أنوار الأصول - ج ١

أنوار الأصول - ج ١

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-12-1
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٠٨

إلى المعنى الشرعي أو بعد نقلها إليه ، فإن كان الأوّل لا بدّ من حملها على معناها اللغوي ، وإن كان الثاني وجب حملها على المعنى الشرعي.

وحاصل الكلام هنا : إنّه تارةً يكون تاريخ الاستعمال وتاريخ النقل كلاهما معلومين واخرى يكون تاريخ الاستعمال معلوماً وتاريخ النقل مجهولاً أو بالعكس ، وثالثاً يكون كلاهما مجهولين.

لا كلام في الصورة الاولى والثالثة فإنّ حكمهما واضح كما لا يخفى ، إنّما البحث والإشكال في الصورة الثانيّة ، فهل يجري فيها أصل من الاصول العمليّة أو لا؟

لا شكّ في عدم جريان استصحاب عدم المجهول إلى زمان المعلوم في كلا شقّيها ، لأنّ الاستصحاب يجري في الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها ، فإنّه من الاصول التعبّديّة التي وضعها الشارع فيها ، ولذلك لا بدّ في جريانها من أثر شرعي بلا واسطة ، ولا ريب في أنّ عدم الاستعمال أو عدم النقل في ما نحن فيه ليس له أثر شرعي بلا واسطة.

نعم تجري أصالة عدم النقل التي هي من الاصول اللّفظيّة العقلائيّة ، وتكون من الأمارات في صورة الجهل بالنقل والعلم بالاستعمال لا العكس.

لكن يرد عليه : بأنّ أصل عدم النقل يجري فيما إذا شكّكنا في أصل النقل لا ما إذا كان أصل النقل معلوماً وكان تاريخه مجهولاً ، فإنّ بناء العقلاء ثابت في الأوّل دون الثاني ، وعلى هذا فلا أصل عملي يجري في المقام.

١٠١
١٠٢

الأمر الثامن : الصحيح والأعمّ

وهو من أهمّ المباحث الاصوليّة لما فيها من آثار عمليّة ، ولا بدّ فيه من تقديم امور قبل الورود في أصل البحث :

الأمر الأوّل : في عنوان البحث فقد عنونه المحقّق الخراساني رحمه‌الله هكذا : « وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصحيحة أو للأعمّ منها ».

ولكن يرد عليه : أوّلاً : أنّ موضوع الصحيح والأعمّ لا يختصّ بالعبادات بل يشمل ألفاظ المعاملات أيضاً مثل لفظ النكاح والطلاق والبيع ، بل ويشمل غيرهما كالألفاظ الموضوعة لموضوعات الأحكام نظير لفظ الدينار والحلّة في باب الديّة ، فيقع النزاع في أنّ الدينار مثلاً هل وضع للصحيح منه أو للأعمّ؟

وثانياً : يستشمّ من تعبيره بالأسامي من أنّ النزاع يدور مدار القول بالحقيقة الشرعيّة مع أنّ من المعلوم عدم اختصاصه به.

وعنونه بعض الأعلام بأنّ « ألفاظ العبادات والمعاملات هل تكون أسامى للصحيحة أو للأعمّ ».

ويرد عليه : أيضاً الإشكال الثاني ممّا أُورد على المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وكذلك الأوّل بالنسبة إلى غير العبادات والمعاملات كما لا يخفى.

وقال بعض الأعاظم في مقام بيان عنوان البحث : « الأصل في استعمالات الشارع لألفاظ العبادات ماذا؟ ».

ويرد عليه : ١ ـ بعض ما مرّ كما هو ظاهر ، ٢ ـ أنّ لازم قوله « استعمالات الشارع » تحديد دائرة النزاع بالألفاظ المستعملة في لسان الشارع مع أنّ النزاع كلّي يجري بالنسبة إلى مطلق الألفاظ سواء كانت مستعملة في لسان الشارع أم لا ، وإن كان الغرض من هذا البحث الحصول

١٠٣

على كيفية استعمالات الشارع فحسب نظير البحث في سائر المباحث اللّفظيّة كمبحث الأوامر والنواهي فإنّ النزاع فيها يكون في مطلق صيغة الأمر أو صيغة النهي مثلاً ، من أي مولى صدرت ، ولكن الغرض منه هو الحصول على كيفية دلالة صيغة الأوامر والنواهي الصادرة من ناحية الشارع.

وثالثاً : إنّ قوله « ماذا؟ » كلمة مبهمة لا تبيّن المراد من البحث وإنّه من جهة الصحيح والأعم أو الحقيقة والمجاز أو جهات اخرى.

فالأولى أن يقال : « إنّ ألفاظ العبادات والمعاملات وغيرهما بمقتضى الوضع الشرعي أو اللغوي أو القرينة العامّة هل هي للصحيح أو للأعمّ منه؟ » فإنّه لا يرد عليه شيء ممّا ذكر كما لا يخفى.

الأمر الثاني : في أنّه لا فرق في جريان النزاع بين القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه وبين أن تكون الألفاظ مجازات في المعاني الشرعيّة أو حقائق لغويّة فيها ( كما قال بعض بعض ) أو حقائق لغويّة في المعاني واللغويّة كما يحكى عن الباقلاني.

وذلك لأنّ المعنى الحقيقي أو المجازي هنا يشتمل على أجزاء وشرائط على كلّ حال ويتصوّر فيها الصحيح والفاسد فيجري النزاع فيها حتّى على القول بأنّ الصّلاة في استعمالات الشرع مثلاً يراد منها الدعاء فإنّه لا إشكال في أنّ هذا الدعاء في هذه الاستعمالات مقيّد بقيود خاصّة فيتصوّر فيها الصحيح والأعمّ ، والجامع للشرائط والأجزاء أو الفاقد لبعضها.

الأمر الثالث : في معنى الصحّة والفساد وإنّه ما هو المقصود منهما؟ ونكتفي ببيان معنى الصحّة حتّى يعرف معنى الفساد أيضاً فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

وقد ذكر لها معانٍ مختلفة ، فقال بعض أنّها بمعنى اسقاط الإعادة والقضاء ، وهذا منسوب إلى الفقهاء ، وقال بعض آخر أنّها بمعنى موافقة الأمر ، وهو منسوب إلى المتكلّمين ، ولا يخفى عدم تماميّة شيء منهما بل كلّ من الفقيه والمتكلّم فسّر الصحّة وفقاً لمسلكه الخاصّ ، فالفقيه حيث يبحث عن الإعادة والقضاء في باب العبادات فسّرها بإسقاطها مع أنّه لا يصدق في أبواب المعاملات ، والمتكلّم حيث إنّه يبحث في علم الكلام عن مسائل المعاد وعن الثواب والعقاب ، وهما يترتّبان على موافقة الأمر ومخالفته ، فقد فسّر الصحّة بالموافقة ، وفي الواقع أنّهم أخذوا بلوازم الصحة المطلوبة لهم. والمحقّق الخراساني رحمه‌الله فسّرها بالتماميّة وهو أيضاً غير تامّ لأنّه

١٠٤

مبهم لم يعيّن فيه حيثيّة التماميّة وجهتها ، فهل المراد التماميّة من ناحية الأجزاء أو من جهة الأجزاء والشرائط ، أو من جهات اخرى؟

والتعريف الرابع ما هو المعروف بين من تأخّر عن المحقّق المذكور ، وهو تعريفها بالجامعية للأجزاء والشرائط.

ولنا تعريف خامس يكون أقرب إلى الواقع وهو أن يقال : إنّ الصحيح ما يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه ( أي الآثار الكاملة ) وبتعبير آخر الشيء الصحيح هو ما يكون واجداً للخاصّية المترقّبة منه ، والفاسد هو ما يكون فاقداً لها.

بيان ذلك : إنّ المركّبات على قسمين : حقيقة واعتباريّة ، فالمركّب الحقيقي ما يكون بين أجزائه ربط خارجي حقيقي كبدن الإنسان وجسم الشجر ، والمركّب الاعتباري ما لا يكون كذلك بل اعتبر نحو ربط بين أجزائه المتشتّة في الخارج كالصّلاة والعقود ، وحيث إنّ مدار البحث في الصحيح والأعمّ هو المركّبات الاعتباريّة في الغالب فلابدّ لنا من تعيين معيار الوحدة وسبب الارتباط فيها ، ولا إشكال في أنّ عامل الوحدة في المركّبات الاعتباريّة إنّما هو تأثير الأجزاء المختلفة المتشتّة في أثر واحد أو آثار معيّنة.

إذاً ينبغي لنا أن نأخذ هذا المعنى في تفسير الصحّة حتّى يكون التعريف تعريفاً مطابقاً لما في الواقع ومساعداً للاعتبار وطبيعة الحال ، ولذلك نقول : الصحيح ما يترتّب على تركيب أجزائه وانسجامها الأثر المطلوب المترتّب منه فالصلاة المركّبة من الركوع والسجود والتكبير والتسليم مع الطهارة واستقبال القبلة أمر وحداني في نظر الشارع المقدّس يراد منه تحقيق أثر خاص عند اجتماعها سواء كان النهي عن الفحشاء والمنكر أو غيره ، وهكذا الصّيام وغيره.

إن قلت : من أين نفهم أنّ هذا المركّب يحقق الأثر المطلوب منه؟ فلا سبيل إليه إلاّمن طريق جامعيّته للأجزاء والشرائط فمآل الأمر إلى ما جاء في التعريف الرابع.

قلنا : محلّ البحث في المقام إنّما هو مقام الثبوت ، والمعيار فيه هو ترتّب الأثر المرغوب ، نعم في مقام الإثبات قد لا نعلم بذلك ولا طريق لنا إليه إلاّمن ناحية الجامعية للأجزاء والشرائط. وهذا شيء آخر لا دخل له بأصل المعنى.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان ، فيختلف شيء واحد صحّة وفساداً بحسب الحالات المختلفة الطارئة عليه ، فيكون تامّاً بحسب حالة وفاسداً بالنسبة إلى

١٠٥

حالة اخرى كالصّلاة الرباعيّة ، فإنّها صحيحة بالنسبة إلى الحاضر وفاسدة للمسافر إلى غير ذلك من الأمثلة.

الأمر الرابع : بناءً على تعريف الصحّة بالجامعيّة هل تكون الشرائط أيضاً داخلة في المسمّى عند الصحيحي أو لا؟

لا إشكال في دخول الأجزاء في المسمّى عنده ، وأمّا الشرائط فهي على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما أخذ في المأمور به كالطهارة والاستقبال.

ثانيها : ما لم يؤخذ في المأمور به ولكن نفهمه من الخارج من دليل العقل وإن كان أخذه في المأمور به شرعاً أيضاً ممكناً ولكنّه لم يؤخذ ، فلا يلزم من أخذه محذور ، مثل شرط عدم ورود النهي وعدم الابتلاء بالضدّ.

ثالثها : ما لا يمكن أخذه في المأمور به شرعاً نحو قصد القربة على قول المشهور من استلزام أخذه الدور المحال ( وسيأتي في مبحث التوصّلي والتعبّدي إن شاء الله أنّ المختار إمكان أخذه بلا محذور فانتظر ) وقد ذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله ( بناءً على ما حكي عن تقريراته ) إلى عدم أخذ جميع هذه الأقسام في المأمور به عند الصحيحي ، فصحيح هو ما كان تامّ الأجزاء ، ولا يلاحظ الشرائط مطلقاً وذلك لتأخّرها عن الأجزاء رتبة فإنّ الأجزاء بمنزلة المقتضي للأثر ، والشرائط معدّات لها فلا يمكن أخذها في المسمّى في عرض الأجزاء.

لكنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّ تأخّر الشرائط عن الأجزاء بحسب الوجود لا ربط له بمقام التسمية ، فإنّه لا مانع في هذا المقام من الجمع بين لحاظ المتقدّم في الوجود ولحاظ المتأخّر فيه ثمّ وضع الاسم عليهما معاً كما لا يخفى.

وهذا بالنسبة إلى القسم الأوّل من الشرائط أمر واضح ، أمّا القسم الثاني فقد يقال أنّه حيث لم يؤخذ في المأمور به في لسان الشارع فلا يصحّ أخذه في المسمّى أيضاً ، لأنّ أخذه في المسمّى مع عدم كونه مأموراً به يستلزم تعلّق أمر الشارع بما ليس مأموراً به.

ولكن يرد عليه أنّ عدم الأخذ في المأمور به وإطلاقه بحسب الظاهر لا يلازم عدم الأخذ في المسمّى والمأمور به بحسب الواقع ، لأنّ إطلاقه الظاهري مقيّد في الواقع بدليل العقل ، فالمأمور به واقعاً مقيّد بعدم ورود النهي عنه مثلاً ، لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي على الفرض بحكم العقل ، فالقسم الثاني يرجع إلى القسم الأوّل بحسب الواقع ، وعليه فلا وجه لما ورد في

١٠٦

المحاضرات من أنّ دخل هذا القسم في المسمّى واضح البطلان.

كما يظهر منه ضعف ما أفاده في تهذيب الاصول حيث قال : « بعد ما عرفت من أنّ الموضوع له ليس عنواني الصحيح والأعمّ يمكن أن يقال إنّ الشرائط ليست على نسخ واحد بل بعضها من قيود المسمّى بحيث ينحلّ المسمّى إلى أجزاء وتقيّدات ، وبعضها الآخر من شروط تحقّق المسمّى خارجاً ، ولا دخالة له في الماهيّة ، أو من موانع تحقّقه في الخارج من دون أن يكون عدمه دخيلاً في الماهيّة أيضاً ، ولا يبعد أن يكون ما يأتي من قبل الأمر من شروط التحقّق ، كما أنّ الشرائط العقليّة مثل عدم ابتلائه بالضدّ وعدم كونه منهيّاً عنه من قبيل نفي موانع التحقّق فهما غير داخلين في الماهيّة وخارجان عن محلّ البحث والنزاع ... والمسألة بعد لا تخلو عن غموض وإشكال » (١).

أقول : الظاهر أنّه لا فرق بين هذه الأقسام أيضاً ( قيود الماهية وشروط تحقّقها في الخارج ) لا سيّما بعد ما عرفت من أنّ الموضوع له على القول بالصحيح هو المؤثّر للآثار المطلوبة ، ومن الواضح أنّ انعدام كلّ واحد من هذه الشرائط يوجب نفي الأثر فلا يكون مصداقاً للصحيح ، فالصلاة الفاقدة لقصد القربة أو المنهي عنها لبعض الجهات لا يترتّب عليها ما هو المقصود منها ، فلا تسمّى صلاة شرعاً فلا يبقى وجه للفرق بين شروط الوجود والماهيّة ، بل قصد القربة من مقدّمات العبادة ، فأخذها فيها أظهر من كلّ شرط وجزء.

وإن شئت قلت : إنّ القسم الثاني والثالث في الحقيقة يرجعان إلى القسم الأوّل ، مثلاً إن قصد القربة في القسم الثالث وإن كان لا يمكن أخذه في المأمور به شرعاً على مذاق القائلين به إلاّ أنّه لا إشكال في أنّه متبادر من العبادة وبه قوامها ، فكيف لا يكون داخلاً في مسمّاها؟ كما أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم وعدم ورود النهي عنها ( وبعنوان كلّي عدم المانع ) في القسم الثاني يرجعان إلى قصد القربة ومحكومان بحكمه.

نعم يمكن أن يقال إنّ الشرائط مختلفة بحسب دخلها في التأثير بالقوّة أو بالفعل ، مثلاً إذا صنع الطبيب معجوناً من عشرة أجزاء وسمّاها بالسقمونيا ، فكان من شرائط تأثيره بالقوّة أن يكون مائعاً مثلاً ، فإذا يبس بطل تأثيره فيقال إنّه فاسد ، فالأجزاء العشرة كلّها داخلة في

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٥١ ، طبع مهر.

١٠٧

المسمّى على قول القائلين بالصحّة ، كما أنّ اشتراط كونه بحال الميعان أيضاً داخل في مسمّى الصحيح لعدم الأثر في جامده.

ولكن هناك شرائط لفعليّة تأثيره مثل لزوم شربه قبل الغذاء أو بعده ، كما أنّ هناك موانع من تأثيره بالفعل مثل الاجتناب عن بعض الأغذيّة كالملح والدسوم واللحوم مثلاً ، ولا شكّ أنّ أمثال هذه الامور من الشرائط والموانع خارجة عن مسمّى ذاك المعجون وإن كانت دخلية في فعليّة تأثيره.

ولكن الظاهر أنّ الطهارة والاستقبال وقصد القربة وعدم الابتلاء بالضدّ وأمثال ذلك كلّها من القسم الأوّل ، ولا نجد في العبادات مصداقاً للقسم الثاني ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ الإيمان شرط لصحّة العمل ولكن ليس دخيلاً في مسمّى الصّلاة والصّيام والحجّ ، فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس : تصوير القدر الجامع من أهمّ المقدّمات وله دور رئيسي في حلّ مشكلة مبحث الصحيح والأعمّ.

لا إشكال في أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات كالصّلاة والبيع ليست من المشترك اللّفظي بالنسبة إلى أفرادها ومصاديقها الكثيرة بل إنّها من قبيل المشترك المعنوي ، وحينئذٍ لا يخفى لزوم تصوّر قدر جامع لافرادها ومصاديقها حتّى يوضع اللّفظ بإزائه ، كما لا إشكال في أنّ الصحيحي والأعمّي فيه سيّان ، ولذلك وقع كلّ منهما في حيص وبيص لوجود إشكالين في بيان القدر الجامع :

الإشكال الأوّل : كثرة أفراد العبادات والمعاملات واختلافها من حيث أجزائها وشرائطها.

الإشكال الثاني : صحّة صدق كلّ واحد من أسامي العبادات والمعاملات على كلّ فرد منها ، فيصحّ إطلاق اسم الصّلاة مثلاً على فاقد كلّ جزء وعلى واجده ، وهو يستلزم كون كلّ جزء جزءً عند وجوده ، وعدم كونه جزءً عند فقدانه ، فيستلزم كونه مقوّماً للصّلاة عند وجوده ، غير مقوّم لها عند عدمه ، ولازم هذا تبدّل الماهية ، أي تفاوت الأفراد في الماهية ، وهو مانع عن تصوير جامع بينها كما لا يخفى ، وبعبارة اخرى : الصّلاة التي يؤتى بها عن قيام أو مع الركوع والسجود يكون القيام والركوع والسجود أجزاءً لها ، ولكن إذا أتى بها عن جلوس ومع الايماء أو بلا إيماء عند عدم القدرة عليه لا تكون هذه الامور جزءً لها ، وهذا ممّا لا يقبله العقل

١٠٨

ولا يمكن معه أخذ الجامع بين هذه الأفراد.

وسيوافيك إنّ كلّ واحد من الصحيحي والأعمى يتّهم صاحبه بعدم تصويره ووجدانه قدراً جامعاً مع أنّ له دوراً رئيسيّاً في حلّ المسألة كما أشرنا إليه.

إذا عرفت هذا.

فنقول : قد ذكر في كلمات الصحيحيين عناوين مختلفة للقدر الجامع فنذكرها أوّلاً ثمّ نبحث عمّا ذكره الأعمّي :

أحدها : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله قال : « لا إشكال في وجوده ( القدر الجامع ) بين الأفراد الصحيحة وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره ، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه بذاك الجامع ، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصّلاة مثلاً بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما ـ ثمّ قال ـ في جواب بعض الإشكالات إنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد ( بسيط ) منتزع عن هذه المركّبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات ».

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّ أساس كلامه في المقام قاعدة الواحد ، وفيها ما مرّ من اختصاصها عند القائلين بها بالواحد الحقيقي البسيط من جميع الجهات ، فلا تجري في الماهيّات الاعتباريّة مثل الصّلاة والصّوم التي تكون وحدتها اعتباريّة.

ثانياً : أنّه خلاف الوجدان والمتبادر العرفي ، لأنّه إذا اطلقت الصّلاة لا ينسبق إلى الذهن إلاّ تلك الأركان أو الأعمال المخصوصة والمركّب الخارجي من الأجزاء ، لا الأمر البسيط المذكور في كلامه.

ثانيها : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله بعد اشكاله على جميع ما ذكره الأعمّي والصحيحي وحاصله : إنّ القدر الجامع في الصّلاة مثلاً هو المرتبة العليا من مراتبها ، وأمّا إطلاقها على المراتب الدانيّة فإمّا أن يكون بنوع من الادّعاء والتنزيل ، أي تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، فإطلاق الصّلاة على صلاة من يأتي بها جالساً يكون بتنزيلها منزلة صلاة القائم ، أو لاكتفاء الشارع بها عن الصّلاة الكاملة كما في صلاة الغريق ، وهذا لا يختصّ بالصحيحي بل هو عند الأعمّي كذلك ، فإنّ القدر الجامع عنده أيضاً هو المرتبة العليا من الصّلاة وإطلاقها على الفاسد

١٠٩

منها يكون بتنزيله منزلة الصحيح (١). ( انتهى ).

ويرد عليه : أوّلاً : أنّ المرتبة العليا أمر مجهول مبهم ، فهل هي الصّلاة الرباعيّة أو الثلاثيّة أو الثنائيّة؟ فإنّ المرتبة العليا في كلّ واحد منها غيرها في الآخر.

وثانياً : أنّه أيضاً خلاف الوجدان والمتبادر العرفي ، لأنّ إطلاق الصّلاة على المأتي بها جالساً إطلاق حقيقي ، فهي صلاة حقيقة لا مجازاً وادّعاءً.

وثالثاً : إنّه يستلزم عدم ترتّب ثمرة إمكان التمسّك بالإطلاق وعدمه على النزاع بين الصحيحي والأعمى ، وهذا ممّا لا يلتزم به المشهور ، فتأمّل.

ثالثها : ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الجامع هو مرتبة من الوجود ، المحدود من طرف القلّة بكونه جامعاً للأركان كلّها ، والملحوظ من طرف الزيادة بنحو اللابشرط بحيث يشمل الأقلّ والأكثر.

توضيح كلامه : إنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة ليس جامعاً مقوليّاً ولا جامعاً عنوانيّاً بل هو جامع وجودي ، أمّا عدم كونه جامعاً مقوليّاً فلكون الصّلاة مثلاً من مقولات مختلفة ، فإنّ بعض أجزائها نحو الأذكار من مقولة الكيف المسموع ، وبعضها الآخر نحو الركوع والسجود من مقولة الوضع وهكذا ، وحيث إنّ المقولات من الأجناس العالية لا جنس فوقها فلا يمكن تصوّر جامع بينها ، وأمّا عدم كونه جامعاً عنوانيّاً نحو عنوان « الناهي عن الفحشاء والمنكر » فلأنّه خلاف الوجدان حيث إنّ الوجدان حاكم على أنّ الصّلاة اسم لنفس الأجزاء لا لعنوان الناهي فلابدّ من جامع وجودي وهو في الصّلاة مثلاً مرتبة من الوجود شاملة لأركان الصّلاة من جانب القلّة وتكون بنحو اللابشرط من جانب الكثرة.

ثمّ أورد على نفسه :

أوّلاً : بأنّ لازم هذا وجود قدر جامع في الأركان مع أنّه لا جامع فيها أيضاً فإنّه لا جامع مثلاً بين الانحناء من حال القيام والايماء بالنسبة إلى الركوع.

وثانياً بأنّ لازم كون الجامع المذكور لا بشرط في جانب الكثرة صدق الصّلاة على الصّلاة الفاسدة من ناحية غير الأركان أيضاً ، وهو مخالف للقول بالصحيح.

وتخلّص عن الأوّل بأنّ المراد من الأركان نفس الأركان وأبدالها ، وعن الثاني بإضافة قيد

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٣.

١١٠

« مع كونه مقروناً بالخصوصّيات والإضافات من جانب الشارع ».

هذا تمام ما أفاده قدس‌سره الشريف في هذا المقام.

لكن يرد عليه :

أوّلاً : أنّ الجامع هذا يستلزم عدم كون الصّلاة مثلاً من الماهيّات المتساوية نسبتها إلى الوجود والعدم ( لكونها مقيّدة بالوجود على الفرض ) فلا يصحّ قولك : « لم يتحقّق اليوم صلاة » مع أنّه واضح البطلان فتأمّل.

وثانياً : أنّ معنى اللابشرط في كلامه أن يكون الجزء عند وجوده داخلاً في المسمّى وعند عدمه خارجاً عنه ، وهو خلاف ما قرّر في محلّه من أنّ معنى اللابشرط في ماهيّة بالنسبة إلى أمر عدم مزاحمته في صدق تلك الماهية لا كونها جزءً للماهية عند وجوده ، مثلاً إذا قلنا : « صدق مفهوم زيد على مصداقه يكون لا بشرط من حيث كون عمرو معه وعدمه » ليس معناه إنّه إذا كان عمرو معه صدق اسم زيد على كليهما بل معناه إنّه لا يزاحم صدق زيد على ذاك الشخص بعينه ، مع أنّ من الواضح أنّ غير الأركان إذا وجدت كان من أجزاء الصّلاة وداخلاً في مصداقه.

وثالثاً : سلّمنا ، ولكنّه مختصّ بالماهيات التي تعلّقت على خصوصيّاتها ومزاياها أوامر من جانب الشارع وصدر من جانبه بيان فيها ، فلا يجري في أبواب المعاملات والموضوعات المخترعة العرفيّة مع أنّه لا إشكال في أنّ النزاع بين الصحيحي والأعمى جارٍ فيها أيضاً.

رابعها : ما ذهب إليه في تهذيب الاصول وإليك نصّ كلامه : « إنّها ( أي المركّبات الاعتباريّة ) وضعت لهيئة خاصّة مأخوذة على نحو اللابشرط فانيّة فيها موادّها الخاصّة من ذكر وقرآن وركوع وسجود تصدق على الميسور من كلّ واحد ، وهيئتها صورة إتّصالية خاصّة حافظة لمادّتها أُخذت لا بشرط في بعض الجهات » (١).

ويرد عليه أيضاً :

أوّلاً : أنّ هذا الجامع مبهم جدّاً ، بل مبهم في مبهم كما لا يخفى فكيف يمكن تصوّره ووضع اللفظ له؟

وثانياً : ما مرّ آنفاً بالنسبة إلى قيد اللابشرط في مقام ردّ كلام بعض الأعلام من أنّ حيثية

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٥٧ طبع مهر.

١١١

لا بشرط في ماهية بالنسبة إلى أمر معناها عدم مزاحمته في صدق تلك الماهية لا كونها جزءً لها كما مرّ بيانه.

خامسها : ما ذكره في هامش أجود التقريرات وحاصله : إنّه لا بدّ في تسميّة كلّ شيء من الرجوع إلى مخترعه ، وهو في ما نحن فيه الشارع المقدّس الذي قال : « الصّلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم » وقال أيضاً : « الصّلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود وثلثها الطهور » فما اعتبره الشارع في هذه الرّوايات يكون من أجزاء المسمّى وأمّا غير ذلك من الأجزاء والشرائط فيكون المسمّى بالنسبة إليها على نحو اللابشرط (١).

أقول : قد ظهر ممّا ذكرنا كلّه ضعف كلامه أيضاً ، حيث يرد عليه أوّلاً : ما مرّ في تفسير حيثية لا بشرط.

وثانياً : أنّ هذا الجامع أيضاً لا يتصوّر في المخترعات العرفيّة التي ليس لها مخترع خاصّ حتّى نرجع إليه في التسمية.

وثالثاً : أنّ لازم كلامه بطلان صلاة من لم يأت بالتسليم سهواً لأنّ المفروض في كلامه إنّ التسليم جزء للمسمّى فلا تكون صلاة من لم يأت بالتسليم صلاة وهو أوّل الكلام ، وبعكسه من ترك القيام مطلقاً حتّى القيام المتّصل بالركوع ، إلاّ أنّ صلاته باطلة وإن كان ساهياً.

المختار في الجامع الصحيحي :

إذا عرفت إنّه لا يمكن الموافقة لما ذكره الأعلام في المقام فنقول : الصحيح في تشخيص القدر الجامع إنّما هو الرجوع إلى الآثار المترتّبة على الماهيات فإنّها قطب الرحى الذي يدور عليه مدار التسمية في العرف والشرع.

توضيحه : أنّ المركّبات الشرعيّة تكون على وزان المخترعات العرفيّة ، فلابدّ لمعرفتها من تشريح المخترعات العرفيّة وتفسيرها ، ولا ريب أنّ المخترعات العرفيّة تدور غالباً مدار الأثر ، فالساعة مثلاً من مخترعات العرف والأثر المطلوب منها إنّما هو تعيين الأوقات ولا دخل لمادّة

__________________

(١) هامش أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٠.

١١٢

خاصّة بل لهيئة خاصّة في الحصول على هذا الأثر ، ولذلك نرى تغييرها من مادّة إلى مادّة وهيئة إلى هيئة ( فتبدّلت الساعة الرملية مثلاً إلى المائيّة ثمّ إلى الرقّاصيّة ثمّ إلى الكهربائيّة ) مع ثبوت الأثر المرغوب منها ( وهو تعيين الوقت ) وثبوت الاسم الموضوع عليها أوّلاً وهو اسم « الساعة » ، وهكذا بالنسبة إلى سائر المخترعات نظير المصباح والسيارة والبناء ، فإنّ ثبات هذه الأسامي مع التغيير الكثير في المادّة والهيئة من جميع الجهات يوحي إلينا أنّ ملاك التسمية في هذه المخترعات إنّما هو الآثار والخواصّ المطلوبة منها ، وحيث إنّ الأثر كان ثابتاً وباقياً على حاله بقى الاسم كذلك.

وإن شئت قلت : كما أنّ منشأ الاختراع والمحرّك نحوه يكون هو الأثر المطلوب منه والمترتّب عليه ، كذلك في التسمية ، فيلاحظ فيها ذلك الأثر من دون دخل لمادّة أو هيئة خاصّة.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ وزان المخترعات الشرعيّة وزان المخترعات العرفيّة ، فإنّ الشارع مع ملاحظته الآثار والخواصّ وضع الأسماء لمعانيها ففي الصّلاة مثلاً نظر إلى أثر النهي عن الفحشاء والمنكر مثلاً أو شيء آخر وجعل لفظة الصّلاة لكلّ مجموعة توجب هذا الأثر ، سواء كانت صلاة المريض أو الصحيح أو كانت صلاة المسافر أو الحاضر أو صلاة الغريق أو غيرها ، فلا مانع من إطلاق الصّلاة حتّى على صلاة الغريق إذا تحقّق بها ذلك الأثر ، كما أنّه لا دخل للمعرفة بهذا الأثر بعينه والعلم به تفصيلاً بل يكفي العلم إجمالاً بأنّ صدور هذه المجموعة العباديّة من الشارع كان لأثر خاصّ ومصلحة خاصّة ، فالفرق بينها وبين المركّبات العرفيّة أنّ الأثر الذي يدور عليه رحى التسمية معلوم مشهور ولكن أثر العبادات غير معروف لنا إلاّ بمقدار ما بيّنه الشارع ، فهو العالم بترتّبه على أفرادها بعرضها العريض.

نعم يمكن أن يكون لهذا الأثر مراتب مختلفة بعدد مصاديق للصّلاة مختلفة نظير مراتب النور في الأفراد المختلفة للمصباح ، ولكن هذا التفاوت الرتبي لا يضرّ بالاطلاق والتسمية ، فلو كان كلّ صلاة صحيحة من كلّ إنسان يترتّب عليها بعض مراتب النهي عن الفحشاء بنظر الشارع المقدّس كفى في إجرائه التسمية على جميعها. فقد ظهر إنّ القدر الجامع في المقام يدور على أساس وحدة الأثر ، فهو في كلّ عبادة مجموعة من الأجزاء والشرائط التي توجب الأثر المترقّب منها بنظر الشارع المقدّس.

١١٣

هذا هو المختار في المسألة ولكن يرد عليه في بدو النظر أربع إشكالات لا بدّ من الجواب عنها :

١ ـ في الفرق بينه وبين مختار المحقّق الخراساني رحمه‌الله فلقائل أن يقول : إنّه لا فرق بينهما فإنّه رحمه‌الله أيضاً جعل القدر الجامع ما يوجب النهي عن الفحشاء.

أقول : إننا لا نأبى عن الاقتداء بهؤلاء الأعاظم فيما لو كان المراد واحداً ، ولكن بينهما بوناً بعيداً ، لأنّ المحقّق رحمه‌الله جعل المسمّى أمراً بسيطاً تمسّكاً بقاعدة الواحد بينما نحن نقول : إنّ المسمّى أمر مركّب من مجموعة من الأجزاء توجب ذلك الأثر ، كما في مثال السراج وغيره.

٢ ـ في الفرق بينه وبين ما أفاده في تهذيب الاصول المذكور سابقاً.

وجوابه إنّه صرّح بأنّ المسمّى هيئة خاصّة فانيّة في الموادّ مأخوذة على نحو اللابشرط ، مع أنّ المختار إنّ الهيئة أيضاً لا خصوصيّة لها كالمادّة ، وإنّما الخصوصيّة للآثار ، وبعبارة اخرى : إنّ مدار التسمية ( على المختار ) إنّما هو الأثر ، ولا أثر منه في كلامه.

٣ ـ ما يمكن أن يقال : بأنّ هذا مبنيّ على ما إذا كان لجميع أنواع الصّلاة أثر واحد لا ما إذا كان لكلّ واحد منها أثر يخصّه.

وجوابه : أنّ تفاوت آثار الصّلاة دعوى بلا برهان وقول بلا دليل ، نعم يمكن أن يكون من قبيل تفاوت أنوار المصابيح شدّة وضعفاً ولوناً وهيئة مع أنّ جميعها تشترك في نفي الظلمة.

٤ ـ إنّ لازمه القول بالاشتغال في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيين لأنّ الشكّ فيه ( بناءً على دخالة الأثر في المسمّى ) يرجع إلى الشكّ في المحصّل.

والجواب عنه : أنّ الأسباب الشرعيّة على قسمين : قسم منها ما نعلم بمسبّباتها ويمكن لنا تحصيلها والوصول إليها ولذلك نكون مكلّفين بإيجادها ، فلا إشكال في أنّ الأصل فيها هو الاشتغال ، لأنّ الذمّة اشتغلت بالمسبّبات قطعاً وهو يقتضي البراءة اليقينية ، وقسم لا يمكن فيه تحصيل المسبّبات لكونها محجوبة عنّا ، فالقرينة العرفيّة قائمة هنا على أنّا غير مكلّفين بها بل نكون مأمورين بإتيان الأسباب فقط ، ومن المعلوم أنّ بيان الأسباب حينئذٍ على عهدة الشارع وأنّ الواجب على المكلّف إتيانها بمقدار ذلك البيان ، فإذا شككنا في جزئيّة شيء مثلاً تجري أصالة البراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وإن كان المأمور به من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، مثلاً إذا كان المولى طبيباً فإخترع معجوناً لدفع بعض الأمراض وسمّاه بإسم

١١٤

خاصّ بملاحظة ذاك الأثر ، ولم يكن للعبد خبرة بأمر الطب أصلاً فحينئذٍ لا معنى لأمره بتحصيل ذاك الأثر ، بل العرف يرون بيان أجزاء المعجون وشرائطه من وظائف المولى ، وعند عدم البيان يحكمون بالبراءة ، وسوف يأتي في محلّه مزيد توضيح لهذا فإنتظر.

هذا تمام الكلام في تصوير القدر الجامع بناءً على مسلك الصحيحي.

تصوير الجامع للأعمّي :

وأمّا تصويره على مسلك الأعمّي فقد ذكر له وجوه خمسة :

الوجه الأوّل : أن يكون عبارة عن الأركان ، فالصلاة مثلاً وضعت لما اشتملت على الأركان.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان في مثل الصّلاة ، لأنّ التسمية بالصّلاة لا يدور مدار الأركان بل قد يكون تمام الأركان موجودة ، ومعه لا يصحّ إطلاق الصّلاة كما إذا أخلّ بسائر الأجزاء والشرائط مثل القبلة والطهارة والتشهّد والسلام ، كما أنّه قد لا يكون تمام الأركان موجودة ولكن يطلق على المأتي به عنوان الصّلاة ( بالمعنى الأعمّ ) كما إذا أخلّ مثلاً بالركوع فقط.

وثانياً : أنّه يستلزم كون إطلاق الصّلاة على ما اشتملت على جميع الأجزاء والشرائط مجازاً من باب استعمال ما وضع للجزء في الكلّ.

إن قلت : يمكن دفعه بأنّ الأركان أخذت في المسمّى لا بشرط بالنسبة إلى سائر الأجزاء ، فلا يكون إطلاق الصّلاة على ما اجتمعت فيها الأركان مجازاً.

قلنا : قد مرّ أنّ معنى لا بشرط أنّ سائر الأجزاء لا يضرّ بصدق الصّلاة على المسمّى وجوداً وعدماً وليس معناه إنّها جزء للمسمّى على فرض وجودها ، مع أنّ من الواضح صدق الصّلاة على جميع الأجزاء على فرض وجودها.

إن قلت : إنّ غير الأركان الداخلة في المأمور به خارجة عن المسمّى.

قلت : هذا أمر عجيب لعدم الشكّ لأحد في صدق الاشتغال بالصّلاة إذا كان مشتغلاً بالقراءة أو التشهّد مثلاً.

١١٥

كما أنّ قول بعض الأعلام ، في ما نحن فيه بأنّه « لا استحالة في دخول شيء في مركّب اعتباري عند وجوده وخروجه عند عدمه إذا كان ما أخذ مقوّماً للمركّب مأخوذاً فيه لا بشرط » (١) لا يخلو من نوع من التناقض لأنّ تركّب المسمّى من خصوص سبعة أجزاء ضمن عشرة أجزاء مثلاً وكونه لا بشرط بالنسبة إلى ثلاثة أجزاء اخرى معناه أنّ الأجزاء في مثل الصّلاة سبعة وأنّ الثلاثة الاخرى ليست بجزء ، وكون الثلاثة جزءً للصّلاة حال وجودها وخارجة عنها حال عدمها معناه أنّ أجزاء المسمّى ليست بسبعة بل إنّها عشرة ، وهذا هو التناقض ، وما يظهر من كلام المحاضرات (٢) ( كما أشار إليه فيما نقلناه عنه من تعليقته على أجود التقريرات ) من أنّ هذا ممكن في الامور الاعتباريّة دون الامور الحقيقيّة ( ومثّل له بالدار فإنّ قوامها هو الحيطان والساحة والغرفة ، وأمّا السرداب فيكون جزءً عند وجوده ولا يكون جزءً عند عدمه ) أيضاً عجيب ، فإنّ التناقض غير ممكن لا في الامور الحقيقيّة ولا في الاعتباريّة ، والمسمّى الواحد يحتاج إلى قدر جامع بحيث يكون غيره خارجاً عنه زائداً عليه ، وأمّا كون الشيء داخلاً فيه عند وجوده وخارجاً عنه عند عدمه معناه أنّه جزء وليس بجزء وأنّ القدر المشترك واحد وليس بواحد ، أمّا مثال الدار والسرداب فهو من قبيل المصادرة بالمطلوب ، وأمّا تعيين السعر حين الدعوى ، فإنّ الكلام هنا في حلّ هذه المشكلة وأنّه كيف يكون السرداب جزءاً لمسمّى الدار حين وجوده ولا يكون جزءً حين عدمه؟

وثالثاً : بأنّه أخصّ من المدّعى لعدم تصوّر الأركان في بعض العبادات كالصوم.

ورابعاً : بأنّ اصطلاح الأركان اصطلاح مستحدث في الفقه ولا يوجد في لسان الشرع شيء بهذا الاسم وأنّها أربعة أو خمسة ، نعم قد ورد في جملة من الأخبار : « إنّ الصّلاة لا تعاد من خمسة ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » (٣) و « إنّ فرائض الصّلاة سبع : الوقت والطهور والتوجّه والقبلة والركوع والسجود » (٤) و « إنّ حدود الصّلاة أربعة : معرفة

__________________

(١) هامش أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤١.

(٢) المحاضرات : ج ١ ، ص ١٦٠.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٤ ، من أبواب أفعال الصّلاة الباب ١ ، ح ١٤.

(٤) المصدر السابق : ح ١٥.

١١٦

الوقت والتوجّه إلى القبلة والركوع والسجود » (١). ولا يخفى أنّ بعضها غير الأركان المصطلحة عند الفقهاء.

اللهمّ إلاّ أن يقال : ليس الكلام في اسم الأركان ، وإنّما الكلام في مسمّاها وهو ما تبطل الصّلاة بزيادته ونقيصته وهو موجود في روايات الباب.

الوجه الثاني : أن يكون الجامع عبارة عن معظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفاً ، ولا يخفى أنّ صدق الاسم عرفاً يكشف عن وجود المسمّى كما أنّ عدم صدقه عرفاً يكشف عن عدم وجود المسمّى.

وأورد عليه :

أوّلاً : بأنّه يستلزم كون الاستعمال في المجموع مجازاً ، وهو ممّا لا يرضى به الأعمّي ، وأمّا قضيّة اللابشرطيّة بالنسبة إلى الأكثر فقد مرّ ما فيها من المناقشة.

وثانياً : بأنّه يستلزم أن يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى من أجزاء إلى أجزاء فيكون شيء واحد داخلاً فيه تارةً وخارجاً عنه اخرى ، لأنّ معظم الأجزاء ليست أمراً ثابتاً في جميع أنواع الصّلاة كما لا يخفى.

هذا إذا كان المراد من معظم الأجزاء مصداقه ، ولو كان المراد مفهومه وعنوانه فيرد عليه أنّه خلاف الوجدان ، فإنّه لا يتبادر من الصّلاة عنوان معظم الأجزاء بل مصداقها ، أعني الأركان والأفعال.

الوجه الثالث : أن يكون وضعها ( الصّلاة ) كوضع الأعلام الشخصيّة كزيد ، فكما لا يضرّ تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء وزيادته في صدق لفظ زيد على معناه ، كذلك في مثل الصّلاة.

أقول : لا بدّ من البحث أوّلاً في كيفية الوضع في الأعلام الشخصيّة ، وثانياً في صحّة قياس الوضع في المقام على الوضع فيها.

فنقول : قد وقع النزاع بين الأعلام في ما وضع له الأعلام الشخصيّة ، فقد يقال بأنّها وضعت للنفس الناطقة المتشخّصة بتشخّصٍ مّا ، مثل كونها الابن الأوّل لزيد ، أي أنّها وضعت للنفس

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٤ ، من ابواب أفعال الصلاة ، الباب ١ ، ح ١٧.

١١٧

الناطقة المتعلّقة بالبدن ، وحيث إنّ النفس باقية مع تبادل الحالات البدنيّة يكون صدق العلم أيضاً باقياً على حاله.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ الأعلام ليست منحصرة في الإنسان حتّى يقال إنّها وضعت للنفس الناطقة بل إنّها تتصوّر في غيره من الأبنية والحيوانات أيضاً كـ « المسجد الأعظم » و « مدرسة الإمام أمير المؤمنين » و « ذو الفقار » و « ذو الجناح ».

وثانياً : الواضح في الأعلام هو العرف العامّ وهم لا يفهمون من النفس الناطقة شيئاً.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ كثيراً من المادّيين منكرون لوجود النفس في الإنسان ويعتقدون بأنّ الإنسان ليس إلاّهذا البدن المادّي مع أنّهم أيضاً يضعون لأبنائهم أسماء ويجعلونها أعلاماً لهم ، ولا يخفى أنّ هذا أيضاً من ثمرات خلط المسائل العرفيّة بالمسائل الفلسفية!

وقال بعض : أنّها وضعت للوجود الخاصّ المتشخّص ، فزيد مثلاً وضع لحصّة من الوجود الذي تولّد من أب خاصّ وامّ خاصّة في مكان معيّن وزمان مشخّص ، ولا إشكال في أنّ هذا المعنى من الوجود لا يتغيّر أبداً على مرّ الدهور ومضي الأعصار ، هذا في الإنسان ، وكذلك في سائر الأعلام فإنّ الكوفة مثلاً وضعت لمّا بنى في قطعة خاصّة من الأرض ويكون متشخّصاً بتشخّص تلك القطعة ، وهذا هو المختار.

إن قلت : إنّ لازمه كون الموضوع في الأعلام حصّة خاصّة من الوجود لا الماهية بينما هي وضعت للماهيات المتشخّصة ، ولذلك يحمل عليها الوجود تارةً والعدم اخرى ويقال مثلاً : لم يكن زيد موجوداً فصار موجوداً.

قلنا : سيأتي إن شاء الله من أننا نعتقد بأنّ الموضوع له في جميع الألفاظ المستعملة في لسان العرف هو الوجود ( وما مرّ منّا سابقاً من أنّها وضعت للماهية كان مبنيّاً على مذاق المشهور ) ويكون إطلاقها على المعدوم بضرب من التوسّع في المفهوم نظير إطلاق « العالِم » على ذات الباري تعالى ( الذي علمه عين ذاته ) مع أنّه وضع لذات ثبت لها العلم ، ونظير اعتباره تعالى مفرداً مذكّراً في الكلام مع أنّ التذكير والتأنيث من خصوصّيات الممكن ، ويشهد لما ذكرنا كونه مقتضى حكمة الوضع ، لأنّ مراد الواضع من وضعه رفع الحاجات الاعتياديّة اليوميّة التي ترتفع بالوجودات الخارجيّة ( لأنّه منشأ كلّ أثر ) فإنّه يرى في حياته الاعتياديّة الشمس مثلاً

١١٨

ويحتاج إلى لفظ يشير به إليها ، فيضع لفظ الشمس لمّا رآها من وجودها في الخارج ، وكذلك بالنسبة إلى البحر والشجر والماء والخبز وغيرها.

نعم بين الأعلام الشخصيّة وغيرها فرق ، وهو أنّ الأعلام وضعت لشخص المعنى الخارجي ، وأمّا غيرها كلفظ الشجر والبحر فقد وضعت لوجوده الواسع ، ومن هذا القسم ألفاظ العبادات والمعاملات.

وإذا عرفت هذا يظهر لك أنّ قياس الألفاظ الموضوعة للأشخاص بألفاظ العبادات قياس مع الفارق ، لأنّ الأعلام وضعت للأشخاص ، والشخص لا يتغيّر ، بينما الصّوم والصّلاة ونظائرهما من أعلام الأجناس فإنّها تتغيّر بتغيّر الحالات.

الوجه الرابع : أنّها وضعت ابتداءً للكامل الواجد لجميع الأجزاء والشرائط إلاّ أنّها تطلق على الناقص تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد على نحو المجاز في الأمر العقلي ، أو المجاز في الكلمة ، أو لصيرورتها حقيقة فيه لكثرة الاستعمال كما في أسامي المعاجين حيث إنّها وضعت للواجد لجميع الأجزاء والشرائط لكن ربّما تطلق على الناقص من ناحية فقدان جزء من الأجزاء أو تبدّله إلى الآخر لأحد هذه الوجوه الثلاثة ، والعمدة على مذهب الأعمى هو الثالث.

ويرد عليه : بأنّه يتمّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة لا في ما نحن فيه ، لأنّه لا يتصوّر حدّ كامل مشخّص للصّلاة مثلاً ، لأنّه في بعض الصّلوات ركعتان ، وفي بعض آخر ثلاث ركعات ، وفي بعضها أربع ركعات.

ولكن يمكن دفعه :

اوّلاً : بأنّ الصّلاة ابتداءً وضعت لصلاة الحاضر المختار اليوميّة المركّبة من أربع ركعات ، ثمّ استعمل في الركعتين أو ثلاث ركعات مجازاً ، فتأمّل ، فإنّ الالتزام بكونها مجازاً في صلاة الصبح أو المغرب مشكل جدّاً.

والعمدة في الإشكال على هذا القول أنّ استعمالها في الناقص إمّا يكون على نحو المجاز أو على نحو الحقيقة ، والمجاز ممّا لا يرضى به الأعمى سواء كان مجازاً في الكلمة أو في الأمر العقلي ، لأنّه قائل بالحقيقة ، وأمّا الحقيقة فهي لا تخلو من نحوين : إمّا على نحو الاشتراك اللّفظي أو الاشتراك المعنوي ، والأوّل لا يقول به أحد ، والثاني يحتاج إلى وجود قدر جامع بين الكامل والناقص ( لأنّ كلّ واحد منهما حينئذ مصداق للمعنى المشترك ) فيعود الإشكال.

١١٩

وثانياً : يلزم منه عدم جواز إجراء أصل البراءة ، وهكذا عدم جواز التمسّك بالاطلاق للأعمّي ، أمّا الأوّل فلأنّ المطلوب من المكلّف بناءً على هذا القول هو الحدّ الكامل ، والشكّ في وجوب الأكثر يسري إلى تحقّق ذلك الحدّ وهو يقتضي الاشتغال كما لا يخفى ، وأمّا الثاني فلأنّ الدليل اللّفظي الآمر بالصّلاة مع وضعها لخصوص الحدّ الكامل ليس له إطلاق ، لأنّ المفروض عدم صدق الصّلاة على غير الكامل حقيقة ، ويكون مثل « أقيموا الصّلاة » ناظراً إلى الفرد الكامل ومستعملاً فيه ، فلا يتصوّر في البين قدر جامع يتعلّق به الأمر بالصّلاة حتّى يتحقّق الإطلاق.

الوجه الخامس : أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان ، مثل المثقال والحقّة والوزنة والكيلو غرام ، فكما أنّ مقياس الكيلو مثلاً حقيقة في الزائد والناقص ، والواضع وإن لاحظ الف غرام حين الوضع إلاّ أنّه لم يضع له بخصوصه بل للأعمّ منه ومن الزائد والناقص ، أو أنّه وإن خصّ به أوّلاً إلاّ أنّه بكثرة الاستعمال فيهما بعناية إنّهما منه عرفاً قد صار حقيقة في الأعمّ ثانياً.

يرد عليه : واستشكل فيه أيضاً بما مرّ في الوجه السابق :

أوّلاً : بأنّ هذا القياس قياس مع الفارق ، لأنّ الصحيح في العبادات كالصّلاة ونحوها ليس أمراً واحداً مضبوطاً كي يتّخذ مقياساً ويكون هو الملحوظ أوّلاً عند الواضع ثمّ يوضع اللفظ بإزاء الأعمّ منه ومن الزائد والناقص ، بل هو مختلف بحسب اختلاف الحالات والأوقات كما مرّ.

ثانياً : أنّ التسامح في الأوزان يتصوّر في النقصان القليل والزيادة القليلة ، فلا يقاس به الصّلاة التي يكون بين صحيحها وفاسدها تفاوت كثير وبون بعيد.

مضافاً إلى أنّ إطلاق لفظ « الكيلو » مثلاً في الأوزان على الزائد والناقص يكون من باب المجاز والتسامح كما يظهر بمراجعة الوجدان ، فلا يكون ٩٥٠ غرام مثلاً مصداقاً لألف غرام ، أي الكيلو حقيقة ، ولذا إذا اريد توزين الذهب وشراء هذا المقدار ، لا يتسامح فيه شيء ويصحّ سلب اسم الكيلو عمّا يكون أقلّ منه ، وهذا ممّا لا يرضى به الأعمّي في مثل الصّلاة ، وذلك لأنّ الصّلاة تستعمل عنده في الناقص حقيقة لا تسامحاً ومجازاً.

فتبيّن من جميع ذلك إنّه ليس للقول بالأعمّ جامع يمكن وضع اللفظ له ، وهذا من أهمّ

١٢٠