بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

ومن هنا يمكن الحكم بجواز الاكتفاء على القول بعدم جواز الاحتياط إذا توقّف على التكرار أيضا كما ذكره في « الكتاب » ، وإن قيل بعدم الجواز في الصورة السّابقة كما يلزم على القول بالمنع في أصل المسألة ، وإن أمكن التفصيل أيضا على القول بالمنع في الفرض كما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » وإلى وجهه وإن كان ضعيفا عند التأمل ، كضعف القول بتعيّن العمل فيما إذا حصل التردّد في الأثناء بما يظنّ صحّته مع البناء على تبين الحال بعد الفراغ محافظة على عدم قطع العمل بقدر الإمكان ؛ لعدم دليل على حجيّة الظن في المقام بعد عدم قيام الدليل على بطلان الرجوع إلى الأصل المقتضي لجواز القطع.

فقد تحصّل ممّا ذكرنا كلّه : أن الأمر في التعبّديات من حيث جواز الاكتفاء بالاحتياط مطلقا حال الأمر في التوصّليّات التي وقع الاتفاق فيها على جواز الاكتفاء بالاحتياط مطلقا. وممّا يرشدك إلى ذلك ـ مضافا إلى ما أسمعناك ـ اتفاقهم على ما عرفت ، كما قضى به النصّ في الجملة أيضا على حصول الامتثال والإطاعة بالاحتياط فيما لا يتمكّن من تحصيل الطريق أصلا ؛ فإن اعتبار نيّة الوجه أو غيرها في حصول الإطاعة لا معنى للفرق فيه بين صورتي العجز والإمكان. ألا ترى أنه لا يمكن الفرق في اعتبار قصد القربة بين الصورتين؟ فتدبّر.

فالأقوى جواز الاكتفاء بالاحتياط مطلقا ، وإن كان الأولى ترك الاحتياط في جميع موارد إمكان إحراز الواقع تفصيلا ولو بالطريق الشرعي ، ولو كان هو

٣٤١

الظنّ المطلق ـ على القول به ـ خروجا عن الخلاف في المسألة ، من غير فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

نعم ، لو احتاط على وجه لا ينافي العمل بالطريق كان محمودا مشكورا منه على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التعليقة.

* * *

٣٤٢

المقام الثاني :

فيما يعتبر في العمل بالبراءة

٣٤٣
٣٤٤

(٧٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا البراءة فإن كان الشكّ الموجب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤١١ )

__________________

(١) قال الأصوليّ المؤسس الشيخ محمد هادي الطهراني أعلى الله تعالى درجاته الشريفة :

« العمل بالبراءة في الشبهات الحكميّة يتوقّف على العلم بعدم بيان المولى واليأس منه فلا يعذر مع احتمال البيان على تقدير السؤال أو النظر فيما أعدّ لضبط أحكامه ؛ فإنّ وظيفة الجاهل السؤال والفحص والتفتيش ، ولا يعذر بمجرّد الجهل وإن لم يتمكّن من الإستعلام ، بل إنّما يعذر بعد اليأس وإحراز انّه لا بيان ، فتكليفه الإحتياط قبل التبيّن ، ولهذا قال عليه‌السلام في رواية ابن الحجّاج : « إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالإحتياط حتى تسألوا وتعلموا » وعلى هذا الأصل يتفرّع قوله عزّ من قائل : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ؛ فانه إلزام وإتمام للحجّة.

ومحصّله ـ والله العالم ـ : ان العقل لا يعذر الجاهل إلاّ بعد الفحص والسؤال ، إن لم يكن من أهل العلم فوظيفتكم في هذا الحال السؤال من أهل الذكر ، لا المبادرة بالإنكار ، فإن لم يتبيّن لكم بعد السؤال شيء فإنكاركم لا يوجب اللّوم والعقاب.

وبما حقّقناه ظهر فساد كثير ممّا صدر في المقام ، وما تكلّفوه من التمسّك بالإجماع والعلم الإجمالي بيّن الوهن.

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب الفحص ليس تكليفا يثبت بالإجماع وما يضاهيه ؛ بل مرجعه الى انّ قبح العقاب إنّما يترتّب على الجهل المستند إلى عدم البيان لا مجرّد الجهل وإلاّ لم يكن للمولى سبيل إلى الإلزام والإفحام ، لتمكّن العبد من إبقاء جهله بترك السؤال والإصغاء.

والحاصل : ان العلم الحادث يتوقّف على النظر ، أو ما يوجب العلم الضروري في الضّروريّات كالإحساس والتجربة والإستماع في المتواترات إلى غير ذلك ولا يكفي فيه مجرّد العلّة

٣٤٥

__________________

الفاعليّة ، فعدم الإستعلام يوجب استحالة الإعلام ، فلهذا استقلّ العقل بأنّ العبد وظيفته الإستعلام وإنّما يعذر بعد العمل بهذه الوظيفة وإعذار قبلها من قبيل نفي الحجّيّة عن العلم مناقض للمولويّة وصدور الأحكام.

نعم ، له تنجيز أحكامه على الجاهل مطلقا ؛ لشدّة الإهتمام كما في النفوس والأعراض ، فالجهل يمكن ان لا يكون عذرا أصلا ، وأمّا كونه عذرا مطلقا فهو محال ، كاعذار العالم وإن لم يكن بهذه المثابة من الوضوح.

وأمّا الثاني : فلعدم زوال أثره بالفحص ، ضرورة ان عدم الوجدان لا يدل على العدم.

ودعوى : حصر المعلوم فيما بايدينا جزاف ناشئة عن ضيق الخناق.

ومن يقول : بان جميع الأحكام بيّنها الشارع وأمر بضبطها وحفظها ، وأنّ العلماء الأجلاّء من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام حفظوا جميع ما استودعوا وبلّغوه إلينا فمن أراد الإطلاّع مع خبرته ظهر له الواقع على ما هو عليه بالنظر في الآثار وعدم الوجدان دليل على العدم لا يعتمد إلاّ على العلم ولا معنى للعمل بالإصل بالنسبة إليه إلا على بعض التقادير.

فظهر : ان البرهان على توقّف الإعذار على الفحص ان العبد بمقتضى عبوديّته في وثاق المولى فليس له الإستقلال في شيء من الأفعال ، بل عليه أن يكون كالميّت بين يدي الغسّال ، فما لم يعثر على الترخيص لا مناص له عن الإحتياط وإن كان جاهلا قاصرا وإلاّ لجاز له العمل بالأصل حال البحث ، بل وإن لم يتفحّص حيث لا يتمكّن منه.

مع ان من المعلوم ان العامي يجب عليه الإحتياط قبل السؤال والعالم قبل النّظر والإجتهاد ، ولم يتوهّم ذو مسكة جواز العمل بالأصل حال النّظر والفحص فلا يدور الإعذار مدار

٣٤٦

__________________

القصور أيضا ، بل لا بد من تحصيل الإذن أو ما نزّل منزلته وهو اليأس من ظهور ما يخالف الأصل من ناحية المولى وهذا يتوقّف على السؤال وما بمنزلته من النّظر إلى ما فيه أحكامه وما أشبهها وليس هذا تكليفا كي يسقط بالعجز.

فتبيّن : ان البيان عبارة عن انكشاف الحكم في نفسه بمعنى كونه بحيث لو عثر الشخص على ما يدلّ عليه انكشف له فالخفاء مستند إلى عدم وصول الشخص إلى البرهان ، وإحراز هذا المعنى يتوقّف على الوصول إلى المولى والسؤال ، أو ما هو بهذه المثابة.

ومن المعلوم ان البحث إنّما ينفع بالإستقراء التام فلو لم نعلم باشتمال كتب الأخبار على جميع ما كان بناء على الشارع على إظهاره لم يؤثر الفحص ، إلاّ عدم الوجدان السابق عليه ، بل ليس هذا أثر له.

نعم ، كثيرا ما يحصل العلم بالعدم وهذا فيما يعمّ به البلوى في تلك الأزمنة فيحتاج في مثل شرب التتن إلى الأصل وكذا ما يحتمل خفاءه لتقيّة أو قصور في الرّاوي أو اشتباه منه والنقل بالمعنى أو لغير ذلك من وجوه الإختلال كالغلط في النسخة وما أشبهها مما لا ينافي صدور جلّ الأحكام وشدّة الإهتمام بالضبط والحفظ والإيصال وعدم ما يوجبه الإحتجاب لبقاء الآثار. هذه جملة القول في عدم جواز الركون إلى الأصل قبل الفحص ومحصّله :

عدم تحقّق موضوع الأصل ومجراه إلاّ بعد اليأس عن صدور التكليف من ناحية المولى فهذا القسم من الجاهل وظيفته الإحتياط وليس معذورا في مخالفة الواقع وإن لم يتمكّن من الفحص ، وكذا في حال بذل الوسع والإجتهاد.

وأمّا من لم يتمكّن من الإحتياط لدوران أمره بين المحذورين ، أو لعدم علمه بالمكلّف به ولو

٣٤٧

__________________

على سبيل الإجمال أو عدم خطور الحكم بالبال كما هو الحال في غرايب الأحكام بالنسبة إلى الأكثر ، فالوجه في كونه مستحقّا للعقاب على مخالفة الواقع ـ مع ان كثيرا من التكاليف لا تتحقّق موضوعاتها أو عللها إلاّ حال غفلته أو عجزه عن الإستعلام كاليوميّة والصّيام والحج والآيات ـ : ان وظيفة العبد تحصيل التمكّن من الإمتثال من هذه الجهة وإن كان معذورا إذا عجز لا على هذا الوجه ، والوجه فيه : عدم انتظام أمر العبوديّة إلاّ بتعلّم العبد للنّواميس المولويّة والتهيّأ للإمتثال على تقدير التعلّق والإرتباط.

والحاصل : انّ وظيفة العبد إحراز ما عند المولى من الأحكام التي يحتمل ارتباطها به قبل التعلّق وإلاّ فربّما ضاق المجال ، فالجاهل باحكام الشكوك لا يسعه السؤال في حال الإشتغال بالصّلاة فيكفي في وجوب تعلّمها قبل الإبتلاء احتمال الحدوث وكذا احكام الحجّ فربّما يستطيع بعد حضور الإمام ولا يسعه تعلّم الأحكام ، بل هذا هو الحال في الصيّام وما لا تحصى من الأحكام ، بل لا يعذر العاجز حال التكليف بترك تحصيل التمكّن وإبقاءه قبل ان يكلّف إذا احتمل ذلك ؛ فإن الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار وما يرجع بالأخرة إلى الإختيار إختياري ، فيجب رفع الحدث قبل الوقت إن لم يتمكّن بعده في الصلاة والصيام ووجوب البدار في رفع الحدث الأكبر في الصّيام من هذا الباب ، أترى أنّ من احتمل الإبتلاء بالجهاد أو الإجتهاد يعذر إذا عجز في وقته لترك تحصيل المقدّمات وعدم التهيّؤ قبل الإبتلاء أو من يرجع اليه علاج المريض والمجروحين يعذر بالعجز بعد الوقوع مع توقّف التمكّن على تمهيد المقدّمات في سنين متطاولة؟! كلاّ ثمّ كلاّ.

بل وجوب التهيّؤ للمقاصد قبل الإبتلاء بها هو الذي به قوام العالم وأساس عيش بني آدم ، بل

٣٤٨

عدم إعتبار الفحص في الشبهات الموضوعيّة

ووجوبه في الشبهات الحكميّة

__________________

الحيوانات ، بل الحشار يدركون هذا المعنى ويستعدّون لما يحتملون الإحتياج اليه قبل الوقوع ؛ فإنه مقتضى كون الأمر بحيث لا يحصل إلاّ بترتيب المقدّمات في أزمنة متطاولة.

والحاصل : ان المقدّمة لا تتّصف بالوجوب أصلا لا قبل وجوب ذيها ولا بعده ، فكما انه لا إشكال في عدم الإعذار بالعجز الذي يتمكّن من إزالته بعد وجوب ذي المقدّمة فكذا قبله ؛ فانّه ليس مستندا إلى تكليف مولوي ، وكون التهيؤ لامتثال أحكام المولى لو اتفقت وظيفة العبد بحيث لا يعذر بالعجز على تقدير الوقوع ومتحقق قبل الوجوب ويكفي فيه احتمال التوجّه إليه في وقت لا يتمكّن من امتثاله لتوقّفه على ما فاته من المقدّمات فما يعتبر في تحقق الموضوع لا يجب تحصيله كملك النّصاب في الزّكاة.

وأمّا ما ليس كذلك فإن استند العجز إلى مجرّد التسامح وعدم المبالات فلا إشكال في انّه ليس عذرا ، بل الإعذار من هذه الجهة مستحيل ، بل قد يؤدّي التّهاون إلى الارتداد وبه علّل كفر تارك الصّلاة في الأخبار.

وأمّا إن كان من جهة الإشتغال بالغير فإن علم الإهتمام بالحكم قدّم عليه ووجب الصفح عنه وإلاّ فلا ، واختلاف الفروع في الفقه مستند إلى هذا الإختلاف.

ولا يخفى انّ غاية ما علم مما حقّقنا : ان الإنتهاء إلى الإختيار يجامع عدم الإعذار وإن صادف العجز أصل التكليف ، وهذا بالنسبة إلى العلم بالأحكام غير قابل للتخصيص ، وأمّا في سائر المقدّمات فلا مانع من الإعذار بالعجز المصادف وإن استند إلى الإختيار كما هو الحال في اختلاف الموضوع » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٥٩ ـ ٦١.

٣٤٩

أقول : لا إشكال فيما أفاده قدس‌سره من عدم اشتراط الفحص في الرجوع إلى البراءة ، بل غيرها من الأصول في الشبهات الموضوعيّة لدلالة النقل بل العقل عند التأمّل على عدم اعتباره فيه ، بل كلماتهم ظاهرة في الاتفاق عليه في الجملة ، إلاّ أنّ في كلماتهم سيما المتأخرين ما ربّما يوهم خلاف ذلك في الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة في بعض الموارد.

كما إذا شكّ في وصول ماله بقدر الاستطاعة ، أو نصاب الزكاة ونحوهما ، وإن كان الظاهر منهم الاتفاق على عدمه في غيره ، ولعلّ نظرهم ـ كما صرّح به بعضهم ـ إلى لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة من العمل بالأصل فيه على تقدير عدم الفحص كما في الشبهات الحكميّة ، فيخرج عن محلّ البحث حقيقة ، وإن كان محل مناقشة عندنا كما سيأتي الكلام فيه عند بحث شيخنا قدس‌سره عنه ؛ فإنه يعيد الكلام فيه بعد ذلك.

وعلى ما ذكر : لو علم المكلف بأنه يحصل له العلم بحال الموضوع المردّد ويرتفع ترديده على تقدير الفحص ، أو يطّلع على الطريق الشرعي المبيّن لحال الموضوع على ذلك التقدير يجوز له الرجوع إلى الأصل من دون فحص ؛ لأنه لازم إطلاق اعتبار الأصل في الموضوع وعدم اشتراطه بالفحص كما هو ظاهر.

كما أن لازم اشتراط الفحص في العمل بالأصل ـ كما في الشبهة الحكميّة على ما ستقف عليه ـ عدم جواز الرجوع إليه قبل الفحص ، وقد احتمل الوقوف

٣٥٠

على الواقع أو الطريق إليه على تقدير الفحص ، وإن كان في علم الله تعالى عاجزا عنهما فهو غير معذور في مخالفة الواقع عند ترك الفحص ، وإن لم يطّلع عليه أو على طريقه في علم الله تعالى على تقدير الفحص وهذا ممّا لا سترة فيه أصلا.

وأمّا اشتراط أصل الفحص في العمل بأصل البراءة في الشبهات الحكميّة من غير فرق بين الشبهة التحريمية والوجوبيّة فممّا لا إشكال ، بل لا خلاف فيه أيضا. واستدلّ عليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ـ بعد الإجماع المحقّق الذي لا ريب فيه كما يظهر أمره بأدنى فحص في كلماتهم ، بل الحق إجماع علماء الإسلام عليه ـ بوجوه :

الأوّل : ما دلّ من الكتاب والسنّة على وجوب تحصيل العلم بأحكام الله تعالى ، وهو لا يحصى كثرة كتابا وسنّة ، ودلالته على الاشتراط إنّما هي من جهة أن جواز الرجوع إلى أصالة البراءة مع القدرة على تحصيل العلم لا يجامع إيجاب الشارع لتحصيل العلم في حق المتمكّن منه ، أو المحتمل لحصوله له وإن لم يعلم بالحصول. ومنه يظهر : أنه يجوز الاستدلال عليه بإطلاق أدلة اعتبار الطرق الشرعيّة ؛ فإن اعتبارها بقول مطلق لا يجامع تجويز الرجوع إلى البراءة فتأمّل (١).

__________________

(١) وجه التأمّل : أنّ ما دلّ على حجّيّة الطّرق الظنّيّة في الأحكام لا دلالة فيه على وجوب

٣٥١

الثاني : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذم بفعل المعاصي المجهولة ، وهو أيضا لا تحصى كثرة. منها : ما في « الكتاب » ودلالته على المدّعى في كمال الوضوح ؛ فإن العقاب على الواقع المجهول يلازم عدم جواز الرجوع إلى الأصل عند الشكّ ومعذوريّة الجاهل عند الشارع ، وإلاّ قبح عقابه. وهو بتمامه وإن لم يكن مختصّا بالجاهل البسيط إلاّ أنه يشمله قطعا.

هذا وإن كان ملازما لحكم العقل بوجوب تحصيل العلم على الجاهل الغير المريد للاحتياط من جهة استقلاله في الحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، إلاّ أن الاستدلال به ليس مبنيّا عليه ، كما ربّما يتوهّمه المتوهّم من ظاهر عبارة « الكتاب » ، بل على ما ذكرنا من التقريب.

وليس المقصود مما أفاده قدس‌سره بقوله المستلزم لوجوب تحصيل العلم بحكم العقل بوجوب التحرز عن مضرّة العقاب ابتناء الدليل عليه ، بل بيان اللازم الواقعي

__________________

الفحص وشرطيّته في العمل بالأصل وإن هو من هذه الجهة إلاّ مثل ما دلّ على حجّيّة الأمارات في الموضوعات الخارجيّة.

نعم ، ما دلّ منه على وجوب السؤال عن الرّواة وأصحابهم والعلماء عند الجهل بحكم الواقعة يدلّ على المنع عن الرّجوع إلى الأصل قبل الفحص كما هو ظاهر.

فالإستدلال يستقيم ببعض ما دلّ على حجّيّة الطرق الظنّيّة لا بتمامه فتدبّر.

« منه دام ظلّه العالي »

٣٥٢

له كما عرفت ، وهذا أمر ظاهر عند من له أدنى تأمّل.

الثالث : حكم العقل بعدم معذورية الجاهل في مخالفة الحكم الواقعي المجهول قبل الفحص عنه ، ولا إشكال في استقلال العقل في ذلك بعد العلم بأن بناء الشارع على تبليغ الأحكام وبيانها للمكلّفين على الوجه المتعارف المقتضي لاختفائها لو لا الفحص.

وعدم جريان عادة الله « تبارك وتعالى » على إفاضة العلم بالأحكام على قلب كل مكلّف قهرا بالإلهام ونحوه ، وإلاّ لما جهل أحد بالحكم الشرعي. وهو باطل بالضرورة والوجدان ، وعدم أمره الوسائط من الأنبياء والأوصياء والحجج بتبليغ الأحكام إليهم بمقتضى قدرة النبوّة والولاية ، بل أمرهم ببيانها لهم على النحو المعتاد حسبما يقتضيه المصلحة بحسب الأزمنة ، وإيجابهم تبليغ الحاضرين الغائبين ومن وصلت إليهم بالوسائط غيرهم وهكذا بحيث لو لم يقصّر أحد في تكليفه بالتعليم والتعلّم لم يبق جاهل بحكم الله تعالى وإن اختلف كيفيّة الفحص قبل إكمال الدين وبعده.

فإنها قبل إكمال الدين يكون بحضور مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعدّ لبيان الأحكام ، فإن بيّن حكم الواقعة على خلاف البراءة فهو ، وإلاّ فيرجع إلى البراءة ؛ حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأمورا ببيان الأحكام تدريجا حسب اقتضاء المصلحة ـ على

٣٥٣

ما عرفت في مطاوي كلماتنا ـ فما لم يبيّن الحكم الإلزامي فالناس في سعة منه ولو كان الحكم الثابت في اللوح أو المنزل على قلبه الشريف هو الإلزام.

وبعد الإكمال يكون بحضور مجلس الحكم والسؤال عن الوليّ أو من أمر الناس بالسؤال عنه ولا يكفي مجرّد الحضور ، كما هو قضيّة ما دل على وجوب السؤال عن أهل الذكر ، بل قد يقال : بعدم كفاية مجرّد الحضور في مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا.

وهذا الحكم العقلي كما ترى ، ليس مبنيّا على العلم الإجمالي بصدور الأحكام الإلزاميّة أصلا ، بل هو ثابت على تقدير عدمه. ومن هنا اتفقت كلمتهم على وجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوة ؛ لاحتمال صدقه من حيث حكم العقل الضروري بوجوب دفع الضرر المحتمل مع عدم علم هناك أصلا ، وإن لم يكن في المسألة مورد للرجوع إلى البراءة أصلا ، لا قبل النظر ولا بعده ؛ لحصول العلم بعد النظر بصدق المدّعي بإظهاره المعجزة وكذبه بعجزه عنه.

وهذا بخلاف المقام ؛ فإنه كثيرا ما لا يحصل من الفحص علم بالحكم ولا يقدر معه على طريق معتبر حاك عنه في جميع الموارد فيرجع إلى البراءة ، وإنّما الغرض من تشبيه المقام بالمسألة انحصار طريق العلم عادة فيهما بالفحص والنظر ؛ حيث إنه لم يجر عادة الله على إفاضة العلم قهرا بصدق مدّعي النبوّة وكذبه من

٣٥٤

دون أن يكون لإظهار المعجزة مدخل أصلا كما في المقام.

وبالجملة : الفرق بين المقام والمسألة المذكورة من الجهة التي عرفتها ليس محلاّ للإنكار أصلا ، كالفرق بينهما في عدم إمكان الوجوب الشرعي للنظر بخلاف الفحص في الأحكام الفرعيّة ، ومن هنا استدلّ له بالأدلّة السّمعيّة. ولعلّه الوجه في أمره قدس‌سره بالتأمل (١) بعد تنظير المقام (٢) بقوله : ( الذي نظيره في العرفيّات ...

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لعله إشارة إلى إمكان الفرق بين مثال النظير وما نحن فيه ؛ فإنه لو لم يجب النّظر في الطومار في مثال النظير لزم منه إفحام الأنبياء عليهم‌السلام.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، ولكن التحقيق عدم الفرق بينهما وأنّ المناط فيهما واحد وهو عدم قبح العقاب على مخالفة الواقع المجهول عقلا إذا لم يتفحّص عنه مع إمكانه بل يحكم العقل بصحّة العقاب عليه.

فإن قيل : إن حكم العقل بصحّة العقاب على المجهول من غير فحص معلّق على عدم ترخيص الشارع للعمل على البراءة وقد رخّصه بعموم أخبار البراءة.

أجاب المصنّف عنه : بأن أخبار البراءة معارضة بأخبار الإحتياط فيجمع بينهما بحمل أخبار البراءة على ما بعد الفحص وأخبار الإحتياط على ما قبله.

وفيه : أنه رحمه‌الله حمل أخبار الإحتياط في غير موضع في المتن وغيره على الإرشاد ، بل بيّن انه لا يمكن حملها على غيره بأوفى بيان وهو الموافق للتحقيق.

وعليه فلا تعارض أخبار البراءة البتة حتى يجمع بالوجه المذكور الذي لا شاهد عليه.

٣٥٥

__________________

والتحقيق في الجواب : أنّ أخبار البراءة منصرفة عمّا قبل الفحص » إنتهى.

حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٨٩.

* وقال السيّد الفقيه اللاري قدس‌سره :

« إشارة إلى أن لزوم الفحص عن الطومار إنّما هو من جهة تعلّقه بالأصول التي هي مجرى الحظر قبل الشريعة ، لا الفروع التي هي محلّ النزاع في مجرى البراءة بعد الشريعة » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٧.

* وقال المحقق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى الفرق بين المثال وما نحن فيه ؛ لأنّ المثال من قبيل دعوى النّبوّة ؛ فإن من ادّعى الرسالة من الله تعالى ودعى الناس إلى النظر إلى معجزته ، فعدم جواز العمل بأصالة البراءة عن وجوب تصديقه من دون فحص عن صدقة بالنظر في معجزته إنّما هو لاستلزامه لإفحام الانبياء ، لا لعدم جواز العمل بها قبل الفحص ؛ لأنا لو قلنا بجواز العمل بها قبله في الأحكام الفرعيّة لا يلزم منه القول بها قبله في مسألة النظر إلى المعجزة لما ذكرناه من المحذور فيها » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٩٩.

(٢) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان هذا ليس نظير المقام بل هو من باب وجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوّة ؛ حيث انهم حكموا باستقلال العقل به وبعدم معذوريّته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل.

ومن المعلوم انه لا ملازمة بين ذلك وبين عدم معذوريّة الإنسان بعد الإيمان والمعرفة ،

٣٥٦

إلى آخره ) (١) أو الوجه الأول وإن كان الفرق من الجهتين لا يمنع من التشبيه من الجهة المقصودة.

وهنا وجه آخر له غير ما عرفت من الوجهين وهو :

أنه كثيرا ما يحصل العلم بالفروع من الضرورة ونحوها من الأسباب القهريّة دون إعمال قوّة نظرية ، أو الفحص عن الحكم ، وهذا بخلاف مسألة النبوّة ؛ فإن طريقها منحصر في الإعجاز ولا يحصل العلم به إلاّ بعد النظر ، فلا يمنع العقل من الترخيص والرجوع إلى البراءة في حق الجاهل في المقام ، بخلاف مسألة الجهل بالنبوّة ؛ فإن ترخيص الرجوع إلى البراءة فيها موجب لسدّ باب إثبات النبوّات ، وهذا الوجه من الفرق وإن كان جيّدا كالفريقين السّابقين ، إلاّ أنه يمكن القول بعدم منعه عن تشبيه المقام بالمسألة المذكورة أيضا ؛ فإن الغرض كون مبنى حكم العقل

__________________

والإذعان بكثير من الأحكام فيما شك فيه منها كما في المقام على ما لا يخفى ولعلّه أشار إليه بأمره بالتأمّل.

لكن مع ذلك كلّه كانت قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الملتفت غير جارية إلاّ فيما إذا تفحّص ولم يطّلع على برهان ولا بيان ، ولا مجال بدون ذلك كما يظهر من مراجعة الوجدان وإتفاق العقلاء على استحقاق العبد للعقاب فيما إذا خالف مولاه في واحد من أوامره ، أو نواهيه قد شك فيه ولم يتفحّص عنه أصلا فليراجع » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٧١.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٤.

٣٥٧

في المقامين على وجوب دفع الضرر المحتمل لا الحكم باتحادهما من جميع الجهات فتأمل.

لا يقال : ادّعاء عدم جريان عادة الله على خلق العلم القهري في نفوس الخلائق بصدق مدّعي النّبوّة وانحصار الطريق في الإعجاز إنّما يتم بالنسبة إلى من تأخّر من الأنبياء ، لا بالنسبة إلى النّبي السابق وأول الأنبياء ؛ ضرورة أنه لا يتصوّر هنا تكرّر حتى يدّعى بالنسبة إلى عادة ، فكيف تصح الدعوى المذكورة بإطلاقها؟

لأنّا نقول : المراد من العادة في المقام ليس ما سبق إلى بعض الأوهام من معناها المعروف الحاصل من التكرّر ، بل المراد منها عدم تعلق إرادة الله تعالى على خلق العلم القهري في النفوس بصدق مدّعي النبوة أو كذبه ، وإلاّ لم يجهل أحد بخلافه ، وهو خلاف المعلوم بالضرورة والوجدان.

لا يقال : إن معاصري النبي السّابق لا طريق لهم في الحكم بالانحصار أصلا ، لاحتمال كون الطريق لهم خلق العلم القهري ؛ إذ لم يثبت لهم نبوة أحد حتى يستدلّ بجهلهم بحال مدّعي النبوة على نفي الطريق المذكور وكونه منحصرا في الإعجاز.

لأنا نقول : ـ بعد استقلال العقل في الحكم بعدم جواز خلوّ الزمان من حجة نبيّ ، أو وليّ شاهد ، أو غائب بمقتضى اللطف الواجب على الحكيم تعالى. ومن هنا جعل أوّل خلقه نبيّا وخليفة في الأرض ( على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسّلام ) ـ :

٣٥٨

لا سبيل إلى السؤال المذكور أصلا ، كما لا يخفى فتأمّل (١).

ثمّ إن مبنى الوجه المذكور وهو حكم العقل بعدم معذوريّة الجاهل في المقام كما عرفت لمّا كان على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل ، وكان حكم الشارع بالترخيص الظاهري عند اشتباه الحكم الشرعي ـ على تقدير شموله لما قبل الفحص ـ رافعا لموضوع الحكم العقلي المزبور لم يكن بدّ من إثبات عدم شمول الدليل النقلي على البراءة للمقام ، ومن هنا قال شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : « والنقل الدال على البراءة في الشبهة الحكميّة معارض ... إلى آخره » (٢).

وما أفاده قدس‌سره : من حمل الدليل النقلي على البراءة على صورة العجز عن تعلّم حكم الواقعة ، فلا يدل على البراءة قبل الفحص بقرينة ما دل على وجوب الاحتياط عند التمكّن من سؤال حكم الواقعة وإزالة الشبهة ، مثل صحيحة عبد الرحمن (٣) المتقدّمة ونحوها بناء على بعض الاحتمالات التي عرفتها سابقا ،

__________________

(١) وجه التأمّل : ان مبنى الجواب عن السؤال المذكور على العلم الإجمالي وهو ينافي مبنى تشبيه المقام بالمسألة كما لا يخفى فتدبّر ( منه دام ظلّه ).

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٤.

(٣) الكافي الشريف : ج ٤ / ٣٩٤ باب ١١١ « القوم يجتمعون على الصيد وهو محرمون » ـ ح ١ والتهذيب : ج ٥ / ٤٦٥ باب « في الزيادات في فقه الحج » ـ ح ١٦٣١ ـ ٢٧٧ عنهما الوسائل ج ٢٧ / ١٥٤ ب ١٢ من أبواب صفات القاضي ـ ح ١.

٣٥٩

وما دلّ على وجوب التوقّف بظاهره بناء على ما أفاده من الجمع ، وإن كان في كمال الجودة إلاّ أنه لمّا كان مبنيّا على وجه غير نقي عن المناقشة كان الأولى منه منع شموله لما قبل الفحص بعد ملاحظة كون بناء الشارع على تبليغ الأحكام على الوجه المتعارف على ما عرفت ومن هنا وقع التصريح في غير واحد من الأخبار بالطلب والبحث ، فتأمل.

الرّابع : حصول العلم الإجمالي لكل مكلّف بالواجبات والمحرّمات في الوقائع المحتملة للتكاليف الإلزاميّة التي هي موارد الرجوع إلى البراءة على وجه شبهة الكثير في الكثير الملحقة بالشبهة المحصورة حكما ، وإن خرجت عنها موضوعا فلا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص عن حال الواقعة.

لا يقال : مقتضى ما ذكر من الوجه وجعل كل شبهة ابتدائيّة من الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي بالملاحظة المذكورة ، فيدخل في الشكّ في المكلّف به حقيقة مع دوران الأمر بين المتباينين ، ومن المعلوم ضرورة عدم الجدوى للفحص فيه ؛ إذ حكمه قبل الفحص وبعده لزوم الاحتياط من غير فرق بينهما ، فيخرج عن موضوع البراءة بهذه الملاحظة ، ولذا يحكم بالاحتياط في دوران الأمر بين القصر والإتمام ونظائره من غير فرق بين قبل الفحص وبعده.

فإن شئت قلت : إن مجرى البراءة الشك في التكليف لا المكلّف به ، فالعلم الإجمالي المذكور يوجب خروج الوقائع المشتبهة عن مجرى البراءة لحصول

٣٦٠