بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

المقام من تعارض الضّررين والمرجع قاعدة حرمة الإضرار بالغير نفسا ومالا ؛ ضرورة حرمة إلقاء الغصب كإحداثه هذا (١). مضافا إلى الرّواية المشهورة : « ليس لعرق ظالم حق » (٢) فإنها كناية عن كلّ موضوع بغير حقّ ، ولذا يجبر بقلع ما يتضرّر به من بنائه وسفينته إذا كان من مال الغير إذا كان نصبه من غير حق.

__________________

(١) رسائل فقهيّة للشيخ الانصاري : ١٢٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ج ٦ / ٢٩٤ باب « من الزيادات في القضايا والاحكام » ـ ح ٢٦ وج ٧ / ٢٠٦ باب « المزارعة » ـ ح ٥٥ ، عنه الوسائل : ج ١٩ / ١٥٧ باب « حكم الزرع والغرس والبناء في الأرض المستأجرة وغيرها باذن المالك وغير اذنه » ـ ح ٣.

٥٦١

التنبيه الثامن :

النسبة بين قاعدة نفي الحرج وقاعدة نفي الضرر

الثامن : لا إشكال في حكومة الأصل المذكور على قاعدة السّلطنة المستفادة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١) فإنه كسائر ما يثبت أحكام الإسلام.

نعم ، في مورد تعارض الضررين من غير مرجّح تصير مرجعا على ما تعرف تفصيل القولين فيه ، فهي من هذه الجهة نظير سائر القواعد التي ترجع إليها بعد تعارض الضررين ، بل قد يرجع إلى أصالة البراءة عند تعارضهما فيما لم يكن هناك أصل اجتهادي وهذا كله ممّا لا إشكال فيه أصلا.

إنّما الإشكال في أنه حاكم على قاعدة نفي الحرج أو القاعدة حاكمة عليه ، أو لا حكومة بينهما أصلا ، بل هما في مرتبة واحدة.

ومنشأ الإشكال : أن كلاّ منهما حاكم على عمومات الأحكام المجعولة في الشرع والدين والإسلام وشارح لها ومبيّن للمراد منها من غير أن يكون فيه تشريع وجعل أصلا ، فجعل أحدهما ناظرا إلى الآخر والحال هذه لا معنى له.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ١ / ٢٢٢ ـ ح ٩.

٥٦٢

نعم ، يمكن ترجيح الأصل المذكور في مورد تعارضهما ؛ نظرا إلى موافقة القاعدة له في أكثر موارده ، فلو خصّ مورد التعارض بالقاعدة لزم كون تأسيسه كاللغو.

نعم ، لا إشكال في الأخذ بالقاعدة عند تعارض الضّررين كما ستقف عليه ، لكنّه لا تعلّق له بحكومتها عليه هذا. ولكن المستفاد ممّا أفاده شيخنا في « الكتاب » عند تعارض الضّررين : احتمال حكومتها عليه ولم يتبيّن لي الوجه فيه.

نعم ، لا إشكال في العمل بحديث الرفع فيما أكره على الإضرار بالغير في غير النفس على تقدير منع الأصل عنه لما ستقف عليه. كما أنه لا إشكال في العمل به أيضا فيما إذا اضطرّ إلى أكل مال الغير لكن مع الضمان ، وليكن هذه في ذكر منك لينفعك فيما بعد عند التكلم في حكم تعارض الضّررين.

* * *

٥٦٣

التنبيه التاسع :

الضّرر المنفي أعمّ من ضرر النفس والعرض والمال

التاسع : أنه لا إشكال في أن المراد بالضّرر المنفي أعمّ من ضرر النفس والعرض ـ كما يشهد به ما ورد في قصّة سمرة بن جندب ـ والمال كما يشهد به مورد بعض الأخبار أيضا. وهذا مضافا إلى أنّه مما لا إشكال فيه بالنظر إلى الأخبار انعقد الإجماع عليه ، كما يظهر من استدلالهم بالأصل المذكور في جميع الأقسام المذكورة.

كما أنه لا إشكال في اختلاف الأشخاص في تحقّق الضّرر المالي في مقدار من المال ؛ فإن صرف الدرهم لا يكون ضررا في حق شخص ، ويكون ضررا في حق آخر. كما أنه قد يختلف بحسب حالات شخص واحد كما يشهد بذلك كلماتهم في باب شراء الماء للوضوء والغسل.

ثمّ إن المراد بالمال أعمّ من العين والمنفعة بل الحقوق الماليّة أيضا ، بل قد يتسرّى إلى الحقوق الغير الماليّة أيضا كحقّ الأولويّة بالنسبة إلى المدارس والمساجد وغيرهما من الموقوفة وإن لم يتعقّب الإضرار بها الضمان ، كما أن المراد بضرر النفس أعمّ من الطرف والعضو ونحوهما.

٥٦٤

التنبيه العاشر

العاشر : أنه لا إشكال في أن مقتضى الأصل المذكور عدم جواز إضرار الغير لدفع الضّرر المتوجّه إلى المضرّ ، كما أنّ مقتضاه عدم وجوب تحمّل الضّرر ودفع الضّرر عن الغير بإضرار نفسه ؛ لأنّ الجواز في الأوّل والوجوب في الثاني حكمان ضرريّان.

ويترتّب على الأوّل : ما ذهب إليه المشهور : من عدم جواز استناد الحائط المخوف وقوعه إلى ضرع الجار (١) وجداره ، خلافا للشيخ قدس‌سره مدّعيا : عدم الخلاف فيه (٢) ، وقد حمل ـ جمعا بينه وما ذهب إليه المشهور ـ على ما إذا خيف من وقوعه إهلاك النفس المحترمة وإن ترتّب عليه أجرة المثل (٣) ، وإن هو إلاّ كأكل مال الغير لسدّ الرمق. واحتمل شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » : حمله على ما إذا لم يتضرّر به الجار أصلا ، فيكون كالاستظلال بجداره والاستضاءة بناره (٤). لكنه ضعيف لثبوت الفرق

__________________

(١) كذا وفي الرسالة : جذع الجار.

(٢) المبسوط : ج ٣ / ٨٦ طبعة المكتبة المرتضويّة وج ٢ / ٥٠٤ طبعة جماعة المدرسين.

(٣) انظر مسالك الأفهام : ج ٢ / ٢١٥ طبعة دار الهدى وج ١٢ / ٢٤٤ تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلاميّة.

(٤) الرسائل الفقهيّة رسالة في قاعدة لا ضرر : ١٢٢.

٥٦٥

بين المقام والمثالين. ومن هنا أمر بالتأمّل عقيب الاحتمال المذكور.

وعلى الثاني : جواز إضرار الغير إكراها بما دون النفس من حيث توجّه الإضرار ابتداء إلى الغير بمقتضى إرادة المكره ، ويترتّب على ذلك جواز التولّي من قبل الجائر ، وليكن هذا في ذكر منك عسى أن ينفعك بعد ذلك.

* * *

٥٦٦

التنبيه الحادي عشر :

لا ضمان فيما جاز الإضرار بالغير من جهة الإكراه

الحادي عشر : أنه لا إشكال في أنّ مقتضي القاعدة الحكم بعدم الضمان فيما جاز الإضرار بالغير من جهة الإكراه ، أو التصرّف في الملك الموجب لتضرّر الجار فيما يجوز كما ستقف عليه.

نعم ، فيما جاز الإضرار بالغير من جهة توقّف حفظ النفس عليه ربّما يجمع بين الحكم بجوازه والضمان للغير جمعا بين الأصل المذكور وقاعدة الإتلاف ؛ من حيث إن الحفظ لا يقتضي إلاّ رفع سلطنة المالك عن خصوصيّة الرقبة ، فيجمع بينه وبين ما دلّ على احترام المال وكون تلفه موجبا للضمان ، إلاّ فيما علم كون إذن الشارع بعنوان المجانيّة كما في كثير من موارد التصرّف في أموال الناس المجوّزة شرعا.

نعم ، في خصوص أكل مال الغير لتوقّف سدّ الرمق حكم بأن مقتضى نفس الأصل المذكور جواز الأكل والضّمان ؛ من حيث إن منعه ضرر على الآكل ، ونفي الضّمان ضرر على المالك. والوجه في ذلك : عدم تجويز الشارع للإضرار بل الأكل فكلّما جوّز الشارع للإضرار لم يتعقّبه الضّمان فتدبّر.

٥٦٧

التنبيه الثاني عشر :

لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين

الثاني عشر : أنه لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين بحيث لا محيص عن الوقوع في أحدهما فيكون الحكم بعدم أحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر ، فإمّا أن يكون الضّرران متحدين نوعا من حيث النفس والعرض والمال. وإمّا أن يكونا مختلفين بحسب النوع. وعلى التقديرين : إمّا أن يكونا متحدين كمّا أو كيفا ، أو مختلفين. وعلى التقادير : إمّا أن يكونا بالنسبة إلى شخص واحد ، أو شخصين.

لا إشكال بل لا خلاف في لزوم الترجيح بحسب الاختلاف المزبور في الجملة ، إلاّ أنّه لا اطّراد له عندهم ؛ فإن كلماتهم في فروع هذا الأصل مختلفة مضطربة جدّا ، وإن جزم شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » : بلزوم الترجيح فيما لو كان الدوران بالنسبة إلى شخص واحد ، واحتمل الترجيح فيما لو كان بالنسبة إلى الشخصين حيث قال ـ بعد عنوان المسألة والدوران ـ ما هذا لفظه الشريف :

« فإن كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد فلا إشكال في تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا أقلّ ممّا يستلزمه الحكم الآخر ؛ لأن هذا هو مقتضى نفي الحكم الضرري عن العباد ؛ فإن من لا يرضى بتضرّر عبده لا يختار له إلاّ أقلّ الضررين عند عدم المناص عنهما.

٥٦٨

وإن كان بالنسبة إلى شخصين فيمكن أن يقال أيضا : بترجيح الأقلّ ضررا ؛ إذ مقتضى نفي الضّرر عن العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الآخر ؛ لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع ، بل بمنزلة عبد واحد. فإلقاء الشارع أحد الشخصين في الضّرر بتشريع الحكم الضّرري فيما نحن فيه نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته ، فكما يؤخذ فيه بالأقلّ كذلك فيما نحن فيه. ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات الأخر ، ومع عدمها فالقرعة.

لكن مقتضى هذا ملاحظة [ الضّررين ] الشخصين (١) المختلفين باختلاف الخصوصيّات الموجودة في كلّ منهما من حيث المقدار ومن حيث الشخص ، فقد يدور الأمر بين ضرر درهم وضرر دينار مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه ، من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه ، وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر ، وما عثرنا عليه من كلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب » (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

ويشهد لما أفاده من الاضطراب : ما عن المشهور في الدابة الداخلة في الدّار بحيث لا يخرج منها إلاّ بهدمها ، من ترجيح الهدم مع الغرامة ؛ من حيث كونه أقلّ ضررا ، وكذا في الدابّة التي أدخلت رأسها في القدر بحيث لا يخرج رأسها عنه

__________________

(١) كذا وفي الرسالة المطبوعة : « الشخصيّين » وهو الصحيح.

(٢) المصدر السابق : ١٢٥.

٥٦٩

إلاّ بكسرها ، من ترجيح الكسر من حيث كونه أقلّ ضررا.

وما في « المسالك » (١) من الاعتراض عليهم بما في محكي « الكتاب » ، وما عن العلاّمة في « التذكرة » في كتاب الغصب : « من أنه لو غصب دينارا فوقع في محبرة الغير بفعل الغاصب ، أو بغير فعله كسرت لردّه ، وعلى الغاصب ضمان المحبرة ؛ لأنّه السبب في كسرها وإن كان كسره أكثر ضررا من تبقية الواقع فيها ، ضمنه الغاصب ولم يكسر » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وعن « الدروس » في هذه المسألة : « لو أدخل دينارا في محبرته وكانت قيمتها أكثر ولم يمكن كسره ، لم يكسر المحبرة ، وضمن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه » (٣). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وظاهر « التذكرة » كما ترى : كسر المحبرة مع تساوي الضّررين ؛ حيث إنّه لم يجوّز الكسر في صورة خاصّة وهي ما لو كان الكسر أكثر ضررا.

وعن « الدروس » في كتاب الغصب أيضا : « لو دخلت زهرة اليقطين في إناء الغير فعظمت اعتبر التفريط ، ومع انتفائه يتلف أقلّهما قيمة ويضمن صاحب الآخر ،

__________________

(١) مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام : ج ١٢ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٢) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ٣٩١ ( تجرّية ) وانظر المبسوط : ج ٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥ طبع جماعة المدرسين.

(٣) الدروس الشرعيّة : ج ٣ / ١١٠.

٥٧٠

وإن تساويا فالأقرب أن الحاكم يجبرهما فإن تمانعا فالقرعة » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال في محكي « جامع المقاصد » في شرح قول العلامة قدس‌سرهما في مسألة المحبرة : [ ولو نقصت قيمة الدينار عن قيمة المحبرة ، وأمكن إخراجه بكسره ، كسر ](٢) ؛ لوجوب ارتكاب أخفّ الضررين عند التعارض ، وهذا إذا لم تكن محبرة الغاصب. ولا يبعد أن يقال : إن الدينار يقبل العلاج والإصلاح بسهولة (٣) ؛ إذ ليس إلاّ تجديد السّكة بخلاف المحبرة ، فيكسر الدينار زادت قيمته أو نقصت. نعم ، لو زاد نقصه على قيمة نقصان المحبرة اتّجه كسرها وضمان الدينار (٤) » (٥). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذه الكلمات كما ترى تشهد بترجيح أقلّ الضررين في الجملة ، واختاره المحقق القمّي قدس‌سره وغير واحد من المتأخرين وهو الحق فيما كانا من سنخ واحد ؛ لأن إلقاء الضّرر الزائد لا وجه له أصلا ، فيتعيّن مراعاته ، كما أنه لا إشكال في تعيين القرعة عند التمانع كما صرّح به فيما عرفت من « الدروس ».

__________________

(١) المصدر السابق بالذات.

(٢) عبارة قواعد العلاّمة أعلى الله تعالى مقامه.

(٣) في الأصل : « بسرعة وسهولة ».

(٤) في الأصل : « ضمان الأرش ».

(٥) جامع المقاصد في شرح القواعد : ج ٦ / ٣٠٦.

٥٧١

وأولى منه : ما لو كان تزاحم الضررين بالنسبة إلى شخص واحد ؛ فإنه أولى بالترجيح بالقلّة والكثرة كما عرفته عن شيخنا قدس‌سره في « الرّسالة ». والوجه فيه ظاهر ، لكن في كل مورد حكمنا بتقديم أحد الضررين بالنسبة إلى شخصين لمكان الترجيح أو الإقراع لا بدّ فيه من الحكم بالضمان بالنسبة إلى الآخر ؛ لما فيه من الجمع بين الحقّين ، ويدلّ عليه الأصل المذكور كما عرفت الإشارة إليه سابقا.

* * *

٥٧٢

التنبيه الثالث عشر :

تصرّف المالك في ملكه إذا أضرّ بجاره

الثالث عشر : أنه لو كان تصرّف المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره فهل يجوز ولو لم يتضرّر من تركه ، أو لا يجوز إلاّ إذا تضرّر من تركه مطلقا ، أو فيما إذا كان ضرره أكثر فيدخل فيما عرفت من دوران الأمر بين الضّررين بالنسبة إلى شخصين في الأمر السّابق؟

ظاهر كلماتهم عدم ابتناء حكم المقام عليه ، وعن بعض المتأخرين ابتناؤه عليه ، وكلماتهم في المسألة وإن كانت مختلفة في الجملة إلاّ أنّها ينادي بأعلى صوتها بالفرق بين المسألتين ، ولا بدّ أوّلا من بيان وجوه التصرّف في الملك وصوره ، ثم نقل كلماتهم في المسألة ثانيا ، ثم تعقيبه ببيان ما هو المختار في صور المسألة.

صورة المسألة

فنقول : إن تصرّف المالك في ملكه فيما تضرّر جاره به قد يكون مع حاجته إليه بحيث يكون تركه موجبا لتضرّره بفوت الحاجة سواء كان تضرّره مساويا

٥٧٣

لتضرّر الجار أو زائدا عليه أو ناقصا عنه ، مع كون الضّررين من سنخ واحد : بأن يكونا ماليّين.

وقد يكون من جهة قصد الانتفاع وتعلّق غرض عقلائي به من دون ترتّب ضرر على فوته غير نفس فوته إن كان ضررا.

وقد يكون عبثا ولغوا بحيث لا يترتّب عليه غرض عقلائي أصلا. وهذا على قسمين ؛ لأنه قد يقصد به مع ذلك تضرّر الجار ؛ لعناد ، وقد لا يقصد ذلك ولا يخطر بباله ، هذه صور المسألة.

كلماتهم في تعارض الضّررين

وأمّا كلماتهم فقال الشيخ رحمه‌الله في محكيّ « المبسوط » في كتاب إحياء الموات : « إن حفر رجل بئرا في داره وأراد جاره أن يحفر بالوعة أو بئر كنيف بقرب هذه البئر لم يمنع منه ، وإن أدّي ذلك إلى تغيير ماء البئر ، أو كان صاحب البئر يستقذر ماء بئره لقربه من الكنيف والبالوعة ؛ لأن له أن يتصرّف في ملكه بلا خلاف » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال في محكيّ « التذكرة » في باب حريم الحقوق : « وإن أراد الإنسان أن يحفر في ملكه أو داره وأراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر لم يمنع من

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ / ٢٧٣ طبعة المكتبة المرتضويّة وج ٣ / ٨٧ طبعة جماعة المدرسين.

٥٧٤

ذلك بلا خلاف ، وإن نقص بذلك ماء البئر الأوّلي ؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم » (١).

وقال في مسألة عدم الحريم في الأملاك من كتاب إحياء الموات « تنبيه : جميع ما فصّلناه في حريم الأملاك مفروض فيما إذا كان الملك مخصوصا بالموات ، أو مباحا له من بعض الجوانب. وأما إذا كانت الأرض محفوفة بالأملاك فلا حريم لها ؛ لأن الأملاك متعارضة » (٢).

إلى أن قال :

« وكل من الملاّك يتصرّف في ملكه على العادة كيف شاء ، ولا ضمان إن أفضى إلى تلف ، إلا أن يتعدّى. واختلف كلام الشافعي في أنه لو أعدّ داره المحفوفة بالمساكن حمّاما أو إصطبلا ، أو حانوته في صفّ العطّارين حانوت حدّاد ، أو قصّار على خلاف العادة على قولين : أحدهما : أنه يمنع ، وبه قال أحمد ؛ لما فيه من الضرر ، وأظهرهما عنده الجواز. وهو المعتمد ؛ لأنه مالك للتصرّف في ملكه ، وفي منعه من تعميم التصرفات إضرار به. هذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده ؛ فإن فعل ما يغلب على الظنّ أنّه يؤدّي إلى خلل في حيطان الجار ، فأظهر الوجهين عند الشافعيّة : عدم الجواز. وذلك كأن يدقّ في داره الشيء دقّا

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ٤١٤ ( ط ق ).

(٢) نفس المصدر.

٥٧٥

عنيفا يزعج به حيطان الجار ، أو حبس الماء في ملكه بحيث ينشر النداوة إلى حيطان الجار ، فلو اتخذ داره مدبغة أو حانوته مجمرة حيث لا يعتاد ، فإن قلنا لا يمنع في الصورة السابقة فهنا أولى ، وإن قلنا بالمنع فيها يحتمل عدمه ؛ لأن الضرر هنا من حيث التأذّي بالدخان والرائحة الكريهة » (١).

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له ـ :

« والأقوى أن لأرباب الأملاك أن يتصرّفوا في أملاكهم كيف شاءوا ، فلو حفر في ملكه بئر بالوعة ففسد ماؤها ماء بئر الجار لم يمنع منه ، ولا ضمان بسببه ، ولكن يكون قد فعل مكروها » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقريب منه ما عن « القواعد » و « السرائر ». وقال الشهيد قدس‌سره في محكيّ « الدروس » في كتاب إحياء الموات : « ولا حريم في الأملاك لتعارضها فلكل أحد أن يتصرّف في ملكه بما جرت العادة به وإن تضرّر صاحبه ولا ضمان » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال في « جامع المقاصد » على ما حكي عنه في شرح كلام المصنف في مسألة تأجيج النار وإرسال الماء في ملكه : « إنّه لمّا كان النّاس مسلّطين على أموالهم كان للإنسان الانتفاع بملكه كيف شاء ، وإذا دعت الحاجة إلى إضرام نار

__________________

(١ و ٢) نفس المصدر.

(١ و ٢) نفس المصدر.

(٣) الدروس الشرعيّة : ج ٣ / ٦٠.

٥٧٦

وإرسال ماء جاز فعله وإن غلب على ظنّه التعدّي إلى الإضرار بالغير » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

إلى غير ذلك من كلماتهم المصرّحة بجواز التصرّف في الملك عند الحاجة وإن تضرّر به الجار ، بل عن غير واحد من القدماء دعوى الإجماع عليه ، وقد عرفت : نفي الخلاف عنه عن الشيخ قدس‌سره في « المبسوط » ، ومع ذلك استشكل في محكيّ « الكفاية » ـ بعد الاعتراف : بأنّه المعروف من مذهب الأصحاب (٢) بما في « الكتاب » ـ : من معارضة عموم السلطنة بعموم نفي الضّرر (٣) ، وإن ضعّف الإشكال غير واحد من المتأخرين تبعا « للرياض » (٤) بما حكاه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (٥).

إذا عرفت ذلك فنقول :

أمّا الصّورة الأولى : وهي ما يقصد المالك من التصرّف في ملكه دفع الضرر ، فلا ينبغي الإشكال في جوازها من دون ضمان ، وإن كان ضرر الجار

__________________

(١) جامع المقاصد في شرح القواعد : ج ٦ / ٢١٨.

(٢) أنظر مسالك الأفهام : ج ١٢ / ٤١٦ ، والدروس : ج ٣ / ٦٠ ، والسرائر : ج ٢ / ٣٨٢.

(٣) كفاية الأحكام : ٢٤١.

(٤) رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل ( ط ق ) وج ١٤ / ١٢١ ط آل البيت وكذا ج ١٢ / ٣٥٩ ط جماعة المدرسين ج ٢ / ٣٢٠.

(٥) انظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٩.

٥٧٧

اللاّزم منه أكثر ، بل هو المتيقّن من معقد إجماعهم على الجواز ؛ لأنّ منعه عن التصرّف فيها ضرر وحرج ، مضافا إلى ما عرفت : من اقتضاء نفي الإكراه عدم تحمّل الضّرر لدفع الضّرر عن الغير ، وعلى فرض التصادم والتكافؤ لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة السلطنة ، وعلى تقدير الإغماض عنها لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الإباحة في المقام فتدبّر.

فالقاعدة مرجع بعد التعارض لا معارضة لنفي الضّرر ولا راجحة عليه من جهة الشهرة ونقل الإجماع والأصل كما قيل ؛ لما عرفت : من حكومة نفي الضّرر عليها.

ويظهر ممّا ذكرنا : تطرّق المناقشة إلى ما ذكره بعض المتأخّرين : من وجوب ملاحظة مراتب ضرر المالك والجار وتقديم الجار على المالك فيما كان ضرره أعظم وأكثر من ضرر الجار ، وما عرفته من المحقّق السبزواري في « الكفاية » وما عرفته تبعا « للرياض » في ردّه ؛ لأن جميع ذلك منحرفة عن طريق السّداد والصّواب.

نعم ، لو لم يكن ضرر الجار من سنخ ضرر المالك ، بل كان من قبيل هلاك النفس المحترمة ممّا يجب على المالك حفظه أيضا ، فلا إشكال في تقديمه على ضرر المالك وهو خارج عن محل كلامهم.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في جواز تصرّف المالك في ملكه فيما تضرّر بتركه وإن تضرّر جاره من غير فرق بين مراتب الضرر ، ولعلّه الوجه ما عن

٥٧٨

العلامة قدس‌سره في « التذكرة » : من التفصيل بين تصرّف الإنسان في المباح بإخراج روشن أو جناح ، وبين تصرّفه في ملكه بإخراجهما ؛ حيث اعتبر في الأوّل عدم تضرّر الغير دون الثاني (١). هذا بعض الكلام في الصورة الأولي.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما لو قصد المالك من التصرّف في ملكه مجرّد جلب النفع وتوفير الفائدة والتوسعة في حاله ، من دون أن يترتّب على تركه ضرر. فظاهر كلمات الأكثر بل المشهور : الجواز فيها أيضا وهو الحقّ ولا ينافيه التقييد في كلام غير واحد بما جرت العادة عليه ؛ فإن هذا النوع من التصرّف ليس على خلاف العادة ولا خارجا عمّا يعتاده الملاّكون.

نعم ، تعليل الجواز في كلام من عرفت بنفي الضرر ممّا ينافيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حجر المالك عن الانتفاع بملكه في نفسه ضرر فتدبّر.

ويدلّ على ما ذكرنا من الجواز : ما دلّ على نفي الحرج والضيق ؛ ضرورة لزوم الحرج من لزوم ملاحظة عدم تضرّر الجار من الانتفاع بالملك ، فيقع التعارض بينه وبين ما دلّ على نفي الضرر ، فيرجع إلى قاعدة السّلطنة فتصير مرجعا لا مرجّحا ولا معارضا من حيث تأخّر مرتبتها عن مرتبة نفي الضرر فهي كالأصل بالنسبة إليه على ما عرفت.

ثمّ إنّه بعد البناء على الجواز لا إشكال في عدم ترتّب الضمان على التصرّف

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ١٨٢ ( ط ق ).

٥٧٩

أيضا كما هو ظاهر قضيّة كلماتهم ؛ لأنّه مقتضى قاعدة السلطنة ، بل الأصل وإن كان ضعيفا من حيث إن الأصل لا يعارض ما يقتضي الضمان من قاعدة الإتلاف كما هو ظاهر.

وأمّا الصّورة الثالثة : وهي ما لو لم يقصد بالتصرّف دفع المضرّة وجلب المنفعة ، فالمستظهر من غير واحد : عدم جوازه وقد صرّح به جماعة واختاره شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الرسالة » ، وإن احتمل الجواز مع الضمان ، وهو الحق ؛ لسلامة دليل نفي الضرر وحرمة الإضرار من المعارضة بنفسه ودليل نفي الحرج ، وقاعدة السلطنة وإن اقتضت جوازها إلاّ أنّها على ما عرفت محكومة بدليل نفي الضرر ، والتقييد بما لا يتعدّى عن العادة في كلماتهم ، أو لا يتجاوز عنها (١) شاهد عليه.

نعم ، لازم من جعل القاعدة معارضة لدليل نفي الضّرر والأصل مرجّحا أو مرجعا بعد تعارضهما هو القول بالجواز في هذه الصورة أيضا كما هو الظاهر من إطلاق غير واحد منهم ، لكنك كما ترى ضعيف قولا ودليلا.

هذه صورة خط المصنّف دامت أيّام إفاضاته هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الجزء مع تشتّت البال وضيق المجال واختلال الأحوال ويتلوه الجزء الثالث والحمد لله على ما أنعم علينا أوّلا وآخرا والصّلاة على نبيّه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين دائما ،

__________________

(١) ـ أي : عن العادة.

٥٨٠