بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

__________________

المكلّف ـ ولو لم يلتفت أو يعلم بحديث نفي الضرر ـ في ثبوت التكاليف عند مصادفتها للضّرر ، فهذا الأمر الذهني يؤيّد ظهور « لا ضرر » ويوهن عموم سائر الأدلّة كما هو ظاهر.

ويكفي في تقديمها على سائر الأدلّة سياق الأخبار الواردة المستدلّ فيها بلا ضرر لرفع اليد عمّا يقتضيه عمومات بعض الأدلّة كسلطنة الناس على أموالهم وغيره ، ولكن كون « لا ضرر » حاكما على سائر الأدلّة بالمعنى الإصطلاحي أي : كونه بمدلوله اللفظي متعرّضا لحالها لا يخلو عن تأمّل ، بل منع.

لأن مفاد « لا ضرر » ـ على ما يظهر منه ـ أن الشارع لم يجعل حكما ضرريّا لا أن احكامه المجعولة مقصورة على غير موارد الضرر ، والفرق بين المعنيين ظاهر.

والمعنى الأوّل يعارضه إطلاق الأمر بالوضوء الشامل لمورد الضّرر فلا بد في تخصيصه من قرينة خارجيّة ، وهذا بخلاف المعنى الثاني ؛ فإنه بمدلوله اللفظي قرينة على صرف الإطلاق فتدبّر » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٠٥.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« إعلم انه لو كان أصل الحكم حكما ضرريّا على الإطلاق كالخمس والزكاة والجهاد ونحوها ؛ فانه مخصّص لأخبار الضرر من غير إشكال وليس محلاّ للكلام في مزاحمة القاعدة لأدلّة الأحكام وحكومتها عليها أو تخصيصها بها ؛ فإنه يكون أخص مطلقا من أخبار الضّرار.

وكذا إذا كان دليل الحكم عامّا للأفراد الضرريّة وغيرها ولكن ورد نصّ بالخصوص على انّ الحكم ثابت في الأفراد الضرريّة ؛ فإنه أيضا مخصّص للقاعدة كما ورد وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته ولا شك في كون مثله ضررا ، وأمّا إذا كان دليل الحكم بعمومه

٥٤١

__________________

شاملا للأفراد الضرريّة وغيرها من غير نصّ على خصوص أفراده الضرريّة فإنه محلّ البحث هنا.

نعم ، هنا كلام للمحقق القمي رحمه‌الله وهو :

ان المراد بالضرر المنفي هو الضرر الزائد على ما هو لازم لماهيّة التكليف ؛ فإن مطلق التكاليف مشتمل على مقدار من الكلفة والضّرر ، وعلى هذا فأصل التكليف بالزكاة والجهاد مشتمل على مقدار من الضّرر لازم لماهيّته ولا ينافيه حديث لا ضرر بالمعنى المذكور.

ولكن لو فرض في بعض أفراده ثبوت ضرر زائد على ذلك المقدار فينافيه حديث لا ضرر ، فإذن يكون حال الزكاة ونحوها حال غيرها من سائر عمومات التكاليف ومزاحمة لقاعدة الضرار.

والجواب : ان ذلك خلاف ظاهر الأخبار وخلاف موضوع لفظ الضّرر ؛ فإنه موضوع عرفي صادق على مثل الخمس والزكاة والجهاد وغير صادق على مثل الصلاة والصوم.

ثم انه قد ذكرنا : ان تقديم الحاكم على المحكوم إنما هو فيما إذا كان الحاكم أقوى من حيث كونه ناظرا إلى المحكوم ، وبعبارة أخرى : تكون دلالته على الشرح وتفسير المحكوم أقوى من دلالة المحكوم على خصوص الفرد الضّرري وإلاّ فلا ، فتذكّر.

وقد ذكرنا أيضا : أن الحكومة تنقسم إلى حكومة قصديّة وحكومة قهريّة.

وحكومة الأدلّة الإجتهاديّة على الأصول العمليّة من قبيل الثاني ، وزعمها المصنّف من قبيل الأوّل بل يزعم إنحصار الحكومة في القسم الأوّل.

ولكن الحكومة فيما نحن فيه من الحكومة القصديّة كما لا يخفى سيّما بملاحظة النبويّ

٥٤٢

الأوّل : أنا قد أشرنا في مطاوي ما أسمعناك من الكلام في بيان هذا الأصل إلى كونه حاكما على العمومات المثبتة للحكم الضّرري من التكليفيّات والوضعيّات وشارحا لها ومبيّنا لمقدار مدلولها ومفسّرا للمراد منها ، وأنّ المجعولات في الإسلام ، والشرع ليست بحيث توجب الضّرر على أهل الإسلام فهذه الأخبار المثبتة للأصل المذكور بمداليلها اللفظيّة ناظرة إلى العمومات المثبتة للأحكام وإطلاقاتها ومتعرّضة لها ومتفرّعة عليها كسائر ما يكون على هذا

__________________

المحكي عن التذكرة [ ج ١١ / ٦٨ ] : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » يعني أحكام الإسلام.

ثم اعلم انه قد نلتزم بحكومة أخبار الضرار على ما كان دليله أخص مطلقا من أخبار الضّرار لو كان ظاهرا بالنسبة إلى مدلوله لا نصّا ، مثل ما لو أمر الشارع مثلا بشيء ضرري في جميع أفراده ، والأمر ظاهر في الوجوب فنحمله على الإستحباب بمقتضى حكومة أخبار الضرار بناء على ان الحكم الإستحبابي لا يوجب الضّرر [ على كلام ].

واعلم أيضا : أن حكومة أخبار الضرار إنّما هي بالنسبة إلى غير الأدلة التي هي أيضا حاكمة على سائر الأدلة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي تسعة ... » وأدلّة الحرج وأمثالهما وأمّا بالنسبة إلى مثل هذه الأحكام فالتعارض ، ويعمل فيها بقواعد التعارض فقد يقدّم هذه على هذه وقد يقدّم هذه على هذه على ما يقتضيه قواعده ، وكذا حال سائر هذه الأحكام بعضها مع بعض وربّما يكون بعضها حاكما على بعض آخر ، وتشخيص مواردها موكول إلى نظر الفقيه » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٧٢.

٥٤٣

الشأن والنمط.

مثل ما دلّ على نفي الحرج والسهو لمن كثر عليه ، أو في النافلة ، وأمثالها ممّا ورد في الشرعيّات ، فهي بأنفسها مقدّمة عليها تقدّما ذاتيّا من غير أن يكون بينهما تعارض وترجيح فإن التماس الترجيح ؛ في التقديم فرع التعارض المفقود بين الحاكم والمحكوم ، مع أنّ سوقها في مقام الامتنان كحديث الرفع ودليل نفي الحرج الآبي عن التخصيص يكفي في قوّتها وتقديمها على تلك العمومات على تقدير تسليم التعارض والتنافي من غير أن يحتاج ترجيحها عليها إلى التشبّث بالمرجّحات الخارجيّة ، كالشهرة ، ونقل الإجماع ، والأصل على القول بجواز الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة بين العامّين من وجه ، مع كونه محلّ كلام ومناقشة.

فما يظهر من غير واحد من المتأخّرين منهم : السيد السند في « الرّياض » والفاضل النّراقي قدس‌سرهما تبعا لما عن المحقّق السبزواري : من الحكم بالتعارض بينهما والرجوع إلى المرجّحات فيما سيأتي من كلامهم ليس على ما ينبغي سيّما ما عن بعض (١) تبعا « للرّياض » (٢) من الترجيح بالسّند ، بل الحكم بضعف سند بعض أخبار المقام.

__________________

(١) هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة : ج ٧ / ٢٢.

(٢) أنظر الرياض : ج ١٤ / ١٢١ ط آل البيت.

٥٤٤

مع أنك قد عرفت : أنه غير قادح بعد وجود الصحيح والموثّق فيها ، ودعوى الكثرة ، بل التواتر بالنسبة إليها مع ما في الترجيح بالصدور في العامّين من وجه من الإشكال الذي تقف عليه في الجزء الرابع من التعليقة (١) إن شاء الله تعالى.

قال في « العوائد » : « إن نفي الضّرر والضّرار في الأحكام الشرعيّة من الأصول والقواعد الثابتة بالأخبار المستفيضة ، المعتضدة بعمل الأصحاب ، الموافقة للاعتبار المناسبة للملّة السمحة ، المعاضدة بنفي العسر والحرج والمشقّة كما ورد في الكتاب والسنّة ، فهذا أصل من الأصول كسائر الأصول والقواعد الممهّدة ودليل شرعيّ يستدلّ به في موارده ، فإن لم يكن له معارض فالأمر واضح ، وإن كان : بأن يدلّ دليل آخر على ثبوت حكم شرعيّ يلزم منه ضرر ، فيعمل فيه بمقتضى التعارض والترجيح » (٢). انتهى ما أردنا نقله من كلامه في هذا المقام.

وقال في مقام آخر أيضا :

« إنّ من موارد تعارض نفي الضرر مع دليل آخر ما لو استلزم تصرّف أحد في ملكه تضرّر الغير ؛ فإنه يعارض ما دلّ على جواز التصرّف في المال مثل

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٤ / ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) عوائد الأيّام العائدة رقم : ٤ / ٥٣.

٥٤٥

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١) بالتعارض العموم من وجه فقد ترجّح أدلّة نفي الضرر بما مرّ من المعاضدات وقد يرجّح الثاني » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

فقد اتضح مما ذكرنا ما يتوجّه عليه ؛ فإن المراد من التعارض تنافي الدليلين بالنظر إلى مدلوليهما من غير أن يكون لأحدهما نظر إلى الآخر بالدلالة اللفظيّة ، وإن حكم بتقديم أحدهما إلى الآخر ؛ لمكان الترجيح الدلالي كما في تعارض الظاهر والأظهر ، كالعام المعلّل على غير المعلّل في تعارض العامّين من وجه ، أو الأقلّ أفرادا على غيره ، أو الخاص الذي لا يكون نصّا على العام إلى غير ذلك من موارد الترجيح بقوّة الدلالة بحسب النوع ، أو الصنف.

فبعد عدم إمكان العمل بظاهرهما وعدم جواز طرحهما يلزم الأخذ بالأظهر وتقديمه على الظاهر ؛ لمكان الترجيح ، وهذا بخلاف الحاكم ؛ فإن الأخذ به ورفع اليد عن المحكوم من حيث كونه بنفسه مقدّما عليه ومفسّرا له بحسب دلالته اللفظيّة من غير أن يكون هناك دوران وترجيح.

ومن هنا يقدّمونه على العمومات المثبتة بعمومها للحكم الضّرري من غير

__________________

(١) غوالي اللئالي : ج ١ / ٢٢٢ ـ ح ٩٩ وص ٤٥٧ ـ ح ١٩٨ وج ٢ / ١٣٨ ـ ح ٣٨٣ ومواطن أخرى.

(٢) عوائد الأيّام العائدة : ٥٨.

٥٤٦

ملاحظة ترجيح. والحكومة وإن كانت في الحقيقة راجعة إلى التخصيص وليست من الورود ، إلاّ أنّها تخصيص بعبارة التفسير ، ولذا لا يعدّ الحاكم والمحكوم من المتعارضين ، بخلاف العام والخاصّ الظنّيين.

فقد اتضح ممّا ذكرنا : الفرق بين الحكومة والتعارض وسيجيء تمام الكلام في ذلك في باب الاستصحاب والتعارض ، وحينئذ فلا يمكن تقديم شيء من عمومات التكليف على قاعدة نفي الضّرر ، وإن بلغت من القوّة ما بلغت بحسب المرجّحات بل كانت قطعيّة بحسب الصدور وجهته.

نعم ، لو كان هناك دليل مثبت لحكم في عنوان الضّرر مثل ما دلّ على القصاص والجهاد ونحوها خرجنا عن القاعدة بسببه لكونه أخصّ منها ، ولا يعقل حكومتها عليه ، كما هو ظاهر هذا.

وفي أكثر نسخ « الكتاب » بعد بيان الحكومة بقوله قدس‌سره : « والمراد بالحكومة :

أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظيّ متعرّضا لحال دليل آخر » إضافة هذا القول : [ من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه. فالأوّل : مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب ، أو شهادة العدلين ؛ فإنه حاكم على ما دلّ على أنه « لا صلاة إلا بطهور » فإنه يفيد بمدلوله اللفظي : أنّ ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل « لا صلاة إلاّ بطهور » وغيره ثابت للمتطهّر بالاستصحاب أو البيّنة. والثاني : في (١) مثل

__________________

( * ) لفظة « في » ليست موجودة في الأصل.

٥٤٧

الأمثلة المذكورة ](١) وهذه الإضافة ليست في بعض النسخ (٢) وإن كان أصل التعميم المذكور للحكومة والتمثيل بما ذكر موجودا في كلماته قدس‌سره في غير هذا الموضع.

وللقاصر (٣) في التمثيل بالاستصحاب والبيّنة وغيرهما مما يثبت الموضوعات أو الأحكام بحسب الظاهر من الأصول والأمارات مناقشة ، وإن كان أصل التعميم ممّا لا يتطرّق إليه مناقشة ؛ نظرا إلى أن الاستصحاب مثلا ليس في مرتبة قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » فإنّه مما يثبت الحكم ، أي : شرطيّة الطهارة للصلاة في مرحلة الواقع ، فكيف يمكن جعل الاستصحاب المثبت للطهارة في مرحلة الظاهر شارحا لها ومبيّنا للمراد بها بحيث يكون المراد من الأدلّة الواقعيّة الأعمّ من الواقع والظاهر؟

فإذا بني على وجود الركوع مثلا بعد الدخول في السجود عند الشكّ فيه ، أو على وجود السجود بعد الدخول في غيره إذا شكّ فيه فلا بدّ من أن يحكم بأن المراد ممّا دلّ على اعتبار الركوع والسّجود في الصّلاة أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة وهكذا. وهذا مضافا إلى لزومه الإجزاء في جميع موارد الأصول والأمارات ولو

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٢.

(٢) أقول : لكنها موجودة في نسخة الكتاب المطبوع بطبعة المؤتمر.

(٣) أقول : يقصد نفسه رضوان الله تعالى عليه.

٥٤٨

في الموضوعات كما ترى.

فالذي يقتضيه التحقيق الذي لا بدّ منه ولا مناص عنه : البناء على كون مؤدّى الأمارة المعتبرة ومجرى الاستصحاب نفس الواقع الأوّلي بحسب الآثار والأحكام بجعل الشارع ، ما دامت الأمارة قائمة والأصل جاريا : بأن لا يعلم الخلاف ، وبعد تبيّن الخلاف والخطأ يبنى على ترتيب آثار الواقع من أوّل الأمر ، كما هو شأن الحكم الظاهري ، فليس هنا تخصيص لا بحسب الواقع ولا بحسب الظاهر ، ولا تصرّف في موضوع الخطاب الواقعي بتعميمه لما يشمل مفاد الأصل والأمارة أصلا ، وإنّما هنا حكم آخر ـ في مرحلة الظاهر والجهل بالواقع ـ بوجوب البناء على كون مؤدّى الأمارة مثلا عين الواقع ما دامت قائمة ، وأين هذا من الحكومة؟ وقد أشرنا إلى هذا في طيّ أجزاء الجزء الأوّل من التعليقة.

* * *

٥٤٩

التنبيه الثاني :

تمسّك الفقهاء بالأدلّة الضرريّة

الثّاني : أنّك قد عرفت في طيّ الأمر الأوّل : أنه لا شبهة في لزوم الخروج عن مقتضى القاعدة مع حكومتها على العمومات المثبتة للحكم الضّرري بما يكون أخصّ منها ، كما ورد في الشرعيّات فإذا ورد فيها وجوب الغسل على المريض المجنب عمدا وإن أصابه من المرض ما أصابه بالطريق المعتبر ، فيلزم الإفتاء به كما أفتى به بعض ، وهذا ممّا لا إشكال فيه أصلا.

إنّما الإشكال في التمسّك بها فيما شكّ في ورود المخصّص عليها ؛ نظرا إلى ما يقال ـ بل قيل ـ : بأنها من العمومات التي خرجت أكثر أفرادها منها فيصير موهونة ؛ فإنه يظنّ بملاحظة أكثريّة الخارج ، بأن المراد منها ليس هو العموم ، بل المعنى المعهود عند التخاطب ، حتى لا يرد عليه ذلك سيّما مثل هذا العموم الوارد في مقام الامتنان وضرب القاعدة ، والأصل الآبي عن التخصيص فضلا عن كثرته فضلا عن أكثريّته هذا.

ولكن يمكن التفصّي عن الإشكال ـ كما في « الكتاب » بعد منع أكثرية التخصيص ؛ إذ المسلّم على تقدير الإغماض كثرته لا أكثريّته ؛ فإن الخارج منها محصور بباب النفقات التي لا يحصل بإزائها عوض دنيويّ كنفقة الحيوانات ، مثل

٥٥٠

نفقة الوالدين والأولاد والزوجة على تأمّل ، والحقوق الماليّة كالزكاة والخمس والجهاد والحجّ ونحوها والحدود الإلهيّة ، لا مثل القصاص والديات ونحوهما التي شرّعت من جهة نفي الضّرر وحفظ النفوس ، والنّظام فهي نظير الضمان المشروع بنفي الضّرر ـ : بأن من المحتمل كون خروجها بعنوان واحد أو عناوين متعدّدة لا يبلغ الحدّ المذكور ؛ فإن الموهن كثرة الإخراج والتخصيص ، لا كثرة المخرج ولو كان بتخصيص أو تخصيصات قليلة كما يشهد له المثال الذي ذكره قدس‌سره في « الكتاب » ، فإذا جوّزنا ذلك وأنّ المخاطبين كانوا عالمين به وإن لم نعلم به لا يجوز الحكم بطروّ الوهن في العموم. ومن هنا ترى الفقهاء يتمسّكون بتلك الأخبار في المسائل الفقهيّة الضّرريّة ولا يرفعون اليد عنها إلاّ بمخصّص قويّ.

وبمثل ذلك يتفصّى عن ورود الإشكال المذكور على كثير من العمومات مثل عمومات نفي الحرج وإن تفصّى عنه في « العوائد » (١) ؛ بأنّ ملاحظة الأجر والثواب فيما نراه شاقّا يرفع المشقّة فلم يرد عليها تخصيص أصلا ، وهذا مثل ما قيل بالنسبة إلى عمومات نفي الضرر : من أنّ ملاحظة كثرة الأجر يوجب رفع الضرر فليس هناك تكليف ضرريّ أصلا. وفيه : ما فيه.

ومثل عموم الوفاء بالشرط بناء على عدم اختصاصه بالالتزام والإلزام في ضمن خصوص البيع كما عن « القاموس » ، وعمومه لكلّ إلزام والتزام ولو كان

__________________

(١) عوائد الأيّام : العائدة رقم : ٤ / ٢٠ ـ ٢١.

٥٥١

ابتدائيّا ؛ فإن الشروط الابتدائيّة في الجملة ، والشروط في ضمن العقود الجائزة كنفس العقود الجائزة ، وما يخالف الكتاب والسنّة ، وما يخالف مقتضى العقد خارجة عنها بالتخصيص.

ومثل عموم الوفاء بالعقد كقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) بناء على عدم إرادة العهد الذهني والخارجي من العقد وشموله لكل عهد ، ومن هنا ترى الفقهاء يتمسّكون بتلك العمومات في المسائل عند الشكّ في التخصيص من دون تأمّل ، وليس ذلك إلاّ من جهة منع أكثريّة المخرج ، أو منع العلم بأكثريّة الإخراج وتجويز كون إخراجها عند المخاطبين بتلك الخطابات العامّة بعنوان واحد أو عناوين قليلة.

__________________

(١) المائدة : ١.

٥٥٢

التنبيه الثالث :

المنفي هو الضّرر الشخصي

الثالث : أنّ الظاهر من الأخبار المذكورة ـ كما لا يخفى على من راجع إليها ـ كون المنفي الضّرر الشخصي ، وعليه ينطبق كثير من كلماتهم في الفقه كما في باب « شراء الماء للوضوء أو الغسل » حيث اعتبروا فيه حال المكلّف ، وباب « الصوم » ونحوهما ، إلاّ أنّهم تمسّكوا بها أيضا فيما لا اطّراد فيها للضرر ، كما في باب « الخيارات » من الغبن والعيب والشفعة وغير ذلك ، فأثبتوا الخيار من جهة الأصل المذكور ، مع أن لزوم العقد ليس يلزمه الضّرر في هذه الموارد بالنسبة إلى جميع الأشخاص وجميع الحالات ، بل قد ينفكّ عنه كما في الموارد التي ذكرها قدس‌سره في « الكتاب ».

ويمكن التفصّي عنه : بأن تمسّكهم بالأصل المذكور فيما لا يطّرد فيه الضّرر لا بدّ من أن يحمل على التأييد للدليل القائم عندهم على الحكم في تلك الموارد ، وإن كان خلاف ظاهر كلماتهم فيها ؛ فإن مضايقتهم عن لحوق الحكم للضّرر الغالبي والنوعي في غير تلك الموارد دليل على كون الضّرر حكمة عندهم للحكم في تلك الموارد لا علّة حتى يلزم اطّراده ، وحمل كلامهم في مقام التوسعة على الغفلة عن المضايقة في مواردها لا يناسب ساحة شأنهم ، فلا بدّ من الحمل على ما ذكرنا وإن كان بعيدا في باديء النظر. وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بالنسبة إلى أخبار المقام كدليل نفي الحرج فلا ينطبق على كلماتهم في جميع الموارد فراجع.

٥٥٣

التنبيه الرابع :

لا فرق بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها بالنسبة إلى مفاد الأصل المزبور

الرّابع : أنه لا فرق في مفاد الأصل المذكور بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها من الأحكام الخمسة فكما أن وجوب الفعل منفي إذا كان ضرريّا ، وكذا تحريمه إذا ترتّب الضرر على تركه ، إلاّ فيما استثني من البراءة عن الأئمة عليهما‌السلام وقتل النفس المحترمة ، والتداوي بالمحرّمات على قول ، كذلك جوازه إذا كان ضرريّا وليس أمره كأمر نفي الحرج حتّى يقال بعدم رفعه لغير الإلزامات من حيث عدم استناد الوقوع في الحرج إلى حكم الشارع في غير الإلزامات ، فيفرّق بين الوضوء الضّرري والحرجي ، إلاّ فيما كان إقدام المكلّف رافعا لموضوع استناد الضّرر إلى الشارع.

فلو أقدم المكلّف لغرض عقلائي على المعاملة الغبنيّة مع علمه بالغبن لم يحكم بثبوت الخيار له ؛ من جهة أن الإقدام على الضرر أوجب عدم صدق الحكم الضرري على إيجاب الشارع للوفاء بالعقد ، وكذلك إقدامه على شراء مال الغير مع علمه بفساد المعاملة ، وأن المعوّض ليس ملك البائع أوجب عدم صدق الحكم الضرري على وجوب الغرامات والخسارات عليه ، وهكذا الأمر في نظائره مما لا يجري فيه قاعدة الغرور.

٥٥٤

ويترتّب على ذلك ما أفاده شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره في « الرسالة » : من الحكم بصحّة العبادات التي يعتقد المكلّف عدم التضرّر بها مع كونها مضرّة في نفس الأمر ؛ فإن الأمر بالعبادة في الفرض وتجويزها للمكلّف لم يوقعه في الضّرر أصلا ، وإنّما الموقع له علمه بعدم تضرّره ، فلو حكمنا بفسادها والحال هذه لزم وقوعه في كلفة الإعادة والقضاء.

نعم ، لو علم بالضرر أو ظنّ به كان وقوعه في الضرر مستندا إلى أمر الشارع بالعبادة ، خلافا لمن حكم بالفساد في الفرض بزعم ، أن الضّرر مانع واقعيّ عن صحّة العبادة من غير فرق بين العلم بوجوده أو العلم بعدمه ، ولا فرق في الحكم بالصحّة في الفرض بين الاستناد في فساد العبادة مع التضرّر بها إلى الأصل المذكور ، أو النهي عن الإضرار بالنفس ؛ فإنّ المانع عن امتثال الأمر عندهم النهي الفعلي المنجّز في مسألة عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة النهي عن العبادة ، لا النهي الشأني المعلّق.

قال قدس‌سره في « الرسالة » بعد جملة كلام له يتعلّق بالمقام ما هذا لفظه :

« فتحصّل : أنّ القاعدة لا تنفي إلا الوجوب الفعلي على المتضرّر العالم بتضرّره ؛ لأن الموقع للمكلّف في الضّرر هو هذا الحكم الفعلي دون الوجوب الواقعي الذي لا يتفاوت وجوده وعدمه في إقدام المكلّف على الضّرر ، بل نفيه مستلزم لإلقاء المكلّف في مشقّة الإعادة ، فالتمسّك بهذه القاعدة على فساد العبادة المتضرّر بها في دوران الفساد مدار اعتقاد الضّرر الموجب للتكليف الفعلي

٥٥٥

بالتضرّر بالعمل ، كالتمسّك على فسادها على التحريم بالإضرار بالنفس في دورانه مدار الاعتقاد بالضّرر الموجب للتحريم الفعلي ؛ لأنه الذي يمتنع اجتماعه مع الأمر فلا يجري مع الضّرر الواقعي وإن سلم معه التحريم الشأني ، كما تسالموا عليه في باب اجتماع الأمر والنهي : من عدم الفساد مع الجهل بالموضوع أو نسيانه ، وأن المفسد هو التحريم الفعلي المنجّز » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذا الكلام وإن أمكن توجيهه بالنظر إلى مفاد الأصل المذكور ؛ حيث إن الاعتقاد بعدم الضرر يوجب رفع الاستناد إلى الشارع ، إلاّ أنّ تسليمه بالنظر إلى ما دلّ على تحريم الإضرار بالنفس مثل قوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٢) ونحوه لا يخلو عن إشكال.

فإنهم وإن تسالموا في باب اجتماع الأمر والنهي على ما ذكره قدس‌سره إلاّ أنّك قد عرفت في مطاوي كلماتنا السابقة : أن الضدّ للأمر هو النهي من غير فرق بين العلم بوجوده والشكّ فيه والعلم بعدمه مع وجوده في نفس الأمر ؛ لأن الحكم الفعلي ليس وراء الحكم الواقعي ؛ ضرورة أنه ليس الموجود من الشارع في حقّ المكلّف حكمان شأني وفعليّ ، وإنّما يعذر العقل المكلّف في مخالفته مع عدم العلم به في الجملة.

__________________

(١) رسالة في قاعدة لا ضرر : ١١٨ ـ المطبوعة ضمن الرسائل الفقهيّة للشيخ الأعظم قدس‌سره.

(٢) البقرة : ١٩٥.

٥٥٦

نعم ، لو لم يكن هناك تضادّ بين الحكمين وإنّما كان بين وجوب امتثالهما كان لما أفاده وجه ، لكنّه خلاف ما يقتضيه التحقيق ونطقت به كلمتهم : من ثبوت التضادّ بين نفس الأحكام الخمسة ولو لم يجب امتثال الحكم كالإباحة مثلا. والقول : بأن الحكم الشأني ليس من مقولة الحكم والإنشاء ، وإنّما هو عبارة عن مجرّد شأنيّة الإنشاء ، قد عرفت فساده ممّا قدّمنا لك سابقا كغيره من التوهّمات الموجبة لرفع الإشكال المذكورة.

فإنا قد ذكرنا لك ثمّة ونذكر هنا : أنّا لم نقف على ما يدفع به الإشكال المذكور عمّا تسالم عليه القوم ، بل كان ذلك عهدي واعتقادي من زمان قراءتي على شيخي المسألة المذكورة إلى زماني هذا مع تكرّر البحث منّي عن المسألة لجمع من فضلاء الأصحاب والله الهادي إلى طريق الصواب.

* * *

٥٥٧

التنبيه الخامس :

المنفي بالأصل المذكور هو الحكم الضّرري

الخامس : أن المنفي بالأصل المذكور هو الحكم الضّرري ، وأمّا الخصوصيّات الوجوديّة التي يدفع بكلّ واحد منها الضّرر فلا يثبت به أصلا ، فإذا كان لزوم العقد مع العيب من دون أرش ضرريّا فيحكم بنفيه من جهة الأصل. وأمّا ثبوت التخيير بين الفسخ والأرش أو اختيار أحدهما معيّنا من حيث اندفاع الضّرر به فلا يثبت به أصلا كما لا يخفى. فلا بدّ لإثبات الخصوصيّات من التماس دليل آخر كما هو ظاهر.

* * *

٥٥٨

التنبيه السادس :

الأحكام المجعولة في الاسلام ليست ضرريّة

السّادس : أنك قد عرفت : أن ما ينفي الضّرر من الأخبار المتقدّمة حاكم على العمومات المثبتة للأحكام الضّررية بعمومها فهو إخبار عن حال الأحكام المجعولة في الإسلام وأنه ليس فيها مجعول ضرريّ ، نظير حديث الرفع. فالأحكام الوجوديّة المجعولة من الشارع يستكشف حالها منه ، وأنه لم يجعل منها ما كان ضرريّا من الوضعيّات والتكليفيّات.

وأمّا الأحكام العدميّة الغير المجعولة من الشارع إذا كانت ضرريّة كعدم ضمان ما يفوت على الحرّ من عمله بسبب حبسه فيما لم يكن عمله ملكا للغير ؛ فإنه لا إشكال في الضمان في الصورة المفروضة من جهة قاعدة الإتلاف ، فلا يحكم بنفيها ؛ حيث إنها ليست مجعولة بالفرض ، فكيف يحكم بنفيها؟ اللهمّ إلاّ أن يرجع إلى حكم وجوديّ كحرمة مطالبة الحابس بالعوض ونحو ذلك ، لكنّه مشكل : من جهة أن نفي الحرمة إنّما هو فيما كان هناك دليل عليها.

وبالجملة : تأسيس الحكم بالضمان من جهة الأصل المذكور مع كونه إخبارا عن حال أدلّة الأحكام المجعولة فيما لم يكن هناك مقتض للضمان أصلا من اليد ، وقاعدة الإتلاف لا يجامع ما بنينا عليه في المراد من أخبار الباب فتأمّل.

٥٥٩

التنبيه السابع :

عدم الفرق بين كون وجود الموضوع للحكم الضّرري اختياريا أو غيره

السّابع : أنه لا فرق في مفاد الأصل المذكور بين أن يكون وجود الموضوع للحكم الضرري اختياريا للمكلّف بحيث يستند إلى اختياره ، أو من غير اختياره.

كما أنه لا فرق فيما كان باختياره بين أن يكون حراما أو جائزا. فإذا صار المكلّف باختياره سببا لمرض يتضرّر به الصوم مثلا يحكم بعدم وجوبه عليه وإن فعل محرّما. وكذا إذا أجنب عمدا فيما يتضرّر به الغسل ، وكذا إذا ترك المسافرة إلى الحج وانحصر سفره في طريق يتضرّر به ، وهكذا وإن كان اختياره لما يتحقّق به الموضوع الضرري في جميعها حراما عليه.

ومن هنا قد يقع التأمّل فيما ذكروا في باب الغصب : من وجوب ردّ المغصوب على المغصوب منه وإن تضرّر به الغاصب (١). وإن ضعّفه شيخنا : بأنّ

__________________

(١) انظر المختصر النافع : ٢٤٨ وشرائع الإسلام : ج ٤ / ٧٦٤ وكشف الرموز للفاضل الآبي : ج ٢ / ٣٨١ وتحرير الاحكام ج ٤ / ٥٢٧ فرع ٦١٤٨ والدروس للشهيد الأوّل قدس‌سره ج ٣ / ١٠٩ واللمعة الدمشقيّة للشهيد الأوّل قدس‌سره : ٢٠٤ ، ومسالك الافهام : ج ١٢ / ١٧٥ ورياض المسائل : ج ١٢ / ١٢ والجواهر : ج ٣٧ / ٧٦ إلى غير ذلك.

٥٦٠