بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

ذلك في رفع النجاسة ، فافترقت المسألتان فلا يقاس أحدهما بالأخرى ، فلو كان في المقام إجماع على الطهارة كما ادّعاه السيّد قدس‌سره لا يجوز إلحاق المسألة المذكورة به كما عن السيّد أيضا.

ومن هنا ردّه الفاضلان وغيرهما بإبداء الفرق بين المسألتين بما يرجع حاصله إلى ما ذكرنا : من كون الشك في المقام في وجود سبب التنجّس وفي المسألة في وجود سبب التطهير ، وإن استشكله شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « ولكنّه يشكل ؛ بناء على أن الملاقاة سبب ... إلى آخر ما أفاده » (١) الراجع إلى نفي الفرق بينهما ؛ من حيث العلم بوجود السبب للانفعال في المقام أيضا مع الشكّ في المانع ، فلا بدّ من الحكم بالمسبّب كما في المسألة ، فلا فرق بينهما.

فلا بدّ إمّا من الحكم بالطهارة في المسألتين ، أو الحكم بالنجاسة فيهما وإن تأمّل في الاستشكال ؛ من حيث عدم الجزم بكفاية مجرّد وجود السّبب مع الشكّ في المانع من دون إحراز عدمه ولو بالأصل في الحكم بوجود المسبّب بقوله :

( إلاّ أنّ الاكتفاء بوجود السبب ... إلى آخره ) (٢) (٣) فعلى هذا التأمّل يثبت

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٥.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« بل الإكتفاء مع الإحراز بالأصل ما لم يكن عدم المانع ممّا رتّب عليه المسبّب شرعا أيضا محلّ تأمّل إلاّ على القول بالأصل المثبت حيث ان ترتّب المقتضى على المقتضي عند عدم

٥٠١

الفرق بين المسألتين.

اللهم إلاّ أن يقال : بأنه بناء على تعارض الأصلين في المقام ـ على ما عرفت ـ يثبت الفرق بين المقامين من حيث عدم إمكان إحراز عدم المانع بالأصل على التقدير المذكور. وأمّا لو بنينا على عدم التعارض بينهما والعمل بأصالة عدم الكريّة على ما اخترناه فيحرز عدم المانع بالأصل فيحكم في المسألتين بالنجاسة ، فلا فرق بين المسألتين ، إلاّ أنه مبني كما ترى على نفي الفرق بينهما ، والحكم بالنجاسة على المختار من عدم التعارض بين الأصلين.

وأمّا على ما هو المشهور من تعارض الأصلين في المقام فاللازم عليه ثبوت الفرق بينهما ؛ فإنّ النجاسة الموجودة لا يرفع إلاّ بإلقاء الكرّ عليه ، والطهارة الثابتة أيضا لا يرفع إلاّ ملاقاة النجس للماء مع عدم الكريّة في زمان الملاقاة ، والمفروض عدم إمكانه لمكان المعارضة ، ولعلّ أمره بالتأمّل (١) إشارة إلى ما

__________________

المانع عقلي وكفاية إحرازه به في المقام بلا كلام فيما إذا لم يكن هناك تعارض ، إنّما هو لترتّبه عليه شرعا كما هو مقتضى مفهوم قوله عليه‌السلام : ( اذا بلغ ... إلى آخره ). » إنتهى.

انظر درر الفوائد : ٢٨٢.

نفس المصدر.

(٤) قال المحقّق الهمداني قدس‌سره :

« لعله إشارة إلى ما يظهر من كلامه في الفقه : من ان الشك في المانع في مثل المقام مرجعه

٥٠٢

__________________

إلى الشك في التخصيص فيرجع إلى أصالة العموم.

وفيه نظر كما تقرّر في محلّه ، بل الظاهر على ما هو ببالي أن المصنّف رحمه‌الله بنفسه تنظّر في مثل المثال مما يكون الشك فيه ناشئا من اشتباه الأمور الخارجيّة ، أعني الشبهات المصداقيّة ، ووجهه ظاهر.

إذ بعد تسليم كون الشك في الكرّيّة من قبيل الشك في التخصيص ، ومعه يرجع إلى عمومات أدلّة الإنفعال فهو إنّما يتّجه في الشبهات الحكميّة ـ كما في مسألة تتميم الماء النجس كرّا ـ لا في مثل المثال الذي نشأ الشك فيه من الجهل بتاريخ الحادثين ؛ إذ لا يصح التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة كما هو مختار المصنّف رحمه‌الله ». أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٠٢.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« إشارة إلى وجه عدم إحراز عدم المانع بأصالة عدمه ، أعني عدم الكرّيّة حين الملاقاة هو معارضته بأصالة عدم الملاقاة حين عدم الكرّيّة ، مضافا إلى أن أصالة عدم الكرّيّة لا يترتّب عليه نجاسة الماء إلاّ بواسطة إثبات قلّته ، بخلاف أصالة عدم الملاقاة [ فإنه ] يترتّب عليه طهارة الماء من دون واسطة.

فاندفع إشكال المصنّف على إيراد الفاضلين [ في المعتبر والمختلف ] بالفرق المذكور على استدلال السيد بعدم الفرق بين تتميم النجس كرّا وبين إحتمال تتميمه في الحكم بالطهارة ، وحاصل الفرق : هو استناد طهارة الكرّ المحتمل تتميمه بالنجس إلى أصالة عدم تتميمه به التي لا مسرح لأن يستند إليها طهارة الكرّ المعلوم تتميمه بالنجس ، وتشكيك معارضة

٥٠٣

ذكرنا. هذا بعض الكلام في الصورة الأولى.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما لو فرض معلوميّة زمان الملاقاة ؛ فالحكم فيها البناء على عدم وجود الكرّيّة في زمان الملاقاة ، وقبلها فيحكم فيها بنجاسة الماء على ما عرفت : من ترتّب الحكم الشرعي على نفس مجرى الأصل من دون واسطة ؛ إذ لا يريد بنفي الكرّيّة بالأصل في الفرض إثبات آخر وجودها عن الملاقاة حتى يكون من الأصول المثبتة ، بل المراد : إثبات مجرّد عدمها في زمان الملاقاة.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما لو فرض العلم بزمان الكرّيّة ويشكّ في زمان الملاقاة : فمقتضى الأصل فيها هو الحكم بعدم تحقّق الملاقاة في زمان الكريّة وقبلها ، ويترتّب عليه الحكم بعدم الانفعال والنجاسة من دون حاجة إلى إثبات تأخّرها عن زمان الكرّيّة ، وإن كان لازما عقليّا له إن كان المراد به هو الوجود المتأخّر ، فيحكم بطهارة الماء من حيث عدم تحقّق سبب رفعها وهي الملاقاة قبل الكريّة أو معها على احتمال ووجه هذا.

وقد يتوهّم : جريان الأصل بالنسبة إلى معلوم التاريخ ومعارضته مع الأصل في المجهول من حيث إنّه ذاتا وإن كان معلوما إلاّ أنه من حيث تقدّمه على

__________________

الأصل المذكور بمثله قد عرفت دفعه : بأن الأصل المثبت لا يصلح للمعارضة » إنتهى. انظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٥.

٥٠٤

المجهول أو تأخّره عنه غير معلوم ، فيقال : إن الأصل عدم تقدّمه على المجهول. كما يقال : إن الأصل عدم تقدّم المجهول عليه ، فيتعارضان.

ولكنك خبير بوضوح فساد هذا التوهّم لما عرفت : من أن نفس التقدّم والتأخّر ممّا لا يجري فيه الأصل. والوجود المتعيّن بحسب زمان وجوده لا يقع الشكّ فيه من حيث الزمان حتّى يقال : إن الأصل عدم وجوده في الزمان الكذائي والشكّ في كون زمانه المعيّن مقدّما على زمان المجهول أو مؤخّرا إنّما هو شكّ في تقدّم زمان المجهول أو تأخّره ، فلا يمكن أن يقال : الأصل عدم وجود الكرّيّة فيما كانت معلومة بحسب الزمان قبل وجود الملاقاة حتى يعارض الأصل في جانب الملاقاة. والحكم بعدم كون زمانه المعيّن قبل زمان الملاقاة بمقتضى الأصل لا معنى له بعد عدم الحالة السّابقة له كما هو ظاهر.

* * *

٥٠٥
٥٠٦

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

٥٠٧
٥٠٨

(٨٦) قوله قدس‌سره : ( ويرد عليه (١) : أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة ...

__________________

(١) قال العلاّمة الأصولي السيّد علي القزويني قدس‌سره :

« هذا الشرط أيضا لا يرجع إلى محصّل ؛ لأنه إمّا أن يسلّم قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر ويقول بكونها من القواعد المعتبرة المحكّمة على الأصل في إقتضاء ضمان الضارّ للمستضرّ أو لا ، فعلى الثاني لا أثر لتضرّر المسلم في منع العمل بالأصل ؛ لأنه على التقدير المذكور لا حكم له في نظر الشارع حتى يكون إعمال الأصل مشروطا بعدمه.

وعلى الأوّل فهما كسائر القواعد المحكّمة على الأصول ، فكما يقال : لا يجري أصل البراءة حيث تجري قاعدة الإشتغال أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فكذلك يقال : لا يجري حيث تجري قاعدة الإتلاف أو قاعدة نفي الضرر.

والسرّ في عدم جريانه مع جريانها ورودها عليه لما أخذ في موضوعه فقدان النص ، وليس المراد بالنص المأخوذ في موضوعه النص المصطلح بل مطلق الدليل.

والمراد بالدليل : ما يعم القواعد العامّة التي يستند إليها في الفروع ، وعليه : ففقدان نحو قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر مأخوذ في موضوع الأصل فلا يجري حيث تجريان.

وهذا يغني عن جعل العمل به مشروطا بعدم الضرر ؛ إذ مع حصول الضرر كانت القاعدتان دليلا على الضمان ومع وجوده لا أصل ليعمل به ؛ لإنتفاء موضوعه. هذا ولكن العبارة المتقدّمة لا تتحمّل شيئا من شقّي الترديد بل هي ظاهرة أو صريحة في أن وجه الإشتراط :

عدم كون فقدان النص ـ بمعنى عدم الدليل على الحكم المأخوذ في موضوع الأصل ـ محرزا مع تضرّر المالك ؛ لأن معنى إحرازه حصول القطع أو الظنّ بعدم وجوده وليس شيئا منهما حاصلا في المقام لاحتمال اندراجه في القاعدتين المفروض كون كلّ منهما دليلا على

٥٠٩

__________________

الضمان.

وأورد عليه حينئذ [ والمورد هو الشيخ الأعظم في الفرائد : ج ٢ / ٤٥٦ ] :

بأنّ مجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل ، والمعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو الإثم والتعزير وإن كان متعمّدا ، وإلاّ فلا يعلم وجوب شيء عليه فلا وجه لتحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

والأولى أن يورد عليه : باندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف وهي مقتضية للضمان ومعه لا يجري الأصل كما عرفت » إنتهى.

أنظر تعليقة على معالم الأصول للسيّد على القزويني قدس‌سره : ج ٦ / ٢٤٨.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« وهذا الجواب مأخوذ من كلام صاحب القوانين رحمه‌الله ظاهرا وعبارته أوفى وأجمع للجواب حيث قال :

( وأمّا الثاني ، ففيه :

أن نفي الضّرر من الأدلّة الشرعيّة المجمع عليها ولا فرق بينه وبين غيره وقد عرفت : انه لا يجوز التمسّك بأصل البراءة مع ثبوت الدليل بل قبل التفحّص عن الدليل ، فإن ثبت الضّرر وتحقّق اندراج محلّ النزاع فيه فلا إشكال في عدم الجواز وإن ثبت عدمه فلا إشكال في الجواز ، وإن شك فيه فكذلك أيضا ؛ لعدم ثبوت الدليل فلا محصّل لما ذكره.

والمشهور دخول أمثال ذلك تحت قاعدة الإتلاف لصدقه عليه عرفا ، وأمّا شمول قوله عليه‌السلام :

( لا ضرر ولا ضرار ) لذلك فهو موقوف على فهم فقه الحديث ) إنتهى موضع الحاجة

٥١٠

إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٥٥ )

شرح القول في قاعدة نفي الضرر

أقول : ينبغي التعرض أوّلا : لبيان ما أفاده الفاضل التوني قدس‌سره في الشرط الثاني وشرح مرامه ، ثم تعقيبه بشرح ما أورده عليه شيخنا قدس‌سره والأولى : أن ننقل كلامه أوّلا بألفاظه قال قدس‌سره في « شرح الوافية » :

« ثانيها : أن لا يتضرّر بسبب التمسّك به مسلم ، أو من في حكمه ، مثلا : إذا فتح إنسان قفصا لطائر فطار ، أو حبس شاتا فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت

__________________

[ القوانين : ٢ / ٤٧ ].

وأيضا قوله في المتن في ذيل الجواب : ( ومجرّد احتمال إندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف أو الضرر ... إلى آخره ) [ الفرائد : ٢ / ٤٥٦ ] كأنه مأخوذ من كلام صاحب الفصول رحمه‌الله ؛ فإنه تعرّض للجواب عما ذكره الفاضل التوني رحمه‌الله في آخر فصل « عدم الدليل دليل العدم » [ الفصول : ٣٦٦ ] فراجع فإنه لا يخلو عن فائدة قد أعرضنا عن نقله مخافة التطويل.

ثم لا يخفي ان مزاحمة الأصل لتضرّر المسلم المنفي بدليل قاعدة الإتلاف أو الضرر مبنيّة على أن يكون أصل البراءة نافيا للضمان كما انه ناف للإثم والعقاب بناء على نفيه للأحكام الوضعيّة أيضا وهو غير مختار المصنّف ، مع انه على تقدير التعميم قد خرج عنه الضمانات ؛ فإنها ثابتة مع الجهل على ما صرّح به المصنّف في ذيل حديث الرّفع.

ثمّ إن دلالة حديث الضرار على الضمان محل كلام وليس مسلّما » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٤٧.

٥١١

دابّته وضلّت أو نحو ذلك ؛ فإنه لا يصحّ حينئذ التمسّك ببراءة الذمّة ، بل ينبغي للمفتي التوقف عن الإفتاء ولصاحب الواقعة الصّلح إذا لم يكن منصوصا بنصّ خاصّ أو عامّ ؛ لاحتمال اندراج مثل هذه الصور في قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (١) وفيما تدلّ على حكم « من أتلف مالا لغيره » (٢) ؛ إذ نفي الضرر غير محمول على حقيقته ؛ لأنه غير منفيّ ، بل الظاهر أن المراد به نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع.

والحاصل : أن في مثل هذه الصور لا يحصل العلم ، بل ولا الظنّ بأنّ الواقعة غير منصوصة.

وقد عرفت : أن شرط التمسّك بالأصل فقدان النصّ ، بل يحصل القطع حينئذ بتعلّق حكم شرعيّ بالضارّ ، ولكن لا يعلم أنه مجرّد التعزير أو الضمان أو هما معا ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ / ٣٣٤ ـ ح ٥٧١٨ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٦ / ١٤ باب « ان الكافر لا يرث المسلم ولو ذميا والمسلم يرث المسلم والكافر » ـ ح ١٠.

(٢) هذه القاعدة لم يرد فيها نص بالتعبير المشهور : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وإنّما هي مصطادة من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة أنظر الوسائل : ج ١٨ / ٣٩١ الباب ٧ من أبواب الرهن ـ ح ٢ والباب الخامس منه أيضا ـ ح ٢ وج ٩ / ١٤١ الباب ٢٩ من أبواب الإجارة ـ ح ١ ـ ٨.

وانظر القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي ج ٢ / ٢٥ والقواعد الفقهيّة للشيخ الفاضل اللنكراني ج ١ / ٤٥ والقواعد الفقهيّة للشيخ مكارم الشيرازي : ج ٢ / ١٩٣.

٥١٢

فينبغي للضارّ أن يحصل العلم ببراءة ذمّته ، وللمفتي الكشف عن تعيين الحكم ؛ لأن جواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة والحال هذا غير معلوم.

وقد روى البرقي في كتاب « المحاسن » عن أبيه عن درست بن أبي منصور عن محمد بن حكيم : قال قال أبو الحسن عليه‌السلام : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها ووضع يده على فيه. فقلت : ولم ذلك؟ قال : لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى الناس بما اكتفوا به على عهده وما يحتاجون إليه من بعده إلى يوم القيامة » (١).

ثم أورد سؤالا على التمسّك بالرواية في المقام بعدم الفرق عليها بين هذه الموارد وغيرها وجوابا عنه بثبوت الفرق بينهما من وجوه ، منها : علم المكلّف باشتغال ذمّته في المقام بشيء.

إذا عرفت ذلك من كلامه فنقول : إنّه لما كثر التمسّك في كلمات الفقهاء في باب الضمان والإتلاف في المصاديق المشتبهة سيّما في الإتلاف التسبيبي ، كالأمثلة المذكورة في كلام الفاضل رحمه‌الله بناء على عدم الجزم بشمول دليل الإتلاف ونفي الضرر لها فأراد جعل الشكّ في شمولها لها مانعا من التمسّك بالبراءة ، فالمانع

__________________

(١) المحاسن للبرقي : ج ١ / ٢١٣ عنه الفصول المهمّة في أصول الأئمّة للحر العاملي ج ١ / ٥١٤ باب « ان كل واقعة تحتاج اليها الأمّة لها حكم شرعي معيّن ولكلّ حكم دليل قطعي مخزون عند الأئمّة عليهم‌السلام يجب على النّاس طلبه منهم عند حاجتهم إليه » ـ ح ٧٢.

٥١٣

في الحقيقة عنده هو الشكّ في الشمول ؛ نظرا إلى ما بنى عليه الأمر : من اشتراط البراءة بالقطع بعدم النصّ في الواقعة ، أو الظنّ به من غير فرق بين الموارد ، إلاّ أنّ كثرة دوران التمسّك بها في خصوص المقام صارت نكتة التخصيص.

فهذا الشرط مأخوذ في الحقيقة عن اشتراط الفحص وليس شرطا مستقلاّ ؛ نظرا إلى تطابق كلماتهم في بيان مقداره على لزوم تحصيل الاطمئنان أو الظنّ بعدم الدليل في الواقعة ، فإذا شكّ في وجود الدليل ولو من جهة الشكّ في شمول الدليل الموجود لبعض المصاديق المشتبهة من غير جهة الشبهة الموضوعيّة الصرفة لم يجز التمسّك بالبراءة.

ومن هنا قال في وجه منع الرجوع : « فلا علم حينئذ ولا ظنّ بأن الواقعة غير منصوصة فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النصّ » (١).

وإن كان ما أفاده لا يخلو عن مغالطة ؛ لأن في جميع صور إجمال النص مع احتمال الإرادة نقطع بفقدان الدليل بوصف الدليليّة ؛ نظرا إلى أن الحجة والدليل في باب الألفاظ الظهور ، فإذا قطع بانتفائه بحكم الوجدان فيقطع بعدم الدليل وإن احتمل الإرادة بحسب الواقع كما هو ظاهر.

وأمّا قوله : « بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعيّ بالضارّ » (٢) فليس المراد

__________________

(١) الوافية : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) المصدر السابق ، عنه فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٥.

٥١٤

منه القطع بتوجّه تكليف إلزاميّ إليه موجب لاشتغال ذمّته مع كونه مردّدا ، بل المراد القطع بثبوت حكم إلهيّ في موارد التعمّد بالأمور المذكورة له تعلّق بالضارّ ، وإن كان المكلّف بالتعزير غيره وإن لزم عليه التمكين ، فالنسبة مبنيّة على التوسّع.

ومن هنا قال : « فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح » (١) ولم يقل : فيجب عليه تحصيل العلم ؛ من حيث احتمال كون الحكم الثابت هو خصوص التعزير الذي لا يفيد الصلح ولا الإبراء له ، وإنّما يفيدان في الضمان المحتمل.

وهذا التوجيه كما ترى حسن ، إلاّ أنه ربّما ينافي الترقّي المذكور في كلامه ؛ فإن ظاهره إثبات العلم بالحكم ولو إجمالا ، المانع من الرجوع إلى البراءة ، اللهمّ إلاّ أن يجعل مطلق العلم بالحكم ولو مثل العلم في المقام مانعا ، لكنّه ينافيه ظاهر قوله : « فينبغي ... » إلاّ أن يحمل على خلاف ظاهره ، فيحكم بإرادة الوجوب منه. كما استفاده منه شيخنا قدس‌سره هذا.

ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما عرفت : من أن مجرّد احتمال إرادة الواقعة من الدليل الوارد من الشرع لا يوجب رفع اليد عن البراءة ، وإلاّ لزم رفع اليد عنها في جميع موارد إجمال الدليل وهو كما ترى ، فلا يجوز رفع اليد عن البراءة بمجرّد احتمال شمول دليل الإتلاف ونفي الضرر وإن كان احتمالا مساويا. نعم ، على تقدير شمولهما للأمثلة المذكورة ونحوها كما هو الظاهر ، يتعيّن رفع اليد عنها

__________________

(١) المصدر السابق.

٥١٥

لحكومتهما أو ورودهما عليها على ما هو شأن جميع الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الأصول العمليّة ـ : أنه ليس في المقام علم إجماليّ أصلا حتى يكون بعض أطرافه وجوب الغرامة أو الضمان.

لأنّ كلاّ من الحرمة والتعزير ثابت في صورة العمد جزما وإنّما الشكّ في الغرامة ، وليس في الخطأ إلاّ احتمال الغرامة ليس إلاّ ، مع أن دوران الأمر بين التعزير والغرامة مع كون الأوّل متيقّنا على كل تقدير ورجوع الشكّ بالنسبة إلى الغرامة إلى الشكّ في التكليف النفسي الاستقلالي لا يفيد شيئا ، مع أنّه على تقدير لزوم الاحتياط بالنسبة إليه أيضا لا يفيد في المقام أصلا ؛ لدوران الأمر بين تكليف النفس والغير ؛ فإنّ وجوب التعزير إنّما هو تكليف الحكّام.

لكن ما ذكرنا إنّما يتوجّه عليه : إذا أريد من قوله : « ينبغي وجوب تحصيل العلم بالبراءة » (١) من الحق الاحتمالي كما هو لازم منعه من الرجوع إلى البراءة.

ومن هنا حمله شيخنا قدس‌سره على وجوب الاحتياط وتحصيل العلم بالبراءة لا استحبابه ، كما هو الظاهر من لفظة « ينبغي » سيّما في كلمات الفقهاء.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو على تقدير تسليم الشكّ في الحكم في الأمثلة المذكورة ونظائرها ، وإلاّ فالتحقيق : ثبوت الضمان فيها ؛ لقاعدة الإتلاف من حيث كونها أعمّ من المباشرة والتسبيب فيما يستند الفعل إلى فاعل السبب عرفا ونفي

__________________

(١) ـ المصدر السابق.

٥١٦

الضرر معا على ما ستقف عليه عند التكلّم في بيان قاعدة نفي الضّرر ، فما عسى ربّما يستظهر من السيّد الصّدر الشارح : من الحكم بعدم الضّمان في الأمثلة ونظائرها ليس ممّا ينبغي المصير إليه ، فلعلّ المراد مجرّد الفرض والتقدير كما ذكرنا قال قدس‌سره : « التمسّك بالبراءة بالنسبة إلى المكلّف ليس مرجعه إلاّ عدم إلزام المكلّف بفعل شيء أو تركه ، وكونه مخيّرا في اختيار ما شاء منهما » (١).

إلى أن قال :

« فعلى هذا نقول : لا شكّ في قبح الإضرار عقلا وشرعا إذا لم يكن له جهة محسّنة كالقصاص مثلا ، وإنّما الكلام في لزوم جبرانه على المكلّف ، وفي مقدار الجبران فإن كان عليهما أو على الأوّل دليل معتبر فلا يجوز التمسّك بالأصل ؛ إذ لا اعتداد به مع النّاقل ، وإلاّ فحكم الأصل جار ، وعلى المضرّ الندم وعلى المستضرّ الصبر والاحتساب ، وأمّا مجرّد احتمال أن يكون ما نحن فيه مندرجا تحت قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (٢) ، أو مندرجا تحت ما دلّ على حكم من أتلف مالا لغيره فلا يكفي ؛ لعدم إمضاء حكم الأصل الذي دلّ على حجيّة العقل

__________________

(١) شرح الوافية للسيّد الصدر مخطوط.

(٢) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٨٠ باب « الشفعة » ـ ح ٤ وباب « الضرار » : ٢٩٢ ـ ح ٢ و ـ ح ٦ والتهذيب : ج ٧ / ١٤٧ باب « بيع الماء والمنع منه والكلاء والمراعى وحريم الحقوق وغير ذلك » ـ ح ٣٦ ، عنهما وسائل الشيعة : ج ١٨ / ٣٢ باب « ثبوت خيار للمغبون غبنا فاحشا مع جهالته » ـ ح ٣.

٥١٧

والنقل (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وليس الظاهر منه ـ كما ترى ـ بيان حكم المسألة الشخصيّة من حيث هي ، بل الظاهر منه على ما عرفت : من عدم المانع من الرجوع إلى الأصل على تقدير عدم ظهور دليل نفي الضرر وقاعدة الإتلاف وأنّ مجرّد احتمال الشمول لا يمنع منه.

وبالجملة : ما أفاده الفاضل التوني في الشرط الثاني لا يخلو عن مناقشة ، مثل ما أفاده في الشرط الثالث : من اعتبار أن لا يكون مجراه ممّا يشكّ في اعتباره في العبادة جزءا أو شرطا ؛ نظرا إلى أنّ المثبت لأجزاء العبادة إنّما هو النصّ ، فإثبات كون الماهيّة هي الأصل الخالي عن المشكوك بالأصل غير جائز. فكأنّه نظر إلى ما عرفت تضعيفه في محلّه من جماعة من المتأخّرين : من أنّ الأصل وإن جرى في نفي الوجوب الغيري كالنّفسي ، إلاّ أنّه ما لم يتعيّن الماهيّة يحكم العقل بالاحتياط ، وأصل البراءة لا يصلح للتعيين.

وقد أسمعناك ما يقتضيه التحقيق في ذاك المقام وأنّ القائل بالبراءة في الدوران المذكور لا يلزمه تعيين الماهيّة بالأصل ، وإنّما الغرض من الرجوع إليها مجرّد نفي وجوب المشكوك في مرحلة الظاهر ؛ نظرا إلى عدم اقتضاء العلم الإجمالي فيه وجوب الاحتياط في حكم العقل أو ورود الأخبار على حكمه.

__________________

(١) شرح الوافية للسيّد صدر الدّين مخطوط.

٥١٨

(٨٧) قوله قدس‌سره : ( وقد ادّعى فخر الدين في « الإيضاح » في باب الرهن تواتر الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٥٧ )

في تواتر أخبار القاعدة وعدمه

أقول : نقل غير واحد دعوى تواتر أخبار القاعدة عن الفخر (١) في « الإيضاح » ولكن ذكر قدس‌سره في « الرسالة » المستقلّة المعمولة في هذه القاعدة بعد حكاية دعوى تواتر الأخبار عن الفخر في محكيّ « الإيضاح » (٢) في باب الرهن : أنّه لم يعثر عليه (٣).

نعم ، عن الشيخ الحرّ قدس‌سره في كلماته : أنه عقد بابا لذلك وادّعى كثرة الأخبار الواردة فيه فقال :

« باب « أنه لا يجوز الإضرار بالمؤمن ولا يجب عليه تحمّل الضرر إلاّ ما استثني » ثم قال بعد نقل طائفة من الأخبار الواردة في ذلك أقول : والأحاديث في ذلك كثيرة ذكرنا بعضها في كتاب « وسائل الشيعة » في إحياء الموات وفي الشفعة

__________________

(١) هو فخر المحققين أبو طالب محمّد بن العلاّمّة الحلّي أعلى الله تعالى مقامهما الشريف المتوفي سنة ٧٧١ ه‍.

(٢) إيضاح الفوائد في شرح القواعد : ج ٢ / ٤٨.

(٣) الرسائل الفقهيّة « رسالة في نفي الضرر » : ١١٢.

٥١٩

وغيرهما (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وما ذكره قدس‌سره من كثرة الأخبار الواردة في هذا الباب واستفاضتها ممّا لا يعتريه ريب أصلا ؛ فإنّها قد تجاوزت من العشرة يقينا. وأمّا دعوى : التواتر سواء أريد به التواتر اللفظي أو المعنوي فالعهدة على مدّعيها ، لكن لا حاجة إلى إثبات التواتر أو قطعيّة صدورها من جهة الاحتفاف بالقرينة ، إلاّ على مذهب من يدّعي عدم حجيّة أخبار الآحاد مطلقا.

وإلاّ فلا إشكال في حجيّتها لصحّة سند جملة منها واعتبار أسناد الباقي ، فلا إشكال في المقام من جهة سند الأخبار أصلا ، بل ربّما عمل بها القائل بحرمة العمل بأخبار الآحاد ، بل مضمونها ممّا انعقد عليه الإجماع وحكم به العقل المستقل ، بل دلّ عليه كتاب العزيز أيضا ، بل الإنصاف وضوح دلالتها على القاعدة كوضوح سندها ، غاية ما هناك : وقوع التأمّل في عمومها لما يأتي الإشارة إليه.

وأمّا بعض المناقشات الراجعة إلى منع دلالتها ولو من جهة دعوى إجمالها فإنّما حدث عن بعض متأخّري المتأخّرين ، وإلاّ فبناء الفقهاء « رضوان الله عليهم » على التمسّك بها في الفروع الفقهية والتسالم والمفروغيّة عن ظهورها فيها ممّا يعلم بأدنى تتبّع في كلماتهم في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات.

ومع ذلك ينبغي التّعرض لذكر الأخبار الواردة في الباب أوّلا ثم التعرّض

__________________

(١) الفصول المهمّة في أصول الأئمة للحر العاملي قدس‌سره : ج ١ / ٦٧١ و ٦٧٤.

٥٢٠