بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

في دفعه : بأن البناء والتنزيل يكفي في تحقّق الإنشاء والتمليك وتفصيل ذلك يطلب من البيع الفضولي.

ثمّ إن للمعاملة المشكوكة جهة حرمة تشريعيّة غير حرمة ترتيب الآثار عليها في مرحلة الظاهر من جهة أصالة الفساد ؛ إذ هي حرمة واقعيّة مترتّبة على عنوان التشريع ، لكن البحث عن حجيّتها ليس مقصودا بالكلام كالبحث من جهة الحرمة الظاهريّة.

نقل كلام الفاضل النراقي وبيان المراد منه

وهذا الذي ذكرنا وذكره شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره هو الذي اختاره المشهور [ و] قد خالف فيه فيما أعلم جماعة فيما كان مبنى المعاملة على الدّوام كالزوجيّة والملكيّة فيما إذا وقعت عن الطريق على ما سيأتي الإشارة إليه وبعض مشيخة (١) شيخنا قدس‌سره في « مناهجه » في كلام حكاه في « الكتاب » (٢) ملخّصا في بعضه وبعينه في بعض آخر ، ونحن نتعرّض أوّلا لبيان مراده ممّا ذكره ، ثم نعقّبه ببيان ما يتوجّه عليه.

فنقول : أمّا مراده من كون العقود والإيقاعات بل كلّما جعله الشارع سببا لها

__________________

(١) الشيخ الفاضل النراقي أعلى الله تعالى مقامه في كتابه مناهج الأحكام : ٣١٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٣.

٤٠١

حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة ، وكذا الشرط والمانع ليس التقسيم بحسب مورد الأحكام الوضعيّة ـ على ما يتراءى من ظاهر العبارة يعني : نفس فعل المكلف المحمول عليه عنوان السببيّة مثلا ، أو غير فعل المكلّف ممّا حمل عليه العنوان المذكور ـ بل هو باعتبار وصفه العنواني أي : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ؛ ضرورة عدم جريان التقسيم المذكور بالنسبة إلى مواردها وعدم تصوّر الجعل بالنسبة إليها ، وعلى القول بكون الأحكام الوضعيّة مجعولة لا إشكال في كونها كالأحكام التكليفيّة ينقسم إلى القسمين أي : الواقعي والظاهري.

كما أنه لا إشكال في عدم سبيل لنا إلى القسم الأوّل في المسائل الاجتهاديّة التي يعمل فيها بالظنّ ـ على القول بالظنّ المطلق المبنى على انسداد باب العلم ، بل على القول بالظن الخاصّ كما هو مذهبه في الأمارات ؛ حيث إنّ أهل الظنون الخاصّة لا ينكرون انسداد باب العلم في الأحكام ، وإنّما يمنعون عن العمل بالظن المطلق : من جهة وجود الأمارات الخاصّة ـ كوضوح ما ذكره : من التصويب في الأحكام الظاهريّة ؛ فإنّا وإن لم نقل بعدم تصوّر الخطأ في الأحكام الظاهريّة ، إلاّ أن التصويب فيها في الجملة في مورد الاختلاف مما لا مجال لإنكاره أصلا كما لا يخفى. ومن هنا جعله واضحا وإجماعيّا وضروريّا عند الفقهاء ؛ فإنه المراد من كلامه ، لا الضرورة عند أهل الدين حتى يكون منكره منكرا للضّروري الديني كما لا يخفى.

والمراد من تعيّن القسم الثاني في حقّنا فيما لا سبيل فيه إلى الأوّل ـ أي :

٤٠٢

المسائل الاجتهاديّة ـ ليس هو تعيّنه بحسب الواقع ؛ ضرورة منافاته لفرض كونه ظاهريّا ، بل تعيّنه بحسب الظاهر مع بقاء الواقع على ما هو عليه.

والمراد من الأوّل ـ أي : الغافل ـ : هو الجاهل المركب كما هو صريح تعليله بعد ذلك ، فهو غافل عن كون اعتقاده مخالفا للواقع ، كما أن المراد من إلحاقه بالمجتهد والمقلّد ـ لأنه يتعبّد باعتقاده ـ هو الإلحاق بحسب أصل وجوب العمل لا كونه مجعولا من الشارع كما يستظهر من لفظ التعبّد فتأمل.

اللهمّ إلاّ أن يكون بناؤه على جعل العلم شرعا كالظّنّ ، كما هو ظاهر جملة من كلماته ، بل الظاهر من قياسه عند زوال الاعتقاد بالمجتهد المتبدّل رأيه كونه حجة من جانب الشارع فتدبّر ، بل هو الظاهر من قوله بعده : « وليس معتقدا بخلافه حتى نتعبّد بخلافه » (١).

والمراد من قوله : « وليس معتقدا بخلافه حتى نتعبّد بخلافه » بيان الفرق بين المعتقد والشاكّ عند تبيّن حال المعاملة بعدها على وجه الجزم.

ومن قوله : « ولا دليل على التعبّد بمثله بعلم واعتقاد » (٢) الفرق بين المعاملة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٤ وفيه : حتّى يتعبّد بخلافه.

(٢) نفس المصدر وفيه : لا دليل على التقييد في مثله بعلم واعتقاد وانظر في الموضعين مناهج الأحكام : ٣١٠.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره في توضيحه :

٤٠٣

والعبادة ؛ حيث إنه يحكم بفسادها مع التردّد وإن طابقت الواقع ، بخلاف المعاملة ؛ فإن التردّد في ترتّب الأثر عليها شرعا لا يمنع من إيجادها.

ومن قوله : « ولا يقدح كونه محتملا للخلاف أو ظانّا به ؛ لأنه مأمور بالفحص والسؤال » (١) :

__________________

أي لا دليل على التقييد لا في تأثير المعاملة في صورة الموافقة ولا في عدم تأثيرها في صورة المخالفة بالعلم بأنّها مؤثرة شرعا أو ليس بمؤثرة ، كي لا يؤثّر في الصّورة الأولى ، أو يؤثر في الثانية ، واحتماله الخلاف أو ظنّه به انّها يقدح في ذلك لو لم يكن مأمورا بالفحص والسؤال وقد أمر به ، فلا يمنع من التأثير في الصّورة الأولى ولا يقتضيه في الثانية ، كما ان احتمال الحلّيّة في الخمر لا يورث المعذوريّة عن الحرمة الواقعيّة قبل الفحص والسؤال لانّهما مأمور بهما.

قلت : ظاهره ان عدم قدح الإحتمال هاهنا إنما كان لمكان الأمر بالسؤال بحيث لولاه لكان قادحا ، كما انه لو لا الأمر به في مثل المثال كان احتمال عدم التكليف مورثا للعذر.

وانت خبير : بان الإحتمال لم يكد أن يكون مؤثّرا هاهنا شيئا وإن لم يكن أمر بالسؤال بداهة عدم تأثير الإحتمال في الواقع برفع التأثير عن المؤثّر بحسبه واقتضاءه في غير المؤثّر كذلك.

هذا مع ان الأمر بالسؤال إنّما هو بحسب ما يترتّب في البين من التكليف لا الوضع ، وأمّا تأثير الأمر بالسؤال في المثال في رفع تأثير الإحتمال فهو لأجل أنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا يتحقق حقيقة وواقعا ، مع لزوم عقلا أو شرعا كما بيّن في محلّه فليس الإحتمال هنا وهناك من باب واحد فلا تغفل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٤٧.

(١) انظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

٤٠٤

أن الحكم بتأثير الواقع وتبعيّة الآثار له لا ينافي كون الفاعل شاكّا أو ظانّا بالظن الغير المعتبر في حال المعاملة ، بعد فرض الحكم بعدم معذوريّة الشاكّ والظانّ : من حيث كونه مأمورا بالفحص والسؤال معهما ، كما أنّ من ظنّ حليّة الخمر مع عدم اعتبار ظنّه يتنجّز عليه الواقع ويحرم عليه من حيث كونه غير معذور ومأمورا بالفحص والسؤال.

والحاصل : أن الشكّ إنّما يمنع من ترتيب آثار الواقع بعد تبيّن الخلاف إذا كان في مورد الشك حكم ظاهريّ للشارع على خلاف الواقع ، وكذا الظنّ إنّما يمنع منه إذا كان معتبرا شرعا والمفروض خلاف ذلك ، كما يكشف عنه وجوب الفحص معهما ؛ فإنه تلازم بين إلقائهما شرعا وكون الآثار مترتّبة على الواقع كما هو ظاهر.

ومراده من قوله : « وأمّا الثاني : فالحق عدم ترتّب الأثر في حقّه ما دام باقيا على عدم التقليد » (١) الإشارة إلى ما عرفت سابقا : من لزوم الرجوع إلى أصالة الفساد ما دام شاكّا ، وإن طابقت المعاملة في الخارج أحد الأقوال في المسألة ؛ من حيث إن طريقية قول المفتي إنّما هي في حق مقلّده ومن استند في العمل إلى رأيه ، والمفروض عدم استناده إليه. وليس الحكم الظاهري كالحكم الواقعي في ثبوته في حق كلّ أحد حتّى يؤثّر موافقته الواقعيّة كما في الفرض الأوّل.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢ / ٤٢٥ والحظ في الموضعين مناهج الأحكام : ٣١٠.

٤٠٥

ومراده مما لم يختص أثره بمعيّن أو معيّنين ـ في قبال ما اختصّ أثره بأحدهما ـ هو ما كان أثره قائما بعين خارجيّ من غير إضافة إلى مكلّف خاصّ وإن كان الفعل المؤثر فيه مؤثرا من حيث صدوره من أيّ مكلف كقطع الحلقوم المؤثّر في حلّيّة الحيوان والغسل مرّة المؤثّر في طهارة المغسول ـ وهذا بخلاف العقد المؤثّر في ملكيّة العين أو زوجيّة المرأة مثلا ؛ فإن الملكيّة إضافة بين الملك والمالك ، وكذا الزوجيّة علاقة بين الزوجين وإن ترتّب عليهما آثار في حق غير المالك والزوج.

ومراده من عدم ترتّب الأثر المستصحب الثابت قبل التقليد هو الذي حكم به في مرحلة الظاهر بأصالة الفساد لا عدمه الثابت في نفس الأمر قبل المعاملة ؛ فإنّه بهذا المعنى عين أصالة الفساد كما لا يخفى ، هذا بعض الكلام في شرح مراده ممّا لخّصه شيخنا قدس‌سره في المقام.

كلام آخر للفاضل النراقي في مسألة تبدّل رأي المجتهد

وقال في باب تبدّل رأي المجتهد الذي أحال حكم بعض شقوق المسألة وصورها إليه ما يطول المقام بذكره بتمامه بألفاظه وعباراته ، ونحن نتعرّض له بتلخيص في بعضه.

قال قدس‌سره ـ بعد جملة كلام له في المسألة ـ :

٤٠٦

« إن نقض فتوى المجتهد التي عمل نفسه أو مقلده بها في الزمان الأوّل بالفتوى الثانية في الزمان الثاني ، بمعنى إبطالها من رأس والحكم بعدم كونها حكم الله تعالى فيما مضى ، وجعلها لاغية بالمرة لا خلاف في عدم جوازه ، والإجماع ، بل الضرورة ، ولزوم الجرح ، واستصحاب عدم شغل ذمّته ، وعدم البطلان يدلّ عليه.

ونقضها بمعنى إبطال المتقدّمة في الزمان الثاني : بأن لا يعمل بالأولى فيه ، ويبنى أعماله المستحدثة على الثانية ، لا خلاف في جوازه ، بل وجوبه ؛ فإنه لازم تغيير الرأي وحجيّة الاجتهاد ، وهو ضروريّ مطلقا.

ونقضها بمعنى إبطال الآثار المترتّبة على عمل صادر في الزمان الأوّل بفتواه الأولى ـ التي لو لا تغيير الرأي لقطع بترتّب تلك الآثار على ذلك العمل مثل : أن ينكح بالفتوى الأولى باكرة (١) بغير إذن المولى ؛ فإنه يقطع بترتّب آثاره عليه لو لا تغيير الرأي ـ يظهر عدم جوازه : من عدم جواز النقض بالمعنى الأول ؛ لأن العمل الصادر في الزمان الأول كان صحيحا مستتبعا للآثار ، وبعد تجدّد الرأي لا يجوز الحكم ببطلانه في الزمان الأوّل ، وليس موجودا في الزمان الثاني حتى يصير موردا للفتوى الثانية ؛ فما وقع لا يرد عليه البطلان فلم لا يترتّب عليه أثره؟

__________________

(١) لا يخفى ان الموجود في الاستعمالات العربيّة هو البكر لا الباكرة إذ هو تعبير فارسي جري على لسانهم سهوا كثيرا ، فهو غلط مشهور.

٤٠٧

والحاصل : أن المفروض كون العمل مستتبعا لأثره ما لم يطرأ عليه الفساد ، ولم يطرأ عليه. أمّا في السّابق فظاهر ، وأمّا في اللاّحق فلعدم وجوده.

وأيضا لم يحدث في اللاّحق إلاّ استقرار الرأي بأنّ هذا العمل لو وقع في هذا الزمان لم يترتّب عليه الأثر ، ولا تأثير لذلك في ارتفاع أثر العمل السّابق ، بل يدلّ على بقائه استصحاب الاستتباع أيضا ؛ فإنا نقطع بترتيب هذه الآثار على ذلك العمل في السابق كحليّة البضع ووجوب الإنفاق والتمكين وغير ذلك ممّا يترتّب سابقا على النكاح بدون إذن الوليّ بمقتضى الاجتهاد الأوّل ، ويشكّ في أنّ تجدّد الرأي تزيل الاستتباع المذكور أم لا؟ والأصل عدمه ، بل يدلّ عليه استصحاب نفس الأثر أيضا كالزوجيّة في المثال.

فإن قلت : إن أثر عقد الباكرة بدون إذن الوليّ حال اعتقاد جوازه الآثار المذكورة ما دام باقيا على الاعتقاد فكيف يحكم بثبوتها مع زوال الاعتقاد الذي هو بمنزلة الموضوع لها.

قلت : إن هنا أمرين :

أحدهما : كون العقد المذكور كلّما وقع سببا للزوجيّة الدائمة.

ثانيهما : سببيّة العقد الواقع حال ظنّ جوازه للزوجيّة الدائمة.

والأوّل مقيّد بحال بقاء الظنّ بكونه سببا دون الثاني ؛ لأن مظنونه حين إيقاعه كونه سببا للزوجيّة المستمرّة ، وظنّه حينئذ حجّة عليه في حقّه ، ولازمه

٤٠٨

ترتيب الزوجية المستمرّة ، وإلاّ لزم أن لا يكون ظنّه حجّة عليه ، وهو خلف باطل ، فبعد الشكّ يستصحب.

هذا كله في الأفعال الجزئيّة المتحقّقة حال الرأي الأول من الأسباب والشروط والموانع ممّا كان تأثيره وعدم تأثيره بالنسبة إلى شخص خاصّ ، أو أشخاص معينين من غير تجاوز عنه أصلا ، كالعقود والإيقاعات وأسباب شغل الذمّة وأمثالها ؛ فإن العقد الواقع على امرأته إنّما يصير سببا لحلّيّتها على الزّوج المعيّن من غير مدخليّة غيره أصلا.

وأما ما ليس كذلك كغسل الثّوب المعيّن من البول مرّة ؛ فإنه يصير سببا لطهارة هذا الثوب لكلّ من يرى الاكتفاء به مرّة ، وغير مؤثّر في حق من لا يراه كذلك. وكذا قطع الحلقوم في التذكية ، فالحكم فيه ليس كذلك ، فيقال : إن من يرى غسل المرّة غير كاف إذا غسل الثوب مرّة فيكون نجسا ما دام على ذلك الرّأي.

وأمّا إذا تبدّل رأيه ورأى كفاية المرّة فيطهر له هذا الثوب ؛ لأنّ هذا الغسل الجزئي لذلك الثوب المعيّن حال ظنّ عدم كفايته كان غير مؤثر في حقّه ؛ لأجل أن هذا الشخص مندرج تحت عنوان من يظنّ عدم كفايته ، ولذا كان نجسا في حقّ كلّ من يظن كذلك ، وهذا الغسل بعينه لهذا الثّوب بعينه في هذا الحال سبب للطهارة في حقّ كل من يرى الكفاية بالإجماع والضرورة ؛ لأنه لا يشترط في تطهير الثوب كون الغسل صادرا ممّن يرى كفاية المرّة ، ولا كون الثوب ملكا له.

وإذا تعيّن الرأي الأوّل واندرج تحت العنوان الثاني لا بدّ وأن يكون الثوب

٤٠٩

طاهرا في حقّه ولا يشترط صدور الغسل في حال تغيّر الرأي أيضا : لأن ظنّه حينئذ حجّة في حقّه ومظنونه الحاصل بسبب من الأدلّة الشرعيّة أن الغسل مرّة سبب للتطهير مطلقا وليس مقيّدا بكون الغسل متحقّقا حال هذا الظن إذ لا تقييد في شيء من الأدلّة الظنيّة بذلك أصلا.

ولذا ترى المجتهدين إذا حدثت الوقائع قبل اجتهادهم فيها واستفتي منهم يتأمّلون في حكم المسألة بعد حدوثها ، ويحكمون على الحادثة السابقة بما استقرّت عليه آراؤهم بعد الاجتهاد ، وليس المراد أن الغسل السابق صار سببا حينئذ ، بل سببيته تحقّقت أوّلا ، ولكن لم يكن هذا الشخص داخلا في عنوان من تحقّقت في حقّه السببيّة ودخل فيه حينئذ.

كما أن من وقف شيئا على ضيفه فصار شخص ضيفا له بعد مدّة ؛ فإن الوقفيّة عليه لا يتحقّق حينئذ ، بل الدخول في العنوان يتحقّق في هذه الحالة ، وعلى هذا لا أثر للاستصحاب في هذا الفرض ؛ لثبوت السببيّة في حقّ من دخل في هذا العنوان ؛ لأن عدم السببيّة أوّلا كان لمن كان داخلا في عنوان آخر ، فقد تغيّر الموضوع.

وأما الإجماع فاختصاصه بالأول ظاهر ، بل يمكن دعوى الإجماع على النقض في الثاني ، وربّما يتوهّم عدم النقض في الثاني أيضا فيقال : إن الطين مثلا قد طهر بالطبخ الواقع في زمان كان الطبخ مطهّرا وطهارته أثر لذلك الطبخ ، وهذا الطبخ الواقع لم يصر موردا لفتوى عدم كونه مطهّرا ، فقد طهر ذلك الآجر. فما وجه تنجّسه بعد؟

٤١٠

وظنّ أن الطبخ لا يطهر إنّما هو في الزمان اللاحق ، ولازمه : أن الواقع فيه غير مطهّر ، وهذا لا يرفع طهارة شيء.

وأمّا توهّم : أنّ هذا الطبخ لم يصر موردا لفتوى عدم كونه مطهّرا.

ففيه : منع ذلك ، بل كان في الأصل موردا للمطهّرية في حقّ من يرى مطهّريته وغير مطهّر في حقّ من لا يراها ، فهو في الأول مورد للحكمين بالإجماع ، ولا نقول : إنه صار نجسا حينئذ حتى يقال : ما وجه تنجّسه؟ بل نقول :

إنه كان نجسا في الأوّل في حقّ كل من يندرج تحت ذلك العنوان (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه ملخّصا في بعضه وبعبارته في بعض آخر.

مناقشة كلام الفاضل النراقي قدس‌سره

وأنت خبير بأن ما ذكره قدس‌سره لا يخلو عن مناقشات :

منها : أن اعتبار الجعل الواقعي والظاهري بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة لا بدّ وأن يبتني على القول بالجعل التشريعي بالنسبة إليها ، على خلاف ما هو الحقّ عند المحققين بل المشهور : من كونها أمورا اعتباريّة انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة إذا قيست بالنسبة إليها ، وإذا قيست بالنسبة إلى غيرها كنسبة البيع إلى

__________________

(١) مناهج الأحكام في الأصول : ٣١٠.

٤١١

الملكيّة ، والنكاح للزوجيّة ، وهكذا.

فإن قلنا بكونها أمورا واقعيّة تعلّق بها الأحكام الشرعيّة ـ كما هو الظاهر ـ فيكون حالها حال مسبّباتها ، فلا يكون من الأمور الجعليّة.

وإن قلنا بكونها أمورا اعتباريّة كسببيّة الغسل للطّهارة ، والملاقاة للنجاسة ـ بناء على كون الطهارة والنجاسة من الأمور الاعتباريّة على ما ذكره الشهيد قدس‌سره ـ فيكون حالها حال مسبّباتها أيضا ، فعلى كلّ تقدير لا جعل فيها.

ثمّ بعد الابتناء على القول المذكور مع فساده عندنا ـ على ما ستقف على شرح الكلام فيه في الجزء الثالث من التعليقة تبعا لشيخنا قدس‌سره ـ نقول : إنه على القول بتعلّق الجعل الشرعي بالأحكام الوضعيّة يكون حالها كحال الأحكام التكليفية التي لا خلاف في كونها مجعولة للشارع ، في قبال الأمور الخارجيّة الغير المجعولة بالاتّفاق ، كحياة زيد وموته ونحوهما في أنّ وجودها الجعلي في نفس الأمر والواقع تابع لجعل الشارع لها في نفس الأمر من غير فرق بين حالات المكلّف من حيث العلم والشكّ والظنّ في وجودها بحسب نفس الأمر.

كما لا دخل لها في الأمور الخارجيّة بحسب وجودها الواقعي ، غاية الأمر : كون وجود الأحكام بحسب التشريع ووجودها بحسب التكوين ، وهو لا يؤثّر فرقا فيما نحن بصدده ؛ لأنّ التشريع أيضا نوع من التكوين كما هو واضح ، ولا

٤١٢

يمكن توقّف وجوده التشريعي على تعلّق بعض الحالات المزبورة به من غير فرق بين الحكم التكليفي والوضعي ، فوجودها الواقعي تابع لنفس الجعل بحسب الواقع.

ثمّ إن مفاد الطريق القائم على الحكم للموضوعات الكليّة ـ سواء فرض الحكم تكليفيّا أو وضعيّا ـ حكايته وكشفه عن كون الحكم ثابتا لنفس فعل المكلّف والموضوع الكلّي ، بحيث لا يتخلّف عن وجوده من غير فرق بين وجود بعض أشخاصه في زمان قيام الطريق على ثبوت الحكم الكذائي له وعدمه ؛ ضرورة أن قيام الطريق على الحكم في الموضوعات الكليّة يرجع إلى الطريق إلى الكبرى الكليّة ، فلا يتوقّف على وجود بعض الصغريات.

نعم ، لا بدّ من وجوده عند إرادة التطبيق وأخذ النتيجة ، مثلا إذا قام طريق على سببيّة العقد الفارسي للملكيّة ، أو الزوجيّة كان مفادها كون العقد المزبور مؤثّرا فيهما بحيث لا ينفكّ وجوده عنهما في الخارج ، من غير توقّف له على وجود عقد فارسيّ في الخارج قبله أو معه أو بعده.

نعم ، عند إرادة الحكم بملكيّة عين في الخارج لشخص بموجب العقد الفارسي ، أو زوجيّة امرأة له لا بدّ من إثبات تحقّق العقد المذكور في حقّه ، ولو كان تحقّقه قبل قيام الطريق على حكم العقد الفارسي بمدّة مديدة ، ولو كان العاقد في زمان العقد شاكّا في كونه مؤثرا وظانّا بعدم التأثير أو قاطعا بعدمه.

٤١٣

لا يقال : ما ذكر إنّما يستقيم ويسلّم بالنسبة إلى العلم الحاصل بالحكم الشرعي الكلّي دون الظنّ المعتبر القائم عليه ؛ فإن تأثيره إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الظاهري وهو تابع لزمان وجود الظن ، فإذا فرض المكلّف شاكّا في التأثير فضلا عمّا إذا كان ظانا بعدمه ، أو قاطعا بالعدم فأوقع البيع الفارسي مثلا في هذه الحالة ، ثم حصل في المستقبل ظنّ معتبر بتأثيره فلا يثبت هذا الظنّ اللاحق ، إلاّ التأثير في حق العاقد الظان بالتأثير لا مطلقا ، والمفروض عدم دخوله في هذا العنوان في زمان العقد ، ودخوله بعده في العنوان المذكور لا يجدي في تصحيح العقد الموجود منه قبل صدق العنوان عليه.

لأنّا نقول : ما ذكر من تبعيّة الحكم الظاهري لموضوعه ، وهو الظن بالواقع أمر مسلّم لا شبهة فيه أصلا ، إلاّ أنّه تابع لمفاده بعد الوجود ، وقد عرفت : أنّ مفاده كون التأثير لا ينفكّ عن العقد الفارسي أينما وجد ، فالمكلّف العاقد في الفرض وإن دخل في موضوع الحكم الظاهري بعد العقد ، إلاّ أنّ مفاد ظنّه وطريقه عدم الفرق في تأثير العقد الفارسي بحسب الأزمنة ، فهو مكلّف بترتيب آثار الصحّة بعد وجود الظنّ على ما أوجده سابقا.

إذا عرفت ذلك نقول : إن الملكيّة والزوجيّة وإن كانتا من الإضافات الخاصة ، إلاّ أن مفاد قيام الطريق القائم على حصولهما بالعقد الفارسي كونهما مترتّبين على العقد الموجود من الشاكّ في التّأثير في زمان إيجاده عقيبه من دون

٤١٤

فصل بينهما ، ولا نقول : بالسببيّة المنفصلة ، وإن كان زمان الحكم بالتأثير منفصلا عن العقد ، بل نحكم ببطلانه في زمان صدوره بالنظر إلى الأصل ، ويحكم بصحّته بعد قيام الطريق على الصحّة من غير أن يكون هناك تناف بينهما أصلا على ما عرفت سابقا.

وممّا ذكرنا كله يظهر : أن ما أفاده قدس‌سره : من الفرق بين ما اختصّ بشخص أو أشخاص ، وما لا يختصّ بأحد لا محصّل له أصلا.

لا يقال : على ما ذكرت يلزم نقض الآثار السّابقة على ما رتّبه من المعاملات والعبادات التي وقعت حال قيام الطريق على صحّتها مع تبيّن الخلاف لاحقا بحسب قيام الطريق عليه في الزمان المتأخّر ، مع أنه خلاف الإجماع ظاهرا على ما عرفت : من مطاوي كلمات الفاضل النّراقي بل الضرورة على ما حكاه ويلزم الحرج بل الهرج والمرج.

لأنّا نقول : ما ذكر من اللازم لا شبهة فيه ، إلاّ أن الخروج عن مقتضى الأصول والقواعد في مورد لقيام الدليل عليه لا يقتضي الخروج عنه في جميع الموارد ، مع أنّ في الدعاوي المذكورة بإطلاقها ما لا يخفى ، وتفصيل البحث في ذلك يطلب : من مسألة « تبدّل الرأي في بحث الاجتهاد » و « في مسألة الإجزاء »

٤١٥

وقد أسمعناك في مطاوي الجزء الأوّل من التعليقة (١) عند البحث في « كيفيّة جعل الطريق » كلام ثاني الشهيدين قدس‌سره في « تمهيده » (٢) ، وأنه جعل من فروع التخطئة : عدم الإجزاء.

ومن هنا يعرف الوجه فيما اختاره جماعة في تلك المسألة : من أن ما كان مبناه على الدوام لا ينتقض بالرأي الثاني على البطلان كالملكيّة والزوجيّة ، بخلاف ما لا يكون مبناه عليه.

والجواب عنه ـ مع أن الابتناء على الدوام لم يعلم له معنى محصّل ؛ إذ كثيرا مّا يكون مبنى تحصيل الملكيّة على التبديل ، كما في أمر التّجار وكذا الزوجيّة في حق بعض الأشخاص ـ ولو كان المراد الدوام ما لم يوجد الرافع لم يكن هناك فرق بين الطهارة والملكيّة فتدبّر.

لا يقال : على ما ذكرت يلزم هناك محذور أشدّ وآكد ممّا ذكر ؛ فإنه يلزم عليه عند اختلاف المجتهدين في الرّأي أو المقلّدين في التقليد جواز نكاح امرأة معيّنة لشخصين إذا رأى أحدهما فساد العقد الآخر وهكذا ، مع أنه يلزم عليه من المفاسد ما لا يحتاج إلى البيان.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٧٤.

(٢) تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٤١٦

لأنّا نقول : الجواب هو الجواب ، مضافا إلى ما قيل : من أن موضوع الأحكام المضافة إلى الغير كالزوجيّة والملكيّة ونحوهما واقعا تحقّقها في تكليف الغير واعتقاده ومقتضى طريقه ولو في مرحلة الظاهر ، فإذا كان هناك طريق يقضي بتحقّق الزّوجيّة من الشخصين ـ ولو في مرحلة الظاهر ـ يلزم على غيرهما ترتيب أحكام الزوجيّة بينهما في مرحلة الواقع ؛ لأن الموضوع في تحريم نكاح زوجة الغير واقعا من كانت زوجة له ولو بحسب تكليفه الظاهري ، فهي زوجة له ظاهرا.

وهذه الزوجيّة الظاهريّة موضوعة لأحكام الغير في مرحلة الواقع.

وهذا نظير ما قيل ـ في باب الجماعة في صحّة الائتمام بواجدي المني في الثوب المشترك ـ : من أن الموضوع في صحة الائتمام واقعا كون الإمام متطهّرا في تكليفه ولو في مرحلة الظاهر ، فيجوز الائتمام بهما في صلاة فضلا عن صلاتين ، وهذا وإن كان محلّ نظر ، بل منع عندنا على ما فصّلنا القول فيه في « باب التقليد » ، إلاّ أن احتماله يمنع من قياس المقام به ، مضافا إلى ما قيل : من لزوم اختلال النظام من الالتزام بما ذكر فيه.

ومنها : أن ما ذكره في طيّ كلامه : من إلحاق الجاهل المعتقد بمن سلك من الطريق الشرعي من حيث كونه متعبّدا باعتقاده ، كتعبّد المجتهد باجتهاده والمقلّد بتقليده مما لا محصّل له أيضا ، على ما عرفت استظهاره من كلامه : من إرادة تعلّق الجعل من الشارع بالاعتقاد الجزميّ.

٤١٧

فإنك عرفت مرارا : أنه لا معنى له أصلا ؛ فإن المعتقد وإن كان معذورا عند العقل على تقدير الخطأ في الاعتقاد إذا كان قاصرا ، إلاّ أنّه لا يتعلّق به أمر من الشارع والعقل في حقّه أصلا ، والمختار عندنا ـ على ما عرفت ـ وإن كان عدم اقتضاء سلوك الأمر الظاهري الشرعي للإجزاء بالنسبة إلى الواقع ، إلاّ أن احتمال ما زعمه بعض الأصحاب من البدليّة ؛ نظرا إلى كونه مجعولا من الشارع متطرّق بالنسبة إليه ، فلا يقاس الاعتقاد به.

ومنها : أن الجمع بين أصالة الفساد والاستصحاب المقتضي للصحّة وبين زمان الإطلاع على الطريق في ذيل كلامه لا محصّل له أيضا ؛ حيث إن مرجع أصالة الفساد إلى الاستصحاب ، ولا فرق في جريانها بين زمان الشكّ قبل الاطلاع على الطريق بعد الإغماض عمّا ذكرنا في اقتضاء الطريق وفرض الشّكّ في الصحّة ؛ لأن الحكم الظاهري ثابت لموضوعه ما دام موجودا ما لم ينسخ في الشريعة ، وليس الشكّ في اللاّحق في نسخ الحكم حتى يثبت باستصحابه ، فاستصحاب عدم الأثر عين أصالة الفساد فافهم.

إلى غير ذلك مما يتوجّه عليه مما طوينا ذكره كما طوينا ذكر ما يتوجّه على ما ذكره في مسألة تبدّل الرّأي خوفا من الإطالة.

٤١٨

(٨٠) قوله قدس‌سره : ( وأما العبادات : فملخّص الكلام فيها ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٢٩ )

أقول : الكلام في المسألة قد يقع في عبادة المتردّد الشاكّ الذي هو المقصود بالبحث ومحلّ الكلام ، وقد يقع في عبادة الغافل عن صورة المعتقد بها من غير طريق كقول أبويه أو معلّمه أو نحوهما.

أمّا الكلام في الموضع الأول فملخّصه :

أنه لا إشكال بل لا خلاف في بطلان عبادته فيما كان بانيا على الاقتصار عليه على ما هو محل البحث ، وإن انكشف بعد العمل كونها مطابقة للواقع على وجه القطع واليقين ؛ لعدم إمكان حصول الامتثال الذي هو شرط في صحّة العبادة مع التردّد ، فعمله دائما مخالف للواقع من هذه الجهة ، وهذا هو الفارق بين العبادة والمعاملة على ما عرفت : من تحقّق الإنشاء من الشاكّ في تأثيره عند الشارع بالوجدان.

والوجه في عدم تأتّي قصد التقرّب من الشاكّ المتردّد في المأمور به مع وضوحه كون الامتثال عبارة عن الإتيان بما أمر به المولى بداعي موافقته وإطاعته ، فلا بدّ أوّلا من إحراز المأمور به ، ثم القصد إلى إتيانه بداعي التقرّب ، ومع التردّد في المأمور به لا يمكن قصد التقرّب وهذا أمر لا سترة فيه أصلا.

وممّا ذكرنا يظهر : فساد استظهار حكم المقام ممّا يؤتى به احتياطا باحتمال

٤١٩

تعلّق الأمر به في الشريعة مع كونه غير واجب في مرحلة الظاهر في الشبهات الحكميّة ، من غير فرق بين ما يجري فيه دليل التسامح وما لا يجري فيه ، أو الموضوعيّة كإعادة الصلاة لاحتمال خلل فيها حكم في الشرع بعدم الالتفات إليه لكونه بعد العمل ؛ فإن ما ذكر من المناط موجود فيه ، غاية الأمر : عدم الجزم بالأمر ، وامتثاله ليس إلاّ بإتيان الفعل بداعي احتمال تعلق الأمر به ، ولا نقول : بتوقّف الامتثال على العلم بالأمر أو قيام طريق شرعيّ عليه مطلقا. كيف؟ وهو خلاف ما نجد في وجداننا من كون الاحتمال محرّكا وداعيا على الفعل أو الترك كثيرا ما هذا.

مضافا إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من أن اللازم عليه القول بعدم مشروعيّة الاحتياط في موارد احتمال الأمر ولا يظنّ أن يلتزم به أحد.

لا يقال : كيف ينوي الشاكّ المتردّد في المأمور به ـ إذا كان دائرا بين الأقلّ والأكثر بعد الفحص ـ التقرّب على العمل بجريان البراءة في ماهيّات العبادات؟ مع أن مقتضاها مجرّد المعذوريّة لا تشخيص المأمور به وتعيينه في ضمن الأقلّ على ما اعترفت به ومضى تفصيل القول فيه ، فهو ينوي التقرّب مع الشكّ والتردّد في المأمور به ، فإذا التزمت بإمكانه في حقّ المتردّد بعد الفحص مع بقاء تردّده فلتلزم بإمكانه في حقّه قبل الفحص أيضا ؛ إذ لا فارق هناك بينهما مع بقاء التردّد بالفرض.

٤٢٠