بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

لأنا نقول : الفرق بين المقامين ظاهر ؛ لأن مقتضى البراءة بعد الفحص بحكم الشارع والعقل عدم الالتفات والاعتناء باحتمال اعتبار الزائد في المأمور به ، فيتبيّن المأمور به في مرحلة الظاهر بالمعنى الذي عرفت ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإن مقتضى العقل والنقل فيه وجوب الالتفات إلى الاحتمال المزبور ، فحاله حال الشاكّ في المأمور به على القول بوجوب الاحتياط في ماهيّات العبادات.

لا يقال : على ما ذكرت : من المناط لا يمكن تحقّق قصد التقرّب ممّن يجب عليه الاحتياط عند دوران الأمر في المكلّف به بين المتباينين ؛ ضرورة عدم علمه عند إتيانه بكلّ منهما كونه مأمورا به ، وإلاّ لم يكن متردّدا.

لأنا نقول : تحقّق قصد التقرّب من المحتاط في الفرض المزبور إنّما هو من جهة قصده الإتيان بهما معا الذي هو مشتمل على الإتيان بالمأمور به قطعا. ومن هنا نقول : بعدم إمكان تحقّق قصد التقرّب منه لو كان بانيا من أول الأمر على الاقتصار بأحدهما هذا. ولكن المختار عند شيخنا في « الرسالة المعمولة في التقليد » صحّة عبادة المتردّد فراجع إليها. هذا بعض الكلام في الموضع الأوّل.

وأمّا الكلام في الموضع الثاني فحاصله :

أنه لا إشكال في تحقق قصد التقرّب منه ولو كان مقصّرا في ترك الفحص عن الواقع فأمره لا يخلو : إمّا أن يعلم ، أو يظنّ بالطريق المعتبر ـ بعد التبيّن

٤٢١

والرجوع ـ كون ما أتى به مخالفا للواقع ، أو كون ما أتى به موافقا للواقع ، أو يجهل الأمران من جهة عروض الغفلة عن صورة العمل السابق. فهذه صور ثلاث لا رابع لها.

أمّا الصورة الأولى : فمقتضى القواعد أن يحكم فيها بالفساد مطلقا.

نعم ، من زعم كون اعتقاد الأمر مؤثّرا في الإجزاء وعبّر عنه بالأمر العقلي كالمحقق القمي قدس‌سره في « القوانين » يلزمه الحكم بالصحّة في هذه الصورة ، لكن رأينا منه في الفقه في مواضع من أجوبة مسائله : عدم التزامه بهذا وحكمه بالفساد ووجوب الإعادة عند تبيّن الخلاف في بعض جزئيّات هذه الصّورة.

وأمّا الصّورة الثانية : فلا إشكال في الحكم بالصحّة فيها لكون العمل مطابقا للواقع بالفرض وقد قصد التقرب أيضا ، فيلزمه سقوط الأمر بحكم العقل. واعتبار استناد العمل إلى الطريق المعتبر عند وجوده في صحّته ممّا لم يقم عليه دليل ، بل الدليل على خلافه بعد حمل أوامر الطرق على الإرشاد إلى تحصيل الواقع ، وهذا أمر لا سترة فيه أصلا.

ثمّ إنّ تبيّن المطابقة قد يكون بالعلم ، وقد يكون بالطريق الشرعي من الاجتهاد والتقليد.

وتوهّم : عدم تأثير الطريق الشرعي بالنسبة إلى الوقائع الماضية ، قد عرفت

٤٢٢

وضوح فساده ، وأن مفاده الكشف عن الواقع من غير فرق فيه بين الوقائع أصلا ، كعدم الفرق في مفاد دليل اعتباره فراجع.

وأمّا الصّورة الثالثة : فلا إشكال أيضا في كون الحكم فيها البناء على الصحة ، من جهة قاعدة الشكّ بعد التجاوز والفراغ وخروج الوقت كما فصّل القول فيه في محلّه.

* * *

٤٢٣
٤٢٤

[ تنبيهات ضمن الفصل السابق ]

التنبيه على أمور في الجاهل

العامل قبل الفحص

الأوّل : هل العبرة في عقاب الجاهل بمخالفة الواقع أو الطريق؟

الثاني : معذوريّة الجاهل بالقصر والإتمام والجهر والإخفات

الثالث : عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة

٤٢٥

التنبيه الأوّل :

هل العبرة في عقاب الجاهل بمخالفة الواقع أو الطريق؟

(٨١) قوله قدس‌سره : ( وجوه : من أن التكليف الأوّلي إنّما هو بالواقع ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٣٣ )

__________________

(١) قال المحقّق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لأن المقصود الاوّلي من تكليف العباد إمتثال الأحكام الواقعيّة الأوّليّة والطرق الشرعيّة إنّما اعتبرت لكونها غالبة الإيصال إليها لا من حيث الموضوعيّة وموافقة هذه الطرق إنّما تجدي بالنسبة إلى من سلك بها لا بالنسبة إلى من أهملها وسلك في امتثال الأحكام الشرعيّة سبيل هواه.

وهو كما ترى في غاية من الضعف ؛ لأن الكلام في عمل الجاهل على طبق البراءة من دون فحص أعم ممّا أمكن بعد الفحص في مورد العمل للوصول إلى الواقع على سبيل القطع وإلى طريق شرعي معتبر ومما لم يمكن فيه ذلك لأجل عدم وجود طريق قطعي وظنّي في الواقع ومما أمكن فيه أحدهما دون الآخر ، وعلى الأوّل أعم ممّا وافق الطريق للواقع ومما خالفه ، وعلى جميع التقادير أمكن فيه الإحتياط أم لا.

كما إذا دار الأمر بين المحذورين كما دار الأمر بين وجوب فعل وحرمته ولا ريب أيضا انّه لا فرق في مؤدّيات الأدلّة الدالّة على وجوب العمل بمقتضى الطرق الشرعيّة بين من كان طالبا

٤٢٦

الوجوه الأربعة في المسألة وإلحاق خامس بها

أقول : لا يخفى عليك أن هنا وجها خامسا قد سبق إلى بعض الأوهام ، وهو : التفصيل في إناطة المؤاخذة بمخالفة الطريق بين كونه مما اعتبره الشارع من حيث

__________________

للوصول إليها والعمل بمؤدّاها ومن أعرض عنها وأخذ في عمله سبيل هوى نفسه.

نعم ، لا يجب الأخذ بها تعيينا على من تمكّن من تحصيل العلم بالواقع تفصيلا أو إجمالا بالإحتياط ، وحينئذ فدعوى عدم ثبوت التكليف بالطرق الظاهريّة إلاّ لمن عثر عليها واضحة الفساد ؛ لأنه إن أريد بنفي التكليف عمّن لم يعثر عليها نفيه عمّن لم يعثر عليها بعد الفحص فهو خارج ممّا نحن فيه ، وإن أريد نفيه عمّن لم يعثر عليها قبل الفحص فهو مناف لمقتضى أدلّتها كما عرفت سيّما فيما لا يمكن تحصيل الواقع فيه تفصيلا ولا إجمالا بالإحتياط ، إمّا لعدم كون الواقعة موردا له بالذات كما عرفت ، أو لعروض المانع منه مع فرض التمكّن من الفحص ووجود الطريق الشرعي في الواقع بحيث يصل إليه بعد الفحص.

نعم ، تسليم ثبوت التكليف بها مع وجودها في الواقع وإمكان العثور عليها بعد الفحص ومنع تأثير الموافقة الإتفاقيّة لها حينئذ مع مخالفة العمل للواقع في إسقاط العقاب كلام آخر سيوضّحه المصنّف رحمه‌الله عند بيان ما قوّاه ، ومما قدمناه من تعميم محل الكلام لما قدمناه يظهر أن قوله في بيان الوجه الثاني : ( أن الواقع إذا كان في علم الله سبحانه ... إلى آخره ) وكذا قوله في بيان الوجه الثالث : ( فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالإحتياط ) وكذلك قوله في بيان الوجه الرابع : ( ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ) أخصّ من المدّعى مضافا إلى ضعف الوجوه المذكورة كما يظهر بالتأمّل في بيان ما قوّاه » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٠٦.

٤٢٧

ملاحظة المصلحة في الجملة ، وكونه معتبرا من حيث الكشف والطريقيّة المحضة كالظنّ المطلق على القول به من جهة دليل الانسداد ونحوه ـ مما تقدّم تفصيل الكلام فيه ـ فيناط بمخالفته في الأول دون الثاني ، وستقف على وجهه في طيّ بيان الوجه للوجوه الأربعة.

ثمّ إن ما أفاده قدس‌سره في بيان الوجه الأول المختار عندنا وعند المحققين ظاهر ، وإن كانت العبارة لا تخلو عن قصور في بيانه.

وتوضيحه : أنا قد أسمعناك مرارا كثيرة : أن تنجّز الخطابات الإلزاميّة الواقعيّة في حقّ القادر على موافقتها ولو بالاحتياط إنّما هو بمجرّد الالتفات والاحتمال ، وليس المعذور في مخالفتها إلاّ الصنفين :

أحدهما : المتفحّص عنها بقدر وسعه بحيث يحصل شرط الرجوع إلى البراءة.

ثانيهما : من استند في مخالفتها إلى العمل بالطريق المعتبر من جميع الجهات ، فمجرّد وجود الطريق المخالف للحكم الواقعي في الواقع لا يجدي في المعذوريّة وإن كان حكما ظاهريّا ثابتا في حقّه مع جهله به ، بل الطريق المعثور عليه المخالف له لا يجدي في المعذوريّة أيضا وإن كان حكما له ، بل الطريق المخالف له المعثور عليه إذا كان العمل مطابقا له من دون استناد إليه لا يجدي أيضا ؛ لأن الموجب للمعذوريّة في حكم العقل هو العمل بالطريق بمعنى الاستناد إليه على ما عرفته مرارا فيما حكم بحجيّته من الظنون وما حكم بحرمته ؛ فإنك قد عرفت ثمّة : أن مجرّد الموافقة الاتفاقيّة لا يعدّ عملا بالظّنّ أصلا هذا.

٤٢٨

وأمّا وجه الثاني : فهو مبنيّ على منع تنجّز التكليف بالواقع الذي ليس هناك طريق في علم الله لمعرفته ، وإنّما المنجّز في حقّه مفاد الطريق الذي يعثر عليه بعد الفحص في علم الله ؛ حيث إن مفاده حكم شرعي إلهيّ وإن كان ظاهريّا ؛ لعدم الفرق في وجوب إطاعة الله بين أحكامه الإلزامية.

ومنه يظهر الوجه لخامس الوجوه ؛ حيث إن ما كان من الطريق مبناه على الطريقيّة المحضة يكون الأمر بالعمل به ممحّضا في الإرشاد ، فلا أثر لمخالفته إلاّ من حيث مخالفة الواقع المتحققة بسببها ، بخلاف ما كان مبناه على ملاحظة المصلحة ؛ فإن له مطلوبيّة حسب اقتضاء المصلحة فيكون سلوكه مطلوبا في نفسه ، فلا محالة يكون لمخالفته تأثير مع قطع النظر عن مخالفة الواقع.

وأمّا وجه الثالث : فهو كون كل من التكليف الفرعي المتعلّق بنفس الواقع والتكليف الأصولي المتعلّق بالطريق الذي يعبّر عنه بالحكم الظاهري حكما إلزاميّا إلهيّا منجّزا على المكلّف بمجرّد الالتفات والقدرة على الفعل ولو بالاحتياط ، أو الاطلاع عليه بالفحص عنه والعمل بمقتضاه. فإذا خالف أحدهما فيلزمه استحقاق العقاب عليه. كما أنه لو فرض مخالفتهما استحقّ عقابين ، ولو فرض عدم مخالفة شيء منهما لم يستحق عقابا أصلا.

وهذا معنى كفاية مخالفة أحدهما في استحقاق المؤاخذة ، ولا ينافي الحكم باستحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الأصولي كونه ظاهريّا ومجعولا في موضوع الجهل بالواقع ؛ فإنه وإن كان ظاهريّا بهذه الملاحظة ، إلاّ أنّه واقعي ومتحقّق في موضوعه في نفس الأمر أيضا كالواقع الأوّلي.

٤٢٩

وأمّا وجه الرابع : فهو المنع من تنجّز الواقع الذي لم يقم عليه طريق فإذا كان هنا حرمة للفعل بحسب نفس الأمر ، ولم يكن هناك طريق على حرمته ، أو كان هناك طريق على نفيها لم يكن ثمة عقاب ، والمنع من كون الخطاب المتعلق بالطريق مؤثّرا في نفسه في استحقاق العقاب على مخالفته ، فإذا كان مفاده الإلزام ولم يكن هناك إلزام في الواقع لم يكن هناك مقتض لاستحقاق العقوبة أصلا.

نعم ، لو كان الفعل في الواقع حراما مثلا وكان مفاد الطريق الذي يطّلع عليه بعد الفحص الحرمة أيضا حكم بتنجّز الحرمة الواقعيّة وهذا معنى كفاية موافقة أحدهما في عدم الاستحقاق.

نعم ، لو قيل باستحقاق العقوبة على التحريم لزم الحكم باستحقاق العقاب من جهة في جميع صور عدم العذر سواء اطّلع على الطريق مخالفها أم لا ، غاية ما هناك : تعدّد العقاب عند تنجّز الواقع.

وبمثل ما ذكرنا لا بدّ أن يحرّر الوجه الرابع لا بما أفاده ؛ فإنه مضافا إلى ما فيه : من تخصيص التكليف المتعلّق بالطريق بمن علم به كما ذكره في وجه الوجه الأوّل أيضا ـ مع أنه غير معقول بظاهره ـ يقتضي انتفاء العقاب رأسا ولو خالفهما جميعا كما يشعر به قوله : « من باب حرمة التجرّي » (١) (٢) فإنه ظاهر في كون عقابه

__________________

(١) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : يعني في صورته تأديته إلى إثبات حكم مخالف للواقع » إنتهى. ـ حاشية فرائد الأصول : ٢٩١.

٤٣٠

عند مخالفة الطريق بعد الاطّلاع مبنيّا على حرمة التجرّي ، وإن كانت العبارة لا يخلو عن شيء مع وضوح المراد هذا.

مضافا إلى ما عرفت : من ثبوت حرمة التجرّي على القول بها مطلقا من غير فرق بعد الحكم بعدم معذورية الجاهل في محلّ البحث كما هو المفروض ، فالتجرّي حقيقة إنّما هو بالإقدام على محتمل المخالفة للواقع لا على مخالفة الواقع من حيث إنه واقع ، ولا على مخالفة الطريق من حيث هو هو كذلك ، فما أفاده محلّ مناقشة من وجوه.

فقد تبيّن مما ذكرنا : أن الأوجه هو الوجه الأوّل وحاصله : تنجّز التكليف بالواجب والحرام الواقعيّين في حق الجاهل في مفروض البحث وعدم المانع من تنجّزه أصلا ؛ إذ ليس إلاّ عدم الاطّلاع عليه بعد الفحص ، وقد عرفت : أنه لا يصلح للمانعيّة بعد فرض قدرة المكلّف على الامتثال ولو بالاحتياط ، والمفروض أيضا عدم فحصه عن الواقع وسلوكه لطريق معتبر بنفسه حتى يكون معذورا في حكم

__________________

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« متعلّق بقوله : ( ثابتا ) ثبوت التكليف بالطرق إنما هو من باب كون حرمة مخالفته من باب حرمة التجرّي فلا يثبت على مخالفتها عقاب من حيث هو لا قبل العثور عليها ولا بعده » إنتهى.

أوثق الوسائل : ٤٠٧.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٤.

٤٣١

العقل ، هذا إذا كان التكليف الإلزامي ثابتا في الواقع. وأما إذا لم يكن ثابتا في الواقع وكان هناك طريق يقتضيه فلا مقتضى للعقاب أصلا.

أمّا على الواقع : فلأنه ليس هناك إلزام على ما يقتضيه الفرض.

وأمّا على الطريق : فلأن مفاده وإن كان هو الحكم الإلزامي ، إلاّ أنه لا يؤثّر في العقاب من حيث كون الأمر المتعلّق به إرشاديّا ، وإن فرض ملاحظة المصلحة في الأمر ؛ حيث إنها تعتبر في فعل الشارع من حيث امتناع صدور القبيح منه فيما كان الأمر بسلوكه مع التمكّن من تحصيل الواقع المفقود في الفرض ، مع أن فرض المصلحة في الأمر إنّما هو في فرض تفويت الواقع ، والمفروض عدمه ؛ من حيث إن الواقع ليس فيه إلزام ومصلحة توجبه هذا. مع أنه على تقدير التمكّن لا يؤثّر في حكم العقل شيئا حتى يلزم التصويب.

نعم ، قد عرفت : أنه على القول بحرمة التجرّي يحكم باستحقاق العقاب عليه من حيث عدم معذوريّة الجاهل في الفرض لا من حيث مخالفة الطريق ، سواء اطّلع عليه وخالفه ، أم لم يطّلع عليه أصلا ، وإن كان صريح شيخنا تخصيص التجرّي بالصورة الثانية ، فكأنه مبنيّ على ملاحظة التجرّي بالنسبة إلى الأمر بالطريق مع تخصيص الأمر بصورة الاطلاع ، مع أنّك قد عرفت استحالته.

وكيف ما كان : لا مناص عن المصير إلى ما عرفت ، ومن هنا بنينا على كون مقتضى القاعدة عدم الإجزاء في سلوك الطرق الظاهريّة عند تبين مخالفتها للواقع.

٤٣٢

التنبيه الثاني :

معذوريّة الجاهل بالقصر والإتمام والجهر والإخفات

(٨٢) قوله قدس‌سره : ( الثاني : قد عرفت : أن الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٣٧ )

عمل الجاهل إذا خالف الواقع

أقول : لا يخفى عليك أن الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص في زمان مع مخالفة عمله للواقع ، قد يكون شاكّا متردّدا وهو الجاهل البسيط. وقد يكون معتقدا غافلا عن مخالفة اعتقاده للواقع.

والمقصود بالبحث في هذا الأمر الثاني ـ باعتبار الاستثناء لا المستثنى منه ـ الثاني لا الأول ، وإن كان المقصود بالبحث أوّلا وبالذّات هو الأول في أصل عنوان المسألة واشتراط الفحص.

ضرورة أن استثناء الموضعين إنّما هو من الثاني لا الأوّل ؛ فإن الشاكّ المتردّد لو أتى بالتمام في السفر حكم ببطلانه إتّفاقا ، كما أنه لو أتى بالقصر مع التردّد حكم ببطلانه أيضا إتفاقا ، وكذا بالنسبة إلى الجهر في موضع الإخفات أو

٤٣٣

العكس فيقال : إن الجاهل العامل بخلاف الواقع غير معذور مطلقا مع التقصير لا من حيث التكليف ولا من حيث الوضع إلاّ في موضعين ؛ فإن الجاهل بقول مطلق ـ ولو كان هو خصوص الجاهل المركب ـ معذور فيهما من حيث الوضع ، فلا يحتاج إلى جعل العنوان خصوص الجاهل المركّب ؛ نظرا إلى فساد عمل الشاكّ مطلقا ولو وافق الواقع على ما عرفت.

وكيف كان : لا إشكال في أن استثناء الإتمام في موضع القصر ، وكذا استثناء كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر في كلماتهم وكلمات شيخنا قدس‌سره إنّما هو بالنسبة إلى الجاهل المركّب كما يفصح عنه تصريحاتهم وتصريحه قدس‌سره في التعليل للوجوه المذكورة في رفع التنافي والإشكال.

ثمّ إن ظاهر ما أفاده بل صريحه ابتناء الإشكال (١) على عدم معذوريّة

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى انه ليس منشأ أصل الإشكال هاهنا هو عدم المعذوريّة بحسب الحكم التكليفي دون الوضعي ـ كما هو ظاهر العبارة ـ وإن كان يزيد به قوة فيما اذا انكشف الإختلاف في الوقت ؛ حيث انّه يتمكّن حينئذ من إمتثال ما هو تكليفه بحسب الواقع من دون لزوم تفويت أصلا بسبب جهله السابق ، فكيف يحكم عليه باستحقاق العقاب على ما حكم بسقوطه عنه مع بقاء وقته وغاية تمكّنه من إتيانه.

وأمّا أصل الإشكال فتوضيحه : انه لما كان ظاهر الأصحاب كما هو ظاهر أخبار الباب ان

٤٣٤

__________________

الإتمام في مقام القصر أو الإخفات في موضع الجهر وبالعكس لا يكون مخلاّ بالصلاة في صورة الجهل ولو عن تقصير ، بل يكون الصلاة المأتي بها كذلك صحيحة تامة ، كما ورد في الجهر والإخفات تمت صلاته ، ومع ذلك كان القصر أو الجهر مثلا عليه واجبا فعلا بحيث يعاقب على الإخلال به بتقصيره حسبما هو بناءهم في الجاهل المقصّر ، قد أشكل بانّه إذا لم يكن الإخلال به جهلا مخلاّ بالصحّة وحصول الإمتثال ولا يكاد أن يكون ذلك إلاّ إذا كان المأتيّ به موافقا للأمر ومعه كيف يكون الواجب الواقعي عليه فعلا منجّزا وليس على الإنسان إلاّ صلاة واحدة في حال من الأحوال ، مع انه لو كان عليه صلاتان فلا وجه للحكم بسقوطهما بفعل أحدهما سيّما إذا انكشف الحال في الوقت وكان متمكّنا من الإمتثال ، وكيف يعاقب مع ذلك ولم يلزم من تقصيره في هذه الصورة إخلال بعد بالواجب أصلا ، بل كان سقوطه بحكم الشارع بالإجزاء.

ثم لا يخفى انه لو كان المأتيّ به غير موافق للأمر كان مسقطا مع ذلك لم يكن إشكال إلاّ في الحكم بعدم المعذوريّة بحسب الحكم التكليفي فيما اذا انكشف الخلاف في الوقت ولم يكن إشكال بحسب الحكم الوضعيّ لإمكان أن يكون غير الواجب مسقطا عنه ، بل وقوعه في الشريعة ، ومن هنا ظهر ما في كلامه في تقريب الإشكال من الإخلال بما هو ملاكه.

ثم التحقيق في حل الإشكال بحذافيره هو أن يقال : إن الواجب فعلا ليس إلاّ صلاة القصر او الجهر ، إلاّ ان صلاة الإتمام أو الإخفات في مقامهما لمّا كانت قائمة ببعض ما هما عليه من المصلحة بحيث لا يبقى مع استيفاء هذا المقدار من مصلحتهما مجال لإستدراك ما لم يستوف منها ، كان سقوط الواجب فعلا عليه لأجل إتيانه جهلا بما لا يقدر معه من استيفاء

٤٣٥

الجاهل في الموضعين من حيث التكليف والمؤاخذة على ما استظهره من كلماتهم ، مع عدم منافاته لدليل المعذورية في الموضعين ؛ فإنه ساكت عن بيان المعذوريّة من الحيثية المذكورة لا أنه ناطق بعدم معذوريّته من الحيثيّة المزبورة ، كما ربّما يتوهّم من ظاهر كلام شيخنا قدس‌سره ، ولكن ستقف في مطاوي كلماتنا على عدم ابتناء توجّه الإشكال على عدم معذوريّة الجاهل في محلّ الاستثناء من

__________________

تمام المصلحة التامة فيسقطان بذلك فيعاقب عليه ، ولو انكشف الحال في الوقت لتفويته عليه بتقصيره ما لزم عليه استيفاءه وهو بعض تلك المصلحة التامّة ولمّا لم يكن المأتي به مسقطا صرفا كالسفر ، بل قائما بمعظم ما يقوم الواجب به بحيث لم يكن مانع عن ايجابه إلاّ قيام الواجب بمصلحته مع الزيادة اللازمة ، كان اتصافه بالصحّة والتماميّة في محله.

إن قلت : فعلى هذا يكون ما أتى به مبغوضا فيما إذا انكشف الحال في الوقت لتفويته الواجب عليه ومعه لا يكون مقرّبا وهو ممّا لا بد منه في صحّة ما يكون مطلوبا على نحو العبادة.

قلت : ليس التفويت في هذه الصورة أيضا بسببه لما حقّق في محلّه : من انتفاء التوقّف والعلّيّة بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر وقضيّة التضاد إنما هو التلازم بين وجود احدهما وعدم الآخر ، فيكون عدم الواجب كوجود المأتي به في هذه الصورة كسائر الصور مستندا إلى تقصيره ، فلا يقع المأتي به إلاّ محبوبا لما هو عليه من المصلحة التامّة في نفسها ولو انكشف الخلاف في الوقت.

وبذلك قد ارتفع الإشكال وحصل التوفيق بين استحقاق العقاب على القصر أو الجهر في مقامهما إذا صلّى إتماما أو إخفاتا ولو انكشف الخلاف في الوقت ، وبين صحّة ما أتى به من الصلاة مع عدم كونه مأمورا به فعلا وعليك بالتأمّل التام في المقام » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٧٦.

٤٣٦

حيث المؤاخذة كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره في بيان بعض وجوه الدفع أيضا.

نعم ، الجاهل في الموضعين من حيث المؤاخذة كالجاهل بسائر الأحكام الشرعيّة ، فإن كان قاصرا لم يستحق العقاب بمخالفة الواقع فيهما ، وإن كان مقصّرا استحقّ العقاب على مخالفة الواقع فيهما كسائر المواضع ، ولا يبعد أن يكون مرادهم من معذورية الجاهل فيهما هو ما ذكرنا. كيف؟ ولا معنى للحكم بعدم معذوريّته وإن كان قاصرا ؛ ضرورة مخالفته لقضيّة حكم العقل ، كما أنه لا معنى لمعذوريّته وإن كان مقصّرا.

ودعوى : كون كل جاهل فيهما لا بدّ وأن يكون مقصّرا سيّما بالنسبة إلى التمام في موضع القصر ؛ لوضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل ، كما ترى.

ثمّ إن مدرك المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي في الموضعين ـ مضافا إلى الإجماع ـ الأخبار الصحيحة.

ففي صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : « فيمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال عليه‌السلام : إن قرئت عليه آية التقصير وصلى أربعا أعاد وإن لم يكن قرئت عليه ». ولم يعلمها فلا إعادة عليه » (١). وفي بعض صحاح (٢)

__________________

(١) لم نجد في كتب الحديث أثرا لهذا الخبر بهذا اللفظ. نعم ، ورد قريب منه في دعائم الإسلام

٤٣٧

زرارة زيادة قوله : « وفسّرت له » عقيب قوله : « إن كانت قرئت عليه آية التقصير ».

وفي صحيحة أخرى لزرارة أيضا قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي أن يجهر فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال عليه‌السلام : أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة وإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا

__________________

ج ١ / ١٩٥ عن أبي جعفر محمّد بن علي عليهما‌السلام انه قال : من صلّى أربعا في السفر أعاد إلاّ أن يكون لم [ تقرأ عليه الآية ] ولم يعلمها فلا إعادة عليه.

وعليه : فما أورده الميرزا رحمه‌الله هاهنا لا يعدوا أن يكون صورة مشوّهة لخبر زرارة المعروف الذي ورد في كل من تفسير العيّاشي والفقيه والتهذيب من أصل كتاب حريز رضوان الله تعالى عليه ، بل الحق ان ما أورده صاحب الدعائم أيضا هو صورة ملخّصة منه :

ومنه تعرف : أن تعبيره قدس‌سره عن هذا الخبر بصحاح زرارة ليس في محلّه إذ هو خبر واحد ليس أكثر فلا معنى لتوهّم تعدّده وأمّا الكلام عن صحّته وعدمها فهو موكول إلى محلّه.

أضف إلى ذلك ان الزيادة المتوهّمة في كلمة الميرزا قدس‌سره إنّما هي بالنسبة إلى الحديث الوهمي المشوّه المزبور وإلاّ فإن المصادر التي ذكرت الخبر كلّها أوردت هذه الكلمة وهذا مما لا غبار عليه.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٤٣٤ ـ ح ١٢٦٥ ، والتهذيب : ج ٣ / ٢٢٦ أبواب الزيادات في الجزء الثاني من كتاب الصلاة باب « الصلاة في السفر » ـ ح ٨٠ ، وتفسير العيّاشي : ج ١ / ٢٩٧ ـ ح ٢٥٣ ، عنهما الوسائل : ج ٨ / ٥٠٦ باب : « ان من أتم في السفر عامدا وجب عليه الاعادة في الوقت وبعده ومن أتمّ ناسيا وجب عليه الإعادة في الوقت لا بعده ... إلى آخره » ـ ح ٤ و ٥.

٤٣٨

أو لا يدري فلا شيء عليه فقد تمّت صلاته » (١).

تقرير الإشكال على الحكم بالمعذوريّة

ثمّ إن مبنى الإشكال في المقام حقيقة على توقف سقوط الأمر في العبادات على تعلّق الأمر بما يحكم بكونه مسقطا وليس أمرها كأمر الواجبات التوصّليّة حتى يحكم بكون الحرام مسقطا فضلا عن غير الحرام الذي لم يتعلّق به الأمر ، وفرض العلم بكون الواجب في الشريعة على كل مكلّف صلاة واحدة تماما أو قصرا على التعيين إلاّ فيما استثنى ، وإلاّ لم يكن معنى لكون التمام مسقطا للقصر كما هو ظاهر ، فلا يجامع الأمر بالقصر مع الأمر بالتمام فلا بد من الالتزام بأحدهما.

فحينئذ : يقال إن لم يكن التمام مأمورا به فكيف يسقط الواجب التعبّدي؟ وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع الأمر بالقصر مع العلم ببقاء التكليف بالقصر؟ ولذا لا يعذر الجاهل فيه في الجملة ولو مع التقصير ، ومع العلم بأنه ليس

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٣٤٤ ـ ح ١٠٠٣ والإستبصار : ج ١ / ٣١٣ باب « وجوب الجهر بالقراءة » ـ ح ١ ، عنهما الوسائل : ج ٦ / ٨٦ باب « وجوب الإعادة على من ترك الجهر والإخفات في محلها عمدا وعدم وجوب الإعادة على من تركهما نسيانا أو سهوا أو جهلا » ـ ح ٢٦.

٤٣٩

هنا إلاّ تكليف واحد : إمّا بالقصر ، أو بالتمام.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا في تقرير الإشكال : أن مجرّد رفع الأمر عن القصر فعلا بل شأنا لا يكفي في دفع الإشكال ، بل لا بدّ من إثبات أحد الأمرين : إمّا الأمر بالتمام ، أو إثبات إمكان إسقاط المأمور به بغيره في العبادات أيضا في الجملة.

فما يتفصّى به عن الإشكال ـ إذا لم يرجع إلى إثبات أحد الأمرين ـ لا فائدة فيه أصلا ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى الجهر والإخفات ، وليكن هذا في ذكر منك لينفعك بعد ذلك.

وجوه في دفع الإشكال

إذا عرفت ذلك فنقول : قد يدفع الإشكال كما في « الكتاب » بمنع تعلّق التكليف فعلا بالمتروك سواء يمنع من تعلّقه شأنا أيضا أم لا. وتقرير هذا بوجوه :

أحدها : ما عن السيّد علم الهدى قدس‌سره في الجواب عن أخيه السيّد الرضي قدس‌سره (١) حيث اعترض عليه بعد الجواب عن سؤال ـ من صلّى في السفر تماما جهلا بصحّة صلاته ـ : بأنه لا يجامع مع ما أجمعنا عليه من بطلان صلاة من لا يعرف أحكامها ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا يكون الصلاة صحيحة مجزية بعد تسليم الإجماع وتقريره : من جواز تغيّر الحكم بسبب الجهل ،

__________________

(١) أنظر رسائل الشريف المرتضى : ج ٢ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٤٤٠