بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

المستفاد من قوله أخيرا : « والتحقيق ... إلى آخره » ؛ لأن التخيير بين الاحتمالين لا تعلّق له باختيار الرجوع إلى البراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

وبالجملة : تحرير المقام بما في « الكتاب » لا يخلو عن اضطراب ، مضافا إلى توجّه المناقشة إلى ما أفاده في تحقيق المقام والله العالم بحقيقة الأحكام ، وإن كان التحقيق في نظر القاصر ما عرفت : من خروج المسألة موضوعا عن دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، وعن دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، ودخوله موضوعا في المتباينين من جهة الترديد فيما يعتبر في الواجب ، فهو من هذه الجهة نظير التردّد في الواجب من جهة تردّد شرطه.

* * *

٣٢١
٣٢٢

المطلب الثالث :

دوران الأمر بين الواجب

والحرام

٣٢٣
٣٢٤

المطلب الثالث :

(٧٠) قوله قدس‌سره : ( في اشتباه الواجب بالحرام ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٠٣ )

دوران الأمر بين الواجب والحرام

أقول : افتراق المسألة من دوران الأمر في فعل واحد بين الوجوب والتحريم أمر ظاهر لا سترة فيه ، كظهور الفرق بين التخيير فيهما.

ثمّ إن الحكم في جميع صور الدوران من حيث الشبهة الحكميّة بأقسامها والشبهة الموضوعيّة لمّا كان واحدا من حيث الأصل الأولي ـ كما هو المقصود بالبحث ـ لم يجعل في المقام مواضع للكلام ، وإن افترقا من حيث إمكان الرجوع إلى القرعة في بعض صور الشبهة الموضوعية ، وتقديم الموافقة القطعيّة في الأهم من الواجب والحرام المردّدين على غير الأهم منهما ، كما هو الشأن في المعلومين منهما تفصيلا عند التزاحم وإن لم نقف على مثال للشبهة الحكمية لمفروض البحث.

ثمّ إن ما أفاده قدس‌سره في حكم المقام من حيث الأصل الأوّلي وأن مقتضاه تعيّن الحكم بالتخيير ، بمعنى البناء على فعل أحدهما وترك الآخر مخيّرا فيه : من جهة أن

٣٢٥

الممكن من مراتب الإطاعة هي الإطاعة الاحتماليّة بالنسبة إلى الحكمين ؛ لمزاحمة الإطاعة القطعيّة بالنسبة إلى كل منهما بالمخالفة القطعيّة في الآخر ، فتعيّن الموافقة الاحتماليّة بالنسبة إليهما.

فلا معنى للحكم بالتخيير بين الإطاعة الاحتمالية بالنسبة إلى كلّ منهما والإطاعة القطعيّة بالنّسبة إلى أحدهما وإن ترتّب عليه المخالفة القطعيّة ؛ فإن مبنى حكم العقل بتحصيل الموافقة القطعيّة على دفع الضرر المحتمل المترتّب على تركه ، ولا معنى لحكمه به بعد فرض إيجابه الوقوع في الضرر المقطوع من جهة أخرى فتدبّر.

* * *

٣٢٦

خاتمة في شرائط

العمل بالأصول

وفيها مقامان :

المقام الأول : ما يعتبر في العمل بالإحتياط

المقام الثاني : ما يعتبر في العمل بالبراءة

وفيه مقامان :

الأوّل : في وجوب أصل الفحص

الثاني : في مقدار الفحص

الفاضل التوني وشرطان آخران للبراءة :

١ ـ ألاّ يكون موجبا لثبوت حكم آخر

٢ ـ عدم تضرّر آخر

قاعدة لا ضرر

٣٢٧
٣٢٨

فيما يعتبر في العمل بالأصل

(٧١) قوله قدس‌سره : ( والكلام تارة : في البراءة ، وأخرى : في الاحتياط ... إلى آخره ) (١) (٢). ( ج ٢ / ٤٠٥ )

__________________

(١) وفي الكتاب تقديم الإحتياط وتأخير البرائة في التعبير وهو من اختلاف النسخة.

(٢) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« إنّما خصّ الكلام بالبراءة والإحتياط ؛ لكون أصالة التخيير في مواردها قسما من أصالة البراءة ، والإستصحاب إن كان مثبتا فهو في معنى الإحتياط ، وإن كان نافيا فهو في حكم البراءة من حيث جواز العمل به قبل الفحص وعدمه ، هكذا قيل.

ولا يخلو من تأمّل ؛ لأنّ الفحص قد اشترط في الإستصحاب من حيث جواز العمل به وفي الإحتياط من حيث عدم تحقّق موضوعه بدونه ـ كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله ـ ومقتضى الحاق المثبت منه بالإحتياط كون الفحص شرطا في تحقّق موضوعه أيضا لا في جواز العمل به.

فالأولى أن يقال : إن عدم تعرّضه لأصالة التخيير ؛ لما عرفت ، وللإستصحاب إمّا لعدم كونه مقصودا بالبحث في هذا المقصد ، وإمّا لما سيشير إليه عند الفراغ من الكلام في وجوب الفحص في العمل بأصالة البراءة من حكم سائر الأصول العمليّة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٩٨.

٣٢٩

__________________

* وقال الأصولي المؤسّس الشيخ محمد هادي الطهراني أعلى الله تعالى مقامه الشريف : مع تحقّق موضوعه [ الإحتياط ] لا إشكال في حسنه ، وتوهّم : اعتبار قصد الوجه واضح الفساد ؛ فإنه ان كان بمعنى إعتبار كونه داعيا على العمل حتى يحكم ببطلان الواجب لو كان الباعث على الإتيان به كونه محبوبا وإن لم يوجبه المولى عليه كالصبي بل من يقدّم عليه لعلوّ مقامه في العبوديّة ولو لم يكن مكلّفا به فهو بديهيّ الفساد ؛ فإنه أولى بالصحّة والمقرّبيّة ممّا لا يأتي الشخص به ، إلاّ على تقدير إلزامه لضعف عبوديّته ، مع انّ مدخليّة الوجوب في الإتيان بالواجب والإستحباب في الإتيان بالمستحب تناقض واضح ؛ فإن المعلول يدور مدار علّته ، فالإتيان بكل من الفعلين والإمتثال على كلا التقديرين إلقاء لكلّ من الخصوصيّتين.

وإن كان بمعنى إعتبار التميّز عند القائل كما يظهر من تصريحاتهم وإن أباه التعبير عنه بالقصد فهو جزاف حتى إذا توقّف على التكرار ؛ فإنّ دعوى الإجماع من الرّضى قدس‌سره لو كان لها أصل لا حجّيّة فيها.

وتوهّم : اعتباره في تحقّق الإطاعة واضح الفساد.

وكون التكرار في بعض مراتبه مع التمكّن من العلم لعبا من جهة انّه تضييع للوقت وتحمّل تعب وتكلّف عبث ، ومثل هذا الشخص ملحق بالسفهاء لا ينافي صحّة ما صادف من عمله للواقع ؛ فإنّ الإكثار بما لا يصادف من غير إلجاء إليه ناش من الحماقة ، وأين هذا من بطلان المصادف؟

وكيف يتوهّم اشتراك جميع مراتب التكرار في ذلك وعدم الفرق؟

٣٣٠

المقام الأوّل :

فيما يعتبر في العمل بالإحتياط

أقول : وإنّما أهمل قدس‌سره التخيير في المقام مع أنه من الأصول أيضا : من جهة اتّحاد حكمه مع البراءة ، مضافا إلى تصريحه بعد ذلك بعدم الفرق بينهما بقوله : « ثم إن في حكم أصل البراءة كلّ أصل عملي خالف الاحتياط » (١) وإن أمكن حمله على الاستصحاب النافي للتكليف ، فلو أبدل قوله : « خالف الاحتياط » بقول : « غير الاحتياط » كان أولى حتى يشمل التخيير والاستصحاب مطلقا فتدبّر.

كما أنه عمّم الاحتياط وجعل موضوع البحث الأعمّ من الاحتياط اللازم الشامل للاحتياط مع تحصيل الطريق الشرعي على حكم الواقعة لمزيد الفائدة وإن كان الاحتياط الذي يبحث عنه في قبال الأصول الثلاثة هو اللازم منه فتدبّر.

__________________

ولقد أفرط الحلّي قدس‌سره ؛ إذ حكم بسقوط التكليف بما لا يتمكّن من معرفة وجهه ؛ فإنه مقتضى تصريحه بسقوط الشرط المجهول وإن تمكّن من إحرازه بالإحتياط كالستر مع التردّد بين الثوبين ، والقبلة مع التردّد بين الجهتين ، مع انه خلاف النصوص ، بل خلاف الضرورة في الجملة ، فظهر فساد ما يتوهّم : من بطلان عمل تارك الطريقين العامل بالإحتياط » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٥٩.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٦.

٣٣١

مع أن الاحتياط مع وجود ما يشخّص حكم الواقعة لا إشكال ، بل لا خلاف في حسنه ورجحانه وتحقّق موضوعه ، وإن ذهب الوهم إلى عدم مشروعيّته في العبادات الصحيحة ظاهرا : من حيث توقّف مشروعيّة العبادة على العلم بالأمر الشرعي ، ولا يكفي حسن الاحتياط والأمر المتعلّق به من حيث توقّف الاحتياط موضوعا على الأمر في العبادات ، فلا يمكن إثباته بأمر الاحتياط. مضافا إلى كونه إرشاديا كما تقدّم شرح القول فيه وفي فساده في مطاوي كلماتنا السابقة.

ثمّ إن ما أفاده في حكم الاحتياط : من أنه ليس له شرط أصلا حيث إن حسنه العقلي والشرعي ورجحانه الذاتي لا ينفكّ عن موضوعه ، وهو إحراز الواقع على تقدير ثبوته ، أو التحرّز عن مخالفة الواقع الذي يرجع إلى الأول باعتبار ، وأنه لو قيل بتقدّم تحصيل الطريق الشرعي عليه ، أو تحصيل العلم عليه مطلقا أو في الجملة في العبادات ، فإنّما هو من جهة أخذ ما يوجب إعماله إلقاءه في العبادة ، فليس هنا احتياط وإحراز للواقع حقيقة مما لا يعتريه شكّ وريب أصلا.

ومن هنا وقع الاتفاق عليه بالنسبة إلى التوصّليات حتى مع التمكّن من العلم التفصيلي فضلا عن الطريق الشرعي ، ولو بالنسبة إلى التعبّديات ـ من غير الحلّي (١) ـ فيما لا يتمكن من الطريق أصلا ، وإن توقف على التكرار. وهذا بخلاف

__________________

(١) في السرائر الحاوي للفتاوي : ج ١ / ١٨٥.

٣٣٢

سائر الأصول ؛ فإنّها مشروطة بالفحص عن الطريق في الشبهات الحكميّة على ما ستقف عليه ، وإن كان مفاد بعض ما أقاموا عليه : عدم جريانها من دون فحص على ما يشير إليه.

وإن كان ربّما يتوهّم المتوهّم : أن الدليل على وجوب تحصيل العلم في الأحكام الإلهيّة وعلى وجوب العمل بالطرق الشرعيّة يمنع من الأخذ بالاحتياط مع التمكّن من تحصيلهما.

لكنه فاسد من حيث إن مفاد لزوم تحصيل العلم بالفروع ، وكذا لزوم العمل بالطريق إنّما هو من حيث التوصّل بهما إلى الحكم الفرعي والأخذ به والعمل عليه ، فلا يمنع من الأخذ بما يوجب تحصيل الواقع والعمل عليه.

نعم ، وجوب تحصيل العلم بالحكم الإلهي من حيث حفظه وصيانته عن الاندراس ـ على تقدير ثبوته ـ ربّما يمنع من الرجوع إلى الاحتياط في الأحكام الشرعيّة مع التمكّن من العلم التفصيلي من جهة صيرورته بهذه الملاحظة واجبا نفسيّا.

لكن يمكن أن يقال : إنه على تقدير ثبوته لا يوجب بطلان العمل المأتي به بعنوان الاحتياط وإن عصى المكلف بترك تحصيل العلم ، فالاحتياط من حيث ترتب الأثر عليه غير مشروط بالعجز عن تحصيل العلم والطريق الشرعي ، فتصحّ المقالة المذكورة على هذا التقدير أيضا فتدبّر.

٣٣٣

(٧٢) قوله قدس‌سره : ( ثم إن هذه المسألة أعني بطلان عبادة التارك للطريقين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٠٦ )

حكم المحتاط التارك لطريقي الإجتهاد والتقليد

أقول : من المحتمل قريبا إرادة أكثر القائلين ببطلان عبادة تارك الطريقين لبيان حكم القسم الثاني لا ما يعمّه والقسم الأوّل ، أي : الجاهل بالواقع الباني على إحراز الواقع بالاحتياط ، فما ذكروه لا محيص عنه بالنسبة إلى الملتفت من حيث عدم إمكان قصد التقرب والامتثال مع التردّد كما ستقف على تفصيل القول فيه. نعم ، في كلام بعض السادة المتأخرين ممن قارب عصرنا : التصريح بالتعميم كما هو صريح « الكتاب ».

والكلام في تحقيق ما يتعلّق بالمقام وإن تقدّم في الجزء الأوّل من التعليقة في فروع العلم (١) ، إلاّ أنا نعيد الكلام فيه تبعا لشيخنا قدس‌سره لمزيد الاهتمام بشأن المسألة وكثرة الحاجة إليها ، ونحن نحرّر الكلام في المقام في جواز الاكتفاء بالاحتياط مع توقّفه على التكرار فيما تمكّن من تحصيل العلم بالواقع في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، ويعلم جواز الاكتفاء به في سائر الصور بالأولويّة ، وإن كان موضوع البحث في « الكتاب » التكلم في جواز الاحتياط مع

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٤٩.

٣٣٤

التمكن من سلوك الطريق الشرعي بالاجتهاد أو التقليد.

فنقول : إنه كما يحكم العقل والعقلاء بحصول الامتثال والإطاعة إذا كان داعي الفاعل من إيجاد الفعلين التقرّب إلى المولى بفعل أحدهما من حيث العلم بكونه مطلوبا له في العرفيّات والشرعيّات مع عدم التمكّن من تحصيل العلم بالمطلوب تفصيلا كما هو المتفق عليه بينهم وإلاّ لم يكن الاحتياط فيه مشروعا وحسنا وهو خلاف العقل والنقل ، كذلك يحكمان بحصولهما في الفرض مع التمكّن والقدرة على تحصيل العلم بالمطلوب تفصيلا ، كما نشاهد ذلك بالرجوع إلى عقولنا.

ودعوى : الفرق بينهما في حكمهما مجازفة صرفة لا شاهد لها أصلا ، بل الشاهد على خلافها من غير فرق في ذلك بين التوصليّات والتعبّديات ؛ لأن الفرق بينهما إنّما هو في اشتراط صحة الواجب بحصول الامتثال في الثاني دون الأول ، وإن توقّف ترتّب الثواب فيه على حصول الامتثال ، لا في حصول الامتثال بالإطاعة الإجمالية مع التمكّن من الإطاعة التفصيليّة.

نعم ، لو شكّ في حكمهما بحصول الامتثال بالإطاعة الإجمالية مع التمكّن من الإطاعة التفصيليّة لم يكن إشكال في عدم جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر في المكلف به بين الأقلّ والأكثر ؛ ضرورة ثبوت الفرق بينه وبين المقام الذي لا تعلق له ببيان الشرع على ما صرّح به قدس‌سره في « الكتاب ».

٣٣٥

وأمّا ما ذكر مانعا وفارقا فوجوه لا يصلح للمنع والفرق بين الموضعين ، استدل بأكثرها للمنع من الاكتفاء بالاحتياط عند التمكّن من سلوك الطريق الشرعي حتى فيما لا يتوقّف الاحتياط فيه على التكرار ، وإن كان بعضها مختصّا بخصوص محل البحث : كلزوم مقارنة فعل الواجب بقصد الوجه المتحقّق بنيّة الوجوب ، أو وجهه وعنوانه الذي أوجب انطباقه على الواجب وعروضه عليه تعلّق الطلب الإلزامي به من الشارع ككونه لطفا مثلا.

ومن هنا قالوا : إن الواجبات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ؛ إذ لم يلتزم أحد من العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح وكون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد بلزوم وجود المصلحة في الواجبات الشرعيّة مثلا في ذواتها من غير أن يعرضها من جهة العنوانات المنطبقة عليها.

لأنه إذا لم يقصد الواجب بالوجه المذكور لم يكن تحقّق الفعل المعنون اختياريا ، وإن كان ذات الفعل المقصود اختياريّا ؛ ضرورة توقّف اختيارية عنوان الفعل على قصده عند الفعل ولو على وجه الإجمال ، وقصد ما يكون مسبّبا عنه ومن عوارضه. وإذا لم يكن ترتّب العنوان اختياريّا لم يعقل حصول الامتثال والإطاعة ، فيكون العبادة فاسدة : من حيث توقّفها على حصول الإطاعة والامتثال.

ومن هنا اتّفق المتكلّمون على لزوم مقارنة فعل الواجب لقصد الوجوب ، أو وجه الوجوب ، أو لزوم معرفة الوجه ، وتميز الواجب من حيث ذاته وأجزائه

٣٣٦

وشرائطه عن غيره وإن لم يقصد الوجه حين الإتيان ، كما يظهر الاكتفاء به عن بعضهم.

وكون الاكتفاء بالاحتياط مع التمكّن من تحصيل العلم خلاف الإجماع المنقول في كلام أهل المعقول وبعض أهل المنقول كالسيّد الرضي قدس‌سره ؛ فإنه ادّعى الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، في قبال أخيه الأجلّ علم الهدى بعد قوله بصحّة صلاة الجاهل بالحكم في موضعين ـ على ما سيأتي ذكره ـ وقد قرّر الدعوى المذكورة (١) ولكن أجاب عن أصل الشبهة بما لا يخلو عن مناقشة سنشير إليها ، ومنع حصول الإطاعة عند العقلاء بالتكرار فيما يتمكّن من تحصيل المأمور به سيّما بالعلم التفصيلي ، وعدّهم المحتاط لاعبا بأمر المولى لا مطيعا كما يظهر من المثال المذكور في « الكتاب ».

فإن الأوّل : مندفع أوّلا : بأنّ الاكتفاء بالإشارة الإجمالية إلى عنوان المأمور به وقصده الإجمالي بقصد ما ينطبق عليه ـ كما هو قضيّة صريح كلماتهم ـ يوجب بطلان ما اقتصروا عليه ، والاكتفاء بقصد كل عنوان ينطبق عليه المذكور ، ولو لم يكن خصوص الوجوب والاستحباب كعنوان الظهر والعصر مثلا.

وثانيا : بأن قصد العنوان المذكور يتأتّى من المحتاط المتكرّر للعمل ، كما

__________________

(١) أنظر رسائل الشريف المرتضى : ج ٢ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ وقد مرّت إشارة إلى ذلك في مبحث القطع من الفرائد : ج ٢ / ٧٢.

٣٣٧

يتأتّى قصد التقرّب منه ، فلا يوجب اعتباره بطلان الاحتياط بالتكرار ؛ فإن المدّعى اعتبار القصد التفصيلي بحيث يقصد إتيان الواجب الواقعي حين الإتيان به كونه لوجوبه ، أو وجه وجوبه فلا بد من تميز الواجب ، والدليل المذكور لا يفي بإثبات هذا المدعى.

وثالثا : أنه لا فرق في مفاد هذا الوجه بين ما يتوقّف على التكرار وغيره ؛ فإن الآتي بالأكثر احتياطا لا يتمكّن من القصد التفصيلي بالمعنى المذكور ، وإلاّ لم يكن الواجب مردّدا والقصد إلى وجوب الواجب في الجملة على تقدير كفايته يوجب هدم ما بنوا عليه الأمر. ومن هنا لم نجد في كلمات الأكثر الفرق بين ما يتوقّف على التكرار وغيره ، بل ظاهرهم الاستدلال على لزوم قصد الوجه وبطلان الاحتياط عند التمكّن من تحصيل ماهيّة المأمور به بالطريق الشرعي أيضا حتى فيما لا يتوقّف على التكرار.

وإن كان الإطلاق المذكور وتسرية الدليل بالنسبة إلى صورة التمكّن من تحصيل المأمور به بالطرق الشرعيّة لا يخلو عن نظر ، بل منع ؛ حيث إن قصد الوجه الظاهري المعلوم تفصيلا الذي يقتضيه حجّية الطرق الشرعيّة لا يجدي بالنسبة إلى وجه العبادة الواقعية أصلا.

ضرورة كونه حكما ظاهريّا غير الحكم المعلوم إجمالا بعنوان التعبّد للواقعة في نفس الأمر المعتبر قصده في صحة العمل ، وقصد الوجه الواقعي بعنوان الاحتمال يتأتّى من المحتاط أيضا ، فلا فرق بينه وبين العامل بالطريق الشرعي.

٣٣٨

وقصد الوجه الواقعي بعنوان الإجمال لو كان كافيا يتأتّى منهما أيضا فلا فرق بين المحتاط والعامل بالطريق الشرعي.

والثاني مندفع : بعدم الشاهد عليه أصلا ، بعد عدم جعله مقدّمة لقصد الوجه.

والثالث مندفع : بأن إجماع المتكلّمين إذا كان محقّقا لا يكشف عن شيء ، فضلا عما إذا كان منقولا. ومن هنا ذكر المحقق قدس‌سره : بأن ما ذكره المتكلّمون : من وجوب إيقاع الواجب لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعريّ (١). ونقل الإجماع من أهل المنقول لا يفيد سيّما في المقام ؛ من حيث قوّة احتمال استناده إلى ما زعموا : من حكم العقل بذلك على ما ذهب إليه المتكلمون ، مضافا إلى احتمال إرادة البطلان فيما كان العمل الصادر عن الجاهل مخالفا للواقع كما هو الشأن في محل كلام المدّعي ، فلا تعلّق له بمحلّ الكلام وعمل المحتاط المطابق للواقع.

والرابع مندفع : بما نشاهد من حكم العقلاء بحصول الامتثال والإطاعة. ودعوى : حكمهم بكون المحتاط لاعبا بأمر المولى لا مطيعا له ، ممنوعة. غاية ما هناك كونه لاعبا في ضمن الإطاعة لو لم يكن له غرض في ترك تحصيل الواقع تفصيلا ولو كان سهولة الأمر ويسره ، بل ربّما يحكم بكون الاحتياط أولى من تحصيل الواقع تفصيلا إذا كان مبناه الظن المعتبر ؛ نظرا إلى تحصيل المصلحة الواقعيّة بفعل الاحتياط.

__________________

(١) الرسائل التسع للمحقّق الحلّي : ٣١٧.

٣٣٩

وإن كنت في ريب من ذلك فقس المقام بحال العبد الذي أمره المولى بإيجاد شيء له طريقان ، أو المشي إلى موضع لشغل له طريقان إحداهما أبعد من الأخرى ، فاختار العبد من غير غرض عقلائي سلوك الأبعد وأتى بالمأمور به ؛ فإنه لا إشكال في حكم العقلاء بكونه مطيعا وإن لغى باختيار الأبعد.

ودعوى : الفرق بين المقام والأوامر الصادرة من الموالي العرفيّة من حيث كونها توصّليّة صرفة بخلاف المقام.

فاسدة جدّا ؛ إذ لا فرق في التوصّلي والتعبّدي من حيث الإطاعة والامتثال ، وإن لم يكن حصول الإطاعة معتبرا في الصحّة في التوصّلي ، وإن كان معتبرا في استحقاق الأجر من الموالي والمدح من العقلاء على ما عرفت الإشارة إليه ، فخروج التوصّلي عن محلّ البحث إنّما هو من جهة أن الكلام في صحة العمل من المحتاط.

فقد تبيّن مما ذكرنا كلّه : عدم قادح لترك الطريقين والأخذ بالاحتياط مطلقا وإن تعيّن في حقّ العامي الغير القاطع بما ذكرنا إذا أراد الاحتياط الرجوع إلى الفقيه المفتي بذلك ، وإلاّ فلا يجوز له الأخذ به من حيث استقلاله بوجوب الأخذ بما يعلم اعتباره وحرمة الأخذ بما يشكّ في اعتباره كما هو ظاهر.

كما أنه قد ظهر منه : جواز العمل بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فإن طابق الواقع اقتصر عليه وإلاّ أعاده ، كما أن الأولى بالجواز ما لو أتمّ العمل بهذا العنوان إذا حصل ما يوجب التردّد في الصحة والفساد في الأثناء.

٣٤٠