ الطلب في جميعها متعلّق بأفعال خارجيّة كما لا يخفى.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لو كان النزاع نزاعاً لغويّاً فالحقّ مع القائلين بالتعدّد لأنّ الطلب فعل خارجي والإرادة أمر نفساني ، وأمّا إذا كان النزاع نزاعاً اصطلاحياً فلا شكّ في اتّحادهما بل لم يقل بالاختلاف أحد من الإماميّة ، وأمّا ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه‌الله وتلميذه في المحاضرات فهو مبني على جعلهما النزاع لفظيّاً لغويّاً كما مرّ.

الأمر الثاني : فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله تحت عنوان « وهم ودفع » من أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من قولهم : « أنّه ليس في النفس غير العلم في الجمل الخبريّة ، وغير الإرادة والتمنّي والترجّي والاستفهام في الجمل الإنشائيّة صفة اخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً ومدلولاً للكلام اللّفظي » إنّ تلك الصفات القائمة بالنفس هي المدلولات للكلام اللّفظي فيكون مدلول جملة « زيد قائم » « أعلم بقيام زيد » كما توهّمه القوشجي في شرح التجريد ، بل المدلول للكلام اللّفظي هو غير تلك الصفات ، فمدلول الجمل الخبريّة هو النسب الخبريّة المتحقّقة في الخارج ، وأمّا مدلول الجمل الإنشائيّة فهو ما ينشأ بالصيغ المخصوصة في عالم نفس الأمر من قصد ثبوت معانيها وتحقّقها ، نعم لا مضايقة عن كونها مدلولات له

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ١٦.

٢٢٨

بالالتزام ، فالجمل الإنشائيّة تدلّ بالالتزام على ثبوت تلك الصفات في النفس ، ( انتهى ملخّصاً ).

أقول : إنّ ما ذكره من التوجيه لكلام الأصحاب خروج عن ظاهر كلماتهم ، فإذا رجعنا إلى الجذور التاريخية للمسألة فسوف نجد أنّ مراد الأشاعرة من قدم كلام الله ووجود صفة اخرى غير الصفات المشهورة في ذات الله ـ أنّ مدلول هذه الألفاظ كان موجوداً في ذاته منذ القديم مع عدم كونه عين علمه وقدرته ، ومراد الأصحاب من الانكار عليهم أنّه ليس في البين صفة اخرى غير العلم والقدرة ، فليس النزاع في ما وضع له لفظ الطلب والإرادة حتّى يكون مراد الأشاعرة أنّ ما وضع له لفظ الطلب ليس هو العلم والقدرة بل هو صفة اخرى ، ويكون مفهوم قول من ينكره أنّ ما وضع له لفظ الطلب هو نفس العلم ، إمّا بالمطابقة كما نسب إلى القوشجي ، أو بالالتزام كما إلتزمه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في ذيل كلامه ، بل النزاع في أنّه إذا كان كلامه تعالى قديماً فما المقصود بالقديم؟ هل هو نفس العلم أو القدرة أو صفة اخرى؟ فيدّعي الأشاعرة أنّه صفة اخرى غيرهما ، ويقول الإماميّة والمعتزلة : أنّه نفس العلم أو القدرة ، وحينئذٍ لا يبقى مجال لما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في قوله : « وهم ودفع ».

هذا تمام الكلام في الطلب والإرادة.

الرابع : في الجبر والاختيار

وحيث انتهى كلام بعضهم في مسألة اتّحاد الطلب والإرادة إلى مسألة الجبر والاختيار حتّى أنّ بعضهم صرّح بأنّ لازم القول باتّحادهما هو القول بالجبر ، وأنّه لا مناصّ عن القول بتعدّدهما على مذهب الاختيار فلابدّ لنا أن نتعرّض لهذه المسألة تتميماً لما اخترناه من مسألة الاتّحاد ، مضافاً إلى ما في نفس المسألة من الأهميّة الكبيرة في جميع الأبواب من العقائد والاصول والفروع والأخلاق والتفسير والحديث ، فنقول ( ومن الله نستمدّ التوفيق والهداية ) :

ذهب جماعة إلى أنّ العبد مجبور في أعماله ، وهم على طائفتين ، طائفة من الالهيين ، وطائفة اخرى من المادّيين.

والالهييون ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد تتحقّق بإرادة الله ، أي عند إرادة العبد لفعل معين تؤثّر إرادة الله في تحقّقه ولا أثر لإرادة العبد نفسه ، بل إنّما هو مكتسب في البين ، أي الفاعل إنّما

٢٢٩

هو الله تعالى فقط وأمّا العبد فهو يوجد الفعل عند إرادته.

وكلامهم هذا لا يختصّ بالأفعال الاختياريّة للإنسان بل يأتي في جميع العلل والمعلولات ، فكلّ علّة تؤثّر في معلولها بإرادة الله تعالى ، فالنار مثلاً لا تحرق بل إرادته محرقة مقارنة لإلقاء شيء في النار.

وبعبارة اخرى : عادة الله جرت على إيجاد كلّ معلول عند وجود علّته ، وبعبارة ثالثة : صدور الفعل من الله يقترن دائماً بإرادة الإنسان ، فالإحراق هو فعل الله مباشرةً ولكنّه يفترن بنحو الصدفة الدائمية بالنار.

والمادّيون يقولون : أنّ فعل الإنسان معلول كسائر المعلولات في عالم الطبيعة يتحقّق في الخارج جبراً وقهراً من دون أن يكون اختياريّاً ، والاختيار مجرّد توهّم وخيال يرجع في الواقع إلى عدم تشخيص العلل الخفيّة المؤثّرة في وجود الفعل كالمحيط والوراثة والغريزة.

وهذه مسألة لها جذور تاريخية قديمة بل هي من أقدم المسائل التاريخية ، تمتد إلى حيث بداية الإنسان ، فإنّ الإنسان من بدو وجوده كان يرى نفسه متردّداً بين الأمرين ، فمن جانب كان يرى عدّة من العوامل الخارجيّة تؤثّر في أفعاله وإرادته ، ومن جانب اخرى يرى فرقاً بينه وبين الحجر الذي يسقط من الفوق على الأرض ، فقال قوم بالاختيار ، وقال قوم بالجبر.

استدلّ الطائفة الاولى من الجبريين على مذهبهم بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّه لا شكّ في أنّ الله تعالى مريد ، وإرادته نافذة في كلّ الأشياء ، ولا حدّ لارادته ، ولا يوجد شيء في عالم الوجود من دون إرادته ، ومن جملة الأشياء جميع أفعال العباد ، فهي أيضاً تحت نفوذ إرادته ، وإلاّ يلزم تخلّف إرادته عن مراده أو خروج أفعال العباد عن سلطانه ، فإذا تعلّقت إرادته بعصيان العبد أو اطاعته لا يمكن للعبد التخلّف عنه فإنّه إذا أراد الله شيئاً فإنّما يقول له كن فيكون ، ولا يقال أنّ هذه إرادة تشريعيّة له ، بل إرادته التكوينيّة نافذة في كلّ شيء ومحيطة على كلّ شيء ولا يوجد شيء في هذا العالم إلاّبهذه الإرادة.

هذا ملخّص كلامهم في الدليل الأوّل الذي يمكن تمسيته بإسم توحيد الإرادة وشمولها.

والجواب عنه : أنّا ننكر نفوذ إرادته تعالى في جميع الأشياء ، بل نقول أنّ من الأشياء التي

٢٣٠

تعلّقت مشيئته وإرادته بها هو كون العبد مختاراً في أفعاله ، فهو أراد واختار أن يكون العبد مريداً ومختاراً ، وحينئذٍ لازم عدم كون الإنسان مختاراً تخلّف إرادته عن مراده وعدم نفوذ إرادته ومشيّته في جميع الأشياء ، وهو خلف.

وبعبارة اخرى : المؤثّر في تحقّق الأفعال في الخارج ارادتان : إرادة العبد وإرادة الله ، ولكن إرادة العبد في طول إرادة الله ، فلا تنافي إطلاق سلطنته ونفوذ مشيّته في جميع الأشياء ، فالله يريد كون العبد مختاراً في أفعاله ، والعبد يريد الفعل باختياره وإرادته.

الوجه الثاني : ما يشبه الدليل الأوّل ، ولكنّه من طريق آخر وهو وصف الخالقية ، ببيان إنّ الله تعالى خالق لكلّ شيء ، ولا شريك له في خالقيته لجميع الأشياء التي فالله أفعال العباد هو الخالق لأفعال الإنسان لا أنّ الإنسان هو خالق لها ( وهذا دليل عموم الخلقة وتوحيدها ).

والجواب عنه : يشبه الجواب عن الوجه السابق ، وهو أنّ خلق العبد أفعاله أيضاً يكون ناشئاً من إرادته وخالقيته ، فإنّه تعالى خلق للعبد إرادة خالقة وجعله قادراً على الخلق والإيجاد في أفعاله ، فخلق العبد في طول خلق الله ، وقدرته على الخلق في طول قدرته ، فالله تبارك وتعالى خالق بالذات ومستقلاً ، والعبد خالق بالغير وفي طول خلقه ، وخلقه مستند إلى خلقه ، وهذا لا يعدّ شركاً بل هو عين التوحيد.

الوجه الثالث : دليل العلم ، وبيانه أنّ الله تعالى كان عالماً بأفعال العباد خيرها وشرّها وطاعتها ومعصيتها بتمام خصوصّياتها من الأزل ولا بدّ من وقوعها مطابقة لعلمه ( سواء كان علمه علّة لها أو كاشفاً عنها ) وإلاّ يلزم أن يصير علمه جهلاً ، فنحن مجبورون في أفعالنا حتّى لا يلزم هذا المحذور الفاسد ( وهذا ممّا ظهر في لسان بعض الأشعار كقول الشاعر الفارسي : « گر مى نخورم علم خدا جهل شود » أي لو لم أشرب الخمر لكان علمه تعالى جهلاً لأنّه كان يعلم من الأزل أنّي أشرب الخمر!

والجواب عنه أيضاً واضح ، لأنّه تعالى كان يعلم من الأزل أنّ العبد يصدر منه الفعل باختياره وإرادته ( أي إرادة العبد ) فلو صدر منه الفعل جبراً لزم صيرورة علمه تعالى جهلاً ، لأنّه كان يعلم بصدوره عن اختياره ، ولذا قال الشاعر الفارسي العالم الخبير في الجواب عن الشعر السابق « علم ازلى علت عصيان گشتن ـ نزد عقلا ز غايت جهل بود » ، وهذا نظير نسخة المريض التي يكتبها الطبيب لرفع مرضه مع أمره باجتنابه عن بعض المأكول أو

٢٣١

المشروب ، فلو فرضنا أنّ الطبيب علم من بعض القرائن عدم امتثاله وارتكابه لما نهى عنه وبالنتيجة دوام مرضه وموته ، فهل يمكن حينئذٍ أن يستند موت المريض إلى علم الطبيب؟ وهكذا إذا علم الاستاذ الممتحن عدم نجاح تلميذه في الامتحان من بعض القرائن من قبل ، فهل يصحّ أن يستند عدم نجاحه إلى علم الاستاذ؟ أو فرضنا اختراع آلة ينعكس فيها جميع أفعال العباد والحوادث الآتية فهل يجوز استناد جميع تلك الحوادث إلى تلك الآلة؟ كلاّ ، فإنّ علم الباري تعالى بأفعال عباده من هذا الباب.

والإنصاف أنّ هذا الدليل أشبه شيء بالمغالطة ، وسيأتي أنّ الميل إلى مذهب الجبر ليس له دليل فلسفي برهاني ، بل له جذور أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو نفسانيّة ، وأنّ الإنسان يميل إليه ويلتزم به لأن يكون مستريحاً في المعاصي في مقابل وجدانه القاضي بعصيانه والحاكم باستحقاقه للمذمّة والعقاب ، وقد قال الله تعالى في حقّ منكري القيامة : ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) (١) وهكذا حال منكري الاختيار المتمسّكين بمذهب الجبر.

هذا كلّه ما استدلّ به الجبريون المعتقدون بالله.

وهناك وجوه اخرى للقول بالجبر يشترك فيها كلتا الطائفتين الالهيّون والمادّيون :

الوجه الأوّل : برهان التكرار

وهو أنّه لو كنّا مختارين في أعمالنا لوجب القدرة على تكرار الأعمال بعينها ، فإذا ألقينا حجراً في موضع خاصّ وكان هو معلولاً لاختيارنا وإرادتنا فلنكن قادرين على إلقائه في نفس ذلك الموضع في المرّة الثانيّة مع أنّه نتخلّف عنه غالباً ، بل قد يقع على نفس الموضع السابق صدفة.

وأجاب عنه المحقّق الطوسي رحمه‌الله : بوجهين ولنا جواب ثالث لعلّه أدقّ منهما :

الأوّل : فهو النقض بأنّه قد يصدر عنّا أعمال تكراريّة متشابهة كحركة اليد والأصابع.

__________________

(١) سورة القيامة : الآية ٥.

٢٣٢

الثاني : ( هو جواب حلّي منه رحمه‌الله ) فهو إنّا غير عالمين بتفاصيل العمل وإلاّ لو علمنا به تفصيلاً لكنّا قادرين على تكراره بعينه ، فمثلاً لو علمنا بمقدار الماء في الاغتراف الأوّل لأستطعنا أن نغترف منه بنفس ذلك المقدار في المرّة اللاّحقة.

وأمّا الجواب الثالث فهو أن نقول : إنّ الاختياري من العمل في المثال المزبور إنّما هو أصل إلقاء الحجر فحسب ، وهو ممّا يمكن تكراره بعينه بلا إشكال ، وأمّا خصوصّياته وجزئياته فلا بأس بكونها خارجة عن الاختيار.

وبعبارة اخرى : ههنا عدّة من العوامل الجبريّة تكون دخيلة في عمل الإلقاء كبعض ارتعاشات اليد ومقدار القوّة الموجودة في اليد في كلّ مرّة ولكنّها لا تنافي اختياريّة أصل العمل كما لا يخفى.

الوجه الثاني : برهان العلم بالتفاصيل

وبيانه أنّ اختياريّة العمل تستلزم العلم بتفاصيله وهو مفقود بالوجدان كما في حركة الساهي أو النائم وانقلابه من جنب إلى جنب وفي الأعمال الاعتياديّة ، فلا يعلم الإنسان بكميّة عمله وكيفيته ( في المثال الأوّل ) كما لا يعلم بعدد خطواته وكيفيتها ( في المثال الثاني وفي الأعمال الاعتياديّة ) فإن كانت هذه الأعمال اختياريّة له فكيف لا يكون عالماً بتفاصيلها؟

وأجاب عنه المحقّق الطوسي رحمه‌الله : بما يخصّ بالمثال الأوّل بأنّ ملاك اختياريّة العمل إنّما هو صدوره عن علم وإلتفات ، وهما منفيان في حال النوم أو السهو ، فلا يكون العمل في هذا الحال اختياريّاً.

وأمّا في المثال الثاني وهو الأعمال الاعتياديّة فيمكن أن يقال : أنّها معلومة إجمالاً لأنّها قبل أن تصير اعتياديّة كانت تصدر من الإنسان عن علم وإلتفات تفصيلي ، وبعد تحقّق العادة أيضاً تصدر عن علم وإلتفات ، ولكن على نحو الإجمال ، ولا دليل على اعتبار العلم التفصيلي في اختياريّة الأعمال.

الوجه الثالث : برهان العلّية

أي « قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد »

٢٣٣

بيانه : أنّه لا إشكال في أنّ كلّ معلول ما لم تتحقّق علّته التامّة لم يوجد ، بل يمتنع وجوده ، فإذا تحقّقت علّته التامّة فلابدّ من تحقّق المعلول ، ولا يمكن تخلّفه عنها ، فكلّ فعل عند تحقّق علّته واجب وجوده ، وعند عدم تحقّق علّته ممتنع وجوده ، فأمره دائماً دائر بين الوجوب والامتناع ، أي أنّه إمّا ضروري الوجود ، أو ضروري العدم ، وهذا هو معنى الجبر ، فلا اختيار في البين.

والجواب عنه : أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافيه أيضاً

وتوضيحه : إنّا نقبل قاعدة « إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ولكن نقول أيضاً : إنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة في الأفعال الاختياريّة هو الإرادة والاختيار ، ولا إشكال في أنّ الوجوب الذي ينشأ من العلّة التي يكون جزؤها الأخير الاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يؤكّد الاختيار.

الوجه الرابع : برهان الإرادة

( الذي أدرجه بعض في برهان العلّية ولكن ينبغي إفراده عنه لما فيه من خصوصيّة التبيين ) وهو عبارة عن « أنّ اختياريّة العمل إنّما تكون بالإرادة ، فننقل الكلام إلى الإرادة ونقول : هل الإرادة أيضاً إراديّة واختياريّة ، أو لا؟ فإن لم تكن إراديّة لزم ، كون الفعل الذي ينتهي إليها غير ارادي أيضاً ، وإن كانت إراديّة فلابدّ أن تكون تلك بإرادة اخرى ، ثمّ ننقل الكلام إلى تلك الإرادة ، فإن كانت إراديّة فيلزم التسلسل وإلاّ لزم الجبر ، فيدور الأمر بين قبول التسلسل وقبول مذهب الجبر ، وحيث إنّ الأوّل باطل فيتعيّن الثاني.

وهذا هو من أهمّ أدلّتهم ، وهو الذي بالغ فيه أمام المشكّكين حتّى توهّم أنّه لو اجتمع الثقلان لم يأتوا بجوابه.

ولكن اجيب عنه بوجوه عديدة :

الوجه الأوّل : ما أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الثواب والعقاب يترتّبان على الإطاعة والمعصية ، وهما تنشئان من الإرادة ، والإرادة أيضاً تنشأ من مقدّماتها الناشئة من الشقاوة والسعادة الذاتيتين ، والذاتي لا يعلّل ، والسعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة كما في الخبر.

٢٣٤

وقد نقل عنه رحمه‌الله أنّه عدل عن هذه المقالة بعد ذلك.

وكيف كان ، يرد عليه :

أوّلاً : أنّ كلامه هذا يوجب إراديّة الفعل في مقام التسمية فحسب لا الواقع ، وهو لا يوافق مذهب الاختيار والأمر بين الأمرين حقيقة كما هو ظاهر.

ثانياً : إذا كانت الشقاوة ذاتيّة وتكون هي المنشأ الأصلي للعصيان فكيف يؤاخذ الله العاصي بما هو ذاتي له؟ فهل هو إلاّظلم فاحش ( تعالى الله عنه علوّاً كبيراً )؟

وأمّا ما استشهد به من الرّوايتين فالحقّ أنّ الثاني منهما ( وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ) على خلاف مقصوده أدلّ ، لأنّه يقول : أنّ جميع الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، فهم على تفاوتهم واختلاف درجاتهم ( كتفاوت درجات معادن الذهب والفضّة ) حسن السريرة بحسب ذواتهم وسعداء بحسب فطرتهم الأوّليّة فلا شقاوة ذاتيّة لهم.

الأوّل : منهما وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه » فقد فسّر بتفسيرين :

أحدهما : أنّ الله تبارك وتعالى يعلم أنّ المولود الفلاني يصير سعيداً أو شقيّاً. ( كما في الخبر ).

وثانيهما : حمله على المقتضيات الذاتيّة ، فيكون المراد منه أنّ بعض الناس أقرب إلى السعادة بحسب اقتضائه الذاتي واستعداده الفطري ، وبعض آخر أقرب إلى الشقاوة كذلك من دون أن يكون هذا القرب أو البعد علّة تامّة للطاعة أو العصيان ، بل الجزء الأخير هو إرادة واختيار الإنسان نفسه.

إن قلت : هذا وإن كان يرفع الجبر ولكن أليس هو تبعيض قبيح عند العقل؟

قلنا : أنّه كذلك إذا كانت مجازاتهما بنسبة واحدة ، مع أنّه ليس كذلك ، لأنّ كلّ إنسان يجازى على عمله بملاحظة الشرائط والمساعدات الذاتيّة والعائلية والوراثيّة والاجتماعيّة ، فيكون الميزان في الثواب والعقاب نسبة العمل مع مقدار الإمكانات والعلم والاستعداد ، فمن كانت قدرته ومكنته أكثر ، ينتظر منه سعي أكثر وعمل أوفر ، ومن هذا الباب يقال حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، وقوله تعالى لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ

٢٣٥

يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ... )(١) وقوله تعالى للحواريين بعد طلبهم نزول المائدة من السماء : ( إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ). (٢)

الوجه الثاني : ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه‌الله في البحث عن اتّحاد الطلب والإرادة ( واستحسنه بعض أعاظم تلامذته في هامش تقريراته وزاده توضيحاً ومثالاً وقال : ما أفاد شيخنا الاستاذ هو محض الحقّ الذي لا ريب فيه ) وقد وعدنا أن نجيب عن ما يرتبط من كلامه بمبحث الجبر والاختيار في هذا المقام.

فنقول : كان كلامه ذاك مركّباً من خمس مقدّمات :

الاولى : إنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤكّد ، ولكن هناك أمر آخر متوسّط بين الإرادة وحركة العضلات يسمّى بالطلب ، وهو عبارة عن نفس الاختيار وتأثير النفس في الحركة.

الثانيّة : إنّ النفس مؤثّرة بنفسها في حركات العضلات من غير سبب خارجي وواسطة في البين.

الثالثة : إنّ قاعدة « الشيء ما لم يجب لم يوجد » مختصّة بالأفعال غير الاختياريّة.

الرابعة : إنّ الاحتياج إلى المرجّح في وجود الفعل من ناحية فاعله ( وهو النفس ) إنّما هو من جهة خروج الفعل عن العبثية وإلاّ فيمكن للإنسان إيجاد ما هو منافر لطبعه فضلاً عن إيجاد ما لا يشتاقّه لعدم فائدة فيه.

الخامسة : إنّ المرجّح المخرج للفعل عن العبثية هي الفائدة الموجودة في نوعه ، دون شخصه بداهة أنّ الهارب والجائع يختار أحد الطريقين وأحد القرصين مع عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص ، ويعلم من ذلك عدم وجود أمر إلزامي إجباري يوجب صدور الفعل حتّى يهدم أساس الاختيار ، وأمّا الاختيار فهو فعل النفس وهي بذاتها تؤثّر في وجوده ، والمرجّحات التي تلاحظها النفس إنّما هي لخروج الفعل عن كونه عبثاً لا أنّها موجبة للاختيار.

أقول : يرد على الاولى : مناقشة لفظيّة وهي أنّ الإرادة عند المشهور ليست عبارة عن مجرّد الشوق المؤكّد فحسب بل إنّما هي الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات.

وعلى الثانيّة : أنّ كون النفس علّة تامّة للفعل أو الترك ينافي تسويتها بالنسبة إلى كلّ من

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٣٠.

(٢) سورة المائدة : الآية ١١٥.

٢٣٦

الفعل والترك وأنّها إن شاءت فعلت وإن شاءت تركت ، أي ينافي حالة اختيارها ، لأنّ كونها علّة تامّة للفعل أو الترك يستلزم دوران الأمر بين الوجوب والامتناع بمقتضى قاعدة « الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، وإنكاره جريان هذه القاعدة في الأفعال الاختياريّة ( وهي المقدّمة الثالثة ) يساوق إنكار قانون العلّية والتسليم بالصدفة كما لا يخفى.

وعلى الرابعة والخامسة : أنّ كفاية المرجّح النوعي إنّما هي في رفع العبثية ، وأمّا إذا كان المرجّح مؤثّراً في تكوّن العلّة التامّة وتحقّقها فلا يكفي بل لا بدّ من المرجّح الشخصي ، لأنّ المرجّح النوعي قد تكون نسبته إلى الفعل والترك على السواء ، نعم إنّ كلامه صحيح بناءً على مبناه من عدم جريان قاعدة « الشيء ما لم يجب لم يوجد » في الأفعال الاختياريّة.

وأمّا مثال الهارب والعطشان فإنّا ننكر عدم وجود مرجّح شخصي فيهما بل ندّعي وجود مرجّح خاصّ فيهما قطعاً كقرب أحد الإنائين أو سبق النظر إلى أحدهما من الآخر ، وإلاّ لو لم يلتفت إلى مرجّح خاصّ لتوقّف في المشي أو الشرب ، ولكن هذا مجرّد فرض ، فتلخّص أنّ حلّ مشكلة الإرادة من هذا الطريق غير ممكن وإن كان بعض ما ذكره من المقدّمات صحيح ، وعمدة ما يرد عليه هو ما ذكره في إستثناء الأفعال الاختياريّة من قاعدة : الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فإنّه مساوق لانكار قانون العلّية كما لا يخفى.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقّق العراقي رحمه‌الله في المقام وإليك نصّ كلامه : « إنّ عوارض الشيء على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما يعرض على الشيء وليس بلازم لوجوده ولا لماهيته كالبياض للجسم مثلاً.

ثانيها : ما يعرض الشيء ويكون لازماً لماهيته ( كزوجيّة الأربعة ).

ثالثها : ما يعرض الشيء ويكون لازماً لوجوده كالحرارة للنار ، أمّا القسم الأوّل فلا ريب في أنّ جعل المعروض ( بمعنى إيجاده ) لا يستلزم جعل عارضه ، بل يحتاج العارض إلى جعل مستقلّ ، وأمّا القسمان الأخيران فما هو قابل لتعلّق الجعل به هو المعروض وهو المجعول بالذات ، وأمّا لازم كلّ من القسمين المذكورين فيحقّق قهراً بجعل نفس ملزومه ومعروضه بلا حاجة إلى جعل مستقلّ ، فإرادة المعروض تكفي في تحقّقه عن تعلّق إرادة أزليّة اخرى به.

ثمّ قال : إذا عرفت ذلك : فاعلم أنّ أوصاف الإنسان على قسمين :

أحدهما : إنّه يكون من عوارض وجوده وليس بلازم لوجوده أو ماهيته كالعلم والضحك

٢٣٧

ونحوهما ، وقد عرفت أنّ هذا النحو من العوارض يحتاج إلى جعل مستقلّ يتعلّق به.

ثانيهما : أنّ يكون الوصف من لوازم وجوده كصفة الاختيار للإنسان ، فإنّه من لوازم وجوده ولو في بعض مراتبه ، وقد عرفت أنّ هذا النحو من الأوصاف لا يحتاج في تحقّقه إلى جعل مستقلّ غير جعل معروضه ، فالانسان ولو في بعض مراتب وجوده مقهور بالاتّصاف بصفة الاختيار ، ويكفي في تحقّق صفة الاختيار للإنسان تعلّق الإرادة الأزليّة بوجود نفس الإنسان.

ثمّ قال : لا ريب في أنّ كلّ فعل صادر من الإنسان بإرادته ، له مبادىء كعلم بفائدته وكشوق إليه وقدرة عليه واختياره في أن يفعله وأن لا يفعله وإرادته المحرّكة نحوه ، وعليه يكون للفعل الصادر من الإنسان نسبتان :

إحداهما : إليه باعتبار تعلّق اختياره به الذي هو من لوازم وجود الإنسان المجعولة بجعله لا بجعل مستقلّ.

والاخرى : إلى الله تعالى باعتبار إيجاد العلم بفائدة ذلك الفعل في نفس فاعله وإيجاد قدرته عليه وشوقه إليه إلى غير ذلك من المبادىء التي ليست من لوازم وجود الإنسان ، وحينئذٍ لا يكون الفعل الصادر من الإنسان بإرادته مفوّضاً إليه بقول مطلق ولا مستنداً إليه تعالى كذلك ليكون العبد مقهوراً عليه ، ومعه يصحّ أن يقال : لا جبر في البين لكون أحد مبادىء الفعل هو اختيار الإنسان المنتهى إلى ذاته ، ولا تفويض بملاحظة كون مبادئه الاخرى مستندة إليه تعالى ولا مانع من أن يكون ما ذكرنا هو المقصود بقوله عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين » (١).

ويمكن تلخيص مجموع كلامه هذا في ثلاث مقدّمات :

الاولى : أنّ الاختيار من لوازم وجود الإنسان وذاته ولا يحتاج إلى جعل مستقلّ عن جعل ذاته.

الثانيّة : أنّ الاختيار غير الإرادة فإنّه صفة كامنة في النفس وموجود فيها بالفعل وعند تحقّق الفعل يصير بالفعل.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٢٣٨

الثالثة : أنّ الفاعل للفعل هو الإنسان بوصف كونه مختاراً والباقي شروط ومعدّات.

ولكن يرد على المقدّمة الاولى : أنّه لا حاجة إليها لأنّه وإن كان الاختيار مجعولاً بجعل مستقلّ فمع ذلك لا يضرّ بكون العمل اختياريّاً ، لأنّه على أيّ حال : خلق مختاراً ، أي تكون أصل قوّة الاختيار جبريّاً وقهريّاً ، وهذا لا ينافي أن يكون الفعل المستند إلى هذه القوّة اختياريّاً كما لا يخفى.

وعلى الثانيّة : أنّها مبهمة من جهة أنّه لا يعلم أنّ مراده ما ذكره المحقّق النائيني ؛ من أنّ الاختيار نفس الطلب والطلب غير الإرادة ، أو غير ذلك ، فإن كان الأوّل فقد عرفت الكلام فيه ، وإن كان غير ذلك فليبيّن حتّى يبحث عنه.

وأمّا الثالثة : فلا مانع من المساعدة عليها ، لكن يبقى الكلام في أنّ الإنسان المختار متساوي النسبة إلى وجود الفعل وعدمه فكيف يصدر الفعل منه دون عدمه فإن كان هو من جهة تخصيص قاعدة الوجوب فيعود الإشكال الذي ذكرناه في كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله أو شيء آخر فما هو؟

المختار في حلّ مشكلة الإرادة على مذهب الاختيار

الحقّ في المسألة أن يقال : إنّ هناك أمرين :

١ ـ صفة الاختيار وقوّته التي تكون ذاتيّة للإنسان ، ومقتضى هذه الصفة هي كون الإنسان بالنسبة إلى أفعاله على نحو سواء بحيث إنّ شاء فعل وإن شاء ترك.

٢ ـ الاختيار الفعلي ، وهو نفس الإرادة والانتخاب في الخارج والتصدّي للعمل.

فإنّه بعد تصوّر الإنسان لفعل وتصديق الفائدة فيه وحصول الشوق المؤكّد له ترد صفة الاختيار في ميدان العمل وتنتخب الفعل أو الترك.

وإن شئت قلت : ترد النفس في ميدان العمل بصفة الاختيار وقوّته التي تكون من شؤونها وذاتياتها فتريد الفعل أو الترك وتنتخب أحدهما.

ولازم هذا أن تكون الإرادة نفس الاختيار ، ولكن ـ الاختيار الفعلي لا صفة الاختيار أي الاختيار بالقوّة.

٢٣٩

توضيح ذلك : أنّ الإنسان يكون بفطرته وذاته طالباً للمنفعة ودافعاً للضرر ، أي من غرائزه الفطريّة الجبلية غريزة طلب المنفعة ودفع الضرر ، وبمقتضى هذه الغريزة إذا لاحظ شيئاً والتفت إلى منفعة أو ضرر ، أي إذا تصوّر أحدهما وصدّقه يحصل في نفسه شوق إلى تحصيل المنفعة أو دفع الضرر ، ومع ذلك يرى نفسه قادراً على الجلب وعدمه ، أو على الدفع وعدمه ، وأنّ له أن يتحرّك ويجلب المنفعة أو يدفع الضرر ، وله أن يجلس ويتحمّل الضرر أو يحرم نفسه عن المنفعة ويشتري المذمّة والملامة ، فإذا اختار الفعل وانتخبه وأراده ورجّحه على الترك تتحرّك عضلاته نحو العمل فيفعله ويحقّقه في الخارج.

وبهذا يظهر أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون جبريّة غير اختياريّة ، فإنّ التصوّر كثيراً ما يحصل للإنسان جبراً بمعونة حواسّه وادراكاته ، ويترتّب عليه التصديق فيكون التصديق أيضاً جبريّاً غالباً ويترتّب على التصديق الشوق أو الكراهة بمقتضى غريزة جبريّة وهي غريزة جلب المنفعة ودفع الضرر.

ثمّ تصل النوبة بعد هذه إلى أعمال النفس واختيارها وارادتها بمقتضى سلطانه الذاتي وقوّة الاختيار وقدرة الانتخاب التي جعلها الله تعالى لذاتها ، فلها أن تختار وتنتخب ، ولها أن لا تختار ولا تنتخب.

ثمّ إذا اختارت وانتخبت تصل النوبة إلى حركة العضلات نحو العمل ، والإرادة عين هذا الاختيار الفعلي والانتخاب الخارجي ، هذا أوّلاً.

وثانياً : ظهر أنّ الإرادة ليست في طول الشوق المؤكّد بلا تخلّل شيء ، بل صفة الاختيار متخلّلة بينهما ، والشاهد على ذلك أنّ الإنسان كثيراً ما يتصوّر شيئاً ذا منفعة وفائدة ويصدّق فائدته ويشتاق إليه ، ولكن مع ذلك لا يتصدّى له في الخارج ولا تترشّح من النفس إرادة العمل لما يكون لها من صفة الاختيار وقوّته ، وحينئذ نشاهد تخلّل صفة الاختيار بين الشوق والإرادة.

وبهذا تنحلّ مشكلة عدم اختياريّة الإرادة ، فإنّه إذا كانت الإرادة عبارة عن الاختيار الخارجي الفعلي والتصدّي في الخارج بمقتضى صفة الاختيار الذاتيّة للإنسان كانت إراديّة ، وإراديتها إنّما تكون بذاتها لا بقوّة اختياريّة اخرى حتّى يتسلسل.

وإن شئت قلت : إنّ إراديّة كلّ فعل إنّما هي بالإرادة ، وإراديّة الإرادة إنّما هي بصفة

٢٤٠