أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

أمّا القول الثالث ، وهو القول بالتفصيل فقد مرّ أنّ هناك ثلاثة أنواع من التفصيل وبتعبير أصحّ ثلاث بيانات مختلفة لتفصيل واحد :

البيان الأوّل : ما أفاده المحقّق العراقي رحمه‌الله على ما في بدائع الأفكار فإنّه قال : الشرائط على ثلاثة أقسام : قسم أخذ في المأمور به ، نحو شرط القبلة بالنسبة إلى دليل « صلّ إلى القبلة » وشرط الوقت بالنسبة إلى دليل « صلّ في الوقت » والطهارة بالنسبة إلى دليل « صلّ مع الطهارة » ، وقسم لم يؤخذ فيه من ناحية الشرع بل الدالّ عليه هو العقل ولكن يمكن أخذه في المأمور به نحو عدم المزاحمة بالأهمّ وعدم تعلّق النهي ، وقسم يستحيل أخذه في المأمور به والكاشف عنه هو العقل أيضاً ، نحو قصد الأمر بناءً على ما هو المشهور من استحالة أخذه في متعلّق الأمر لاستلزامه الدور.

ثمّ ذهب إلى دخول القسم الأوّل في المسمّى ، وأمّا الإشكالان المذكوران من جانب القائلين بالعدم فالمهمّ منهما عنده هو الإشكال الأوّل ، وأجاب عنه بقضيّة الحصّة التوأمة فقال : المعتبر في الصّلاة هو الركوع والسجود وسائر الأجزاء المحصّصة بالحصّة المقارنة مع القسم الأوّل من الشرائط والتوأمة معها من دون أن تكون مقيّدة بها أو مطلقة بالنسبة إليها.

أمّا القسم الثاني والثالث فقال بأنّهما خارجان عن حريم النزاع للإجماع والاتّفاق على صدق مسمّى الصّلاة في صورة التزاحم مع الأهمّ وصورة فقدان قصد الأمر فيقال الصّلاة المتزاحمة مع الأهمّ والصّلاة الفاقدة لقصد الأمر. هذا ملخّص كلامه رحمه‌الله (١).

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّه لا معنى محصّل للحصّة التوأمة لأنّ الواقع ليس خالياً من أحد الأمرين ، فإمّا أن تكون القضيّة في مرحلة الواقع مشروطة أو تكون مطلقة بنحو القضيّة الحينيّة ، فإن كانت مشروطة فمعناه دخل الشرائط في المسمّى وكونه مقيّداً بها وإن كانت مطلقة بنحو القضيّة الحينية فمعناه عدم تقيّده بها ، وليس في الواقع أمر ثالث ، كما أنّه لا معنى للاهمال في مرحلة الثبوت والواقع.

وثانياً : أنّ الإجمال المدّعى قيامه على صدق الصّلاة في صورة عدم القسم الثاني والثالث في

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ١٠١ طبع جماعة المدرّسين.

١٤١

الشرائط غير ثابت ، لما مرّ من أنّ الصّلاة وضعت لما ينشأ منه الأثر ، ولا شكّ في دخل قصد القربة كركن في تأثيرها في الآثار المطلوبة منها ، وقد عرفت أنّ مسألة نفي المزاحم أو النهي ترجع في النهاية إلى قصد القربة ، فيكون القسم الثاني والثالث أيضاً داخلين في محلّ النزاع ، مضافاً إلى عدم حجّية الإجماع في إثبات حقيقة لغويّة أو حقيقة شرعيّة التي لا بدّ فيها من الرجوع إلى التبادر وصحّة السلب ونحوهما ، وليست من المسائل التعبّديّة.

البيان الثاني : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام ، وهو نفس ما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه‌الله إلاّ أنّ دليل أحدهما غير دليل الآخر ، ودليل المحقّق النائيني رحمه‌الله على خروج القسم الثاني والثالث : أنّ صدق المزاحمة أو ورود النهي فرع وجود المسمّى وإلاّ لا يصدق مزاحمة شيء لشيء ولا عنوان المنهي عنه ، وعلى هذا تكون التسمية قبل الابتلاء بالمزاحم وقبل ورود النهي ، هذا هو الوجه في خروج القسم الثاني عن محلّ النزاع ، وأمّا القسم الثالث فالوجه في خروجه عنده تأخّره عن المسمّى برتبتين ، لأنّ قصد القربة أو قصد الأمر متأخّر عن الأمر ، والأمر متأخّر عن موضوعه وهو الصّلاة مثلاً. ( انتهى ملخّص كلامه (١) ).

أقول : يرد عليه أنّا لا نسلّم كون المزاحمة أو ورود النهي متفرّعاً على التسمية ( المسمّى بما أنّه مسمّى ) بل يمكن أن يتعلّق النهي لبعض المسمّى إرشاداً إلى دخل شيء في تمام المسمّى كما في قوله عليه‌السلام « دع الصّلاة أيّام اقرائك » فالأمر متأخّر عن ذات المسمّى لا عن التسمية ، وهكذا بالنسبة إلى قصد الأمر ، فيمكن أن يقول الشارع : « كبّر ، اركع ، اسجد ، مع قصد الأمر المتعلّق بها » فيكون قصد الأمر متأخّراً عن متعلّق الأمر ، وهو وجود المسمّى لا عن تسميته بالصّلاة مثلاً.

ويجاب عن الثاني بأنّ المختار جواز أخذ ما لا يتأتّى إلاّمن قبل الأمر في المأمور به ، لأنّ الأمر فرع تصوّر موضوعه ، وتصوّر المتأخّر وجوداً ممكن جدّاً ، فقد وقع الخلط بين تأخّر الوجود برتبتين وتأخّر التصوّر ، والذي يعتبر في الأمر هو الثاني لا الأوّل ، وحينئذٍ يمكن أخذه في التسمية أيضاً على نحو ما مرّ في القسم السّابق ، فتدبّر جيّداً.

البيان الثالث : ما أفاده بعض الأعاظم في تهذيب الاصول فإنّه قال في صدر كلامه بدخول

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٣٥.

١٤٢

جميع الأقسام في المسمّى ، وأجاب عن إشكال تقدّم التسمية على الطلب وقال بإمكان تأخّرها عنه لإمكان تعلّق الطلب على عناوين اخرى غير عنوان الصّلاة ووقوع التسمية بعده ، ثمّ قال : إن قلت : وقوع التسمية بعد الطلب لغو لا فائدة فيه.

قلت : كان النزاع في الإمكان وعدمه وفي مقام الثبوت لا في مقام الإثبات ، واللغويّة غير الاستحالة وداخل في مقام الإثبات ، ولكن عدل عنه في ذيل كلامه وقال : الشرائط على قسمين : شرائط « المسمّى » ( شرائط الماهية ) وشرائط « وجود المسمّى » وتحقّقه ، والقسم الأوّل من الشرائط لا يبعد أن يكون من شرائط الماهية فيكون داخلاً في محلّ النزاع ، وأمّا القسم الثاني والثالث فهما من شرائط الوجود فليسا داخلين في محلّ البحث ، لأنّ البحث في الصحيح والأعمّ يكون في تعيين ما به مسمّى الألفاظ لا تشخيص شرائط وجوده. ( انتهى ملخّص كلامه (١) ).

أقول : يلاحظ على بيانه بأمرين :

الأوّل : أنّ ما ذهب إليه من التفصيل بين الشرائط وتقسيمها بشرط الماهية وشرط الوجود مبني على القول بأنّ الألفاظ وضعت للماهيات ، وأمّا بناءً على مختارنا في المقام من أنّ جميع الألفاظ ( إلاّ ما شذّ ) وضعت للوجودات الخارجيّة فهو في غير محلّه كما لا يخفى.

الثاني : أنّه يمكن أن يقال بدخول القسم الثاني والثالث في محلّ النزاع أيضاً لأنّ مقوّم ماهية العبادة هو العبوديّة والمقربيّة ، ولا ريب في أنّ مقوّم العبوديّة إنّما هو قصد القربة بل هو أهمّ ما يكون داخلاً في ماهية الصّلاة ، لأنّ خروجه عنها يستلزم خروج العبادة عن كونها عبادة ، فكيف لا يكون داخلاً في ماهيّة المسمّى؟ ولا إشكال في أنّ الصّلاة والحجّ ونحوهما من مصاديق العبادة ، والعجب منه ومن العلمين ( المحقّق العراقي والنائيني رحمهما الله ) حيث ذهبوا إلى أنّ قصد القربة خارج عن ماهيّة مسمّى العبادة حتّى على مبنى الصحيحي ، مع أنّها بدون القربة لا تكون عبادة.

والمختار في المسألة هو ما ننتهي إليه بعد الرجوع إلى الاصول الموجودة في تسمية المخترعات العرفيّة كما مرّ ، فإنّا قد قلنا بأنّ السيارة مثلاً وضعت لما يكون منشأً للأثر المرغوب

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٥٠ ـ ٥١ ، طبع مهر.

١٤٣

منها ، ثمّ نقول : إنّ تأثيرها في الأثر له نوعان من الشرائط : فنوع منها يكون شرطاً لفعلية المقتضي ، كوجود النفط في المصباح مثلاً بالنسبة إلى تأثيرها في الإضاءة ، وكشرب الدواء في صباحاً قبل الطعام ، ونوع منها يكون شرطاً لاقتضاء المقتضي نحو كميّة الأجزاء وكيفيتها في المعاجين ، ومن الواضح عدم دخالة النوع الأوّل في المسمّى كما يحكم به الوجدان ، فإنّه لا يقول أحد بأنّ النفط داخل في مسمّى المصباح ، وشرب الدواء قبل الطعام مثلاً داخل في مسمّى الأدوية بخلاف النوع الثاني.

هذا في المخترعات العرفيّة ، وكذلك في المخترعات الشرعيّة فإنّ شرائط الصّلاة مثلاً على قسمين ، قسم منها يكون من شرائط اقتضاء الصّلاة للأثر ، فيكون داخلاً في مسمّاها كالطهارة وقصد القربة ، وقسم منها يكون من شرائط فعلية تأثير الصّلاة مثل كون المصلّي مؤمناً ( على القول باشتراط الإيمان في الصحّة لا في القبول فقط ) ومثل الموافاة على الإيمان فيكون خارجاً عن مسمّاها ، ولا بدّ من ملاحظة الأدلّة في باب شرائط العبادات وغيرها وملاحظة تناسب الحكم والموضوع حتّى يعلم أنّ هذا الشرط أو ذاك من القسم الأوّل أو القسم الأخير.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم وعدم ورود النهي يرجعان إلى قصد القربة كما مرّ في الأمر الرابع من الامور المذكورة في المقدّمة.

نعم إنّه سيأتي في مبحث الترتّب أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم ليس من الشرائط ( أي إن الابتلاء بالمزاحم ليس من الموانع ) كما هو المعروف والجاري في ألسنة جمع من الأعلام ، وإنّ كونه من الشرائط مبني على إنكار الترتّب.

وبهذا يتمّ الكلام في مبحث الصحيح والأعمّ والحمد لله.

١٤٤

الأمر التاسع : في الاشتراك

واستعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى

ولا بدّ فيه من تقديم امور :

الأمر الأوّل : في إمكان وضع الألفاظ المشتركة وعدمه ،

ثمّ في وقوعه بعد ثبوت إمكانه.

ففيه ثلاث مذاهب : مذهب القائلين بالإمكان ، ومذهب القائلين بالاستحالة ، ومذهب القائلين بالوجوب.

المذهب الأوّل : فاستدلّ له بوجوه أحسنها وقوع الاشتراك في اللّغة ، وأدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه ، ووقوعه أمر وجداني ثابت بمثل التبادر ونحوه من سائر علائم الحقيقة ، مضافاً إلى أنّ الإمكان يثبت بنفي أدلّة القائلين بالامتناع والوجوب كما سيأتي.

أمّا القائلين بالامتناع : فاستدلّوا له بدليلين :

الدليل الأوّل : ما ذكره غير واحد من أنّ الاشتراك مخالف لحكمة الوضع لأنّ به لا يحصل التفهيم والتفهّم.

وفيه : أوّلاً : أنّه يمكن حصول التفهّم بالقرينة ولا حاجة إلى كونها لفظيّة حتّى يستشكل بأنّه تطويل بلا طائل بل يمكن كونها مقاميّة أو حاليّة ، مضافاً إلى أنّه ليس من قبيل التطويل بل قد يكون موافقاً للفصاحة والبلاغة.

وثانياً : أنّه قد تقتضي الحكمة إطلاق الكلام مجملاً مبهماً ، والتكلّم من وراء الحجاب وغائباً عن الأغيار ، ولا إشكال حينئذ في ثبوت الحاجة.

الدليل الثاني : ( وهو مبني على كون الوضع بمعنى التعهّد والالتزام وكون الوضع تعييناً ) استحالة أن يتعهّد الإنسان أوّلاً على أن يستعمل اللفظ في أحد المعنيين للفظ كلّما استعمله في

١٤٥

كلامه ، ثمّ يتعهّد ثانياً كذلك بالنسبة إلى المعنى الآخر ، لأنّ أحد التعهّدين مناقض للآخر.

أقول : يمكن التعهّد والالتزام بأنّه كلّما استعمل هذا اللفظ أراد أحد هذين المعنيين ، وأمّا تعيين أحدهما بعينه فهو إنّما يكون بالقرينة فلا يلزم حينئذٍ محذور التناقض.

وأمّا القائلين بالوجوب : ( وهو في المقام بمعنى اللابدّية ) فاستدلّوا له بأنّ الألفاظ محدودة والمعاني غير متناهية ولولا الألفاظ المشتركة لوقعنا في ضيق وحرج بالنسبة إلى المعاني التي لم توضع بإزائها ألفاظ ، فلابدّ لنا من المصير إلى الاشتراك.

والجواب عنه :

أوّلاً : إن كان المراد من عدم التناهي ، عدم التناهي حقيقة فلا ترتفع الحاجة إلى غير المتناهي بالمتناهي ولو زيد عليه ألف مرّة كما لا يخفى ، وإن كان المراد منه الكثرة.

ففيه : أنّ الألفاظ أيضاً كثيرة بل تتجاوز مئات الملايين كما يظهر لنا بمحاسبة ساذجة ، بملاحظة ثلاثين حرفاً من الحروف الهجائيّة ( لو فرضنا كونها ثلاثين حرفاً ) وضربها في نفسها ( ٣٠ × ٣٠ / ٩٠٠ ) ليحصل منه التراكيب الثنائيّة ، ثمّ ضرب العدد الحاصل في الثلاثين أيضاً ليحصل به الكلمات الثلاثيّة ( ٩٠٠ × ٣٠ / ٢٧٠٠٠ ) ، ثمّ ضرب العدد الحاصل في الثلاث لإمكان تغيير موضع الحروف الثلاثة وإمكان تصوير كلّ كلمة ثلاثيّة على ثلاث صور ، ( ٢٧٠٠٠ × ٣٠ / ٨١٠٠٠٠ ) وهكذا إلى آخره فيضرب العدد الحاصل في الثلاثين أيضاً ليتشكّل منه الكلمات الرباعيّة ، ثمّ ضربه في الأربع ، ثمّ ضربه في اثني عشر ، ثمّ في الثلاثين أيضاً ، ثمّ في خمسة وعشرين ثمّ ملاحظة كيفية الحركات الثلاثة ( ٨١٠٠٠٠ × ٣٠ / ٢٤٣٠٠٠٠ × ٤ / ٩٧٢٠٠٠٠ × ١٢ × ٣٠ × ٢٥ × ... ) وعليه فلا إشكال في كفاية الألفاظ عن المعاني بل أنّها أكثر من المعاني ، أي تكون القضيّة على العكس ، فيمكن أن يقال : إنّ الألفاظ غير متناهية عرفاً ، والمعاني التي نحتاج إليها في حياتنا متناهية.

ثانياً : سلّمنا كون المعاني غير متناهية وكون الألفاظ متناهية إلاّ أنّ كلّية كثير من الألفاظ بل أكثرها توجب رفع المشكلة لأنّ مورد الحاجة كثيراً ما يكون هو الكلّي وأمّا الجزئيات والمصاديق فترتفع الحاجة إليها بتطبيق الكلّي على الفرد كما لا يخفى ، فإنّا نحتاج إلى وضع اسم لكلّي الحجر أو الشجر أو الدار مثلاً ولا نحتاج إلى وضع لفظ لافرادها بل نتكلّم عنها بتطبيق كلّياتها عليها.

١٤٦

وثالثاً : لا ينحصر طريق حلّ المشكل في الاشتراك بل إنّ باب المجاز واسع.

فظهر : أنّ الحقّ إمكان الاشتراك لا وجوبه ولا امتناعه ، كما أنّ الحقّ إمكان الترادف أيضاً لكونه مقتضى حكمة الوضع ، فربّما تقتضي الفصاحة استعمال ألفاظ مترادفة في معنى واحد للتأكيد أو غيره.

الأمر الثاني : في علّة الاشتراك ومنشئه

لا إشكال في أنّه من البعيد جدّاً أن يكون منشأ اشتراك بعض الألفاظ وضع واضع واحد ، فيضع لفظاً واحداً تارةً لمعنى واخرى لمعنى آخر ، بل يحتمل فيه وجهان آخران :

الوجه الأوّل : أن يكون المنشأ تعدّد الوضع التعييني بسبب تعدّد القبائل والطوائف في لغة واحدة كأن تضع قبيلة لفظاً في معنى ، وتضع قبيلة اخرى من نفس تلك اللّغة ذلك اللفظ في معنى آخر.

الوجه الثاني : الوضع التعيّني ، فوضع لفظ العين مثلاً في بدو الأمر للعين الباكية ثمّ استعمل في الجارية مجازاً بعلاقة الجريان ، وصار بعد كثرة الاستعمال حقيقة ، وكذلك بالنسبة إلى المتجسّس بعلاقة النظر وكونه بمنزلة البصر على الخصم ، وهكذا بالنسبة إلى سائر معانيه.

أضف إلى ذلك ما يقع في الأعلام الشخصيّة ، فإنّه كثيراً ما يختارون اسم « محمّد » لأفراد كثيرة ، أو اسم فاطمة لعدّة بنات تبرّكاً بإسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبنته الزهراء سلام الله عليها ، فيكون هذا من أسباب الاشتراك في الأعلام ، أو يسمّون مسجداً باسم أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض البلاد ، ومسجداً آخر بإسمه عليه‌السلام في بلدة اخرى وهكذا.

لكن هنا أمر ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنّا وإن قلنا بإمكان المشترك ووقوعه لا سيّما في باب الأعلام إلاّ أنّ كثيراً من الألفاظ التي يتوهّم كونها مشتركاً لفظيّاً ، مشترك معنوي أو من قبيل الحقيقة والمجاز ، نحو « القرء » فإنّ المعروف كونه مشتركاً لفظياً وإنّه وضع للطهر تارةً وللحيض اخرى ، مع أنّه مشترك معنوي وضع لمعنى انتقال المرأة من حال إلى حال ، والانتقال له فردان : الانتقال من الطهر إلى الحيض وبالعكس ، ويشهد عليه استعماله في مطلق الانتقال في لسان القرآن وكلمات بعض أهل اللّغة ، ولعلّ لفظ « العين » بالنسبة إلى معانيها الكثيرة أيضاً كذلك ، كما يشهد له عبارات المفردات للراغب في ذيل البحث عن كلمة « عين » وإليك نصّها

١٤٧

بالحرف : عين / العين الجارحة ... ويستعار العين لمعانٍ هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة ، ويستعار للثُقب في المِزادة تشبيهاً بها في الهيئة وفي سيلان الماء منها ، فاشتقّ منها سقاءٌ عيِّن ... والمتجسّس عين تشبيهاً بها في نظرها ، وقيل للذهب عين تشبيهاً بها في كونها أفضل الجواهر ، كما أنّ هذه الجارحة أفضل الجوارح ، ومنه قيل : أعيان القوم لأفاضلهم ، وأعيان الاخوّة لبني أب وام ... ويقال لمنبع الماء عين تشبيهاً بها لما فيها من الماء ، وعن عين الماء اشتقّ « ماء معين » أي ظاهر للعيون ... ويقال لبقر الوحش « أعين » و « عيناء » لحسن عينيه. ( انتهى ).

ولا يخفى أنّ هذه العبارة تنادي بأعلى صوته أنّ العين ليس مشتركاً لفظيّاً ، والظاهر عدم اختصاص هذا المعنى بهذه اللّفظة ، بل يجري في كثير من الألفاظ التي يدّعي اشتراكها.

اللهمّ إلاّ أن يقال في خصوص لفظ « العين » إنّ ما ذكره الراغب في المفردات إنّما هو بيان لوجه استعمال العين في غير الجارحة المعروفة ، والعلاقة الموجودة بينهما ، ولكن بعد كثرة الاستعمال صار حقيقة فيها كما هو حقيقة في الجارحة المعروفة ، فحصل الاشتراك اللّفظي.

وعلى كلّ حال نحن وإن قلنا بأنّ كثيراً من الألفاظ التي يتصوّر اشتراكها لفظاً تكون من المشترك المعنوي واقعاً ، ولكن ما قد يظهر من بعض ( مثل صاحب كتاب : « التحقيق في كلمات القرآن الكريم » ) من إرجاع جميع الكلمات المشتركة الواردة في القرآن الكريم إلى أصل واحد ممّا لا دليل عليه ، ولا داعي له ، ومن أقوى الأدلّة على نفي هذا القول بعض التكلّفات التي ارتكبها في كثير من اللغات المشتركة بداعي ارجاعها إلى أصل واحد.

الأمر الثالث : في إمكان وقوعه في كلام الله تعالى

ويدلّ عليه أوّلاً : أنّه مقتضى بلاغة الكلام لأنّها تقتضي أحياناً إطلاق الكلام مجملاً مردّداً ، ولا إشكال في أنّ كلام الله تعالى أبلغ الكلمات.

وثانياً : ما قد يقال : إنّ أدلّ الدليل على إمكان شيء وقوعه ، ولقد وقع استعمال المشترك في القرآن نحو لفظ العين فإنّه تارةً استعمل في العين الجارية في قوله تعالى ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) واخرى في العين الباكيّة في قوله تعالى : ( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ولكن قد عرفت الإشكال في كون لفظ العين من المشتركات اللّفظيّة.

هذا تمام الكلام فيما أردناه من الامور الثلاثة بعنوان المقدّمة.

١٤٨

ولنرجع إلى البحث في استعمال المشترك في أكثر من معنى ، الذي له أثرات مهمّة في الفقه والتفسير ، وليس محل النزاع استعمال اللفظ المشترك في القدر الجامع بين المعنيين فإنّه لا مانع منه ولا خلاف فيه ، بل البحث في استعمال لفظ واحد في آنٍ واحد في كلّ من المعنيين في عرض واحد ، كما أنّ النزاع يعمّ الحقيقة والمجاز أو الحقيقة والكناية أي استعمال لفظ واحد في معناه الحقيقي والمجازي أو في معناه الحقيقي والكنائي في عرض واحد ، لعدم كون النزاع مختصّاً بالألفاظ المشتركة ، ولتداخل الجميع في كثير من الأدلّة ، وعليه فعنوان البحث « هل يجوز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى سواء كان من باب الاشتراك ، أو الحقيقة والمجاز أو الحقيقة والكناية؟ ».

الأقوال في مسألة استعمال المشترك في أكثر من معنى

والأقوال فيها كثيرة يمكن جمعها في ثلاثة :

الأوّل : الجواز مطلقاً ، الثاني : الاستحالة مطلقاً ، الثالث : التفصيل تارةً بين المفرد والتثنية والجمع ، واخرى بين النفي والإثبات.

وقد ذهب كثير من الأعاظم إلى الاستحالة عقلاً ، بل هو المشهور بين المتأخّرين مثل المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله وغيرهما ، وذهب إلى الجواز في التهذيب والمحاضرات وهو المحقّق المختار.

واستدلّ القائلون بالاستحالة بما حاصله : أنّ استعمال لفظ واحد في المعنيين يستلزم الجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد وهو محال.

توضيحه : أنّ حقيقة الاستعمال ليست عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى حتّى يقال أنّه لا مانع من جعل لفظ واحد علامة لمعنيين أو الأكثر ، بل هو فناء اللفظ في المعنى وجعله وجهاً ومرآة وعنواناً للمعنى ، كأنّ ما يجري على اللسان هو نفس المعنى لا اللفظ ، كما يشهد عليه سراية قبح المعنى إلى اللفظ وبالعكس ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ استعمال لفظ واحد في معنيين يستلزم كونه فانياً في كلّ واحد مستقلاً ، ومن المعلوم أنّ لحاظه كذلك في معنى ينافي لحاظه في معنى آخر فلا يكون وجهاً لمعنيين وفانياً في اثنين إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين.

١٤٩

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ القول بكون حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كلام شعري لا دليل عليه ، بل هي عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى كما عرفت بيانه في محلّه ، وأمّا قضيّة سراية القبح والحسن فليست من جهة الفناء بل هي ناشئة من كثرة الاستعمال وحصول الانس أو المنافرة بالنسبة إلى المعنى ، ولذا لا يحسّ متعلّم اللّغة الجديدة قبحاً ولا حسناً في الألفاظ لعدم حصول كثرة الاستعمال والانس بالنسبة إليه.

ثانياً : سلّمنا كون اللفظ فانياً في المعنى لكن إنّما يستلزم المحال فيما إذا تحقّق اللحاظان في آن واحد ، وأمّا ملاحظة المعنيين بلحاظين مستقلّين في آنين مختلفين قبل وقوع الاستعمال ثمّ استعمال اللفظ فيهما ثانياً فلا مانع منه ولا يلزم منه محذور ولا حاجة إلى لحاظ المعنيين في آنٍ واحد ، أي لا دليل على لزوم وحدة آن اللحاظ في الاستعمال.

وثالثاً : أنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه ، ولا ينبغي الإشكال في وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد في كلمات الفصحاء والبلغاء ، كما يقال في جواب من شكى وجعاً في عينه الباكية وجفاف عينه الجارية : « أصلح الله عينك » ويراد منه كلا المعنيين ، بل لا يخفى لطفه وأنّه يستحسنه الطبع والوجدان اللغوي ، كما لا إشكال في أن يقول من دخل على زيد في داره ورأى جوده وسخائه مضافاً إلى كثرة رماده : « أنت كثير الرماد » بمعنيين فيريد المعنى الحقيقي والمعنى الكنائي معاً في استعمال واحد ، وكقول الشارع في مدح النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في شعر لطيف له :

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى

والمشتكى ظمئاً والمبتغى ديناً

يأتون سدّته من كلّ ناحية

ويستفيدون من نعمائه عيناً

فاستعمل لفظ العين في معانٍ أربعة : الشمس والعين الباكية والعين الجارية والذهب (١).

__________________

(١) ومن طريف ما ينبغي ذكره في هذا المجال ما أنشده الشاعر الفارسي وقال :

« از در بخشندگى وبنده نوازى ـ مرغ هوا را نصيب ماهى دريا » حيث يمكن أن يراد منه خمس معانٍ مختلفة في نفس الوقت ، كلّ واحد أحسن من غيره : أحدها : أن يراد كون بعض الطير نصيباً لأسماك البحر ( كما نقل أنّ هناك سمكة تشبه بالسفرة المبسوطة على وجه الماء ) ثانيها : أنّ بعض الأسماك يكون نصيباً لطير الهواء. ثالثها :

١٥٠

لا يقال : إنّه استعمل حينئذٍ في الجامع بينهما وهو المسمّى بالعين فيكون من باب المشترك المعنوي ، لأنّ استعماله في جامع من هذا القبيل في غاية الغرابة وخارج عن المحسنات الذوقيّة بل يوجب خروج تلك الأبيات عن جمالها ولطافتها إلى أمر مبتذل كما لا يخفى. مضافاً إلى كونه خلاف الوجدان ، ولا فرق في ذلك بين كون العين مشتركاً لفظيّاً أو حقيقة في الجارحة ومجازاً في غيرها.

ورابعاً : الرّوايات الكثيره الواردة في بيان أنّ للقرآن بطناً أو سبعة أبطن أو أكثر من ذلك ظاهرة في أنّ اللفظ الواحد استعمل في معانٍ متعدّدة.

وقد جمعها العلاّمة المحقّق المجلسي رحمه‌الله في المجلّد ٨٩ في كتاب القرآن في الباب ٨ « أنّ للقرآن ظهراً وبطناً ... » وقد أورد فيها أكثر من ثمانين رواية كثير منها دليل على المطلوب.

منها : ما رواه عن المحاسن عن جابر بن يزيد الجعفي قال « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن شيء من التفسير فأجابني ثمّ سألته عنه ثانيّة فأجابني بجواب آخر ، فقلت : جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم ، فقال : ياجابر ، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن وله ظهر وللظهر ظهر » (١).

ومنها : ما رواه عن تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الرّواية « ما في القرآن آية إلاّولها ظهر وبطن ... ما يعني بقوله « لها ظهر وبطن » قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كماتجري الشمس والقمر ... » (٢).

وقد رويت هذه الرّواية في الوسائل بعبارة أوضح عن فضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الرّواية : « ما من القرآن آية إلاّولها ظهر وبطن » فقال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما يجري الشمس والقمر ـ إلى أن قال ـ وما يعلم

__________________

أنّ نصيب الطير هو الهواء كما أنّ نصيب السمك هو الماء. رابعها : أنّ الله جعل كليهما نصيب الإنسان. خامسها : أنّ لكلّ من الطير والسمك نصيباً ورزقاً يختصّ به ـ لكن الشاعر العربي استعمل لفظ العين في معانٍ أربعة ، والشاعر الفارسي استعمل مجموع الجملة في معانٍ مختلفة.

(١) بحار الأنوار : ج ٨٩ ، ص ٩١ ، ح ٣٧.

(٢) المصدر السابق : ص ٩٤ ، ح ٤٧.

١٥١

تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم » (١).

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر هناك روايات كثيرة وردت في تفسير آيات القرآن ممّا لا يحتمله ظاهره أو يعلم أنّه ليس بمراد من ظاهره ، مثل تفسير « البحرين » في قوله تعالى ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) بأمير المؤمنين وفاطمة عليهما‌السلام ، وتفسير « اللؤلؤ والمرجان » في قوله تعالى ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) بالحسنين عليهما‌السلام وكذلك تفسير « الماء المعين » في قوله تعالى : ( أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) بظهور الحجّة عليه‌السلام وتفسير قوله تعالى : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) ( التفث بمعنى الوسخ ) بلقاء الإمام عليه‌السلام حيث سأل عنه عبدالله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام فقال : أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك ، قال : جعلت فداك فإنّ ذريحاً المحاربي حدّثني أنّك قلت : ثمّ ليقضوا تفثهم لقى الإمام ... فقال : صدق ذريح وصدقت ، إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح » (٢) إلى غير ذلك من أشباهه.

ولا ريب أنّ الحسنين عليهما‌السلام ليسا معنىً حقيقيّاً للؤلؤ والمرجان ، وكذلك المهدي ( أنفسنا لنفسه الوقاء ) ليس مصداقاً حقيقيّاً للماء المعين بل معناه الحقيقي هو المادّة السيّالة المخصوصة حتّى أنّ الماء المضاف من معانيه المجازيّة فكيف بغيره؟ فلا يبقى هنا مجال إلاّ الاستعمال في أكثر من معنى ، كلّ واحد مستقلّ عن الآخر ، معنى حقيقي ومعنى مجازي ( وإن كان المجاز هنا أرقى من الحقيقة من حيث الجمال الأدبي وروعة البيان ).

إن قلت : لِمَ لا يجوز استعماله في القدر الجامع المشترك بين المعنيين اشتراكاً معنويّاً كأن يقال : إنّ المراد بالماء المعين هو الذي يكون سبباً للحياة ، والمراد باللؤلؤ والمرجان هو الشيء النفيس مادّياً كان أو معنويّاً ، وكذلك « التفث » أعمّ من الوسخ الظاهري والباطني ، فالأوّل يزول بقصّ الأظفار وأخذ الشارب وغيرهما ، والثاني بملاقاة الإمام عليه‌السلام؟

قلنا : أوّلاً : لازم ذلك أن تكون الآيات القرآنيّة محمولة على المجازات كلّها أو جلّها لأنّ جميعها يشتمل على البطون ، ومن الواضح أنّ البطن معنى مجازي ( كاستعمال الماء المعين في المهدي أرواحنا فداه ) واستعمال اللفظ في القدر الجامع بين المعنى الحقيقي والمجازي استعمال

__________________

(١) بحارالانوار : ج ٨٩ ، ص ٩٧ ، ح ٦٤.

(٢) نفس المصدر : ص ٨٣ : ح ١٥ ( ملخّصاً ).

١٥٢

مجازي ( لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ) ولا يمكن الالتزام بذلك.

وثانياً : لازم ذلك أن يكون قوله تعالى : ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) ( مثلاً ) عامّاً شاملاً لكلّ شيء نفيس ، فلا ينحصر بوجود الحسنين عليهما‌السلام بل يشمل كلّ ما كان ثميناً معنويّاً ، ولا يمكن الالتزام بذلك أيضاً ، وكذلك الماء المعين يشمل جميع ما كان سبباً للحياة المعنويّة من العلم والتقوى والمعرفة ، وكلّ إنسان له حظّ من المعنويات ، وهل يلتزم القائل بذلك؟

وإن شئت قلت : الجامع بين خصوص « اللؤلؤ والمرجان » الظاهريين اللّذين هما المعنى الحقيقي لهذين اللّفظين بحسب المتبادر ونصّ أهل اللّغة ، وبين وجود الحسنين عليهما‌السلام بحيث لا يشمل غيرهما ، غير موجود ، والموجود من القدر الجامع يشمل كلّ موجود له نفاسة وقيمة.

وثالثاً : حمل اللفظ على القدر الجامع بين المصاديق المادّية والمعنويّة ( الحقيقيّة والمجازيّة وإن كان المجاز ما فوق الحقيقة ) أمر يعرفه كلّ من له خبرة بمعنى الكلمات ولا يختصّ ذلك بالراسخين في العلم من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

ويستفاد من جميع ذلك أنّ البطون ليست سوى معانٍ مستقلّة اريدت من الكلام إلى جنب المعنى الظاهري ، وعلمها عند أهلها ، فيكون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وإن لم يكن كلّها معانٍ حقيقيّة ( فإنّ محلّ الكلام أعمّ ).

إن قلت : أو لست تقول : إنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان جائزاً ولكنّه يحتاج إلى القرينة ، ولا نرى قرينة للبطون.

قلنا : نعم ، ولكن اقيمت القرينة لمن قصد افهامه من اللفظ وهم الأئمّة المعصومون الراسخون في العلم ، وإرادة معنى من اللفظ في خطاب جميع الناس وإرادة معنى آخر ( مضافاً إلى المعنى الأوّل ) لأوحدي منهم مع إقامة القرائن له فقط ـ لا يعدّ أمراً مستنكراً كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله لتوجيه روايات البطون غير مرضي عندنا فإنه قال :

١ ـ إنّ المراد من البطون معانٍ اخرى قد اريدت في أنفسها في حال الاستعمال لا من اللفظ.

٢ ـ يمكن أن يكون المراد لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ وإن كانت أفهامنا قاصرة عن ادراكها.

ولكن الجواب الأوّل عجيب منه ، فإنّ لازمه أنّ المراد من بطون القرآن معانٍ كانت

١٥٣

موجودة في ذهن المتكلّم فأرادها مقارناً للمعنى المستعمل فيه اللفظ من دون أي ربط بينهما ومن دون استعمال اللفظ في تلك المعاني ، وهذا عجيب منه ومعلوم بطلانه.

وأمّا الجواب الثاني ففيه أنّه ينتقض بما يعدّ من بطون القرآن ولا يكون من لوازم المعنى الموضوع له ، نحو كلمة « الجوار الخنّس » في الآية التي فسّرت في الرّواية بالامام الغائب ( أنفسنا له الفداء ) مع كونه في اللّغة بمعنى الكواكب المتحرّكة التي تغرب وتحتجب عن النظر ، ولا ملازمة بين المعنيين كما لا يخفى.

وأمّا القول بأنّه استعمل في معنى جامع ـ ويرد عليه ما سبق آنفاً من الإيرادات الثلاثة.

وممّا ذكرنا ظهر أمران :

الأوّل : أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان ممكناً إلاّ أنّه حيث كان مخالفاً لظاهر الكلام فيحتاج إلى القرينة المعيّنة للمعاني المرادة لا القرينة على المجاز كما في الأبيات المذكورة آنفاً ، وبدونها لا يصحّ حمل اللفظ على المعنيين أو أكثر ، بل يحمل على معنى واحد من معانيه ، فإن كان هناك قرينة معيّنة فيها فهو وإلاّ كان مجملاً.

نعم لا فرق بين أن تكون القرينة داخلية أو خارجيّة ، فالداخلية مثل ما مرّ في ما مضت من الأبيات ، فإنّ كلمة « في الدجى » وكلمة « ظمئاً » مثلاً قرينتان على استعمال العين في الشمس والعين الجارحة ، والخارجيّة نظير ما مرّ من تفسير الإمام عليه‌السلام في الآيات الثلاث.

الثاني : قد ظهر ممّا ذكرنا هنا أنّه لا فرق من ناحية العقل بين استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيين ، أو المعنى الحقيقي والمجازي ، أو الحقيقي والكنائي نفياً واثباتاً ، لأنّ دليل الاستحالة المذكورة سابقاً كان منحصراً في امتناع اجتماع اللحاظين ، وهو يتصوّر في كلّ واحد من التقادير ، فبمنعه يثبت الجواز أيضاً في جميعها.

إلى هنا تمّ الدليل الأوّل للامتناع ، وقد تبيّن ممّا ذكر في جوابه دليل المختار من جواز الاستعمال في أكثر من معنى.

وأمّا الدليل الثاني فهو ما قد يقال من أنّ الألفاظ وجودات تنزيلية للمعاني وكأنّ المعنى يوجد بإيجاد اللفظ ، ولذلك قالوا بأنّ للوجود أنواعاً أربعة : وجوداً خارجياً ، ووجوداً ذهنياً ، ووجوداً كتبيّاً ، ووجوداً لفظيّاً ، فعدّ اللفظ أيضاً من أنواع الوجود ، وحيث لا يكون لحقيقة

١٥٤

واحدة وجودان خارجيان ، فكذلك لا يكون للفظ واحد معنيان.

والجواب عنه : إنّ المراد من كون الألفاظ وجودات تنزيلية للمعاني تشبيه للألفاظ بالوجودات الخارجيّة ، ويكون المقصود هيهنا أنّ وجود اللفظ علامة لوجود المعنى ، وإلاّ لا إشكال في أنّ اللفظ ودلالته على معناه أمر اعتباري عقلائي ولا يقاس بالوجودات الحقيقيّة الخارجيّة ، فإنّ هذا أيضاً من الموارد التي وقع فيها الخلط بين المسائل اللغويّة والمسائل الفلسفية ، وعليه لا مانع من استعمال لفظ وإرادة معنيين.

وإن شئت قلت : سلّمنا كون اللفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى ، ولكن أي مانع من تنزيل شيء واحد منزلة الشيئين ، فإنّ التنزيل أمر اعتباري ولا مانع من اجتماع امور اعتباريّة عند استعمال لفظ واحد.

الثالث : إنّه باللفظ يوجد المعنى ، واللفظ يكون علّة للمعنى ولا يصدر من العلّة الواحدة إلاّ معلول واحد.

وفيه : أنّ هذا أيضاً من أوضح مصاديق الخلط بين المسائل الفلسفية والحقائق الاعتباريّة ، فإنّ قاعدة الواحد ( على القول بها ) مختصّة بالواحد البسيط الحقيقي التكويني كما مرّ غير مرّة ، وأمّا وضع الألفاظ فأمر اعتباري محض ولا يجري فيه قانون العلّية فضلاً عن قاعدة الواحد. هذا أوّلاً.

وثانياً : سلّمنا ـ لكن ليس اللفظ في استعماله في أكثر من معنى تمام العلّة لايجاد المعنى بل هو جزء للعلّة التامّة ، والجزء الآخر هو القرينة ولا إشكال في أن يصير لفظ واحد بضمّ قرينة علّة لايجاد معنى ، وبضمّ قرينة اخرى علّة لايجاد معنى آخر فتأمّل (١).

هذا كلّه في أدلّة القائلين بالاستحالة العقليّة.

أمّا القائلون بعدم الجواز لغة وعرفاً فهم طائفتان : طائفة قالوا بعدم الجواز حقيقة والجواز مجازاً ، وطائفة اخرى قالوا بعدم الجواز حقيقة ومجازاً ، والإنصاف أنّ طريق هاتين الطائفتين أسلم اشكالاً من طريق القائلين بالاستحالة العقليّة وإن كانت مقالتهم أيضاً لا تخلو من الضعف والإشكال كما سيأتي.

__________________

(١) ووجه التأمّل أنّ هذا غير معقول ، لأنّه كيف يمكن ويتصوّر أن يصير شيء واحد في آنٍ واحد جزءً لعلّتين تامّتين؟

١٥٥

واستدلّ الطائفة الاولى بوجهين :

الأوّل : أنّ الوحدة جزء للموضوع له لأنّ اللفظ وضع للمعنى الواحد ، فإذا استعمل في المعنيين استعمل في غير ما وضع له فيصير مجازاً.

الثاني : أنّ اللفظ وضع للمعنى في حال الوحدة ، فكأنّ الواضع اشترط أن يستعمل اللفظ حال الوحدة ، حيث إنّ اللغات توقيفيّة ، فلابدّ لاستعمال اللفظ في المتعدّد إلى إذن من الواضع.

وأمّا الطائفة الثانيّة : فاستدلّوا لعدم الجواز حقيقة بنفس ما استدلّ به الطائفة الاولى ، ولعدم الجواز مجازاً بعدم وجود علاقة بين الواحد والمتعدّد لأنّهما ضدّان ، لكون أحدهما مأخوذاً بشرط شيء والآخر بشرط لا ، ولا إشكال في أنّهما متباينان ، وأمّا علاقة الكلّ والجزء فلا تتصوّر هنا لأنّ الوحدة شرط للموضوع له وليست بجزء له.

والجواب : عن كلتا الطائفتين : إن كان المراد من قيد الوحدة أنّ اللفظ وضع لمعناه لأن يستعمل فيه باللحاظ الاستقلالي فإنّه حاصل في ما نحن فيه ، لأنّ المراد من استعمال لفظ في أكثر من معنى استعماله في كلّ واحد بلحاظ مستقلّ لا في المجموع من حيث المجموع.

وإن كان المراد منها أنّ اللفظ وضع لأن يراد منه معنى واحد لا معنيان وإن كان يلاحظ كلّ واحد منهما مستقلاً فهو دعوى بلا دليل.

وإن كان المراد أنّ اللفظ يستعمل في الاستعمالات المتعارفة في معنى واحد وهذا يوجب ظهور اللفظ في معنى واحد ، فهو حقّ ولكنّه ظهور انصرافي ، أي ينصرف اللفظ إلى الوحدة لا ظهور حقيقي بحيث يكون في غيره مجازاً ، لأنّ منشأ الظهور هنا كثرة الاستعمال في العرف لا التبادر الذي يكون من علائم الوضع ، فليست الوحدة جزءاً للموضوع له بل اللفظ ظاهر في معنى واحد ولا بدّ لاستعماله في الأكثر من قرينة معيّنة للأكثر وصارفة عن المعنى الواحد.

وأمّا القائلون بالتفصيل بين التثنية والجمع والمفرد فتمسّكوا لعدم الجواز في المفرد بما مرّ من اعتبار الوحدة أيضاً فقالوا : إنّ التثنية أو الجمع في حكم تكرار اللفظ فلا ينافيان قيد الوحدة فإنّ « العينين » مثلاً بمعنى عين وعين.

والجواب عنه : أنّه لا إشكال في أنّ معنى التثنية هو الفردان من معنى واحد ، وكذلك الجمع فإنّه أفراد من كلّي واحد كما أنّ المفرد فرد واحد من ذلك المعنى فالتثنية والجمع في حكم تكرار الفرد لا تكرار اللفظ.

١٥٦

إن قلت : فما تقول في « زيدان » مع أنّ المفرد فيه جزئي لا يتصوّر فيه الأفراد؟

قلت : الوجدان حاكم على أنّ المراد من « زيدان » فردان من كلّي « المسمّى بزيد ».

وأمّا القائلون بالتفصيل بين النفي والإثبات فاستدلّوا بأنّ ما وقع في حيّز النفي يفيد معنى الجمع فدليلهم هو الدليل ، والجواب أيضاً هو الجواب.

١٥٧
١٥٨

الأمر العاشر : في المشتق

قد وقع النزاع في أنّ المشتقّ هل يكون حقيقة في خصوص ما يتلبّس بالمبدأ في الحال ( حال النسبة ) أو في الأعمّ منه وممّا مضى منه التلبّس بعد الاتّفاق على كونه مجازاً في ما يتلبّس بالمبدأ في المستقبل؟ فلفظ الصائم مثلاً هل يكون حقيقة فيمن يكون صائماً في زمان الحال فقط ، أو يطلق حقيقة أيضاً على من كان صائماً؟ بعد الاتّفاق على مجازيته في من يصوم في الاستقبال.

ولنقدّم قبل الورود في أصل البحث اموراً :

الأمر الأوّل : في تعيين حدود محلّ النزاع

هل النزاع يختصّ بالمشتقّ الصرفي فحسب؟ وبعبارة اخرى : هل المشتقّ في الاصول هو المشتقّ في علم الصرف ، أو له اصطلاح خاصّ؟

الظاهر أنّ له اصطلاحاً جديداً في الاصول وأنّ النسبة بين المشتقّ الاصولي والمشتقّ الصرفي عموم من وجه ، والمهمّ في المشتق الاصولي أن يحوى امورزاً اربعة :

الأوّل : الذات المتلبّسة بالمبدأ.

الثاني : مبدأ الاشتقاق.

الثالث : تحقّق التلبّس في زمان من الأزمنة الثلاثة.

الرابع : انقضاء التلبّس. فالملاك في دخول شيء في محلّ النزاع اجتماع هذه الامور فيه ، وحيث إنّ بعض المشتقّات الصرفيّة لا يكون واجداً لتمامها فيكون خارجاً عن محلّ البحث كالفعل الماضي أو المستقبل ( فإنّ ذات الفاعل فيهما ليست جزءً ) وإن كانا مشتقّين في اصطلاح الصرفيين ، بل أنّه نفس الحدث الواقع في زمان من الأزمنة ، وكذلك الأوصاف التي لا يتصوّر فيها انقضاء المبدأ نحو المولد حينما يقال : « مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة » لأنّ وصف التولّد يتحقّق في

١٥٩

زمان ومكان ، ولا يكون له بقاء حتّى يتصوّر انقضائه أو عدمه ، وكذلك الأوصاف التي تكون من ذاتيات الشيء كالمحرقيّة بالنسبة إلى النار ، وبالعكس يدخل بعض الجوامد الصرفيّة في محلّ النزاع لاجتماع الامور الأربعة المذكورة فيه كالزوج والزوجة ، ولذلك قلنا بأنّ النسبة بين المشتقّ في علم الاصول والمشتقّ في علم الصرف هي العموم من وجه ، فموضع اجتماعهما نظير اسم الفاعل والمفعول ، وموضع الافتراق هو الأفعال والجوامد.

بقي هنا شيئان :

١ ـ قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ثمانيّة أقسام من المشتقّات الصرفيّة ( اسم الفاعل ، اسم المفعول ، الصفة المشبهة ، صيغة المبالغة ، اسم الزمان ، اسم المكان ، اسم التفضيل واسم الآلة ) والجوامد الواجدة للمعيار المذكور تكون داخلة في محلّ النزاع ، فلا وجه لتخصيص صاحب الفصول محلّ النزاع باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وإخراج سائر المشتقّات ، وهي اسم المفعول وصيغة المبالغة واسمي الزمان والمكان واسم الآلة ، واستدلاله للخروج بأنّ من اسم المفعول ما يطلق على الأعمّ كقولك : « هذا مقتول زيد » أو « مصنوعه » أو « مكتوبه » ومنه ما يطلق على خصوص المتلبّس نحو « هذا مملوك زيد » أو « مسكونه » أو « مقدوره » ولم نقف فيه على ضابطة كلّية ، وهكذا اسم المكان نحو المسجد ، واسم الزمان نحو المقتل ، واسم الآلة نحو المفتاح ، بل يصدق المسجد على مكان السجدة ولو لم يسجد فيه بالفعل ، ويصدق المقتل على زمان القتل والمفتاح على آلة فتح الباب سواء حصل المبدأ أو لم يحصل بعدُ.

لأنّه يرد عليه ما مرّ من أنّ الأوصاف التي لا يتكرّر الوصف فيها تكون خارجة عن محلّ النزاع ، ومنها مثال المقتول المذكور في كلامه ، ولا يوجب خروج مصداق من مصاديق اسم المفعول عن محلّ النزاع ( لعدم تكرّره ) خروج اسم المفعول بجميع مصاديقه ، وأمّا سائر الأمثلة في كلامه فسيأتي أنّ للتلبّس بالمبدأ أنحاء منها : التلبّس بالفعل ومنها : التلبّس بالملكة ومنها : التلبّس بالحرفة ومنها : التلبّس بالشأنيّة أو الاستعداد والقابلية ، والانقضاء في كلّ منها بحسبه ، ففي مثل المسجد والمفتاح يكون التلبّس بالملكة والاستعداد لأنّ المسجد مكان يكون مستعدّاً للسجدة ، والمفتاح ما يكون مستعدّاً لفتح الباب به ، وإذا انقضى هذا الاستعداد يقع البحث في أنّهما حقيقتان في خصوص ما تلبّس بمبدأ الاستعداد في الحال ، أو في الأعمّ منه والمنقضي عنه

١٦٠