أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ اثباتاً (١) ( انتهى ملخّص كلامه ).

أقول : يرد عليه امور :

الأوّل : أنّه سيأتي أنّ المشتقّ أمر مركّب ، ومنشأ القول بالبساطة هو الخلط بين المسائل الفلسفيّة واللّفظيّة فانتظر ( هذا إشكال في المبنى ).

الثاني : أنّ قوله في صدر كلامه « إنّا إن قلنا بالتركّب يكون الركن الركين في المشتقّ هو الذات ويكفي في انتساب المبدأ التلبّس في الجملة » دعوى بلا دليل بل معنى تركيب المشتقّ من الذات والمبدأ دخل كلّ واحد منهما في قوام المشتقّ في الجملة ، وأمّا كون أحدهما ركناً والآخر غير ركن فهو أوّل الكلام.

الثالث : أنّ تصوّر قدر جامع بين المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس أمر سهل جدّاً ، نظير عنوان « من تلبّس بالمبدأ في الجملة » وهو أعمّ ممّن تلبّس بالمبدأ في الحال ومن تلبّس به في الماضي وانقضى عنه التلبّس.

أدلّة القول بالأعمّ وهي امور :

١ ـ التبادر ، أي تبادر الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس فيما إذا أطلق المشتقّ ، كما يتبادر من « المضروب » المضروب في الآن والمضروب في ما قبل ، وهكذا بالإضافة إلى « القاتل » و « الزاني » و « السارق » فيتبادر من كلّ واحد منهما المعنى الأعمّ.

الجواب : إنّ تبادر المعنى الأعمّ من هذه الألفاظ لم ينشأ من حاقّ اللفظ بل نشأ من قرينية المبدأ كما مرّ في تحرير محلّ النزاع ، ومرّ أيضاً إنّ محلّ البحث ما يكون مبدأه قابلاً للدوام والاستمرار وإن كان قابلاً للتكرار ، والأمثلة المذكورة ليست من هذا القبيل كما لا يخفى.

٢ ـ عدم صحّة سلب المشتقّ عمّن انقضى عنه المبدأ كما في « القاتل » و « المضروب » ونحوهما أيضاً ، فلا يصحّ القول بأنّ « شمراً ليس بقاتل الحسين عليه‌السلام » مثلاً ، وعدم صحّة السلب دليل على الحقيقة.

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٠ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٨١

أوّلاً : ويرد عليه ما أوردناه على الوجه الأوّل ولا حاجة إلى التكرار.

وثانياً : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّ عدم صحّة السلب في مثلهما إنّما هو لأجل إنّه قد اريد من المبدأ معنى يكون التلبّس به باقياً فعلاً وهو أثر الضرب أو القتل كالتألّم وازهاق الروح ونحو ذلك فإرادة هذا المعنى من المبدأ وإن كان مجازاً قطعاً لأنّه خلاف معناه الحقيقي وهو الضرب أو القتل كالتألّم وازهاق الروح ونحو ذلك ، فإرادة هذا المعنى من المبدأ وإن كان مجازاً قطعاً لأنّه خلاف معناه الحقيقي وهو الضرب أو القتل ولكن بعد ما اريد منه ذلك يكون المشتقّ لا محالة مستعملاً في معناه الحقيقي ، وهو المتلبّس بالمبدأ في الحال ، وقد عرفت في الأمر الرابع إنّ اختلاف المشتقّات في المبادىء ممّا لا يوجب اختلافاً في المهمّ المبحوث عنه ، نعم هذا الكلام لا يجري في جميع الأمثلة التي تمسّك بها القائل بالأعمّ كالمضروب إذا لم يكن ضرباً يبقى أثره ، فالحقّ في الجواب في مثله هو الأمر الأوّل ، وهو أنّ خصوصيّة المبدأ قرينة على المجاز ، بل يمكن أن يقال : إنّ المبدأ في الأمثلة المذكورة يكون قرينة على كون الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبّس فتكون مانعة من انصراف الإطلاق إلى اتّحاد حال النسبة بحال النطق ، فلا يلزم مجازاً ولا يثبت وضع المشتقّ للأعمّ.

٣ ـ إنّ الوضع لخصوص المتلبّس يستلزم كثرة المجازات ، لأنّ الغالب في استعمال المشتقّات استعمالها في من قضى عنه المبدأ ، وهي بعيدة في نفسها مخالفة لحكمة الوضع.

وأجاب عنه في المحاضرات بأنّه مجرّد استبعاد ولا مانع من أن يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي مع القرينة ولا محذور في ذلك أبداً ، كيف فإنّ باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي ومن هنا تستعمل أنواع المجازات و « الكناية » و « الاستعارة » و « المبالغة » ( التي هي من أقسام المجاز ) في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم » (١).

أقول : يمكن المناقشة فيه بأنّه ليس جواباً عن إشكال المخالفة لحكمة الوضع ، لأنّ الكلام في أنّ الوضع كيف وضع المشتقّ في المعنى الأخصّ مع كون أكثر الحاجات في المعنى الأعمّ ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ الغرض لا يحصل إلاّبالعدول عن الحقيقة إلى المجاز فتدبّر جيّداً فإنّه لطيف.

والحقّ في الجواب أن يقال أنّا لا نقبل كون الاستعمال في المعنى المجازي في المشتقّات أكثر

__________________

(١) المحاضرات : ج ١ ، ص ٢٥٦.

١٨٢

من استعمال في المعنى الحقيقي لإمكان أن يكون الإسناد فيه بلحاظ حال التلبّس كما مرّ.

٤ ـ قوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) الدالّ على أنّ الظالم لا يليق لمنصب الولاية بضميمة استدلالّ الإمام عليه‌السلام بها لعدم لياقة من عبد الأوثان لأمر الامامة ، وحيث إنّ استدلاله يكون بظاهر الآية على من لا يكون متلبّساً بمبدأ الظلم في الحال بل كان ظالماً في الماضي فلا يكون تامّاً إلاّ إذا كان عنوان الظالم حقيقة في الأعمّ من المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ.

و « من الرّوايات » ما رواه هشام بن سالم في حديث قال : قد كان إبراهيم نبيّاً ليس بإمام حتّى قال الله تبارك وتعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) من عبد صنماً أو وثناً أو مثالاً لا يكون إماماً (٢).

و « منها » ما رواه عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا دعوة أبي إبراهيم ، قلت : يارسول الله وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك؟ ( إلى أن قال ) فإنتهت الدعوة إليّ وإلى علي عليه‌السلام لم يسجد أحدنا لصنم قطّ فاتّخذني نبيّاً وإتّخذ عليّاً وصيّاً » (٣). ( ونحوهما ح ١٣ من نفس الباب ).

ويمكن الجواب عنه :

الجواب أوّل : بما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله وتبعه غيره بعبارات متفاوتة مع اشتمال جميعها على روح واحد ، وينبغي قبل ذكره أن نشير إلى حقيقة معنى الامامة المذكورة في الآية.

فنقول : يستفاد من الآية المذكورة والرّوايات الواردة في ذيلها أنّ مقام الامامة فوق مقام النبوّة لأنّها وسيلة لتحقّق أهداف النبوّة في ناحية « التشريع » و « التكوين » ودورها « الإيصال إلى المطلوب » بعد ما كان دور النبوّة « ارائة الطريق ».

وبعبارة اخرى : إنّ هدف الرسالة هو ابلاغ الأحكام ، وهدف الامامة هو إجرائها وتحقّقها في الواقع الخارجي في بُعد التشريع والظاهر ( بتشكيل الحكومة الإلهيّة كما أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع الحجر الأساسي لها في المدينة وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولاً وإماماً كجدّه إبراهيم عليه‌السلام ) وكذلك في المحتوى الداخلي للأشخاص كما يدلّ عليه كثير من الرّوايات الدالّة على نفوذ الإمام عليه‌السلام في النفوس المستعدّة وتربيته لها ، وإيصاله إيّاها إلى جوار قرب الله تعالى ، فمنها ما شبه الإمام

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) تفسير البرهان : ج ١ ، ص ١٥١ ، ح ١١.

(٣) المصدر السابق : ح ١٤.

١٨٣

الغائب فيها بالشمس وراء السحاب التي لا تؤثّر في الأشياء من جهة الظاهر والعيان بل تؤثّر من ناحية الباطن والمعنى ، ومنها : ما يشير إلى ارتباط قلوب المؤمنين بقلوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الهادين من بعده فتحزن بحزنهم وتفرح بفرحهم (١) ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ )(٢) حيث إنّها تدلّ على إخراج الملائكة المؤمنين من الظلمات إلى النور من طريق المعنى والباطن ولا إشكال في أنّ الأئمّة مختلف الملائكة ، وهم أولى بذلك من الملائكة ، وأيضاً قوله تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا )(٣) لأنّ إطلاقها يشمل الهداية التشريعيّة والتكوينيّة معاً وإلاّ فمجرّد الهداية التشريعيّة من آثار النبوّة لا الامامة ، ولا يخفى أنّ نفوذ الإمام عليه‌السلام في نفوس المؤمنين وولايته على قلوبهم شأن من شؤون الولاية التكوينيّة.

ويظهر ممّا ذكرنا امور :

الأوّل : أنّ الامامة عهد الله إلى خلقه ، لا انتصاب ولا انتخاب فيها من ناحية العباد ، كما يدلّ عليه نسبته تعالى إيّاها إلى نفسه في قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ).

الثاني : إنّها تحتاج إلى المعرفة والعلم ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )(٤) وتحتاج من ناحية العمل إلى جهد وسيع وتوفيق ونجاح في الابتلائات والامتحانات الإلهيّة ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ )(٥).

الثالث : أنّها مرتبة لا يعرفها ولا يعلمها إلاّ الله ، فهو يعلم حيث يجعل رسالته.

الرابع : أنّ الظالم ليس لائقاً بهذا المقام ولو سبق منه الظلم في زمن بعيد من الأزمنة السابقة لعلوّ شأن الامامة وعظمة مقام الإمام.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذكر صاحب الكفاية في مقام الجواب عن الاستدلال بقوله

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٢٦ ، ص ١٤٠ ح ١١ و ١٢.

(٢) سورة الأحزاب : الآية ٤٣.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ٧٣.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٧٥.

(٥) سورة البقرة : الآية ١٢٥.

١٨٤

تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) إنّه لا يتوقّف الاستدلال بهذه الآية في مسألة الامامة على كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ ، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبّس.

توضيح ذلك : إنّ الوصف العنواني الذي يؤخذ موضوعاً للحكم في لسان الدليل على أقسام ثلاثة : فقد يكون لمجرّد الإشارة إلى المعنون من دون دخل للعنوان في الحكم أصلاً كقول الإمام عليه‌السلام في جواب من سأله عن عالم يرجع إليه في مسائله الشرعيّة : « عليك بهذا الجالس » مشيراً إلى بعض أصحابه الذي كان يستحقّ هذه المنزلة لعلمه ووثاقته ، ومن الواضح أنّه ليس لعنوان الجلوس دخل في هذا الحكم إلاّبعنوان الإشارة إلى موضوعه الواقعي.

وقد يكون لأجل علّية العنوان للحكم لكن حدوثاً لا بقاءً بحيث إذا صدق عليه العنوان ولو آناً مّا ثبت الحكم ولو بعد زوال العنوان كما في قوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ )(١).

وقد يكون لأجل علّية العنوان للحكم حدوثاً وبقاء بحيث يدور الحكم مدار صدق العنوان فمهما صدق العنوان كان الحكم ثابتاً ، ومهما لم يصدق لم يثبت ، كما في الاجتناب عن النجس أو وجوب تقليد الأعلم ونحو ذلك.

والمشتقّ في الآية الشريفة لو كان من القسم الثالث فاستدلاله عليه‌السلام بالآية ممّا يبتني على كون الظالم فيها حقيقة في الأعمّ ، إذ لو لم يكن حقيقة في الأعمّ لم يكن العنوان باقياً حين التصدّي.

أمّا لو كان من القسم الثاني فاستدلاله بالآية لا يبتنى على كون الظالم حقيقة في الأعمّ بل الاستدلال إنّما هو لأجل كفاية صدق عنوان الظالم ولو آناً مّا لعدم النيل إلى منصب الولاية إلى الأبد كما أنّه كذلك في الزاني والسارق ، ولا دليل على كون الآية من قبيل القسم الثالث بل جلالة قدر الامامة قرينة جليّة على كونها من قبيل القسم الثاني.

أقول : ونزيدك وضوحاً إنّ القرائن هنا كثيرة :

منها : ما مرّ من أنّ الآية الشريفة في مقام بيان عظمة مقام الامامة والخلافة الالهيّة ورفعة محلّها وأنّ لها خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة ، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلك هو أن لا

__________________

(١) سورة النور : الآية ٢.

١٨٥

يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظلم أصلاً كما لا يخفى.

ومنها : ما ثبت في محلّه في مسألة عصمة الأنبياء أنّه يعتبر في النبوّة والامامة أن يكون النبي أو الإمام معصوماً حتّى قبل نبوّته أو امامته ولا يكون لهما سابقة سيّئة ممّا تتنفّر النفوس به وإلاّ لا يمكن أن يكون قدوة واسوة ، ولا تطمئن النفوس إليه.

ومنها : ما أفاده بعض الأعلام وهو أنّه قد ورد في عدّة من الرّوايات النهي عن الصّلاة ( تحريماً أو تنزيهاً ) خلف المحدود بالحدّ الشرعي في زمانٍ مّا والمجذوم والأبرص وولد الزنا والأعرابي ، فتدلّ على أنّ المتلبّس بهذا لا يليق أن يتصدّى منصب الامامة للجماعة ، فتدلّ بالأولوية القطعيّة على أنّ المتلبّس بالظلم ( أي عبادة الأوثان ) أولى بعدم اللياقة للجلوس على كرسي الخلافة (١).

منها : أنّ حمل الآية على القسم الثالث يستلزم أن تكون من قبيل توضيح الواضح لوضوح عدم لياقة المتلبّس بالظلم وعبادة الأوثان لمنصب الخلافة حين تلبّسه بذلك.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا أنّ القرائن الخارجيّة والداخليّة هي التي أوجبت حمل الآية على الأعمّ فلا يجوز الاستدلال بها في المقام.

الجواب الثاني : أنّه لا شكّ في تلبّس بعض الخلفاء في زمان مّا بعبادة الأوثان فإذا كان متلبّساً به في زمان كان محكوماً في ذاك الزمان بقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) في خطابه لإبراهيم عليه‌السلام ومن الواضح أنّه مطلق ، أي لا ينال عهدي هذا الظالم في هذا الحال وفي المستقبل ، ففي الحقيقة نتمسّك بإطلاق قوله تعالى : « لا ينال » في نفس زمان تلبّسه بالظلم ، فلا يتفاوت الحال في الاستدلال بالآية بين القول بالأعمّ والقول بالأخصّ.

بقي هنا شيء :

وهو ما أفاده بعض الأعلام من عدم ترتّب ثمرة على النزاع في المشتقّ أصلاً.

توضيحه : أنّ الظاهر من العناوين الاشتقاقيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام أو متعلّقاتها ( بنحو القضايا الحقيقيّة ) هو أنّ فعلية الأحكام تدور مدار فعليتها حدوثاً وبقاءً ،

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ١ ، ص ٢٦١.

١٨٦

وبزوالها تزول لا محالة وإن قلنا بأنّ المشتقّ موضوع للأعمّ ، فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتيّة ، نعم قد ثبت في بعض الموارد بمناسبة داخلية أو خارجيّة كون العنوان علّة محدثة ومبقية معاً ، وكيف كان فلا أثر للقول بأنّ المشتقّ وضع للأعمّ أو للأخصّ (١).

أقول : إنّ هذا الكلام عجيب لأنّ النزاع في المشتقّ لا مساس له بمسألة كون الأحكام على نهج القضيّة الحقيقيّة أو الخارجيّة أصلاً ، بل يجري النزاع وإن كانت على نهج القضايا الحقيقيّة ، لأنّه وإن كان الظاهر من العناوين الاشتقاقيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام على نهج القضيّة الحقيقيّة دوران فعليّة الأحكام مدار فعليّة الموضوعات حدوثاً وبقاءً ، لكن الكلام في أنّ مدار الفعليّة ماذا؟ فالقائلون بالأعمّ يقولون : بأنّ عنوان الفاسق فعلي حتّى بعد انقضاء المبدأ ، بينما القائل بالأخصّ يعتقد إنّه ليس كذلك ، فليس الكلام في اعتبار فعليّة العنوان المأخوذ في الحكم ، إنّما الكلام في أنّ مدار الفعليّة ماذا؟ وكأنّ وضوح كون المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ في حال النسبة صار سبباً لهذا الاشتباه.

تنبيهات :

الأوّل : في بساطة مفهوم المشتقّ وتركّبه

وهو مهمّ من جهه ابتناء النزاع في المشتقّ عليه في كلمات بعض الأعاظم كالمحقّق النائيني رحمه‌الله كما مرّ بيانه ( وإن عدل عنه في ذيل كلامه ) ولهذا ذكره بمنزلة إحدى المقدّمات في أوّل البحث.

فكيف كان ينبغي تقديم مقدّمتين قبل الورود في أصل البحث وبيان الأقوال فيه :

المقدمة الاولى : في تحرير محلّ النزاع

فنقول : يتصوّر للبساطة والتركيب ثلاثة معان :

الأوّل : البساطة والتركّب التصوّري ، فالمركّب ما يتبادر منه إلى الذهن معنيان مستقلاّن

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ١ ، ص ٢٦٢.

١٨٧

كما في كلمة « غلام زيد » والبسيط ما يتصوّر منه معنى واحد كما في مثل « زيد ».

الثاني : البساطة والتركّب عند التحليل العقلي الفلسفي كتحليل الإنسان لدى العقل إلى الحيوان والناطق.

الثالث : البساطة والتركّب عند التحليل المفهومي ، فالمركّب ما يكون مفهومه مشتملاً على أجزاء بعد تحليل مفهومه ، وإن كان قبل ذلك وحدانياً في بدء النظر كـ « العلماء ».

أمّا المعنى الأوّل : فليس داخلاً في محلّ النزاع قطعاً ، لأنّه لا يقول أحد بإنسباق معنيين مستقلّين من إطلاق « القائم » مثلاً إلى الذهن من دون وجود وحدة بينهما.

وأمّا الثاني : فكذلك يكون خارجاً عن محلّ النزاع ، لأنّ الكلام في المقام لفظي لا دخل لتحليلات العقليّة فيه ، لأنّه لا مدخل للعقل في تعيين مفاهيم الألفاظ وفي تعيين الموضوع له ، فيتعيّن المعنى الثالث ، فيقع البحث في أنّ مفهوم المشتقّ هل يكون مركّباً من ذات ومبدأ مع تصوّر صورة واحدة له فكأن المشتقّ ذات ثبت له المبدأ ، أو يكون عبارة عن المبدأ لا بشرط؟

وبعبارة اخرى : هل المشتقّ في الحقيقة مفهومان مندمجان ، أو أنّه مفهوم واحد من دون وجود اندماج فيه؟

وبعبارة ثالثة : إنّ للمشتقّ هيئةً ومادّةً ، فهل يبدو للذهن من الهيئة والمادّة شيئان ، أو يبدو شيء واحد؟

المقدمة الثانيّة : في الأقوال في المسألة فإنّها خمسة

أحدها : أنّ المشتقّ مركّب من ثلاثة امور : الذات والمبدأ والنسبة.

ثانيها : أنّه مركّب من أمرين ، المبدأ والنسبة ، فالمشتقّ هو الحدث المقيّد بالنسبة أو الحدث المنتسب ( فيفهم الذات من المشتقّ حينئذٍ بالدلالة الالتزاميّة لعدم تصوّر النسبة بدون الذات لكونها قائمة بطرفيها ).

ثالثها : أنّه بسيط فوضع لمجرّد المبدأ لكن للحصّة التوأمة مع النسبة ، أي الحدث حين النسبة أو التوأم مع النسبة ( لا مقيّدة بالذات ولا مقيّدة بالنسبة ) فيستفاد الذات والنسبة بالدلالة الالتزاميّة أيضاً.

رابعها : أنّه وضع للمبدأ الاّبشرط عن الحمل فيكون أيضاً بسيطاً.

١٨٨

خامسها : أنّه مركّب من الذات والمبدأ من دون وجود نسبة في البين.

أمّا الأوّل : فهو المشهور بين القدماء فيما حكي عنهم.

وأمّا الرابع : فهو المشهور بين المتأخّرين من الاصوليين والفلاسفة ، ويستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله في بدء النظر إنّه قائل بالبساطة لكنّه ذهب إلى التركّب في أواخر البحث.

والمختار هو القول الأوّل ( ولا يخفى أنّ هذه المسألة أيضاً من المسائل التي وقع الخلط فيها بين المباحث اللّفظيّة والعقليّة ).

فإذا عرفت هذا فنقول : استدلّ للقول ببساطة المشتقّ بوجوه :

الوجه الأوّل : ما أفاده السيّد مير شريف في حاشيته على شرح كتاب المطالع بعد أن انتهى صاحب المطالع إلى تعريف الفكر وقال في تعريفه : إنّ جمعاً من المحقّقين عرّفوا الفكر بأنّه ترتيب امور معلومة للوصول إلى أمر مجهول ، ثمّ نقل عن بعض أنّه أورد على هذا التعريف بأنّه ينتقض بكون الفكر في بعض الموارد أمراً واحداً كالناطق في جواب السؤال عن حقيقة الإنسان فلا يصحّ تعريفه بأنّه ترتيب امور ، ثمّ أجاب عنه بأنّه ليس ناقضاً لكون الناطق مركّباً لأنّه شيء ثبت له النطق فلا يكون أمراً واحداً فقال : ليس الناطق مركّباً وإلاّ يستلزم أحد الإشكالين على سبيل منع الخلو :

أحدهما : دخول العرض العامّ في الذاتي لو كان المراد من الشيء في تعريف الناطق مفهوم الشيء لكون الناطق فصلاً ، من الذاتيات ، ومفهوم الشيء عرض عامّ لشموله جميع الكائنات ودخول العرض العامّ الخارج عن الذات في أمر ذاتي محال.

ثانيهما : انقلاب الممكنة إلى الضروريّة لو كان المراد من الشيء مصداق الشيء ، لأنّ مصداق الشيء في مثل الكاتب هو الإنسان فمعنى الكاتب « إنسان ثبت له الكتابة » فإنقلبت قضيّة « الإنسان كاتب » إلى قضيّة « الإنسان إنسان ثبت له الكتابة » وهي قضيّة ضروريّة ، فيتعيّن أن يكون المشتقّ بسيطاً ( انتهى كلامه ) (١).

وأجاب عنه صاحب الفصول بأنّه يمكن أن يختار الوجه الأوّل ( أي كون المأخوذ مفهوم الشيء ) ويدفع الإشكال بأنّ كون الناطق فصلاً مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه

__________________

(١) راجع شرح المطالع : ص ١١.

١٨٩

مجرّداً عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغة كذلك ( انتهى ).

وأورد المحقّق الخراساني رحمه‌الله على كلام صاحب الفصول بأنّ من المقطوع إنّ المنطقيين قد اعتبروا مثل الناطق فصلاً بلا تصرّف في معناه أصلاً بل بما له من المعنى لغة.

ثمّ قال : الحقّ في الجواب أن يقال : ليس الناطق فصلاً حقيقيّاً بل أنّه فصل مشهوري فيكون من العوارض الخاصّة كالضاحك ، فلا يستلزم دخول العرض العامّ في الذاتي ( والظاهر أنّ مراده كون النطق من مقولة الكيف المسموع إن كان بمعنى النطق باللسان وكونه من مقولة الكيف النفساني إن كان بمعنى إدراك الكلّيات ، فلا يكون من الذاتيات على كلا التقديرين ) ثمّ استشهد لكلامه وقال : ولذا ربّما يجعل عرضان مكان الفصل الحقيقي إذا كانا متساوي النسبة إليه كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة في تعريف الحيوان فيقال : « إنّه نامٍ حسّاس متحرّك بالإرادة » والحسّاس والمتحرّك بالإرادة عرضان من عوارض الحيوان والزمان قد وضعا مكان الفصل الحقيقي ، وليسا بفصلين حقيقيين للحيوان لوضوح امتناع أن يكون للشيء فصلان.

أقول : ويشهد له أيضاً أنّه يقال في تعريف الفرس : « حيوان صاهل » مع أنّ الصهل هو صوت الفرس وهو كيف مسموع وكذلك في تعريف الحمار إنّه « حيوان ناهق » وغيره من الفصول المذكورة بعنوان المثال في المنطق.

واستشكل المحقّق النائيني رحمه‌الله على المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ « هذا الإيراد مبني على جعل الناطق بمعنى المدرك للكلّيات فإنّ إدراك الكلّيات يكون من خواصّ الإنسان وعوارضه وأمّا لو كان الناطق عبارة عمّا يكون له النفس الناطقة التي بها يكون الإنسان إنساناً فهو فصل حقيقي للإنسان وليس من العوارض » (١).

وقال في المحاضرات ( بعد نقل كلام استاذه هذا ) : « وغير خفي أنّ هذا من غرائب ما صدر عنه فإنّ صاحب النفس الناطقة هو الإنسان وهو نوع لا فصل » (٢).

أقول : ليس مراد المحقّق من صاحب النفس الناطقة الإنسان بل إنّه يريد بذلك سبب النطق وهو النفس الإنساني الذي ينشأ منها النطق.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ١١١ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) المحاضرات : ج ١ ، ص ٢٧٠.

١٩٠

والصحيح في المسألة أن يقال :

أوّلاً : أنّ المراد من مبدأ النطق الخصوصيّة الموجودة في نفس الإنسان الموجبة للنطق اللّفظي أو المعنوي فهو فصل حقيقة ويشار إليه بالنطق اللّفظي أو المعنوي أي إدراك الكلّيات فيرتفع الإشكال.

وثانياً : لا يجوز قبول الشقّ الأوّل من كلام السيّد الشريف ( وهو كون المراد من الشيء مفهوم الشيء ) لأنّ الشيء هنا كناية عن الذات ، فليكن المراد مصداق الشيء.

ثالثاً : الخطأ الأساس يكمن في منهج البحث ، فالبحث هنا بحث لغوي ، والمعيار فيه هو التبادر ، ولا يدخل فيه مثل هذه الاستدلالات العقليّة الدقّية.

هذا كلّه في الشقّ الأوّل من كلام السيّد مير شريف.

أمّا الشقّ الثاني : منه وهو لزوم انقلاب الممكنة الخاصّة إلى الضروريّة ، فإستشكل فيه صاحب الفصول أيضاً بأنّ المحمول في القضيّة ليس مجرّد مفهوم الإنسان فحسب حتّى يلزم انقلابها إلى الضروريّة بل المحمول الإنسان المقيّد بالكتابة ولا يكون ضروريّاً للإنسان ( انتهى ).

وإستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ الكتابة إمّا شرط أو جزء فإن كانت شرطاً فيكون خارجاً عن المحمول فيصدق « الإنسان إنسان » بدون القيد وهي ضروريّة ، وإن كان جزءً فينحلّ القضيّة إلى قضيّتين : احديهما « الإنسان إنسان » والثانيّة « الإنسان له الكتابة » ، والاولى ضروريّة والثانيّة ممكنة ، فيصدق انقلاب الممكنة إلى الضروريّة على كلّ حال.

أقول : الإنصاف أنّ ما ذكره صاحب الفصول كلام جيّد ويمكن الدفاع عنه بامور :

الأمر الأوّل : أنّه لو كانت الكتابة شرطاً كان الشرط خارجاً عن المشروط إلاّ أن الاشتراط والتقيّد داخل ، وفرق بين « الإنسان المقيّد بالكتابة » و « الإنسان المطلق منها » حيث إنّ الأوّل ضروري للإنسان بخلاف الثاني.

الأمر الثاني : أنّه لو فرض كون الكتابة جزءً لم تنحلّ القضيّة إلى قضيتين ، لأنّ التركيب بينهما أيضاً قيد للمحمول ، فليس المحمول كلّ من الذات والكتابة باستقلاله بل هما مركّباً محمول واحد للإنسان ، فلا يصحّ عندئذ حمل كلّ منهما مستقلاً على الموضوع ، وهو نظير الماء الذي تركّب من عنصري هيدروجين واوكسجين ويقال « الماء هو هذا وهذا » فيحمل

١٩١

العنصران عليه معاً في حال التركّب لكن لا يصحّ حمل أحدهما مستقلاً على الماء.

نعم إن قلنا بكون المبدأ ( وهو الكتابة في المثال ) من قبيل الخبر بعد الخبر ، تنحلّ القضيّة إلى قضيتين لكن لا يقول به أحد.

ولقد أجاد بعض الأعلام حيث قال : إن قلنا بكون المشتقّ مركّباً لا يكون مركّباً تفصيلاً بل إنّه مركّب انحلالي فلا يكون من قبيل الخبر بعد الخبر (١).

فظهر إلى هنا أنّ الحقّ مع صاحب الفصول الذي قال بعدم لزوم انقلاب الممكنة إلى الضروريّة.

الأمر الثالث : أنّه قد مرّ كراراً بأنّ جرّ الأبحاث الاصوليّة إلى المسائل الفلسفية خروج عن محور البحث لأنّه لا يرجع في كشف المعنى اللغوي للمشتقّ إلى الفلسفة وما يصل إليه العلماء المتبحّرون في هذا الفنّ ، فما قد يقال من رجوع هذا الدليل إلى التبادر في ذهن المنطقيين لا يرجع إلى محصّل.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ صاحب الفصول قد رجع عن مقالته في خاتمة كلامه تحت عنوان « فيه نظر » ( وليته لم يرجع ) فقال : « إنّ الإنسان الذي يكون موضوعاً في القضيّة ، إمّا أن يكون كاتباً في الواقع والخارج ، أو لا ، فعلى الأوّل يلزم الانقلاب إلى الضروريّة الموجبة ، لأنّ الموضوع هو الإنسان الكاتب واقعاً فيصير القضيّة « الإنسان الكاتب كاتب » وهي ضروريّة ، وعلى الثاني يلزم الانقلاب إلى الضروريّة السالبة كما لا يخفى ، ثمّ قال بجريان نفس هذا البيان في الشقّ الأوّل أيضاً فقال : لأنّ لحوق مفهوم الذات أو الشيء لمصاديقهما أيضاً ضروري ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثاني » ( إنتهى كلامه ).

أقول : لقد أجاد من أجاب عنه بأنّ واقعية المحمول وخارجيته غير دخيلة في الموضوع ، وإلاّ يستلزم رجوع جميع القضايا إلى الضروريّة ، بل الموضوع هو الإنسان مثلاً مع قطع النظر عن اتّصافه الخارجي بالكتابة أو عدمها.

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٩٢ ، طبع مهر.

١٩٢

هذا كلّه في الدليل الأوّل على البساطة.

الوجه الثاني : ما استدلّ به المحقّق النائيني رحمه‌الله وحاصله أنّ المشتقّ لو كان مركّباً من الذات والمبدأ والنسبة يستلزم كون المشتقّات مبنيات لأنّ النسبة معنى حرفي فيوجب شباهة المشتقّات بالحروف ، ولكن كونها من المعربات دليل على عدم دخالة النسبة في معنى المشتقّ ، ويستكشف منه عدم دخول الذات أيضاً في المشتقّ لأنّ النسبة تلازم الذات لكونها قائمة بطرفيها (١).

أقول : أوّلاً : إنّ المشتقّ مادّة وهيئة ، والمادّة هي المعنى الاسمي ، ويمكن أن يكون معرباً لأجلها.

ثانياً : أنّ البناء أو الاعراب أمر سماعي لا قياسي ، والقياس على الحرف ممنوع وليس هناك قاعدة كلّية يرجع إليها في جميع مواردها وفي معرفة كون المشتقّ معرباً أو مبنياً ، بل علينا أن نرجع إلى أهل اللّغة واستعمالاتهم فيها.

الوجه الثالث : من الأدلّة على البساطة ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله أيضاً وحاصله : لغويّة أخذ الذات في المشتقّ ( لكفاية أخذ المبدأ لا بشرط عن الحمل في صحّة الحمل ) وهو خلاف حكمة الواضع الحكيم ، وإليك نصّ كلامه : « إنّ كلّ محمول جامداً أو مشتقّاً لا بدّ وأن يؤخذ لا بشرط حتّى يكون قابلاً للحمل ، فأخذ الذات فيه خلف لأنّه ملازم لأخذه بشرط شيء ، وهو ينافي المحموليّة الصرفة ، مع أنّه يلزم من أخذ الذات فيه محاذير أُخر منها : إنّ الواضع الحكيم لا بدّ وأن يلاحظ في أوضاعه فائدة مترتّبة عليها ولا يترتّب فائدة على أخذ الذات أصلاً » (٢).

أقول : أوّلاً : لا يكفي أخذ المبدأ لا بشرط في صحّة الحمل لأنّه يحتاج إلى نوع من الاتّحاد بين الموضوع والمحمول ، ولا اتّحاد بين الذات الذي يكون جوهراً والمبدأ الذي يكون عرضاً وإن أخذ لا بشرط.

إن قلت : المراد من اللابشرط هنا هو اللابشرط بالنسبة إلى الحمل ، فلا مانع من حمل المبدأ حينئذ على الذات.

قلت : إنّ اللابشرط بالنسبة إلى الحمل لا معنى محصّل له ، فإنّ الحمل تابع للمفهوم ، فلو كان

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٦٥ و ٦٦.

(٢) المصدر السابق : ص ٦٧.

١٩٣

المبدأ متّحداً معه الذات كان الحمل صحيحاً ، وإلاّ كان باطلاً.

وبعبارة اخرى : الحمل أو عدمه ليس من قيود المعنى بل من آثاره الناشئة من وحدة الموضوع والمحمول وعدمها ، وهما ناشئان عن مفهومهما الخاصّ ، فالضرب وذات زيد ليسا متّحدين بطبيعتهما فلا معنى للقول بأنّه يؤخذ الضرب لا بشرط الحمل.

وثانياً : يكفي في ارتفاع اللغويّة التصريح بما يكون سبباً للوحدة وعدم الاكتفاء باللوازم.

الوجه الرابع : أنّ أخذ الذات يستلزم أن يكون هناك نسبتان في قضيّة واحدة في عرض واحد ، احديهما نسبة تامّة بين الموضوع والمحمول ، وثانيهما نسبة ناقصة في خصوص المحمول.

ويرد عليه : أنّه ليس كذلك ، بل احديهما في طول الاخرى ، لأنّ النسبة في المحمول ناقصة تشكّل الخبر فقط ، فتكون رتبته مقدّمة على النسبة التامّة بين المبتدأ والخبر.

الوجه الخامس : إنّ أخذ الذات في المشتقّ يستلزم التكرار في الموصوف فجملة « زيد قائم » تكون بمعنى : زيد زيد له القيام ، وهو كما ترى.

وفيه : إنّه ينتقض بمثل « زيد رجل عالم فاضل » الذي تكرّر فيه المبتدأ الموصوف بالصراحة ، ولا كلام في صحّته وحسنه.

مضافاً إلى أنّ المأخوذ في المشتقّ هو ذات مبهم من جميع الجهات التي تنطبق على المبتدأ ولا يكون نفس المبتدأ بعينه فلا يلزم حينئذ تكرار.

الوجه السادس : أنّه يستلزم دخول المعروض في العرض في مثل « الضارب » ، والجنس في الفصل في مثال « الناطق » ، لأنّ الضارب مثلاً عرض ، والذات معروض ، فيلزم من أخذها فيه دخول المعروض في العرض ، كما أنّ الذات في الناطق ، جنس يتميّز بوصف النطق فيكون الوصف فصلاً لها ، وأخذها في الوصف يستلزم دخول الجنس في الفصل.

أقول : أوّلاً : إنّ « الضارب » عرضي لا عرض ، خلافاً للضرب الذي يكون من مقولة الفعل إحدى المقولات التسعة العرضيّة ، وعرضي الشيء غير عرضه.

وثانياً : أنّ قياس الذات في ما نحن فيه بالجنس المنطقي قياس مع الفارق لما تقرّر في محلّه من أنّ الجنس هوية غير متحصّلة ، ولا تحصّل ولا تحقّق له في الخارج إلاّبفصله ، بينما الذات فيما نحن فيه له معنا متحصّلاً لما مرّ من أنّ المأخوذ في المشتقّ هو مصداق الشيء لا مفهومه.

وما ذكرنا سابقاً ـ من أنّ الذات المأخوذة في المشتقّ مبهمة من جميع الجهات إلاّمن جهة

١٩٤

المبدأ ـ لا ينافي ذلك ، فإنّ الابهام في الجنس ابهام وجودي فلا تحصّل له إلاّبالفصل ، ولكن الابهام في المقام ليس من ناحية الوجود بل من ناحية المفهوم من الجهات العرضيّة فقط.

ثالثاً : سلّمنا ، إلاّ أن اللازم دخول الجنس في الفصل فيما إذا قلنا بدخول الذات في الوصف المنطقي أيضاً لا ما إذا قلنا بتجريد المنطقيين الناطق والضارب عن الذات ، والقول بأنّ المتبادر إلى ذهن أهل اللّغة هو المتبادر إلى ذهن المنطقي كما ترى.

وذكر المحقّق العراقي رحمه‌الله في وجه بساطة المشتقّ عن الذات مع القول بتركّبه من المبدأ والنسبة على نحو تقييده بها ، وجهين :

الأوّل : التبادر وأنّ المتبادر من المشتقّ هو المبدأ والنسبة ولا يتبادر منه الذات.

الثاني : أنّ للمشتقّ هيئة ومادّة فالمادّة ، تدلّ على المبدأ فقط والهيئة تدلّ على النسبة ، كذلك وليس هناك دالّ آخر يدلّ على الذات.

ثمّ قال : إن قلت : إنّ النسبة قائمة بطرفيها ، فكيف تتصوّر وتستفاد من المشتقّ بدون الذات؟

قلت : نفهم الذات بالدلالة الالتزاميّة لأنّ النسبة قائمة بطرفيها ، إحداهما ، هو الذات في الموضوع وثانيهما ، هو المبدأ المحمول كما نقول به أيضاً في جواب ما يقال : « من أنّ المشتقّ لا يخلو من أن يقع أحد الأمرين ، إمّا أن يقع موضوعاً أو محمولاً ، وفي كلا الحالين لا بدّ من وجود الذات ، أمّا إذا وقع موضوعاً فلأنّ المبدأ مع النسبة بدون الذات لا يبتدأ به ، وأمّا إذا وقع محمولاً فلأنّ الحمل يحتاج إلى اتّحاد بين الموضوع والمحمول ، وبدون أخذ الذات في المحمول لا يحصل الاتّحاد » فنقول في جوابه أيضاً إنّ المشتقّ يدلّ على الذات بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقية حتّى تكون الذات جزءً من مفهوم المشتقّ ( انتهى ملخّص كلامه ) (١).

أقول : وفي كلامه مواقع للنظر :

الأوّل : أنّ الوجدان حاكم على تبادر الذات في المشتقّ عند إطلاقه فيتبادر من « السارق » من يسرق ، فتكون الذات جزء من معناه المطابقي لا الالتزامي.

الثاني : أنّ الوجدان حاكم أيضاً على أنّ الوحدة التي تكون بين المبتدأ والخبر هي الوحدة بين ذاتين تكونان مدلولين لهما بالدلالة المطابقية لا الوحدة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي.

__________________

(١) راجع بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٧٠ و ١٧١.

١٩٥

الثالث : أنّ لازم كلامه عدم دخول نفس الزمان والمكان في معنى اسم الزمان والمكان ، وكذا عدم دخول الآلة في معنى اسم الآلة ( لأنّ الذات في هذه الأسماء عبارة عن نفس الزمان والمكان والآلة ) مع أنّ الزمان هو القوام والأساس في اسم الزمان ، وكذا المكان والآلة في اسم المكان واسم الآلة بل لا معنى لهذه الأسماء بدون تلك الأشياء ، وحيث إنّه لم يقل أحد بالفرق بين هذه الثلاثة وسائر المشتقّات فنستكشف منه أنّه وزان الجميع واحد.

وأمّا انحصار مدلول الهيئة في النسبة فهو دعوى بلا دليل.

هذا كلّه ما استدلّ به على عدم أخذ الذات في المشتقّ ، وقد ظهر ضمن المناقشات الواردة أنّ المختار في المقام هو التركّب من الذات والمبدأ والنسبة معاً ، وظهر أيضاً بعض ما يدلّ عليه ، وملخّص الكلام أنّه يمكن أن يستدلّ للتركّب بصور :

الاولى : التبادر في أذهان أهل العرف فإنّهم إذا سُئِلوا عن معنى الضارب مثلاً يقولون : معناه « الذي يضرب » ، والقاتل هو « الذي يقتل ».

الثانيّة : صحّة حمل المشتقّ على الذات ، وهي كاشفة عن أخذ الذات فيه ، لأنّ الحمل يحتاج إلى اتّحاد بين الموضوع والمحمول كما مرّ.

الثالثة : عدم تصوّر عدم أخذها في بعض المشتقّات ، وهو اسم الزمان والمكان واسم الآلة كما مرّ آنفاً.

الرابعة : ( وقد يكون مجرّد مؤيّد في المسألة لا دليلاً مستقلاً على المدّعى ) عروض الصفات المختصّة بالذات على المشتقّ مثل « التأنيث والتذكير والإفراد والتثنية والجمع » فيثنّى الضارب مثلاً حينما تثنّى الذات ، ويؤنّث حينما يكون الذات مؤنّثاً.

إن قلت : إنّه ينتقض بعروض التثنية والجمع على الفعل أيضاً.

قلت : ما يثنّى أو يجمع في الفعل أيضاً هو الضمير الفاعلي لا نفس الفعل.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : ما أفاده بعض الأعلام في مقام إثبات مختاره في المقام ( وهو تركّب المشتقّ من المبدأ والذات بدون النسبة ) فإنّه قال بعد الإشارة إلى أنّ الذات هنا مبهم من جميع الجهات إلّإ

١٩٦

من ناحية وصف كذا : إنّ المراد من التركّب من الذات والمبدأ هو التركّب التحليلي لا التفصيلي.

توضيحه : أنّ المفاهيم على ثلاثة أنواع :

الأوّل : ما يكون بسيطاً من ناحية الدالّ والمدلول والدلالة جميعاً كمفهوم الجسم.

الثاني : ما يكون متعدّداً تفصيلاً كذلك كمفهوم « له القيام ».

الثالث : ما يكون متعدّداً في الجهات الثلاثة عند التحليل لا تفصيلاً كمفهوم « القائم » الذي يكون مصداقاً من مصاديق المشتقّ ، وبالنتيجة تكون المشتقّات كالبرازخ بين الجمل التفصيلية والجوامد.

أقول : كلامه جيّد حيث أوضح المراد من التركّب والبساطة في المشتقّ إلاّ أن فيه : إنّ المشتقّ مركّب من الذات والمبدأ والنسبة جميعاً لا من الأوّلين فقط ، لأنّ تلبّس الذات بالمبدأ لا يتصوّر بدون النسبة الناقصة كما مرّ.

الأمر الثاني : ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله في بعض عباراته ، وحاصله : إنّ المشتقّ قد أخذ في مفهومه ما يصحّ به الحمل ولكن ليس هذا من مفهوم الذات وإلاّ لم يصحّ القول بأنّ « الوجود موجود » أو « البياض أبيض » لعدم تصوّر ذات في « الموجود » و « الأبيض » هنا ، نعم يوجد فيهما شيء إجمالاً يصحّ بذلك الحمل (١).

أقول : أوّلاً : إنّا لا نريد من الذات أكثر من ذلك الشيء الذي يصحّ به الحمل كما اعترف به.

ثانياً : لا ينتقض القول بأخذ الذات في المشتقّ بهذين المثالين لأنّهما ليست من الإطلاقات العرفيّة التي يثبت بها المعنى الموضوع له حتّى تكون معياراً في تعيين مداليل الألفاظ ، فلا يصحّ عرفاً إطلاق الأبيض على البياض.

إلى هنا تمّ التنبيه الأوّل وظهر أنّ الحقّ فيه تركّب المشتقّ من الذات والمبدأ والنسبة جميعاً.

التنبيه الثاني : في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

إن قلنا بأنّ الذات مأخوذ في المشتقّ فالفرق بينه وبين مبدئه واضح ، فلا تصل النوبة حينئذ إلى البحث عنه ، وأمّا إذا قلنا بعدم أخذها فيه فيقع البحث في الفرق بين المشتقّ ومبدئه ،

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٩٢ ، من الطبع القديم.

١٩٧

وحيث إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله قائل بعدم أخذ الذات في المشتقّ عنون هذا البحث في الكفاية وقال : الفرق بين المشتقّ ومبدئه أنّ المشتقّ يكون لا بشرط عن الحمل ، والمبدأ يكون بشرط لا ، وبعبارة اخرى : إنّ المشتقّ لا يكون آبياً عن الحمل خلافاً للمبدأ.

ثمّ نقل عن صاحب الفصول اشكالاً وهو أنّ اعتبار لا بشرط أو بشرط لا لا يوجب تغييراً في حقيقة المفهوم فلا يوجب فرقاً بين حقيقة المفهومين.

ثمّ أجاب عنه : بأنّه توهّم أنّ مرادهم من هذين الاعتبارين إنّما هو بلحاظ الطوارىء والعوارض الخارجيّة مع الغفلة من أنّ المراد منهما الاباء عن الحمل وعدم الاباء عنه مفهوماً ( انتهى كلامه ).

أقول : قد مرّ آنفاً أنّ اعتبار اللابشرطيّة لا يوجب صحّة الحمل ما لم يكن في المعنى ما يوجب الوحدة بين الموضوع والمحمول ، بل الملاك هو التغاير من جهة ، والاتّحاد من جهة اخرى ، ولا يخفى أنّ الاتّحاد لا يمكن بدون أخذ الذات في المحمول.

ولكن يستفاد من بعض الكلمات أنّ هنا نوعين من الاعتبار في معنى اللابشرط والبشرط لا ، أحدهما لا يوجب تغييراً في المفهوم وهو اعتبارها بلحاظ العوارض الخارجيّة ، والآخر يوجب تغيير المفهوم وهو اعتبارهما بلحاظ الحمل ، بل يدلّ عليه صريح عبارة الكفاية ، حيث قال : « وصاحب الفصول حيث توهّم أنّ مرادهم إنّما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين بلحاظ الطوارىء والعوارض الخارجيّة مع حفظ مفهوم واحد ، أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك ».

أقول : إذا قلنا بتعدّد المفهوم لا بدّ وأن يكون الفارق بينهما هو الذات لأنّ صرف الاعتبار لا يوجب تعدّد المفهوم ، وعلى هذا يكون النزاع في أخذ الذات في المشتقّ وعدمه لفظيّاً لأنّ الجميع ملتزمون بدخوله فيه ( وإن أنكره بعضهم باللسان وقلبه مطمئن بالايمان ) حيث إنّهم قالوا بتعدّد المفهوم كما يشهد عليه تنظيرهم المقام بالجنس بالنسبة إلى المادّة ، والفصل بالنسبة إلى الصورة ، ولا إشكال في أنّ مفهوم الجنس غير مفهوم المادّة ومفهوم الفصل غير مفهوم الصورة.

إن قلت : الفارق بين مفهوم الجنس والمادّة أو بين مفهوم الفصل والصورة هو اعتبار إلاّ بشرطيّة في أحدهما والبشرط لائيّة في الآخر كما قرّر في محلّه ، فليكن كذلك في الممثّل أيضاً

١٩٨

وهو المشتقّ والمبدأ في ما نحن فيه.

قلنا : هو كذلك ، أي يكون الفارق بين المشتقّ والمبدأ اعتبار اللابشرطيّة والبشرط لائيّة ولكن هذا الاختلاف ناشٍ عن اختلاف المفهومين لا بدونه.

التنبيه الثالث : في صفات الباري تعالى

هناك صفات ومشتقّات تجري على ذات الله تعالى في الكتاب العزيز والسنّة وكلمات العلماء ، ولكن قد يبدو فيها إشكالات أو أسئلة :

أوّلها : كون المبدأ فيها عين الذات مع تغايرهما في سائر المشتقّات.

ثانيها : إنّ المبدأ قائم بالذات وعارض عليها مع أنّه لا قيام ولا عروض في صفات الله تعالى.

ثالثها : أنّ الصفات المنسوبة إلى الممكنات كلّ واحدة منها غير الاخرى مفهوماً ومصداقاً مع أنّ جميع الصفات المنسوبة إليه تعالى واحدة في عين كثرتها ويكون كلّ واحد منها عين الآخر فهو عالم بقدرته وقادر بعلمه وهكذا.

وبعبارة اخرى : الله تعالى وجود كلّه علم ، وكلّه قدرة ، إلى غير ذلك من الصفات.

والعمدة من هذه الثلاثة هنا هو الأوّل ، وقد اجيب عن الإشكال بوجوه :

منها : ما إلتزم به صاحب الفصول من كونها مجازات فإنه قال : يعتبر في صدق المشتقّ على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به ، فيكون استعمال الصفات في الله استعمال للمشتقّ في غير ما وضع له.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه‌الله بما حاصله : أنّ القول بالمجاز يستلزم تعطيل تلك الصفات وعدم حصول المعرفة بالنسبة إليها لأنّ العرف يجري هذه الصفات عليه تعالى كما يجريها على غيره فيفهم من « العالم » المنسوب إليه تعالى ما يفهم من « العالم » المنسوب إلى غيره ، لا مجرّد عدم كونه جاهلاً فحسب (١).

وأورد عليه بأنّ مراد صاحب الفصول من التجوّز أنّ العالم مثلاً إذا استعمل في ذات الباري

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٨٤ و ٨٥.

١٩٩

كان بمعنى العلم ، فجملة « الله عالم » بمعنى « الله عين العلم ».

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه‌الله على صاحب الفصول بأنّ المبدأ في صفاته تعالى وإن كان عين ذاته المقدّسة إلاّ أن هذا الاتّحاد والعينية يكون في الخارج لا في المفهوم ، والتغاير المفهومي كافٍ في صحّة الحمل.

واستشكل على كلامه : بأنّ المتبادر من تغاير المبدأ للذات في المشتقّات هو التغاير الخارجي مضافاً إلى التغاير المفهومي.

وأجاب المحقّق العراقي رحمه‌الله عن الإشكال بجواب ثالث وإليك نصّ ما ورد في تقريراته :

« التحقيق في الجواب أن يقال : إنّ أهل العرف لغفلتهم عن اتّحاد ذاته تعالى مع مبادىء صفاته الحسنى التي نطق بها البرهان الصادق ، يحملون عليه تعالى هذه العناوين المشتقّة بما لها من المفاهيم ، ويتخيّلون أنّ مطابقها في ذاته المقدّسة كما هو مطابقها في ذات غيره ، وليس ذلك إلاّ لإفادته المعاني التي تحصل من حمل هذه العناوين المشتقّة على ذاتٍ ما ، من الاتّصاف بمبادئها من العلم والقدرة والوجود ، فيقولون : أنّه تعالى عالم موجود كما يقولون زيد عالم موجود ، مع أنّهم يعتقدون أنّه تعالى لا موجود له ... » (١).

أقول : لا يخفى أنّ الإشكال بعد باقٍ على حاله بالإضافة إلى الاستعمالات الجارية على ألسنة الأنبياء والأولياء والجارية على لسان القرآن الكريم.

والجواب الرابع : ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله (٢) وهو أنّه لا يعتبر في صحّة الحمل والجري تغاير المبدأ للذات ، وليس للتغاير دخل في مفهوم المشتقّ بل معنى العالم مثلاً من له العلم سواء كان هو غير العلم أو كان عينه ، وقد صرّح في المحاضرات (٣) باتّحاد هذا الجواب مع ما أفاده المحقّق الخراساني وهو كذلك لرجوعه إلى كفاية التغاير المفهومي وعدم اعتبار التغاير الخارجي في صحّة الحمل.

فيرد عليه أيضاً ما مرّ من أنّ هذا خلاف ما يتبادر منه ، لأنّ المتبادر من مفهوم المشتقّ تغاير الذات للمبدأ خارجاً.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٩٠ ؛ وراجع نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ١٥٢.

(٢) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٨٥.

(٣) المحاضرات : ج ١ ، ص ٣٠٤.

٢٠٠