أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

الخامس : ( وهو المختار ) أن يجاب عنه بطرق ثلاثة كلّ واحد يجري في قسم من الصفات ( على سبيل منع الخلو ).

الطريق الأوّل : ما مرّ في مبحث الصحيح والأعمّ في بيان القدر الجامع للصحيحي ، من أنّ اللفظ وضع لما يكون منشأً للأثر المرغوب منه ، فالساعة مثلاً وضعت لما يقدّر به الأوقات ، والسراج وضع لما ينشأ منه الضياء لدفع الظلمة ، وهما يصدقان على كلّ ما يكون سبباً لهذين الأثرين ولو اختلفت الموادّ والهيئات كما يرى في الساعات المائيّة والرمليّة والكهربائيّة فلا شكّ في أنّ كلّها ساعة ، وهذا المعنى صادق في قسم من صفات الباري كالسميع والبصير ، فإنّ السميع مثلاً وضع لمن يكون محيطاً بالمسموعات ، والبصير وضع لمن يكون محيطاً بالمبصرات ، سواء كان ذلك بالآلة أو بدونها ( فتأمّل ).

الطريق الثاني : أن تكون مجازاً ولكنّه مجاز فوق الحقيقة بحيث تكون الحقيقة فيها قنطرة المجاز على عكس ما هو المعروف من أنّ المجاز قنطرة الحقيقة فإنّ استعمال العالم في الله تبارك وتعالى وإن فرض مجازاً ، ولكنّه مجاز أعلى من الحقيقة فإنّ العلم هنا عين الذات ، لا أمر عارض عليه ، فيكون المعنى المجازي أعلى وأشرف وأتمّ من المعنى الحقيقي ، ولا ضير في الالتزام بذلك مع وجود القرينة ، ووضوح المفهوم وهكذا الحال في ما يشبه العالم من الصفات كالقادر وغيره.

الطريق الثالث : النقل ، بأن يقال بانتقال المعنى المحدود إلى المعنى الوسيع بعد كثرة استعماله في ذات الباري تعالى ، فكان العالم مثلاً موضوعاً لما يكون المبدأ فيه غير الذات ، لكن لكثرة استعماله في الله عزّوجلّ وضع تعييناً أو تعيّناً للأعمّ منه ، وهذا أيضاً يجري في مثال العالم والقادر وما أشبههما فتأمّل جيّداً.

التنبيه الرابع : في قيام المبدأ بالذات

لا إشكال في أنّ الوصف والاتّصاف يحتاج إلى قيام المبدأ بذات لأنّه لو لم يكن المبدأ قائماً بالذات لا يتحقّق اتّصاف لذات دون ذات ، بل يلزم اتّصاف كلّ ذات بكلّ وصف ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، ولكن هيهنا أمثلة صارت منشأً للنزاع والإشكال ، ففي قسم منها مثل الضارب والمؤلم بالكسر ، ليس المبدأ فيه وهو الضرب والألم قائماً بذات الضارب والمؤلم ، بل إنّهما قائمان

٢٠١

بالمضروب والمؤلَم ( بالفتح ) ، كما لا يخفى ، وفي قسم آخر منها نحو اللابن والتامر ممّا يكون المشتقّ فيه من الجوامد لا معنى لقيام المبدأ ( وهو اللبن والتمر في المثال ) بذات اللابن والتامر ، وفي قسم ثالث منها وهو الصفات التي تنسب إلى ذات الباري تعالى أيضاً كذلك فليس المبدأ فيها قائماً بالذات لأنّها عينه.

أقول : وحيث إنّ بعضهم لم يظفر على جواب مناسب لهذه الأمثلة أنكر من الأساس اعتبار قيام المبدأ بالذات في جميع المشتقّات ، ولكن يمكن الجواب عن الجميع :

أمّا القسم الأوّل : فيمكن أن يقال : إنّ الإشكال فيه حصر القيام في نوع واحد ، وهو القيام الحلولي ، مع أنّ للقيام أنواعاً متفاوتة :

منها : القيام الحلولي كما هو كذلك في الصفات المشبّهة وأسماء الفاعل المشتقّة من الفعل اللازم.

ومنها : القيام الصدوري ، كما في مثل الضارب والقاتل وغيرهما.

ومنها : القيام بمعنى الوقوع فيه ، كما في اسمي الزمان والمكان.

ومنها : القيام بمعنى الوقوع به في مثل اسم الآلة.

ومنها : القيام الانتزاعي كما في مثل الصفات الانتزاعي ، نحو صفة الممكن الذي تنتزع من تساوي الوجود والعدم بالنسبة إلى الذوات الممكنة ، فإنّ مبدأ الإمكان فيه قائم بذات الممكن انتزاعاً ، فالقيام في جميع المشتقّات حاصل ولكن كلّ واحد بنوع من القيام.

هذا كلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل من الأمثلة.

أمّا القسم الثاني : مثل اللابن والتامر فالجواب عنه إنّه لا يشتقّ من الجامد وصف إلاّبعد اشراب معنى وصفي فيه ، فاشرب في اللبن والتمر مثلاً معنى البيع ويكون اللابن والتامر مشتقّين في الواقع من مادّة بيع اللبن ومادّة بيع التمر ، وهما قائمان بفاعلهما قياماً صدوريّاً.

أمّا القسم الثالث : فالطريق الصحيح في حلّه ما اخترناه سابقاً من كونها مجازات فوق الحقيقة.

ففي مثل العالم نقول : إنّ الله منزّه من أن يكون العلم قائماً به ، بل ذاته تعالى عين العلم ، فيكون فوق الحقيقة ، ولا غرابة ولا استهجان فيه ، وعلى هذا فلا يرد علينا إشكال تعطيل الصفات ، أو كونه تعالى جاهلاً بالمقايسة إلى الممكنات تعالى الله عن ذلك.

٢٠٢

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله قد سلك في المسألة طريقة اخرى وتبعه المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو أنّ العرف مرجع في تعيين المفهوم لا المصداق ، فيمكن أن يكون هناك مصاديق لم يدركها العرف وفي ما نحن فيه : كذلك ، فإنّ مفهوم المشتقّ هنا عرفاً هو المبدأ القائم بالذات لكن من مصاديق القيام وأعلى مراتبه هو القيام على نحو العينية وإن لم يدركه العرف!

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ العرف قد يكون مرجعاً في المصاديق أيضاً ، كما في تطهير الثوب المتنجّس بالدم فيما إذا بقي فيه لون من الدم ، ففي مثله وإن كان العقل يحكم ببقاء عين الدم ، لاستحالة انتقال العرض ( على القول به ) إلاّ أنّه حيث إنّ العرف لا يعدّه من مصاديق الدم يحكم بعدم وجوده وبطهارة الثوب ، نعم المرجع في المصاديق هو العرف الدقّي لا التسامحي ، فلا يرجع إلى المسامحات العرفيّة كما إذا حكم على تسعة وتسعين مثقالاً أنّه مائة مثقال مسامحة.

وثانياً : أنّ القيام يلازم الاثنينية ولا توجد اثنينية فيما إذا كان المبدأ عين الذات ، وأمّا كون الاتّحاد من أعلى مصاديق القيام فهو كلام شعري لا محصّل له بعد ما عرفت من وجود الاثنينية في معنى القيام.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ ما مرّ من البيان في صفات الباري يختصّ بصفات ذاته تعالى ولا يشمل صفات الفعل ، لأنّ المبدأ في الصفات الفعليّة غير الذات وليست عينها قطعاً بل ينتزعها العقل من الأفعال الصادرة منه تعالى فينتزع مثلاً عنوان « الرازق » بعد صدور فعل « الرزق » منه تعالى ، وكذلك في عنوان « الخالق » وغيره من صفات الفعل ولهذا يقال بحدوث صفات الفعل بمعنى أنّ الانتزاع العقلي لهذه الصفات من الأفعال حادث بحدوث الفعل فلا يرد إشكال من ناحية قدم الذات مع حدوث الصفات كما لا يخفى.

نعم القدرة على فعل الخلق أو الرزق قديم ، إلاّ أن مفهوم القادر غير مفهوم الخالق والرازق ، ومحلّ النزاع في المقام إنّما هو الصفات المنتزعة من نفس هذه الأفعال ، لا صفة القدرة عليها.

٢٠٣

التنبيه الخامس : في أنّ ثبوت المبدأ للذات لا بدّ أن يكون ثبوتاً حقيقيّاً

هل يكون كلمة « الجاري » في مثل جملة « الميزاب جارٍ » حقيقة ولو كان وصفاً للميزاب ، أو مجازاً لأنّه وصف للماء واقعاً لا للميزاب؟

وقع الخلاف فيه بين المحقّق الخراساني وصاحب الفصول رحمهما الله ، لأنّ صاحب الفصول رحمه‌الله ذهب إلى اعتبار كون ثبوت المبدأ للذات في استعمال المشتقّ ثبوتاً حقيقيّاً ، فكلمة « جارٍ » في الجملة المذكورة مجاز لا حقيقة ، واستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وقال : إنّه خلط بين المجاز في الكلمة والمجاز في الإسناد ، والمثال من قبيل الثاني لا الأوّل.

أقول : الإنصاف أنّ الخلط إنّما هو في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، لأنّ الذات المبحوث عنها في المقام هي الذات الموجود في المشتقّ لا المبتدأ أو الموصوف في الجملة الخبريّة ، والمتبادر من المشتقّ إنّما هو اتّصاف الذات الموجود فيه بالمبدأ حقيقةً ، وأمّا مثل « جار » في المثال المذكور فيمكن أن يكون من باب المجاز في الكلمة لا المجاز في الإسناد.

وبعبارة اخرى : المراد من الجاري هنا الجاري مجازاً لا حقيقة ، ومن المعلوم أنّ إسناد هذا المعنى إلى الميزاب حقيقي كما أنّ إسناد الأسد بمعنى الرجل الشجاع إلى زيد في قولنا « زيد أسد » ليس إسناداً مجازيّاً بل هو إسناد حقيقي وإن كان الأسد استعمل في معناه المجازي.

نعم لو اريد من الجاري معناه الحقيقي كان إسناده إلى الميزاب إسناداً مجازيّاً فتدبّر جيّداً.

فتلخّص : أنّ ما مرّ في مفهوم المشتقّ من لزوم كون المبدأ قائماً بالذات ، لا بدّ أن يكون القيام فيه حقيقياً لا مجازيّاً.

التنبيه السادس : في تعيين مبدأ المشتقّات

وقع الخلاف بين الأعلام في أنّ المبدأ للمشتقّات هل هو « المصدر » كما قال به الكوفيون أو « الفعل » كما نقل عن البصريين أو « المادّة الهيولائيّة التي لا خصوصيّة فيها من جهة الهيئة والنسبة » كما عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله في بعض تقريراته؟ وجوه :

وقد أورد على القول الأوّل : بأنّ « المصدر مشتمل على مادّة وصورة من حيث لفظه ، وحدث ونسبة من حيث المعنى ، ويستحيل أن يكون مثله مبدأ لبقيّة المشتقّات إذ لا بدّ وأن

٢٠٤

يكون المشتقّ مشتملاً على المبدأ ، والمصدر مباين مع بقيّة المشتقّات لفظاً ومعنى » (١).

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : أنّ المراد من الأصل هو أوّل ما وضع في المشتقّات ثمّ أخذ منه الباقي ، ولا يخفى أنّ اللفظ يحتاج إلى هيئة ما لا يمكن وضعه بدونها لأنّ الوضع لا محالة يتعلّق بصيغة خاصّة وتركيب خاصّ لا بحروف مقطّعة منثورة.

وثانياً : لقائل أن يقول : أنّه لا دلالة للهيئة في المصدر على معنى خاصّ بل إنّها لمجرّد إمكان التلفّظ به ، فلا تفيد الهيئة فيه معنى خاصّاً غير ما تفيده مادّته وإن كان اللازم علينا عند التكلّم به الاحتفاظ بتلك الهيئة لأنّه أمر سماعي لا يجوز التخلّف عنه ، كما أنّه لا نسبة في المصدر إلى شيء ( والمراد المصدر من الثلاثي ).

وأمّا القول الثاني : وهو كون المبدأ الفعل ففيه : أنّه يستلزم زيادة الأصل على الفرع لأنّ في الفعل زيادة على المصدر من حيث الزمان والنسبة ، لأنّ المصدر مجرّد حدث لا زمان فيه ولا نسبة ، بينما الفعل واجد لكليهما.

نعم يفهم من المصدر النسبة بالدلالة الالتزاميّة ، فإنّ الحدث إذا أخبر عنه يحتاج في وقوعه إلى نسبة خارجيّة ، ولكن لا يكون هذا في معناه المطابقي.

ولعلّ منشأ هذا القول أنّ علّة الحاجة إلى اللّغة أوّلاً إنّما هي بيان الفعل ، والحاجة إلى بيان المصدر والصفات ناشئة من الحاجة إلى فهم الأفعال ، لأنّ الضارب مثلاً لا يكون ضارباً ولا يتّصف بهذا الوصف إلاّبعد أن صدر منه فعل الضرب ، ولكن مجرّد هذا لا يكون دليلاً على كون الفعل أصلاً بعد وجود زيادات فيه ليست في المصدر.

فتبيّن وتحصّل ممّا ذكرناه أنّ المتعيّن كون المصدر هو الأصل.

وما مرّ من أنّ للمصدر هيئة لا تكون ثابتة في سائر المشتقّات قد عرفت الجواب عنه كما عرفت الجواب عن قول القائل بأنّ في المصدر نسبة لا توجد في سائر المشتقّات ( لكن هذا كلّه في المصدر الثلاثي المجرّد ).

إلى هنا قد فرغنا من مقدّمات المباحث الاصوليّة فلنرجع إلى البحث عن نفس مسائلها

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٦٠.

٢٠٥

، والكلام يقع في مقاصد ثمانيّة :

١ ـ الأوامر.

٢ ـ النواهي.

٣ ـ المفاهيم.

٤ ـ العامّ والخاصّ.

٥ ـ المطلق والمقيّد.

٦ ـ الأمارات المعتبرة عقلاً أو شرعاً.

٧ ـ الاصول العمليّة.

٨ ـ تعارض الأدلّة والأمارات.

والخاتمة في الاجتهاد والتقليد.

٢٠٦

المقصد الأوّل :

الأوامر

ويقع البحث فيها في فصول عديدة

٢٠٧
٢٠٨

الفصل الأوّل

معنى الأمر

وهو يستدعي بنفسه وقوع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : في مادّة الأمر ( امَرَ )

المقام الثاني : في صيغة الأمر ( صيغة افعل ).

ولا يخفى لزوم التفكيك بين المقامين ، ومع الأسف وقع الخلط بينهما في كلمات القدماء من أصحابنا الاصوليين ، ولذا ترى صاحب المعالم رحمه‌الله استدلّ لدلالة صيغة الأمر على الوجوب بقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ... ) مع أنّ مدلوله إنّما هو دلالة مادّة الأمر على الوجوب ، ( على فرض دلالتها ).

المقام الأوّل : في مادّة الأمر

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث تقديم مقدّمة في معنى المادّة ، فنقول : قد ذكر لكلمة الأمر معانٍ كثيرة :

١ ـ الطلب كما يقال : « أمره بكذا » أي طلب منه كذا.

٢ ـ الشأن كقولك : « هذا الأمر شغلني ».

٣ ـ الفعل كقوله تعالى : ( وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) أي وما فعل فرعون برشيد.

٤ ـ الفعل العجيب كقوله تعالى : ( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ) ( في قصّة لوط ).

٥ ـ الشيء ، كقولك : رأيت اليوم أمراً عجيباً.

٦ ـ الحادثة كقولك : هل حدث أمر؟

٧ ـ الغرض كقولك : جاء بأمر كذا.

وقد اضيف إليها معانٍ تصل إلى خمسة عشر معنىً.

٢٠٩

ولكن المهمّ هنا إنّما هو كشف مبدأ هذه المعاني ومرجعها ، والبحث في أنّها هل ترجع إلى أصل واحد ، أو أصلين ، أو أكثر؟ وبعبارة اخرى : هل تكون مادّة الأمر من قبيل المشترك اللّفظي أو من المشترك المعنوي؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّ عدّ بعض هذه المعاني من معاني مادّة الأمر يكون من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم وأنّه لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، ثمّ عدل عنه في ذيل كلامه ، وقال : لا يبعد أن يكون ظاهراً في المعنى الأوّل فحسب أي الطلب ، واختار صاحب الفصول أنّه حقيقة في المعنيين الأوّلين ، أي الطلب والشأن ، وذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى أنّه « لا إشكال في كون الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة معنى له وإنّ استعماله فيه بلا عناية ، وأمّا بقية المعاني فالظاهر أنّ كلّها راجعة إلى معنى واحد وهو الواقعة التي لها أهميّة في الجملة ، وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة وقد ينطبق على الغرض وقد يكون غير ذلك » ثمّ عدل عنه في ذيل كلامه وقال : « بل يمكن أن يقال : إنّ الأمر بمعنى الطلب أيضاً من مصاديق هذا المعنى الواحد فإنّه أيضاً من الامور التي لها أهميّة » (١).

أقول : في مثل هذا الموارد لا بدّ من الرجوع إلى أمرين : منابع اللّغة ، والتبادر.

أمّا اللّغة : فقد ذكر في منابعها لمادّة الأمر أصلان :

الأصل الأوّل : أنّه ضدّ النهي.

الأصل الثاني : الشيء كما اشير إليه في بعض الكلمات ، وأمّا الطلب فهو أعمّ من الأمر لشموله الطلب النفساني أيضاً كقولك « اطلب ضالّتي » أو « اطلب العلم » مع أنّه لا يمكن وضع الأمر موضعه فلا يقال : « آمر ضالّتي » أو « آمر العلم » ، اللهمّ إلاّ أن يقال أنّ معناه مساوق لمعنى « الطلب من الغير » ولكنّه أيضاً ممنوع لأنّه قد يقال « طلب منه شيئاً » ولا يمكن تبديله بالأمر فيقال « أمره بكذا ».

وكيف كان فالمعنى الأوّل لمادّة الأمر هو ، الأمر ضدّ النهي كما قال به في لسان العرب ، والمعنى الثاني : الشيء ، فإنّه قد يقال : « هذا أمر لا يعبأ به » أو « هذا أمر لا يعتنى بشأنه » أي هذا شيء لا يعبأ به أو لا يعتنى بشأنه ، فهو مشترك لفظي بين المعنيين من دون أن يكون قدر

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٨٦.

٢١٠

جامع بينهما حتّى يصير مشتركاً معنويّاً ، والدليل على كونه مشتركاً لفظيّاً ( وإنّه لا جامع بينهما ).

أوّلاً : قول أرباب اللّغة ( فراجع ).

وثانياً : التبادر فإنّ المتبادر من قولك « جئت لهذا الأمر » أو « رأيت اليوم أمراً عجيباً » إنّما هو الشيء ولا يمكن تأويلها إلى الطلب لوجود التباين بينهما.

وثالثاً : ما صرّح به غير واحد منهم من أنّ الأوّل يجمع على فواعل ( أوامر ) والثاني على فعول ( امور ).

ورابعاً : كون أحدهما ( وهو المعنى الأوّل ) مصدراً ومبدأً للاشتقاق ، والثاني اسم لا يشتقّ منه شيء.

ومن هنا يظهر وقوع الخلط بين المفهوم والمصداق بالنسبة إلى سائر المعاني وإنّها ترجع في الواقع إلى هذين المعنيين كالمعنى الثالث وهو الفعل ، فإنّ الأمر في قوله تعالى : ( وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) ليس بمعنى الفعل بل إنّه عبارة عن أوامر فرعون وأحكامه فينطبق على المعنى الأوّل ، وهكذا المعنى الرابع فإنّ الأمر في قوله تعالى : ( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ) أيضاً بمعنى الأمر التكويني لله تعالى بالعذاب نظير قوله تعالى : ( أَتى أَمْرُ اللهِ ) أي أتى أمره التكويني بالعذاب.

ثمّ إنّه ذكر في تهذيب الاصول أنّ ما هو المعروف بين الاصوليين من أنّ لفظ الأمر مشترك لفظي بين ما هو أمر حدثي وبين غيره غير صحيح إذ الموضوع للحدث هو المادّة الساريّة في فروعها التي لم تتحصّل بهيئة خاصّة ، والموضوع لمعانٍ اخر هو لفظ الأمر جامداً » (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ النزاع في مادّة المشتقّات لا دخل له بما نحن فيه ، بل الكلام في أنّ كلمة الأمر بهذه الهيئة لفظ واحد له معنيان مختلفان :

أحدهما : المعنى المصدري الحدثي.

والثاني : المعنى غير الحدثي الجامد وليس المشترك اللّفظي إلاّهذا ، سواء كان الأصل في المشتقّات هو المصدر أو المادّة الساريّة في فروعها.

إذا عرفت هذا فنقول : لا بدّ من التكلّم حول مادّة الأمر بالمعنى الأوّل في عدّة امور :

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٩٩ ، طبع مهر.

٢١١

الأمر الأوّل : في اعتبار العلوّ أو الاستعلاء في هذا المعنى

والأقوال فيه خمسة : اعتبار العلوّ فقط ، اعتبار الاستعلاء فقط ، اعتبار العلوّ والاستعلاء معاً ، كفاية أحدهما ، عدم اعتبار شيء منهما.

وتنبغي الإشارة أوّلاً إلى معنى العلوّ والاستعلاء فنقول : أمّا العلوّ فهو أن يكون المتكلّم الآمر في مقام عالٍ إمّا ظاهريّاً كما في أوامر فرعون ، أو معنويّاً كما في أوامر الأنبياء ، وأمّا الاستعلاء فهو التكلّم عن مقام عالٍ ، والأمر أو النهي عن منصب عالٍ ( وليس بمعنى التجبّر والتكبّر ) لا عن موضع شافع أو ناصح أو صديق سواء كان له مقام عالٍ خارجاً أو لم يكن ، ولا يخفى أنّ أحدهما غير الآخر ، فقد يأمر الإنسان عن موضع منصب عالٍ وليس بعالٍ وبالعكس كما ورد في الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله « قال : أتأمرني به يارسول الله ( أي أتطلب منّي الصلح عن مقام منصب الولاية ) قال : إنّما أنا شافع » هنا يكون فيه العلوّ ( لعلوّ مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومولويته ) دون الاستعلاء.

إذا عرفت هذا فنقول : الحقّ أنّ كليهما مأخوذان في المعنى في بدو النظر بمقتضى التبادر أوّلاً : ( ولذلك يقال لمن أمر من دون أن يكون له علوّ : ما شأنك حتّى تأمرني » أو « ما لك من حقّ الأمر بي » فيستحقّ التوبيخ والملامة ) وصحّة السلب.

ثانياً : فيقال : ليس هذا أمراً بل هو استدعاء كما وقع في الحديث المزبور.

لكن مع ذلك كلّه قد نشكّ في ذلك عند ما نلاحظ موارد استعمالات مادّة الأمر في القرآن الكريم فنحتمل حدوث هذين القيدين في الأزمنة الأخيرة وعدم وجودهما في عصر النزول وصدور الرّوايات ( من باب أنّ الاطّراد من علامات الحقيقة ).

فمثلاً في قوله تعالى : ( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ )(١) لا إشكال في عدم علوّ لأصحاب فرعون عليه ، اللهمّ إلاّ أن يحمل على المجاز ، أو يأوّل بأنّه لم يكن لفرعون علوّ ولا استعلاء حين صدور هذا القول بل كانا لملأه من باب أنّ الطواغيت إذا انهزموا أو وقعوا في شدّة وبلاء صاروا أذلّين وخاشعين فيرون الداني عالياً.

وهكذا في قوله تعالى : ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) من باب أنّ

__________________

(١) سورة الشعراء : الآية ٣٥.

٢١٢

قومه صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا دانين بالنسبة إليه لا سيّما بملاحظة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أيّها الجاهلون » الدالّ على تحقير شديد.

ويشهد له ما ورد من الآيات والرّوايات في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبها على جميع المكلّفين لأنّه لا إشكال في أنّه ليس لكلّ واحد منهم علوّ على باقي الناس ، كما يشهد له أيضاً قياس الأمر بالنهي حيث إنّ الظاهر عدم اعتبار واحد منهما في النهي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز وأنّه في ما نحن فيه لم يصل إلى حدّ الاطّراد فنرجع إلى أصالة عدم النقل.

والتحقيق في المسألة أن يقال أنّ المتبادر من الأمر إنّما هو نوع من الإلزام ( في مقابل الاستدعاء الذي ليس فيه إلزام ) وهو يتصوّر فيمن كان مطاعاً بنحو من الأنحاء ، أي يصدر الإلزام ممّن هو مطاع إمّا شرعاً أو عرفاً أو عقلاً ، وحيث إنّ لزوم الطاعة يلازم غالباً العلو والاستعلاء فتوهّم من ذلك اعتبارهما في المعنى الموضوع له الأمر.

وبعبارة اخرى : المتبادر من الأمر إنّما هو الإلزام ، وأمّا العلو والاستعلاء فهما من اللوازم الغالبية له.

الأمر الثاني : في دلالة المادّة على الوجوب

واستدلّ لها بوجوه :

الوجه الأوّل : التبادر والظهور العرفي ، فإنّ المتبادر عرفاً من لفظ الأمر فيما إذا كان مجرّداً عن قرينة على الاستحباب هو الطلب الإلزامي.

وإن شئت قلت : أنّ مفاده البعث كما عرفت ، والبعث يستدعي الانبعاث كما هو الحال في البعث الفعلي بأن يأخذ بيده ويبعثه نحو العمل ، فكما أنّ البعث الفعلي ظاهر في الوجوب ، فكذا البعث القولي يتبادر منه الوجوب ، بل سيأتي إن شاء الله تبادر الفوريّة منه أيضاً.

لا نقول إنّ استعماله في المستحبّ مجاز كما سيأتي ، بل نقول : المتبادر من الإطلاق هو الوجوب ، والانصراف إلى بعض أفراد المطلق ليس بمعنى كونه مجازاً في غيره.

الوجه الثاني : قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ

٢١٣

عَذابٌ أَلِيمٌ )(١) من باب إنّه مشتمل على مذمّة من يخالف الأمر وتهديده بالعذاب.

الوجه الثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كلّ صلاة » (٢)

حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نفى الأمر مع ثبوت الاستحباب.

الوجه الرابع : ما نقل « أنّ بريرة لمّا طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منها الرجوع إلى زوجها قالت : تأمرني يارسول الله؟ فقال : لا بل إنّما أنا شافع » (٣) فنفي الأمر أيضاً مع ثبوت استحباب إصلاح أمر الزوجة.

الوجه الخامس : قوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(٤) لشموله على التوبيخ والمذمّة لمن خالف أمره تعالى بالسجدة ( وهو ابليس ).

ولكن يمكن نقض جميع هذه الموارد للأمر غير الأمر الأوّل بموارد استعمال الأمر في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب :

منها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ )(٥) لثبوت استحباب الاحسان.

ومنها : قوله تعالى : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ )(٦) فإنّه لا ريب أيضاً في استحباب هذه الموارد الثلاثة.

ومنها : قوله عليه‌السلام في كتابه لمالك : « هذا ما أمر به عبدالله علي أمير المؤمنين ... ثمّ قال : أمره بتقوى الله ... أمره أن يكسر نفسه عند الشهوات » فلا إشكال في استعماله أيضاً في خصوص الاستحباب أو في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب.

إلى غير ذلك من الأمثلة التي تبلغ حدّ الاطّراد ، والاطّراد دليل الحقيقة كما مرّ في محلّه ، وأمّا استعماله في خصوص أحدهما فإنّما هو من باب تطبيق الكلّي على الفرد ، وهذا لا ينافي انصراف الإطلاق إلى خصوص الوجوب ، فظهر أنّ الدليل الوحيد على دلالة مادّة الأمر على الوجوب

__________________

(١) سورة النور : الآية ٦٣.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١ أبواب السواك ، الباب ٣ ، ح ٤.

(٣) الكافي : ج ٥ ، ص ٤٨٥ ؛ والتهذيب : ج ٧ ، ص ٣٤١ ؛ الخصال : ج ١ ، ص ١٩٠ ( نقلاً من كفاية الاصول طبع آل البيت ص ٦٣ ).

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٢.

(٥) سورة النحل : الآية ٩٠.

(٦) سورة النساء : الآية ١١٤.

٢١٤

إنّما هو الوجه الأوّل ، أي التبادر والظهور العرفي ، وأمّا سائر الوجوه فهي على حدّ التأييد للمدّعى لا أكثر ، لأنّها استعمالات لهذه المادّة في خصوص الوجوب ، ومجرّد الاستعمال غير دالّ على الحقيقة ما لم يبلغ حدّ الاطّراد.

وعلى أيّ حال : لا كلام في ظهوره في الوجوب ، إنّما الكلام في منشأ هذا الظهور ، فهل هو الوضع بحيث يكون الأمر بمادّته موضوعاً للطلب الوجوبي ، أو منشأه غلبة استعماله في الوجوب ، أو أنّه قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة كما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه‌الله ، أو المنشأ إنّما هو حكم العقل بوجوب طاعة المولى الآمر قضاءً لحقّ المولويّة والعبوديّة كما ذهب إليه بعض المعاصرين (١)؟

قال المحقّق العراقي رحمه‌الله بعد أن نفى الوجه الأوّل ( لصحّة التقسيم وصحّة الإطلاق على الطلب غير الإلزامي ) والوجه الثاني ( بدعوى وضوح كثرة استعماله في الاستحباب أيضاً مع نقله كلام صاحب المعالم رحمه‌الله وأنّه بعد أن اختار كون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب قال : « إنّه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّ استعمال الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي » مع أنّ كلامه رحمه‌الله هذا مرتبط بصيغة الأمر لا بمادّته فراجع ) : « وحينئذٍ فلابدّ وأن يكون الوجه في ذلك هو قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، ثمّ قرّبه بوجهين :

الأوّل : أنّ الطلب الوجوبي لمّا كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لا يقتضي المنع من الترك ، فلا جرم عند الدوران يكون مقتضى الإطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي ، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد ، بخلاف الطلب الوجوبي ، فإنّه لا تحديد فيه حتّى يحتاج إلى التقييد ، وحينئذ فكان مقتضى الإطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلباً وجوبياً لا استحبابياً.

الثاني : أنّ الأمر بعد أن كان فيه اقتضاء لوجود متعلّقه في مرحلة الخارج ( ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ) يكون اقتضائه ـ تارةً ـ بنحو يوجب مجرّد

__________________

(١) وهو المحقّق العلاّمة الشّيخ محمّد رضا المظفّر رحمه‌الله في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٦١ ، طبع دار النعمان بالنجف.

٢١٥

خروج العمل عن اللا اقتضائيّة ، بحيث كان حكم العقل بالإيجاد من جهة الرغبة لما يترتّب عليه من الأجر والثواب فحسب ، واخرى يكون اقتضاؤه لتحريك العبد بالإيجاد بنحو أتمّ بحيث يوجب سدّ باب عدمه حتّى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عمّا يترتّب على إيجاده من المثوبة الموعودة ، وفي مثل ذلك نقول : بأنّ قضيّة إطلاق الأمر يقتضي كونه على النحو الثاني لعدم تقيّده بشيء ( انتهى ملخّصاً ) (١).

أقول : الأولى في المقام أن يقال : إنّ منشأ الانصراف أنّ طبيعة الطلب ليس فيها عدم الطلب وإذن في الترك ، فإنّ الطلب بعث إلى الشيء ، والبعث يقتضي الانبعاث فلا سبيل لعدم الانبعاث في ماهيته ، فالإلزام والوجوب لازم لطبيعة الطلب وماهيته ، فما لم يصرّح المولى بالترخيص ولم يأذن بالترك ينصرف الطلب إلى الوجوب ويتبادر منه اللزوم ، والشاهد على ذلك أنّه إذا لم يمتثل العبد أمر المولى اعتذاراً بأنّي كنت أحتمل الندب لم يقبل عذره ويقال له « إذا قيل لك افعل فأفعل ».

نعم ، إذا قامت قرينة على الاستحباب والترخيص لم يكن مجازاً لأنّ الموضوع له عامّ يشمل الوجوب والاستحباب وإن كان إطلاقه منصرفاً إلى الوجوب.

نعم أُورد على المحقّق العراقي رحمه‌الله في تهذيب الاصول بأنّ « ما ذكره صاحب المعالم إنّما هو في صيغة الأمر دون مادّته كما أنّ مورد التمسّك بالاطلاق هو صيغة الأمر دون مادّته » (٢).

لكن الإنصاف عدم ورود اشكاله بالنسبة إلى التمسّك بالاطلاق ( وإن كان وارداً بالنسبة إلى نقل كلام صاحب المعالم كما أشرنا إليه ضمن نقل كلام هذا العلم ) وذلك لأنّه لا فرق في هذه الجهة بين صيغة الأمر ومادّته ، فكما تجري مقدّمات الحكمة ويمكن التمسّك بالاطلاق في صيغة الأمر ، تجري أيضاً في مادّته من دون فرق بين ما يكون المولى فيه في مقام الإنشاء كما في قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقوله عليه‌السلام : هذا ما أمر به عبدالله ... ( في كتاب علي عليه‌السلام لمالك ) وما يكون المولى فيه في مقام الإخبار كقوله عليه‌السلام : « أمر رسول الله بالزكاة في تسعة أشياء » فإنّه يمكن أن يقال فيها أيضاً ( كما يمكن أن يقال في صيغة الأمر ) أنّ المولى كان في مقام البيان فأمر بشيء من دون تقييد وبيان زائد يستفاد منه الاستحباب ، فيستفاد منه الوجوب

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ١٦١ ـ ١٦٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٠١ ، طبع مهر.

٢١٦

من باب وجود نقيصة في الطلب الاستحبابي يحتاج رفعها إلى مؤونة زائدة من البيان.

إن قلت : يتمسّك بالاطلاق غالباً لادخال جميع الأفراد وشمول اللفظ لها جميعاً بينما التمسّك به هنا يكون لأجل تعيين أحد الفردين.

قلنا : المطلوب في التمسّك بالاطلاق إنّما هو نفي القيد لا تكثير الفرد وتجميع الأفراد ، نعم نفي القيد يلازم غالباً في الخارج شمول الأفراد ، كما أنّ التقييد يلازم غالباً إخراج الفرد وإلاّ قد يستلزم من نفي القيد تعيين أحد الفردين كما إذا كان لعنوان كلّي فردان : أحدهما مع القيد ، والآخر بدون القيد ، فينفى باجراء أصالة الإطلاق القيد ويثبت تعيين الفرد المطلق كما فعله المحقّق الخراساني رحمه‌الله ( وتبعه الآخرون ) في دوران الأمر بين الواجب التعييني والواجب التخييري ، فإذا شككنا في أنّ التسبيحات الأربعة في الركعتين الأخيرتين مثلاً واجب تعييني أو يكون المكلّف مخيّراً بينها وبين قراءة الحمد ، نتمسّك بإطلاق أدلّة التسبيحات ونقول : أمر الشارع بها وطلبها من المكلّف مطلقاً سواء قرأ سورة الحمد أو لم يقرأها.

ولكن التمسّك بالاطلاق لا يخلو عن إشكال ، لأنّ الوجوب والاستحباب هما من مراتب الطلب ليس وأحدهما مطلقاً ، والآخر مقيّداً ، كما لا يخفى على الخبير.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا :

أوّلاً : أنّ مادّة الأمر مشترك معنوي بين الوجوب والندب في اللّغة ، والدليل هو ما مرّ من الاطّراد وعدم صحّة السلب عن مورد الاستحباب.

وثانياً : أنّها مع اشتراكها معنويّاً بحسب اللّغة تنصرف إلى الوجوب بمقتضى طبيعة الوجوب.

الأمر الثالث : في اتّحاد الطلب والإرادة

وهي مسألة كلاميّة قبل أن تكون مسألة اصوليّة وقد ذكرت ببعض المناسبات في الاصول ، وعنوانها أنّه هل تكون الإرادة والطلب متّحدين في المعنى ، أي هل يكون مفهوم الإرادة متّحداً مع مفهوم الطلب أو لا؟

ذهبت الأشاعرة وفئة قليلة من الإماميّة إلى اختلاف الإرادة والطلب مفهوماً ومصداقاً ، وهو المستفاد هو أيضاً من بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله ، ولكن المعتزلة وأكثر الإماميّة على

٢١٧

اتّحادهما ، وهم طائفتان : طائفة ذهبوا إلى اتّحادهما مفهوماً ومصداقاً ، واخرى إلى اتّحادهما في خصوص المصداق.

ولا بدّ أوّلاً من تبيين أساس النزاع والجذور التاريخية للمسألة لكي يتّضح موضع النزاع ومحلّ الخلاف ، ولكن المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث ورد في المسألة من أواسطها ولم يتعرّض لمنشأ الاختلاف وقع في بعض الإشكالات كما سيأتي.

فنقول : إن أصل هذه المسألة متفرّع من مسألة اخرى مطروحة في علم الكلام ، وهي البحث عن وجود الكلام النفسي للباري تعالى المتفرع بدوره من البحث في كلام الله وأنّه هل هو قديم كسائر صفاته الذاتيّة أو حادث كسائر صفاته الفعليّة؟

توضيح ذلك : لا شكّ في أنّ الله تبارك وتعالى متكلّم كما تكلّم مع أنبيائه وملائكته كما نطق به الأنبياء والكتاب الكريم في قوله تعالى مثلاً : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ) فمن صفاته جلّ وعزِ صفة « المتكلّم » ، فوقع البحث حينئذ في أنّ هذه الصفة قديمة أو حادثة ( أي أنّها من صفاته الذاتيّة أو الفعليّة كالخلق والرزق ) وهذه المسألة من المسائل التي ازدحمت فيها الآراء وكثر فيها الخلاف واريقت بسببها الدماء في القرون الأوّلى للإسلام ، بل إنّه هو الوجه في تسمية علم الكلام بإسم الكلام ، فإنّ أكثر النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كان في الكلام النفسي ـ الأمر الذي صار من أسباب التفرقة الشديدة بين فرق المسلمين وآلة بأيدي طالبي الرئاسة والحكومة من بني العبّاس ومثاراً لايجاد التنازع والاختلاف من جانبهم تحكيماً لمباني حكومتهم وادامة لرئاستهم وتحقيقاً لميولهم النفسانيّة الخبيثة ، فذهب الأشاعرة إلى أنّ كلام الله قديم ، والمعتزلة وجماعة الإماميّة إلى حدوثه لأنّ صفات الباري تعالى عندهم تقسّم إلى قسمين : صفات الذات وصفات الفعل ، والقسم الأوّل قديم بقدم الذات والقسم الثاني حادث بحدوث أفعاله تعالى ، فإنّ صفات الفعل عبارة عمّا ينتزعه الذهن بعد وقوع الفعل من ناحيته كصفة الخالق والرازق من دون أن تقوم بذاته تعالى ، وحكي عن الحنابلة أنّهم قالوا بأنّ كلام الله صفة حادثة قائمة بالذات القديم ، حتّى نقل في المحاضرات عن كتاب المواقف عن بعضهم القول بأنّ جلد كلام الله حادث قائم بالذات القديم فضلاً عن النقوش والخطوط ، ولكنّه كما ترى غير لائق بالبحث.

وكيف كان : لا إشكال في صحّة قول المعتزلة وجماعة الإماميّة ، لأنّ من الواضح أنّ كلام

٢١٨

الباري تعالى مع موسى عليه‌السلام مثلاً عبارة عن أمواج صوتيّة خلقها الله تعالى فظهرت على طور سيناء عن جانب الشجرة وسمعها موسى باذنيه ، أو عبارة عن النقوش المكتوبة في كتابه الكريم بعد أن أوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل. فكلّ من تلك الأصوات وهذه النقوش مخلوق من مخلوقاته وفعل من أفعاله الحادثة.

وأمّا الأشاعرة فوقعوا في حيص وبيص في تفسير قولهم وبيان مرادهم من كلام الله ، لأنّه لو كان المراد منه النقوش فلا ريب في حدوثها ، ولذلك ذهبوا إلى أنّ للكلام معنيين كلام لفظي وكلام نفسي ، والكلام اللّفظي عبارة عمّا يجري على اللسان أو القلم وهو حادث ، والكلام النفسي عبارة عن المعنى الموجود في فؤاد المتكلّم ( إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما ـ جعل اللسان على الفؤاد دليلاً ) وبالنسبة إلى الباري تعالى عبارة عمّا هو موجود في ذاته فيكون قديماً بتبع قدم ذاته ، وحينئذ أورد عليهم من جانب الإماميّة والمعتزلة هذا السؤال : هل يكون الكلام النفسي بهذا المعنى غير علمه تعالى بالمفاهيم الكلّية وغير قدرته على إيجاد الأصوات ( كما أنّ المراد بالسميع والبصير عبارة عن علمه بالمسموعات والمبصرات ) فإن كان هو عينهما فلم تأتوا بشيء جديد ، وإن كان غيرهما فما هو؟ فوقعوا في حرج ولم يأتوا بجواب واضح بل ادّعوا أنّ لله تعالى صفة اخرى غير القدرة والعلم تسمّى بالكلام النفسي.

هذا كلّه في الأخبار والجمل الخبريّة.

وأمّا في الإنشاءات الواردة في القرآن الكريم كقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) فقال المعتزلة أيضاً أنّ هذه النقوش أو الأصوات حادثة وحقيقتها هي إرادته تعالى والإرادة من الصفات المعروفة ، فلا يكون في البين أيضاً صفة جديدة قائمة بالذات غير الصفات المعروفة.

وأمّا الأشاعرة فادّعوا أنّ هنا صفة اخرى غير الإرادة تسمّى بالطلب ، وهو من الصفات القديمة للباري تعالى قائمة بذاته.

فاجيب عنهم بأنّ الطلب هو نفس الإرادة ومتّحد معها ، ومن هنا وقع النزاع بينهم في اتّحاد الطلب والإرادة.

فظهر أنّ النزاع في ما نحن فيه نزاع ميتافيزيقي ، له جذور في المباحث الكلاميّة والمشاجرات الاعتقاديّة بين الأشاعرة والمعتزلة ، فلا يمكن أن يقال : « إنّ النزاع لفظي وإنّ من

٢١٩

قال باختلافهما أراد من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب الطلب الإنشائي ولا إشكال في اختلافهما ، ومن قال باتّحادهما إرادة من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب أيضاً الطلب الحقيقي ولا إشكال في اتّحادهما » فإنّ هذا بعيد عمّا ذكروه ومخالف لما أودعوا في كتبهم كما عرفت.

هذا أوّلاً ، وثانياً : ليس النزاع في لفظ الطلب والإرادة والمعنى اللغوي لهما حتّى يقال : بأنّ ما نفهم من لفظ الطلب عرفاً ولغة غير ما نفهمه من لفظ الإرادة كذلك فيمكن حلّ المسألة بالرجوع إلى العرف واللّغة ، بل النزاع في الواقع في مصطلح اخترعه الأشاعرة في باب صفات الباري باسم الطلب وادّعوا أنّه غير الإرادة في باب الإنشائيات والأوامر الإنشائيّة الموجودة في القرآن ، كما ادّعوا في إخباره تعالى والجمل الخبريّة الموجوة في الكتاب الكريم وجود صفة اخرى له تعالى باسم الكلام النفسي وادّعوا أنّه غير علمه وقدرته.

دلائل الأشاعرة :

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا لمقالتهم في باب الإنشائيات بامور :

الأوّل : الأوامر الامتحانيّة

حيث إنّها أوامر تصدر منه تعالى بداعي البعث والطلب فحسب ولا يكون وراءها جدّ ولا إرادة وهي تدلّ على وجود الطلب دون الإرادة وانفكاكها عنه في هذا الموارد ، فهو يدلّ على تعدّدهما.

والجواب : عنه أنّه مبني على انحصار الإرادة في الإرادة الحقيقيّة مع أنّها على قسمين : إرادة إنشائيّة ، وإرادة جدّية حقيقيّة ، كما أنّ الطلب أيضاً ينقسم إلى الإنشائي والحقيقي ، والموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي وهو لا ينافي اتّحادهما.

ولتوضيح البحث ينبغي بيان حقيقة الامتحان : فنقول : فرق بين امتحان المخلوق للمخلوق وامتحان الخالق للمخلوق فإنّ حقيقة الأوّل إنّما هو كشف المجهول كما لا يخفى ، وأمّا حقيقة الثاني إنّما هو إظهار الأعمال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب ( كما ورد في نهج البلاغة

٢٢٠