بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

توضيح دفع ما أفادوه من التّرتّب القصدي

توضيح ذلك : أن التكليفين المتوجّهين إلى المكلّف في زمان واحد على وجه الترتيب الذي زعموه : قد يكونان بالضدّين سواء كانا مضيّقين ، أو كان أحدهما مضيقا والآخر موسّعا. وقد يكونان بالفعلين لا تنافي بينهما في حدّ أنفسهما في غير آخر الوقت ، ولكن يعلم بالتنافي من جهة العلم من الخارج بأن الواجب في الشرع أحدهما معيّنا لا هما جمعا ، ولا هما تخييرا ، كما في المقام.

ويتوجّه على ما ذكروه :

أوّلا : أنا لا نعقل الترتيب على الوجه المذكور بحيث يخرج عن التكليف بالمحال مطلقا ؛ فإن مقتضى صريح كلماتهم كون الشرط في تعلّق الأمر بالآخر هو العزم على معصية الأمر المطلق النفسي بصاحبه. ومن المعلوم ضرورة بقاء الأمر مع العزم على معصيته وعدم ارتفاعه بسببه ، فيكون الأمران متوجّهين إلى المكلّف بالنسبة إلى الفعلين في زمان واحد في مرتبة واحدة ، وإن هو إلاّ التكليف بالمحال وأين هذا من الترتّب؟

فإنه إنّما يتصوّر فيما كان الأمر بالآخر مترتّبا ومشروطا بتحقّق معصيته الأمر المطلق في الخارج بارتفاع موضوعه ، كما إذا فوّت الصلاة بالطهارة المائية ، فكلّف بعد العجز عنها بالطهارة الترابيّة وهكذا. وأين هذا من المقام؟

٤٦١

فإن هذا أمر واقع في الشرعيّات ولم يخالف فيه أحد ولا دخل له بمسألة تصحيح الضدّ ؛ فإن البحث فيما كان الأمر بالمضيق باقيا حتى يوجب النهي عن ضدّه ، فلو فرض عصيانه في أول أوقات إمكانه ، كما في الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ونحوه ممّا كان فورا ففورا.

وبالجملة : التّرتّب بتحقّق المعصية في الخارج لا مجال لإنكاره ووقوعه في الشرعيّات ، ولكنّه لا دخل له بما ذكره ولا ينفعهم في شيء.

وثانيا : أنه على فرض كفاية الترتّب القصدي في إمكان توجيه الأمرين ورفع قبحه بالنسبة إلى غير المقام من مسألة الضدّ ، أو الأهمّ وغيره ، لا يمكن إجراؤه في المقام وأشباهه ؛ ضرورة عدم إمكان أخذ العزم على معصية الخطاب بالقصر في الخطاب بالتمام في حق الجاهل بوجوب القصر في السفر ؛ فإنه يوجب رفع موضوع الخطاب وهو الجاهل ؛ فإنه لم يقل أحد بصحّة صلاة التمام في حقّ المسافر مع علمه بوجوب القصر في السفر إذا عزم على معصية الأمر بالقصر ، بل هو خلاف صريح أخباره أيضا حسبما عرفت.

فإن قلت : الجاهل العازم على التمام مثلا عازم على ترك القصر ومعصية الأمر المتعلّق به فيما كان مقصّرا في نفس الأمر ، وإن لم يكن ملتفتا إلى كون عزمه على تركه عرفا على معصية الأمر المتعلّق به من حيث اعتقاده بعدم وجوبه ، وهذا المقدار كاف في تحقّق شرط توجيه الأمر بالتمام.

٤٦٢

قلت ـ بعد تسليم تحقّق العزم على معصية الأمر بالقصر في حقّ المعتقد بعدم وجوبه ـ : إنا ذكرنا سابقا : أن العنوان المأخوذ في موضوع الأمر لا بد أن يكون قابلا لأن يتحقّق في حق المكلّف مع التفاته إليه وإن لم يكن فعلية الالتفات شرطا ، والعزم على معصية الخطاب بالقصر ليس قابلا لذلك من حيث كون الالتفات إليه موجبا لرفع جهل المكلف على ما عرفت.

فإن قلت : قد ذكرت : أن الجاهل في الفرض عاص من جهة الأمر بالقصر من حيث عدم إمكان الامتثال منه ، فالأمر بالتمام إنّما يتوجّه إليه بعد تحقّق معصية الأمر بالقصر وارتفاعه ، وذكرت : أن التّرتب على الوجه المذكور لا قادح فيه أصلا.

قلت : تحقّق معصية الخطاب بالقصر من الجاهل إنّما هو من جهة تركه المستند إلى جهله ، فلا يمكن أن يؤخذ في عنوان الخطاب من حيث استلزامه لرفع الخطاب إذا التفت إليه على ما عرفت بيانه.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أن ما أفاده في رفع الإشكال من التّرتّب القصدي ـ مع كونه غير تامّ في نفسه ـ لا معنى لتفريع المقام عليه ، فانحصر دفع الإشكال بالالتزام بالوجه الثاني ، وهو : كشف الدليل القائم على الاجتزاء عن وجود المصلحة المحصّلة للغرض ، مع عدم تعلّق الأمر بالمأتي به أصلا على ما عرفت شرح القول فيه.

٤٦٣

وأمّا مسألة الاشتغال بغير الأهمّ مع الأمر بالأهمّ ، فلا إشكال عندنا في الحكم بالبطلان فيها بعد تضعيف ما ذكره هؤلاء الأساطين.

نعم ، إذا غفل عن الأهمّ واشتغل بغيره يمكن الحكم بصحّته بعد قيام الدليل ؛ نظرا إلى ما عرفت في حكم المقام ، بل يمكن الحكم بالصحّة عند الغفلة من دون حاجة إلى قيام الدليل عليه من الخارج ؛ نظرا إلى أن المزاحم هو الأمر بالأهمّ وقد ارتفع بالغفلة ، ولا قصور في فعل غير الأهمّ من جهة المصلحة ، فيكون الإتيان به مجزيا فتأمّل.

وأمّا مسألة الضدّ فالمصحّح لها تعلّق الأمر به وعدم اقتضاء الأمر بضدّه المضيق النهي عنه من حيث منع مقدميّة أحد الضدّين لوجود الآخر ، وإنّما المسلّم عندنا مقدّميّة رفع أحد الضدّين المتشاغل به المحلّ للضدّ الآخر ، وهو لا يجدي نفعا للحكم بفساد الضدّ في محلّ البحث أصلا على ما فصّلناه في محلّه ، فلا أمر هنا حتى يتولّد منه النهي عن الفعل وإن كان على تقدير تحقّقه مقتضيا للفساد ، وإن كان تبعا غيريّا.

لا يقال : إن الأمر بالشيء وإن لم يقتض النهي عن ضدّه ؛ نظرا إلى منع مقدميّة تركه للمأمور به بناء على المنع المذكور (١) ، إلاّ أنه يقتضي عدم الأمر به على ما ذكره الشيخ البهائي قدس‌سره ؛ نظرا إلى امتناع الجمع بينهما في زمان واحد من جهة تضادّهما وتمانعهما ، فلا يمكن تعلّق الأمر بهما معا في الزمان الواحد ، وإن كان أحدهما موسّعا والآخر مضيّقا ؛ لاشتراط القدرة في التكليف من غير فرق بين

__________________

(١) أي منع مقدّميّته أحد الضدّين لوجود الآخر ( منه دام ظلّه ).

٤٦٤

أقسامه ، فإذا حكم بانتفاء الأمر فيحكم بفساده ؛ ضرورة كفاية انتفاء الأمر في الحكم بالفساد إذا كان الضدّ من العبادات على ما هو ظاهر.

لأنّا نقول : اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه ليس من جهة دلالته عليه بإحدى الدلالات اللفظيّة كما ربّما يتوهّم ، بل من جهة منع العقل عنه من حيث لزوم التكليف بالمحال ، فاستناد الاقتضاء إلى الأمر المذكور من جهة تعلّقه بالمكلّف جزما على سبيل التعيين ، فلو تعلّق الأمر بضدّه في زمان تعلّقه لزم التكليف بالمحال القبيح على الحكيم تعالى.

فإذ قد عرفت معنى الاقتضاء والمراد منه في المقام والسبب له نقول : نمنع كون الأمر بالموسع موجبا للتكليف بالمحال ؛ لقدرة المكلّف على امتثاله في غير الوقت المضروب للمضيّق ، فتوجيه الأمرين إليه على الوجه المذكور لا يوجب التكليف بالمحال ، وإن هو إلا كالتكليف بالموسعين.

فإن قلت : الأمر الشرعي بالموقّت الموسّع يرجع إلى التخيير بحسب أجزاء الوقت القابلة لإيقاع الفعل فيها ، ومن المعلوم ضرورة كون الوجوب التخييري كالوجوب التعييني مشروطا بالقدرة ، فإذا لم يكن إيجاد الضدين في الزمان الواحد ممكنا فكيف يتعلّق أمر الشارع به ولو كان الأمر بأحدهما تخييرا؟ إذ تخييريّة الأمر لا يوجب التصرف في قدرة المكلّف ، ولا في التمانع والتضادّ بين الشيئين.

قلت : ما قرع سمعك : من رجوع التوقيت بحسب أجزاء الوقت إلى التخيير الشرعي ، فممّا لا أصل له أصلا ؛ ضرورة عدم تحقّق التكليفين في الموقّت عن

٤٦٥

الشارع أحدهما التعييني والآخر التخييري ، وإنّما المتحقّق بإنشائه الوجوب التعييني ليس إلاّ ، والمفروض قدرة المكلّف على امتثاله.

فإن قلت : سلّمنا عدم رجوع الأمر بالموقت إلى التخيير الشرعي حسبما ذكرت ، إلاّ أنه لا إشكال في التخيير العقلي بين أجزاء الوقت والتكليف عقليّا كان أو شرعيّا يتوقّف على القدرة ، فإذا لم يكن هناك تكليف بالموسّع لا من الشارع ، ولا من العقل ، لا تعيينا ولا تخييرا بالنسبة إلى الزمان المفروض ، فكيف يمكن تحقّق الامتثال من المكلّف؟

قلت : كما نمنع التخيير الشرعي نمنع التخيير العقلي أيضا ، بل نمنع من مطلق الحكم الإنشائي من الشارع والعقل بالنسبة إلى كل جزء من الوقت حتى الترخيص الإنشائي ، وإنّما المتحقق في المقام بالنسبة إلى أجزاء الوقت وغيره ـ ممّا تعلّق الأمر فيه بإيجاد الطبيعة الكلية المتساوية بالنسبة إلى الأفراد والجزئيّات ـ إدراك العقل بعدم الفرق بين الخصوصيّات في تحقق الطّبيعة الكليّة في ضمنها ، فيتحقّق امتثال الأمر بالطبيعة بإيجادها في ضمن أيّ خصوصيّة كانت.

وهذا هو المراد من التخيير العقلي في موارد الأمر بإيجاد الطبيعة الكليّة. كيف؟ والوجود الواحد لا يمكن أن يصير معروضا لحكمين أحدهما : الوجوب التعييني ، والآخر : التخييري ؛ ضرورة اتحاد الطبيعة المطلوب إيجادها للأشخاص في الخارج ، وليس هنا وجودان يتعلّق بأحدهما الوجوب التعييني وبالآخر الوجوب التخييري.

فاتضح ممّا قررنا : أنه لا وجه لما أفاده شيخنا البهائي من الاقتضاء أصلا ،

٤٦٦

هذا بعض الكلام في هذا المقام وتمامه يطلب من محلّه وكان التعرّض لهذا المقدار من جهة التماس ولدي وقرّة عيني ( أطال الله عمره الشريف ) (١) ووفّقه لمرضاته ، وإلاّ فهو خارج عن المسألة المبحوث عنها وإنّما وقع الكلام فيه لمجرّد توضيح الفرق بينه وبين المقام.

__________________

(١) هو آية الله الشيخ مرتضى الآشتياني النجل الأكبر لصاحب البحر رضوان الله تعالى عليه.

ولد سنة ١٢٨١ ه‍ في يوم وفاة الشيخ الأعظم (*) أو عشيّتها ، ومن أجل ما كان يكنّه والده من إحترام وحبّ واعتزاز بالشيخ سماه باسم أستاذه.

ولما اشتدّ ساعده اشتغل بطلب العلم وأخذ عن والده والسيّد ابي الحسن جلوه الحكيم في طهران وعدّة آخرين من الأعلام.

تزوّج بالعلويّة خير النساء كريمة آية الله السيّد محمّد الطباطبائي قائد المشروطة آنذاك وحجّ بيت الله الحرام مع والده سنة ١٣١٢ ه‍ وتوجّه لزيارة العتبات المقدّسة عند رجوعه وأمره والده بالبقاء في النجف الأشرف لينهل من عذب زلالها فحضر عند الآخوند الخراساني والميرزا حسين الخليلي فقها وأصولا كما حضر لدى الشيخ عبد الحسين الصّالحي في المعقول ورجع سنة ١٣١٧ ه‍ إلى طهران واشتغل بالتدريس والتحقيق ، واحتل مكان والده بعد وفاته وقام بوظائفه الدينيّة أحسن قيام.

توفي رضوان الله تعالى عليه في يوم الإثنين ٢٣ ذي الحجة سنة ١٣٦٥ ه‍ ودفن عند مولانا الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله تعالى عليه (**).

(*) كانت وفاة الشيخ الأعظم ١ في ١٨ جمادي الثانية من تلك السنة.

(**) أنظر مكارم الآثار ج ٧ / ٢٣٤٢ عنه شميم روحاني در أحوال وآثار خاندان آشتياني ـ تأليف : مهدي سليماني الآشتياني.

٤٦٧

التنبيه الثالث :

(٨٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا إجراء الأصل في الشبهة الموضوعيّة ). ( ج ٢ / ٤٤١ )

عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة

أقول : قد عرفت تصريحه قدس‌سره في أصل مسألة اشتراط الفحص في العمل بأصل البراءة بعدم اشتراطه في العمل به في الشبهة الموضوعيّة وبخروجه عن محلّ الكلام بقوله : « وأمّا البراءة : فإن كان الشكّ الموجب للرجوع إليها من جهة الشبهة في الموضوع فقد تقدّم ... إلى آخر ما أفاده » (١) فلعلّ الكلام ثمّة تخصيص بالشبهة التحريميّة الموضوعيّة ، فلا يعمّ مطلق الشبهة الموضوعيّة فتأمل.

أو تحرير البحث وتجديده بالنسبة إليها من جهة الإشارة إلى وقوع الخلاف والاضطراب منهم في خصوص الشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة ، وإن كان الحق فيها أيضا عدم اشتراط الفحص.

ثمّ إن لازم اعتبار الفحص في العمل بالأصل مطلقا عدم جريانه فيما كان هناك طريق إلى تحصيل العلم بالواقع على خلاف الأصل أو على طبقه كما في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١١.

٤٦٨

مسألة النظر إلى المعجزة ، والشكّ في بلوغ النصاب مع وجود المكيال والميزان إلى غير ذلك.

كما أن لازمه عند احتمال وجود الطريق إلى تحصيل الواقع الرجوع إليه بعد الفحص ، وعدم الاطلاع على الطريق وإن لم يتعيّن عليه الفحص في هذا القسم ، وجاز له الأخذ بالاحتياط ، كما التزموا به فيما علم بلوغ الخالص نصابا ولم يعلم مقداره.

ثمّ إنه لا إشكال في اضطراب كلماتهم في مصاديق الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة كما يعلم مما حكاه شيخنا قدس‌سره والرجوع إلى ما لم يحكيه من الكلمات حتى من الفقيه الواحد ، كما يعلم من نقل كلامي العلامة قدس‌سره في « الكتاب » وإن اتفقوا ظاهرا على عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، فلعلّه من جهة الإشارة في أخبارها إلى عدمه ، مضافا إلى الإطلاق كما في رواية مسعدة بن صدقة (١) وغيرها.

ومحلّ الكلام في المسألة حتى في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة على ما عرفت الكلام فيه مرارا : ما لم يكن هناك أصل موضوعيّ يبيّن حال الموضوع

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب ( النوادر » ـ ح ٤٠ ، عنه التهذيب ج ٧ / ٢٢٦ باب « من الزيادات » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ج ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الإتّفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.

٤٦٩

المردّد ، وإلاّ فهو خارج عن مجرى البراءة حقيقة.

والحق فيها عدم اشتراط الفحص لما أسمعناك مرارا ـ مضافا إلى إطلاق الأخبار ـ : من حكم العقل بالبراءة قبل الفحص من غير فرق بين الشبهتين ولم يقم فيهما دليل عليه كما قام عليه في الشبهة الحكميّة.

والقول : بأنّ مقتضى الخطاب الإلزامي المتعلّق بالواقع في حكم العقل الفحص عن مصاديقه حتى لا يقع في خلاف الواقع ؛ من حيث لزوم تحصيل العلم بالبراءة عمّا اشتغلت الذمّة به يقينا بقدر الإمكان ، لا محصّل له أصلا ؛ لأن نفس الدليل المثبت للحكم للموضوعات الواقعيّة النفس الأمريّة لا يمكن دلالته على وجوب الفحص عن حال المشكوك.

وحكم العقل بذلك إن كان من جهة توهّم جريان قاعدة الشغل اليقيني في المقام فهو ممنوع جدّا ؛ لأن العلم بالاشتغال مع الشكّ في أصل موضوع الخطاب ممّا لا يعقل له معنى ، إلاّ أن يريد تعلق الخطاب بذمّة المكلّف على تقدير ثبوت موضوعه في نفس الأمر ؛ فإنه غير منكر في المقام ، لكنّه لا يفيد في تنجز الخطاب والعلم بالاشتغال كما هو ظاهر.

مضافا إلى عدم جواز الفرق على تقدير تسليمه بين الشبهتين ، وإلى أن مقتضاه المنع من الرّجوع إلى البراءة مطلقا حتى بعد الفحص كما هو ظاهر. ومن هنا قالوا بوجوب الاحتياط في دوران الفائتة بين الأقلّ والأكثر على ما أسمعناك

٤٧٠

سابقا ، وإن كان من جهة أخرى مختصّة بالشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة من غير أن يكون مبنيّا على جريان قاعدة الشغل فلا بدّ من بيانها حتى ينظر فيها.

ودعوى : بناء العقلاء على الفحص في بعض الموارد كالمثال الذي ذكره شيخنا قدس‌سره من الأمر بإحضار الأطبّاء ، أو ضيافة العلماء.

ممنوعة إلاّ فيما علم العبد بالوقوع في مخالفة الواقع على تقدير اقتصاره على المعلوم التفصيلي من العالم والطبيب ، فيرجع إلى العلم الإجمالي بوجود متعلّق الخطاب بين المشتبهات ، فيجب : إمّا الاحتياط فيما لم يكن هناك محذور منه ، أو رفع العلم الإجمالي بتشخيص المعلوم بالإجمال. وأين هذا من اعتبار الفحص في الشبهة الموضوعيّة البدويّة للعمل بأصل البراءة؟

والحاصل : أنّ مجرّد تعلّق الخطاب بالموضوع الكلّي النفس الأمري مع الشكّ في صدقه على بعض الأمور الخارجيّة لا يجدي في إثبات وجوب الفحص أصلا ، والعقل مستقلّ بجواز الأخذ بالبراءة مع هذا الشكّ ، وإن كان الحكم الواقعي تابعا لوجود موضوعه في نفس الأمر ومتعلّقا بالمكلّف في مرحلة الواقع على تقدير تحقق موضوعه ؛ فإنه لا ينافي معذوريّة المكلّف في مخالفته من دون فحص عن حال الموضوع ، كما أنه معذور في مخالفته مع الفحص عنه مع بقاء الشكّ.

ولا فرق في ذلك بين العلم الإجمالي بوجود الموضوع في الخارج مع تردّده بين الأقلّ والأكثر ، والزائد والناقص ، وبين عدم العلم به أصلا ؛ فإن العلم

٤٧١

الإجمالي مع انحلاله إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي لا أثر له في تنجيز الخطاب بالنسبة إلى المشكوك أصلا في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، بل فيهما إذا كانا ارتباطيّين أيضا على ما أسمعناك في محلّه تبعا للمشهور ، مع أنه لو كان مؤثّرا لوجب الحكم بالاحتياط بعد الفحص وبقاء التردّد أيضا.

فما ذكره غير واحد في الفضّة المغشوشة ، وفي باب الغلاّت محلّ مناقشة ومنع كما لم يلتزموا به في نظائرهما ، مع أنّه لا فارق هناك أصلا. وهذا حقيقة مناقشة أخرى على ما ذكروه كما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب ».

كما أنه لا فرق فيما ذكرنا بين علم المكلّف بوقوعه وقوع غالب المكلّفين في مخالفة الواقع في الجملة على تقدير الرجوع إلى الأصل قبل الفحص عن حال الموضوع ـ كما ادّعى بالنسبة إلى الشكّ في وجوب الحجّ من جهة الشكّ في كون ماله بقدر الاستطاعة من جهة عدم احتسابه ؛ فإن الرجوع إلى الأصل يوجب تأخيره عن السنة الأولى في حق غالب المكلّفين ـ وبين عدم علمه بذلك ؛ فإنّ العلم الإجمالي المذكور الذي أحد طرفيه غيره من المكلفين وغير الواقعة المشكوكة من الوقائع المستقبلة لا يجدي شيئا ، وإلاّ كان اعتبار الفحص في الرجوع إلى أصالة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة أولى من المقام كما هو ظاهر.

وأمّا ما أفاده شيخنا في « الكتاب » من توجيه الفرق فإنّما ذكره وجها لا اعتقادا كما هو ظاهر لمن له أدنى دراية هذا. مع أنّ هنا مناقشة في الصغرى أيضا

٤٧٢

كما يشير إليه قوله قدس‌سره : « ولكن الشأن في صدق هذه الدعوى » (١) لكنّها ليس من دأب المحصّلين إلاّ أن يرجع إلى المنع الكلّي فتدبّر.

وأمّا ما أفاده في « الكتاب » وأوضحه في « القوانين » فكأنه مبنيّ على ما ذكروه في تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على حجيّة خبر العادل : من استفادة الوجوب النفسي من الأمر بالتبيّن على ما عرفته سابقا في الجزء الأوّل كما هو الأصل في باب الأوامر.

فإذا كان لأخبار الفاسق الواقعي سببا لتكليف شرعيّ إلهيّ وهو وجوب التثبّت في خبره ، فإذا شكّ في حال المخبر من حيث الفسق والعدالة فيجب الفحص عن حاله ، فلا يمكن نفي وجوب التثبت قبل الفحص عن حال المخبر على ما عرفت من التوهّم المزيف عندنا ، وإلاّ فعلى الوجوب الشرطيّ ليس هنا محلّ توهّم الرجوع إلى أصالة البراءة عند الشكّ في حال المخبر ؛ فإن الأصل المرجع في هذا الشك : أصالة عدم الحجيّة والحكم بالحرمة وإلحاق مشكوك الفسق بمعلومه فلا تعلّق له بالمقام أصلا. ومن هنا لا يفرّق في حكمه بين قبل الفحص وبعده مع بقاء الشكّ ؛ فإنّ الحكم فيهما البناء على الحرمة.

نعم ، يجب الفحص عن حال المخبر إذا كان في سند الروايات بعد البناء على حجيّة خبر العادل في الأحكام الشرعيّة من حيث لزوم الفحص عن الطريق

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٤٦.

٤٧٣

الشرعي موضوعا وحكما ، فكما أنه لا يجوز الحكم بعدم حجيّة أمارة قبل الفحص عن حالها من حيث الحكم الكلّي الأصولي ، كذلك لا يجوز الحكم بعدم حجيّة ما كان مردّدا بين الحجّة وغيرها قبل الفحص ؛ فإنّ إجراء الأصل في الشبهة الحكميّة أو ما يؤول إليها مشروط بالفحص مطلقا من غير فرق بين أصالة البراءة وغيرها على ما عرفت سابقا ، فوجوب الفحص في مجهول الحال إنّما هو من حيث احتمال كونه عادلا وخبره حجّة لا من حيث كونه فاسقا يجب التبيّن نفسا في خبره والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

مع أن ما ذكرنا : من وجوب الفحص من الحيثيّة المذكورة ليس من مقتضيات تعلّق الخطاب بالواقع ، بل من جهة ما عرفت من الوجوه.

نعم ، مع تعلّق الخطاب بالواقع يحكم بوجوب الفحص من جهة الوجوه المذكورة ؛ فإنّه محلّ للفحص دون ما إذا تعلّق بالمعلوم.

والقول بوجوب الفحص عن حال المخبر على تقدير تعلّق حكم الحجيّة إلى معلوم العدالة أيضا ، اللهم إلاّ أن يستظهر من دليله كون الموضوع من علم عدالة من دون فحص ، كما ترى.

فما ذكره في « القوانين » تأييدا لما أفاده في « المعالم » لا يعتريه ريب أصلا ، إلاّ أنه لا ينتج وجوب الفحص أصلا على ما عرفت بيانه وتنزيله على ما ذكرنا : من الحيثيّة والبيان لوجوب الفحص عن حال مجهول الحال لا يساعد عليه كلامهما أصلا كما لا يخفى.

٤٧٤

(٨٤) قوله قدس‌سره : ( وأما الكلام في مقدار الفحص (١) ، فملخّصه : أنّ حدّ الفحص (٢) ...

__________________

(١) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : مقدار الفحص يتفاوت بالنسبة إلى الأدلّة الدالّة على وجوبه ، فإن اعتمدنا فيه على العلم الإجمالي بثبوت التكليف فيما بأيدينا من الأدلّة ، فحدّه الفحص إلى أن يحصل الجزم بعدم دليل مثبت للتكليف في أطراف الشبهة بحيث يندرج المورد في الشكوك الإبتدائيّة التي هي مجرى البراءة.

وإن اعتمدنا على الإجماع ونحوه من الأدلّة المجملة ، فغاية مفادها وجوب الفحص إلى أن يظن بعدم الدليل. وإن استندنا إلى حكم العقل بوجوب الفحص وعدم معذوريّة الجاهل المكلّف المتمكّن من الإستعلام فحدّه إلى أن يظهر له العجز ويكون فيما زاد عليه مشقّة منفيّة بعمومات نفي الحرج الواردة على حكم العقل بوجوب الفحص.

وإن عوّلنا على الأخبار وقلنا بدلالتها على الوجوب مطلقا فحدّه لزوم الحرج ؛ لحكومة أدلّة نفي الحرج على المطلقات المثبتة للتكاليف.

وإن بنينا على جميع الأدلّة وجب الأخذ بمقتضيات الجميع كما لا يخفى » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٠٠.

(٢) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

لا يخفى ان في مقدار الفحص وجوها :

أحدها : وجوب الإنتهاء في الفحص إلى أن يحصل العلم بعد الدليل الناقل.

وثانيها : وجوبه إلى أن يحصل اليأس من وجدانه في الكتب المعتبرة التي بأيدينا اليوم وهو إختيار المصنّف قدس‌سره.

٤٧٥

إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٤٧ )

__________________

وثالثها : جواز الإكتفاء فيه بمطلق الظن بعدم الدليل الناقل وتنشأ من حرمة العمل بما عدى العلم ومن انه إن أريد من العلم بعدمه في الواقع فهو متعذّر ، وإن أريد العلم بعدمه في الكتب التي يمكن الوصول اليها فهو متعسّر وموجب لتعطيل أكثر الأحكام فلا بد من التنزّل إلى اعتبار الظن ، ولكن الظن إذا اختلفت مراتبه قوّة وضعفا فالعقل لا يجوّز العدول عن القوي إلى الضعيف كما قرّر عند تقدير دليل الإنسداد ، ومن انه اذا إكتفى في إثبات أصل الأحكام بالظن ففي الفحص عن أدلّتها بطريق أولى.

وفيه : انه إن أريد هذا على القول بمطلق الظن ، يردّ عليه : انه لا وجه لإشتراط الفحص إلى ان يحصل الظن بالعدم على هذا القول ؛ لأنه مع حصول الظن بالعدم يكون هذا الظن دليلا على عدم الحكم فلا وجه معه للإستناد إلى أصالة البراءة اللهمّ إلاّ أن يريد إفادة الفحص مع ضميمة أصالة البراءة للظن بالعدم فتأمّل.

وإن أريد على القول بالظنون الخاصّة ، يرد عليه : ان هذه الظنون علوم شرعيّة ولا يلزم من الإكتفاء بها الإكتفاء بمطلق الظن ، وقد عرفت الدليل على الإكتفاء بالظن الأقوى ، مضافا إلى إمكان دعوى بناء العقلاء عليه في خصوص المقام ، اللهم إلاّ أن يدعى كون اعتبار الظن الأقوى أعني : الإطمئنان والوثوق بالعدم موجبا لتعطيل أكثر الأحكام نظير ما عرفته في اعتبار العلم وهو غير بعيد » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤١٠.

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

الوجوه المحتملة لأن تكون حدّا للفحص العلم بعد وجود الدليل واقعا ، والعلم بعدم وجوده فيما بأيدينا من الأدلّة والعلم بعدم وجدان الدليل وإن زاد الفحص بالغا ما بلغ ، والظن بالعدم

٤٧٦

الكلام في مقدار الفحص اللاّزم

أقول : لا إشكال بل لا خلاف في أنّ حدّ الفحص سواء كان عن وجود الدليل على الحكم ، أو المعارض لما كان موجودا في المسألة من الدليل هو : التبيّن عن حالهما بحيث يحصل له الاطمئنان بعدهما ، ويحصل له البأس عن وجودهما ، كلّ على مذهبه فيما هو دليل على الحكم : من الظن الخاص ـ على اختلاف مذاهبهم ومسالكهم في الأخبار وغيرها ـ والظن المطلق.

__________________

بأحد الوجوه الثلاثة واليأس عن الوجدان ولعله يرجع إلى الظن الإطمئناني بعدم الوجدان.

وكيف كان : مقتضى الأصل الأوّلي لزوم الفحص إلى ان يحصل العلم بعدم الوجدان بعد ذلك لو كان دليل وجوب الفحص ما سوى الإجماع من الأدلّة المتقدّمة في المتن حتى يصدق العجز عن التوصّل إلى الحكم الواقعي لو كان ثابتا في الواقع فيسقط ، إلاّ ان الإكتفاء بالظن واليأس عن العثور ثابت لما ذكره المصنّف في المتن مفصّلا ، وأمّا إن كان دليل وجوب الفحص الإجماع على عدم جواز التمسّك بالأصل قبل الفحص فيمكن أن يقال : إن القدر المتيقّن منه ليس إلاّ ما قبل حصول الظن بالعدم وبعد حصوله لا إجماع على وجوب الفحص فيتمسّك بإطلاق أدلّة الأصل ولا حاجة إلى هذه المتعبة في إثبات الإكتفاء بالظن ، بل لا يبعد أن يقال بمثله لو كان دليل وجوب الفحص حكم العقل ؛ فإنه لا يحكم ببعد حصول اليأس فتدبّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٤٣.

٤٧٧

ولا يتوهّم : أنه على مذهب القائل بالظنّ المطلق في الأحكام يجوز الأخذ بكلّ ما يحصل الظنّ منه في المسألة في ابتداء النظر من دون استقصاء الفحص في مزاحماته وموانعه ، بل هو من هذه الجهة نظير القائل بحجّيّة الظّنون الخاصّة من حيث لزوم الفحص عليه بعد تحصيلها عن مزاحماتها في المسألة.

ولا يجوز الاقتصار على تتّبع كتب الأخبار من الأربعة وغيرها من الأصول المعروفة ، بل لا بدّ من التتبّع في تحصيل الدليل في كتب الفتاوي حتى يعرف مورد الخلاف والوفاق ، ويلاحظ مع ذلك الآيات المتعلّقة بالأحكام من كتاب العزيز ، بل ربّما يستغنى من تتّبع الكتب المبسوطة الاستدلاليّة المشتملة على ذكر تمام أدلّة المسألة عن الفحص في كتب الأخبار لعلمه أو اطمئنانه بنقل جميع ما له تعلّق بالمسألة من الأخبار فيها.

فغرض شيخنا قدس‌سره من كفاية تتبّع كتب الأربعة وغيرها من الكتب التي يسهل تناولها لنوع أهل عصر المستنبط ، إنّما هو كفايته من حيث التتبّع في الأخبار لا مطلقا بحيث يكفي الفحص فيها عن الفحص في دليل المسألة مطلقا ، ولو احتمل هناك إجماع على خلاف مقتضى الأصل في كتب الفتاوي ، أو احتمل وجود آية متكفّلة لحكم المسألة على خلاف الأصل.

والوجه فيما ذكرنا : من كفاية تحصيل الاطمئنان واليأس عن الدليل في المسألة ، وعدم لزوم تحصيل العلم بعدمه ـ مضافا إلى كونه مقتضى القاعدة بعد

٤٧٨

لزوم الاقتصار في تقييد الإطلاقات على القدر الثابت ـ هو ما أشار إليه شيخنا قدس‌سره : من لزوم تعطيل استعلام حكم سائر المسائل على تقدير عدم كفايته ، مع أنه لا طريق له أصلا ؛ إذ احتمال وجوده فيما ليس بأيدينا من الكتب لا يرفعه شيء ، فكيف يمكن تحصيل العلم بالعدم مع هذا الاحتمال؟

والاحتياط الكلّي موجب للحرج يقينا ، والرجوع إلى من يدّعي العلم في المسألة لا معنى له أصلا في حقّ من له ملكة الاستنباط ، مضافا إلى أن الكلام في حكم المسألة من حيث هي فيفرض سدّ باب العلم في حقّ جميع المجتهدين.

وبالجملة : لا معنى لأن يكون الحكم في حق مجتهد الرجوع إلى غيره ، إلاّ إذا كان فتواه بمنزلة الرواية لهذا المجتهد من حيث العلم بكونه في الفتوى مقتصرا على نقل متون الأخبار بحيث لا يتجاوز عنه أصلا ، فيكون فتواه حينئذ من نقل الحديث ولو بالمعنى كما هو رسالة الشيخ علي بن بابويه (١).

وأمّا ما ذكره بعض المشايخ من المتأخّرين (٢) : من أن سيرة المجتهدين جرت في أوائل أمرهم على التقليد من جهة فقد أسباب للاجتهاد لهم في المسائل (٣) ، فهو في حيّز المنع ؛ إذ لم يعلم من أحد منهم ذلك ، فضلا عن

__________________

(١) الصّدوق الأوّل علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي المتوفي سنة ٣٢٩ ه‍.

(٢) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة ١٢٢٨ ه‍.

(٣) لم نعثر عليه عجالة.

٤٧٩

جريان سيرة الكل عليه.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من اختلاف مقدار الفحص وكيفيّته بحسب الأعصار والأزمنة فهو مما لا شبهة فيه في الجملة ، بل قد يختلف بحسب الأمكنة واختلاف حالات الأشخاص على ما عرفت الإشارة إليه سابقا ؛ فإن الفحص في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الواقعة قبل تكميل الدين والشريعة في حق من كان في بلده إنّما هو بحضور مجلسه من دون سؤال ، إلاّ فيما علم ، أو احتمل تبليغه لحكمه مع عدم وصول البيان بالنسبة إليه ؛ فإنّه لا بدّ من السؤال إمّا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من الوسائط. وبعد تكميل الدين في أعصار الأئمة إنّما هو بالسؤال عن حكم الواقعة عن الإمام في حق من يتمكن من السؤال عنه ، أو الوسائط المعتبرة ، أو الرجوع إلى الأصول المعتبرة نظير فحص العامي عن فتوى المجتهد في الواقعة.

وفي زماننا هذا وأشباهه من أزمنة الحرمان عن التشرّف بلقائهم الشريف ولقاء المنصوب منهم بالخصوص وأصحابهم الذي يروون عنهم قبل تدوين كتب الفتاوي ، إنّما كان بالرجوع إلى كتب الروايات وكتاب العزيز ، وبعد تدوين كتب الفتاوي لا بدّ من الرجوع إليها أيضا في كل عصر وزمان بحسبه ، وفي حق كلّ شخص بحسبه من حيث قدرته على استقصاء تمام الكتب وعدم قدرته على ذلك. وهذا كله ممّا لا إشكال بل لا خلاف فيه أصلا ، هذا فيما لو تمكّن من الفحص بحسب حاله.

٤٨٠