بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

والشرطيّة ليتعيّن به الماهيّة المخترعة كما هو الثمرة في الاستدلال بالأصل ، بل حينئذ قضيّة ثبوت الاشتغال بها وجوب الإتيان بهما تحصيلا لليقين بالبراءة. والفرق بين هذا الوجوب والوجوب الذي نفيناه أوّلا : هو الفرق بين وجوب مقدّمة الواجب ووجوب مقدّمة العلم به.

فاتّضح بما قرّرنا : أن لا ثمرة يترتّب على نفي الوجوب بالاعتبار الأوّل ، وحيث إن مرجع النزاع في جريان أصل البراءة في المقام وعدمه إلى جريانه فيه على وجه يترتب عليه الثمرة وعدمه ، فالمتّجه : هو القول بعدم جريانه مطلقا.

وأما وجوب الجزء في ضمن الكلّ فلا سبيل إلى نفيه بالأصل ؛ لأنه في معنى نفي وجوب أحد المركّبين مع أن نسبة الوجوب إلى كل واحد منهما سواء والفرق بين المقام وبين بقيّة موارد أصل البراءة حيث يجري فيها ولا يجري فيه : أن البراءة من القدر المتيقّن من الاشتغال هنا لا يحصل بإتيان القدر المتيقّن ، بخلاف بقيّة الموارد ؛ فإنّ البراءة بفعل ما ثبت الاشتغال به لا يناط بحصول غيره في غير المقام على تقدير الاشتغال به في الواقع بخلاف المقام ؛ فإن البراءة بفعل البعض منوطة بفعل الباقي على تقدير الاشتغال به فيتوقف العلم بها عليه ؛ إذ لا علم بمطلوبية القدر المعلوم مستقلاّ وإنما المعلوم مطلوبيّته في الجملة إما مستقلاّ أو منضمّا ، ولا سبيل إلى تعيين الأوّل بأصالة عدم تعلّق الوجوب التّبعي بالجزء ، أو الشرط المشكوك فيه ؛ لأن ذلك أصل مثبت ولا تعويل عليه عندنا.

٢١

ودعوى : أن التكليف لا يتعلّق إلاّ بالقدر المتيقّن ، وإلاّ لزم التكليف بالمجمل وهو محال.

ممنوعة ؛ لأن المجمل الذي لا يجوز تعلّق التكليف به هو المجمل الذي لا سبيل إلى امتثاله ، وظاهر أن المقام ليس منه.

وإلحاق الغائبين عن مجلس الخطاب بالحاضرين فيه في وجوب الاقتصار على ما ثبت لهم وبلغهم من البيان إنّما يتمّ إذا وصل إليهم خطاب دال بظاهره على حصر أجزاء الماهيّة وشرائطها في أمور معيّنة ، كما هو الغالب في حق الحاضرين كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (١). والكلام هنا مبنيّ على تقدير عدمه ؛ إذ المقصود إثبات حجّيّة أصل البراءة وأصل العدم في المقام دون ظاهر النصّ.

وأمّا إذا لم يدلّ الخطاب على الحصر كما لو ورد نص : بأن الركوع جزء للصّلاة ، ثم ورد نصّ : بأن السجود جزء ، وهكذا ... كان تمسّك الحاضرين بأصل البراءة وأصل العدم في نفي غير المذكور مثل تمسّك الغائبين بهما في كونه في محلّ المنع قد نبّهنا عليه سابقا ، وكذا الكلام في أصل العدم.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ١ / ١٩٧ ـ الفصل التاسع « في ذكر أحاديث تتضمّن شيئا من أبواب الفقه ذكرها بعض الأصحاب في بعض كتبه » ـ ح ٨ وج ٣ / ٨٥ ـ باب « الصلاة » في ضمن ـ ح ٧٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ / ٣٤٥ باب « من سها فترك ركنا عاد الى ما ترك حتى يأتي بالصلاة على الترتيب ».

٢٢

نعم ، لا يبعد دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب على أصالة عدم الزيادة المشكوك فيها في المقام لا باعتبار حجب العلم ، أو عدم العلم بالتكليف المشكوك فيه ـ ليتوجّه عليه : دعوى عدم الحجب فيه بالنظر إلى الظاهر تحصيلا ليقين البراءة كما في سائر أحكام التعليقيّة الظاهريّة ـ بل باعتبار دلالتها على نفي الجزئية والشرطيّة ممّا شكّ في جزئيّته أو شرطيته من حيث حجب العلم عنهما ظاهرا وواقعا.

إذ ليس في وجوبهما من باب المقدّمة تحصيلا ليقين البراءة دلالة على إثبات الجزئيّة والشرطيّة للواجب مطلقا ، فإذا ثبت بعموم الروايات المذكورة سقوط اعتبار جزئيّته أو شرطيّته في الظاهر حصل العلم بالبراءة بدونه في الظاهر فيسقط اعتبار كونه مقدّمة. وهل هذا إلاّ كسقوط اعتبار جزئيّة ما عدا الأركان في حقّ الناسي وشرطيّة بعض الشرائط كطهارة البدن واللباس بالنسبة إلى الجاهل؟ وسيأتي لهذا مزيد توضيح إن شاء الله تعالى » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

ومرجعه كما ترى ، إلى الاستناد إلى قاعدة الاشتغال بعد منع جريان دليل البراءة بحيث ينفع في المقام.

وأمّا ما استدركه أخيرا بقوله : « نعم ... الى آخره » ونفي البعد عن دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب على نفي الجزئيّة والشرطيّة المشكوكتين وبيان

__________________

(١) و (٢) الفصول الغرويّة : ٣٥٧.

٢٣

ماهيّة المأمور به ، فقد ضعّفه في باب أصالة العدم : بأن الجزئيّة الشرطيّة من الأمور الاعتباريّة فلا يشملهما الأخبار ، وهذا وإن كان مخالفا لما بنى عليه الأمر في أول « كتابه » : من كون الأحكام الوضعيّة مجعولة ، إلاّ أنه رجوع عنه ، ويثبت بناؤه على الاحتياط في المقام.

هذه عمدة ما اعتمد عليه القائلون بالاحتياط في المسألة ولهم بعض وجوه أخر ضعيفة يأتي الإشارة إليها في مطاوي « الكتاب » وكلماتنا.

إشارة إلى ضعف الوجوه المزبورة

وأنت خبير بأن الوجوه المذكورة لا تصلح للاعتماد عليها في قبال دليل البراءة ، ولا بأس بالإشارة إلى بيان ضعفها على سبيل الإجمال وإن كان ما أفاده شيخنا في « الكتاب » كافيا في البيان.

أمّا الوجه الأوّل ، فيتوجّه عليه : بأن اقتضاء الاشتغال اليقيني تحصيل العلم بالبراءة والبراءة اليقينيّة في حكم العقل إنما هو من حيث حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل ـ على ما اعترف به المستدلّ في طيّ دليله ـ مضافا إلى وضوح ابتنائه عليه ، ونحن نحكم بمقتضى قاعدة قبح العقاب من غير بيان بعدم العقاب والضرر في ترك الواجب المسبّب عن ترك المشكوك ، أو في ترك الأكثر على تقدير وجوبه في نفس الأمر ، فالقاعدة واردة على قاعدة وجوب الدّفع على نحو ما عرفته في الشكّ في التكليف.

٢٤

ودعوى ؛ عدم جريان القاعدة بالنسبة إلى الوجوب الغيري المشكوك ؛ من حيث إن العقاب على تقدير ثبوته على ترك الواجب النفسي لا الغيري كما حكي عن شيخ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سرهما فاسدة.

مضافا إلى أن مقتضاها على تقدير التسليم منع جريان القاعدة بالنسبة إلى ترك الجزء المشكوك لا الأكثر ؛ فإنه لا يحتمل إلا الوجوب النفسي ويتمّ المدّعى ، كما لا يخفى : بأن ترك الواجب الغيري سبب وعلّة تامّة للعقاب ، وهذا المقدار يكفي في حكم العقل وإن كان المعاقب عليه ترك الواجب النفسي المسبّب عن تركه هذا. مضافا إلى أن ترك الجزء عين ترك الكلّ.

لا يقال : إن ورود القاعدة على قاعدة وجوب الدفع إنّما هو فيما لم يكن هناك بيان وانحصر الأمر في جعل حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل بيانا ، كما في موارد الشكّ في التكليف وليس المقام منه ؛ إذ المفروض ثبوت الاشتغال والعلم بالتكليف ووقوع الشكّ في المكلّف به ، فالبيان القاطع للعذر موجود متحقّق واصل إلى المكلّفين ، فكيف يقاس المقام بموارد الشكّ في أصل التكليف؟

فإن شئت قلت : إن العلم الإجمالي بالتكليف ـ كما ذكر في غير موضع من كلماتنا السّابقة وفي « الكتاب » ـ منجّز للتكليف ـ بالمعلوم إجمالا ومانع من الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى أطرافه ورافع لموضوعها وبيان للتكليف المتعلّق بالواقع المحتمل بالنسبة إلى جميع المحتملات ، فيصحّ إذن العقاب على ترك الأكثر

٢٥

لو كان واجبا في نفس الأمر ، فكيف يرجع إلى البراءة بالنسبة إليه ويقاس بموارد الشكّ في التكليف؟

لأنّا نقول : ما ذكر : من كون العلم الإجمالي بيانا ، إنّما يسلّم في الجملة لا على إطلاقه ؛ فإنّ من شرائط كونه بيانا ومنجّزا للخطاب بالواقع المردّد عدم انحلال المعلوم بالإجمال إلى معلوم تفصيليّ ومشكوك بالشّكّ البدوي. ومن هنا حكمنا : بالبراءة وحكموا بها في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين مع وجود العلم الإجمالي.

ونقول : في المقام أيضا : بأن الحاصل من العلم الإجمالي هو العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي بالنسبة إلى وجوب الأكثر ، فلو عاقبنا الشارع على مخالفته كان قد عاقبنا مع عدم بيان بالنسبة إليه.

لا يقال : ما ذكر من الشرط أمر مسلّم لم يخالف فيه أحد من العقلاء والعلماء ، إلاّ أنا نقول : بتحقّق الشرط المذكور في محل البحث ؛ حيث إن المعلوم بالإجمال وهو : الواجب الشرعي النفسي المردّد بين الأقلّ والأكثر لم ينقلب ولم ينحل إلى المعلوم التفصيلي ، وإلاّ لم يبق شك بالنسبة إلى الزائد كما في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين. والفرق بينه وبين المقام واضح ؛ فإن المفروض هناك واجبان حقيقة : أحدهما معلوم والآخر مشكوك. وفي المقام واجب واحد فلو فرض العلم به تفصيلا في ضمن الأقلّ لزمه ما ذكرنا : من ارتفاع الشك ، وهو خلف. غاية ما في

٢٦

المقام : حصول العلم من الدوران المذكور بوجوب الأقلّ بالوجوب القدر المشترك بين النفسي والغيري. وأين هذا من انحلال المعلوم بالإجمال وهو الواجب النفسي المردّد بين الأقلّ والأكثر؟

لأنّا نقول : ما سلّم أخيرا من حصول العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ من الدوران في المقام بالوجوب الجامع يكفي مانعا لتنجّز الخطاب الواقعي بالنسبة إلى الأكثر ؛ فإن التحريك العقلي تابع للعلم بالوجوب من غير فرق بين أن يكون غيريّا أو نفسيّا ، فالحكم لاحق لوجود الجامع بينهما من غير أن يكون للخصوصيّات مدخل فيه أصلا ، فلو رجع إلى البراءة بالنسبة إلى الأكثر لم يعارض بجريانها بالنسبة إلى الأقلّ.

وهذا هو الميزان والمدار في تنجّز الخطاب بالنسبة إلى موارد العلم الإجمالي وإن كان المختار عدم جريان الأصول فعلا في موارد تنجّز الخطاب بالعلم الإجمالي على ما أسمعناك في مطاوي كلماتنا السّابقة : من أنه المسلك الحقيق بالسلوك دون الحكم بجريان الأصول وتعارضها وتساقطها والرجوع إلى أصالة الاحتياط ، هذا كلّه.

مع أنّ في حكم الشرع بالبراءة بالنسبة إلى ما شكّ فيه من التكليف بمقتضى أخبارها المتقدّمة غنى وكفاية للحكم بعدم جريان قاعدة الاشتغال في المقام من غير حاجة إلى حكم العقل بها. فلو فرض توقف العقل عن الحكم بالبراءة في

٢٧

المقام فليرجع إلى أخبارها. ومن هنا كان شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره جازما بالبراءة في المسألة مع تأمّله في حكم العقل بها في المقام كما صرّح به في « الكتاب ». هذا فيما لو قرّر دليل البراءة بالنسبة إلى وجوب الأكثر ، ومنه يعلم كيفيّة تقريره بالنسبة إلى الوجوب الغيري للجزء المشكوك ، فلا يحتاج إلى بسط القول فيه.

وأمّا الوجه الثاني ، الذي سلكه من عرفت فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما أسمعناك مرارا : من عدم جريان استصحاب الاشتغال وما يطابقه واستصحاب البراءة وما يرجع إليه في مورد من الموارد ـ :

أوّلا : بأن الوجود العلمي للمستصحب إذا لم يكن مؤثّرا في إيجاب الأكثر على المكلّف ، فكيف يكون وجوده الاستصحابي التنزيلي مؤثّرا في إيجابه عليه؟

من غير فرق بين أن يجعل الاستصحاب المتوهّم جريانه من الاستصحاب التقديري كما في غالب فروض المسألة ، أو التنجيزي كما في بعض فروض : وهو ما لو كان الجزء المشكوك بحسب المحلّ آخر أجزاء المركّب.

لا يقال : عدم تأثير الوجود العلمي إنما هو من جهة دوران المعلوم بين الأقل والأكثر وبعد استصحابه يثبت كونه منطبقا على الأكثر ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة بالنسبة إليه.

لأنا نقول : ـ مضافا إلى ابتناء ما ذكر على اعتبار الأصول المثبتة التي قد فرغنا عن إبطالها بناء على اعتبار الأصول من باب التعبّد والأخبار ـ : إن الوجود

٢٨

الظاهري للشيء سواء كان من جهة الاستصحاب ، أو غيره فيما لم يكن من الأحكام الشرعيّة إنما ينفع بالنسبة إلى ما يترتّب على وجوده الواقعي النفس الأمري من الأحكام الشرعيّة وكون الواجب هو الأكثر أو الأقلّ ليس ممّا يترتّب عليه شرعا وجوب الإتيان بهما وإن الحاكم في هذه القضيّة العقل فتدبّر.

وثانيا : بأنّه إذا حكمنا بعدم وجوب الأكثر من جهة دليل البراءة عقلا ونقلا في مرحلة الظاهر فيرتفع الشكّ عن البقاء الموجب لجريان الاستصحاب بحكم الشارع ؛ لأن الشكّ فيه مسبّب عن احتمال وجوب الأكثر الذي فرض عدم الإتيان به والمفروض نفيه من أوّل الأمر بدليل البراءة ، فهي حاكمة في خصوص المقام على الاستصحاب وإن كان واردا عليها في وجه وحاكما عليها في وجه في غير المقام.

لا يقال : حكومة البراءة على الاستصحاب إنما يسلّم في المقام فيما لو بني على مساعدتها لإثبات كون الواجب هو الأقلّ وهي لا يساعد عليه بعد البناء على بطلان الأصول المثبتة.

لأنا نقول : حكومتها عليه مبنيّة على مساعدتها لنفي وجوب الأكثر في مرحلة الظاهر لا لإثبات كون الواجب هو الأقل كما هو ظاهر.

لا يقال : مفاد البراءة مجرّد نفي المؤاخذة على الواقع المشكوك فلا ينفي وجوب الأكثر حتى يكون حاكما على الاستصحاب.

٢٩

لأنا نقول : نفي وجوبه في مرحلة الظاهر يكفي فيه نفي المؤاخذة عليه فتدبّر.

مضافا إلى كفاية ما دلّ من الأخبار على ثبوت الحكم الشرعي الظاهري في مورد الشكّ هذا بالنسبة إلى استصحاب الاشتغال. ومنه يعلم : ما يتوجّه على غيره من الاستصحابات المتوهّمة فلا يحتاج إلى بسط الكلام وطوله.

وأمّا الوجه الثالث ، فيتوجّه عليه :

بأن الصحيحة الواردة في جزاء الصيد ظاهرة في عدم جواز الحكم والفتوى بالنسبة إلى حكم الواقعة بحسب نفس الأمر مع عدم العلم به ، فمساقها مساق ما دلّ من الآيات والأخبار على النهي عن القول بغير العلم والعمل بالآراء ، فلا تعلق لها بمحل الكلام من حيث كون الحكم الظاهري وجوب الاحتياط أو البراءة ، ونحن نقول : بمقتضاها حتى فيما وقع الاتفاق فيه على البراءة كالشبهة الوجوبيّة من صور الشكّ في التكليف هذا.

مضافا إلى أن دلالتها على وجوب الإفتاء بالاحتياط مع الغضّ عمّا يتوجّه عليه : من عدم التزام المستدلّ به في موردها إذا كان من الأقل والأكثر الاستقلاليّين وفي سائر موارد شمولها على ما عرفت تفصيل القول فيه ـ عند الاستدلال بها في الموضع الأول ـ مقصورة على صورة التمكّن من استعلام حكم الواقعة وإرجائها إلى لقاء الحجّة ولو بالنسبة إلى مستقبل الأوقات ، ولا نضايق من

٣٠

الحكم بالاحتياط فيها ، وأين هذا من محلّ البحث؟ هذا بالنسبة إلى الصحيحة.

وأمّا ما دلّ من الأخبار على التوقّف والاحتياط عموما فقد عرفت شرح القول فيما يستظهر منه وما يحمل عليه ، فلو فرض حمله على موارد الشكّ في المكلّف به فلا مناص من حمله على ما يجب الاحتياط فيه منها كالمتباينين من الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة فلا يشمل المقام ، فالجمع المذكور فاسد جدّا.

وأمّا الوجه الرابع : فيتوجّه عليه :

أوّلا : أنه ليس المراد من ابتناء الأحكام الشرعيّة على المصالح ـ حسبما اتفقت عليه كلمة العدليّة : من جهة استحالة الترجيح بلا مرجّح ، والإيجاب بلا موجب ، وامتناع كون الإرادة مرجّحة على ما زعمه الأشعري ـ كونها واجبا أوّليّا ومأمورا بها في الحقيقة بحيث يرجع الأمر المتعلّق بما اشتمل عليه إلى الأمر الغيريّ المقدّمي في الحقيقة ، فيدخل جميع صور دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الشبهة المصداقيّة والموضوعيّة بهذه الملاحظة ، فلا متيقّن هناك أصلا ؛ لأن احتمال حصول العنوان المذكور والمصلحة المطلوبة بفعل الأقلّ كاحتمال حصولها بفعل الأكثر من غير فرق بين الأمرين ، فيدخل في المتباينين بهذه الملاحظة ، وإن كان فعل الأكثر في المقام من جهة اشتماله على الأقلّ لا بشرط محصّلا قطعيّا له.

بل المراد : كونها مما لاحظها الشارع في تشريع الأحكام من غير أن يجب

٣١

على المكلّف تحصيلها ، فهي علّة لفعل الشارع وتشريعه وإيجابه ، فالواجب الشرعي هو نفس الفعل ، والواجب العقلي الذي يحكم به قاطبة العقلاء : إطاعة حكم الشارع على وجه يدفع به الضرر والعقاب. وأمّا وجوب تحصيل منشأ وجوب الفعل من المصالح ، أو شيء آخر من الغايات فلا يحكم العقل به قطعا. نعم ، لا إشكال في حكمه بجنسه ، لكنه لا يجدي نفعا.

فإن قلت : سلّمنا عدم كون المصلحة واجبا أوّليّا ونفسيّا بحيث يرجع الأمر في جميع الواجبات إلى الأمر الغيري ، لكن لا كلام في كونها الغرض للشارع من تشريع الواجبات ، فيجب تحصيلها على المكلّف في حكم العقل والعقلاء ، ألا ترى إلزامهم المريض بتحصيل ما يحتمل مدخليّته في المركّب الذي أمره الطبيب بشربه مع علمه بعدم كونه ضارّا ومفسدا على تقدير عدم المدخليّة؟ وليس ذلك إلاّ من جهة احتمال عدم حصول الغرض من المركّب المأمور بشربه بدونه. والمقام من هذا القبيل لأن الشارع هو طبيب النفوس لا يأمر بشيء يرجع فائدته إليه ، بل أمره دائما يرجع إلى تداوي النفوس والفوائد الراجعة إليهم ، وإلاّ فهو غنيّ بالذات.

قلت : نمنع لزوم تحصيل الغرض الذي يكون من العلّة الغائية والفائدة المقصودة من تشريع الأحكام ؛ لأن الواجب في حكم العقل هو تحصيل البراءة عمّا أوجبه الشارع ليس إلاّ ، وأمّا قياس المقام بأمر الطبيب ففاسد جدّا ، لأن أمر الطبيب إرشاديّ صرف لا يتكلّم فيه من حيث الإطاعة والمعصية والثواب

٣٢

والعقاب. ومن هنا لا يفرّق بين أمره وإخباره عن الدواء المركّب وإنها نافعة ، بل الأمر كذلك فيما لو تعلّق غرض المريض أو غيره بتحصيل عنوان من فعل مركّب يشكّ في مدخليّة بعض الأمور في حصوله مع علمه بعدم كونه ضارّا ؛ فإنّ ترك الاحتياط فيه نقض للغرض عند العقلاء ، وهذا بخلاف المقام الذي نتكلّم فيه من حيث المعصية الإطاعة وإن كان للأمر الشرعي المولوي جهة إرشادي أيضا ، لكنه ليس ممحّضا فيه كما تبيّن في محلّه.

فإن قلت : يجب على الشارع إيجاب الاحتياط في المقام ؛ إذ لولاه لزم نقض الغرض من تشريع الأحكام المبتنية على المصالح فتسليم الابتناء يلازم الالتزام بذلك فيتمّ المدّعى.

قلت : الابتناء المذكور وإن كان مقتضيا لذلك كما يكشف عنه حديث الرّفع بالبيان الذي عرفته في الموضع الأوّل عند التكلم في الحديث الشريف ، إلاّ أنه ليس علّة تامّة له فربما يكون هناك موانع ومصادمات لمقتضاه لا يعلم بها إلاّ علاّم الغيوب. ومن هنا كان بناء الشرع على رفع الأحكام الحرجيّة وتدريج بيان الأحكام. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بعثت على السّمحة السّهلة » (١). ولولاه كان مقتضى ما ذكر وجوب الاحتياط حتّى في الشك في التكليف كما هو ظاهر.

__________________

(١) قريبا منه في البحار : ج ٣٠ / ٥٤٨ والموجود : « بعثت اليكم بالحنيفيّة السمحة السهلة البيضاء » نقلا عن مسند أحمد بن حنبل : ج ٥ / ٢٦٦.

٣٣

وثانيا : سلمنا كون مقتضى الابتناء المذكور تعلّق التكليف الواقعي النفس الأمري بتحصيل المصلحة وإيجادها ، لكن نمنع من اقتضائه وجوب الاحتياط في المقام ؛ نظرا إلى كون المحصّل شرعيّا ، فيجب بيانه على الحكيم تعالى. فإذا كان مردّدا بين الأقلّ والأكثر فيرجع إلى البراءة بالنسبة إلى الزائد ، وهذا نظير الأمر بالوضوء والغسل المحصّلين للطهور مع كونه شرطا للصّلاة إذا فرض الشكّ في جزئيّة شيء للوضوء مثلا ، فإنا نحكم فيه بالبراءة ولا نوجب الاحتياط. وهذا إن كان مخالفا لما أطلقه شيخنا قدس‌سره في المسألة الرابعة أو لما صرّح به ، إلاّ أنه الحق الذي لا محيص عنه وسيأتي له مزيد بيان في تلك المسألة.

وممّا ذكرنا كله يظهر : فساد التمسّك بما ذكره المتكلّمون : من كون الواجبات السمعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة لإيجاب الاحتياط في المقام ؛ نظرا إلى كون اللطف واجبا أوليّا حقيقة أو غرضا من تشريع الواجبات السمعيّة على نحو ما عرفت في تقريب الاستدلال بالابتناء المذكور هذا. وسيأتي بعض الكلام فيه ، مضافا إلي ما عرفته عند تكلم شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره عليه.

وأمّا الوجه الخامس الذي استند إليه الشيخ الفاضل في « الفصول » فمرجعه في الحقيقة إلى التمسّك بالوجه الأوّل مبنيّا على منع جريان دليل البراءة في المقام حقيقة ؛ من جهة عدم مساعدته لإثبات كون الماهيّة هي الأقلّ الذي هو مبنى عدم جريان قاعدة الاشتغال بزعمه ، وإن سلّم نهوضه لنفي الوجوب الغيري كنفي الوجوب النفسي المستقل.

٣٤

فيتوجّه عليه : بأن ابتناء جريان القاعدة على عدم تعيين الماهيّة ومنعه على نفيها لم يعلم له مستند أصلا : إذ مجرّد نفي العقاب المحتمل في ترك الأكثر أو الزائد يكفي رافعا لموضوع القاعدة ، أعني : الضرر المحتمل. فلا شاهد لما أفاده أصلا ، بل الشاهد على خلافه.

ثمّ إن في ما أفاده بطوله أنظارا يطول المقام بذكرها ولعل المتأمل يقف عليها. هذا ما ساعد عليه المجال في ذكر ما هو العمدة من مستند القائل بالاحتياط والإشارة إلى ضعفه على سبيل الإجمال وسيجيء الإشارة إلى بعض وجوه أخر في « الكتاب » وضعفه وليكن في ذكر منك لعلّه ينفعك في الوقوف على حقيقة الحال ؛ فإن ما أفاده شيخنا قدس‌سره في تحرير المقام ؛ فإنه لا يخلو عن ثبوت الإجمال والله أعلم بحقيقة الحال.

(٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا العقل فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣١٨ )

__________________

(١) قال المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« مرّ غير مرّة منع حكم العقل بقبح العقاب إلاّ إذا علم عدم البيان واقعا من غير مانع عن البيان وكلا القيدين غير معلوم فيما نحن فيه ، فلا يكون موردا لحكم العقل بنفي العقاب بل نقول ـ بناء على مذهب العدليّة : من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة ـ : انه يحكم العقل بوجوب الإحتياط حتى في الشبهات البدويّة الإستقلاليّة من باب وجوب دفع

٣٥

__________________

الضرر المحتمل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٦٤.

* وقال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره الشريف :

« أقول : توضيح المقام بحيث يرتفع به غشاوة الأوهام ويتّضح به ملخّص مرام المصنّف رحمه‌الله هو أن الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : وهو الذي عقد له هذا الباب أنه عند دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر هل التارك للجزء المشكوك مع إتيانه بما عداه من الأجزاء يعدّ عاصيا في حكم العقل والعقلاء فيحسن عقابه كما في المتباينين أم لا؟

ثانيهما : إنّه بعد البناء على عدم استقلال العقل بحسن العقاب وعدم كونه عاصيا في حكم العقلاء بالنظر إلى ذلك التكليف من حيث هو هل العقل يحكم بوجوب الإحتياط في الأحكام الشرعيّة لإحراز مصلحتها الواقعيّة الملزمة الموجبة للأمر الشرعي أم لا؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل فنقول :

لا شبهة في انه اذا عزم العبد على إطاعة المولى وبذل جهده في تعيين موضوع أمره ولم يطّلع إلاّ على عدّة أجزاء واحتمل إرادته أجزاء أخر لم يصل إليه بيانها ، أو لم يتعرّض المولى لبيانها ولو لعجزه عن بيان تمام مراده وأتى العبد بجميع الأجزاء التي علم بوجوبها بعد فحصه وبحثه عن وجوب ما يحتمل وجوبه وعدم اطلاعه على ما يدلّ على وجوبه ليس للمولى أن يؤاخذه ويعاتبه ـ بقوله : لم عصيتني وخالفتني فيما أمرتك وتركت إطاعتي والإتيان بمرادي؟ ـ لأن عذر العبد معلوم مقبول عند العقلاء فيقبح من المولى مؤاخذته

٣٦

__________________

خصوصا مع اعترافه بأنّي ما نصبت له عليه دلالة.

وأمّا الكلام في المقام الثاني فملخّصه :

إن العقل لا يلزم بايجاد فعل بلحاظ مصلحته إلاّ بعد العلم بأنّ فيه مصلحة ملزمة سواء علم بها تفصيلا أو إجمالا وهو فيما نحن فيه متعذّر ؛ إذ لا طريق للعقل إلى إحرازها ؛ لأن غاية ما يستقلّ به العقل وتقتضيه قواعد العدليّة هو أنّ أمر الشارع لا يكون إلاّ عن مصلحة في المأمور به عائدة إلى المكلّف ولو بلحاظ الأمر على الخلاف في المسألة إلاّ انه لم يعلم ترتّب تلك المصلحة على حصول ذات المأمور به كيف اتّفق ، أو توقّفها على حصوله بكيفيّة خاصّة كأن كان المكلّف جازما حين الفعل عارفا بكيفيّة الطلب وخصوصيّاته ولا ينافي ذلك ما قوّيناه من عدم اعتبار معرفة الوجه في الإطاعة ؛ لأنّ ما قوّيناه إنّما هو بالنظر إلى القواعد التي بأيدينا من كيفيّة الإطاعة بحكم العقل والعقلاء ولا إستحالة في أن يكون ما يترتّب عليه المصلحة كيفيّة خاصّة من الإطاعة لم يطلع عليها واختفى عنا بيان الشارع كما انه لا امتناع عقلا ولا عادة في أن يكون للمركّبات أجزاء أخر اختفى علينا تصوّرها أو الإذعان بجزئيّتها لفقد أدلتها أو معارضتها بما هو أرجح منها في نظرنا أو اقتضاء الإطلاقات والعمومات نفي وجوبها.

والحاصل : إن العلم الإجمالي الذي لا إحاطة للمكلف بأطرافه ولا يمكنه الإتيان بجميع الأطراف لا يصلح أن يكون منجّزا للتكليف فليس للعقل حكم إلزامي بوجوب ايجاد الواجبات الشرعيّة بلحاظ مصلحتها الواقعيّة ما لم يعلم بتلك المصالح تفصيلا وإنّما يحكم بوجوب إيجادها إطاعة لأمر الشارع وفرارا عن معصيته الموجبة لاستحقاق العقاب كما لا

٣٧

__________________

يخفى.

هذا مع أنّ العلم إجمالا بأن الغرض من هذا التكليف حصول مصلحة عائدة إلى الأمر أو المأمور مغايرة لنفس ذلك الفعل من حيث هو لا يصلح أن يكون مؤثّرا في ايجاب الاحتياط بالنسبة إلى ما تعلّق به الغرض إلاّ اذا علم بتخلّفه عن المأمور به أحيانا وكون المكلف قادرا على تحصيله وإتيان المأمور به على وجه يترتّب عليه تلك الغاية المقصودة.

وأمّا اذا احتمل كونه من قبيل الخاصّيّات المترتّبة على هذا الفعل من حيث هو كما هو الغالب في الأوامر العرفيّة التي لا يعلم الأغراض المتعلّقة بها تفصيلا فلا ؛ إذ لا يعلم حينئذ بمغايرة الفعل الإختياري الصّالح لأن يتعلّق به التكليف مما له دخل في حصول ذلك الغرض لهذا الفعل الذي وقع في حيّز الطلب كي يثبت بذلك تكليف ، مثلا إذا كلّف المولى عبده بالرّواح إلى السوق وعلم العبد بأنّ نفس الرّواح من حيث هو ليس متعلّقا لغرضه وإنّما مقصوده تحصيل أمر آخر اختياري له ، إمّا لكونه من عند أفعاله الإختياريّة كشراء لحم ونحوه ، او غاية مترتّبة على فعله الإختياري كوقوع رؤية زيد عليه عند مروره من عند دكّانه بارزا ، فحينئذ يجب على العبد عند تردّد ذلك الغرض بين أمرين أو أمور مقدورة ، الإحتياط وتحصيل الجزم بحصول ما تعلّق به غرض المولى ، لا لأجل أنّ الإطاعة عقلا وعرفا اسم للإتيان بالمأمور به على وجه تعلّق به غرض المولى ، وذلك لان الإطاعة التي يستقل العقل بوجوبها ليس إلاّ ايجاد المأمور به بداعي الأمر لا غير ، وإنّما على المولى أن لا يأمر العبد إلاّ بما يطابق غرضه ، ولكن بعد أن علم العبد بالمخالفة وأنّ ما تعلّق به الغرض أمر مباين لهذا الفعل كشراء اللحم في المثال المزبور ، أو شيء لا يترتّب عليه إلاّ على بعض التقادير كوقوع

٣٨

في بيان القول المختار ومستنده

أقول : لا يخفى عليك أن ما ذكره قدس‌سره من الوجهين في الاستدلال على المدّعى هو الذي ينبغي أن يذكر ويعتمد عليه على ما عرفت الإشارة إليه.

وأمّا سائر الوجوه التي استدلوا بها للقول المختار فستعرف عدم نهوضها لإثباته وعدم تماميتها.

__________________

رؤية زيد عليه فى المثال وجب عليه حينئذ تحصيل الجزم بحصول ذلك الغرض لكون علمه حينئذ طريقا عقليّا لتنجيز التكليف به وإن لم يكن هناك خطاب سمعي فضلا عمّا إذا كان خطابه قاصرا عن الوفاء بمراده ولكن هذا مع العلم بالتخلّف أو المباينة.

وأمّا إذا احتمل كونه من قبيل الخواص المترتّبة على نفس المأمور به كهضم الغذاء الذي هو من فوائد الرّواح إلى السوق في المثال المزبور ، فلا أثر لعلمه الإجمالي كما هو واضح.

وما نحن فيه كلّها من هذا القبيل ؛ لأن غاية ما اقتضته قواعده كون التكاليف السمعيّة ناشئة عن المصالح النفس الأمريّة لازمة التحصيل بنظر العقل على تقدير الإطلاع عليها ، فمن الجائز ـ إن لم نقل بانّه المتعيّن ـ كون تلك المصالح من قبيل الخاصّيّات المترتّبة على نفس هذه الأفعال التي تعلّق بها الطلب السمعي فلا يتنجّز التكليف حينئذ إلاّ بنفس هذه الأفعال ، فعند تردّدها بين الأقل والأكثر يتمشّى فيها الكلام المزبور : من أنّ مقتضى الأصل حينئذ ـ بالنسبة إلى الأكثر ـ هل هو البراءة أو قاعدة الشغل؟ كما لا يخفى على المتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٤٨ ـ ٢٤٥.

٣٩

ثمّ إن ما ذكره من استقلال العقل في الحكم بقبح المؤاخذة في الفرض المذكور ممّا لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه يشهد به الوجدان ، وتقبيح العقلاء كافة من يعاتب عبده ويؤاخذه على ترك المركّب المسبّب عن ترك بعض أجزائه الذي لا يعلم العبد بوجوبه بعد الفحص التام بقدر وسعه عنه فيما نصبه المولى لمعرفة أحكامه ، وما حكم به العقل عند فقد الطريق المنصوب من قبل المولى سيّما بملاحظة الخصوصيّة التي ذكرها الأستاذ العلامة بقوله : « خصوصا مع اعتراف المولى بأني ما نصبت لك عليه دلالة » (١) فإن حكم العقل بقبح المؤاخذة في الفرض أوضح.

ودعوى : أن العقل إنما يقبح المؤاخذة على المولى فيما لم ينصب دلالة على الحكم أصلا ، لا فيما نصبها واختفت على العبد ، والكلام إنما هو في الثاني لا الأوّل.

فاسدة جدّا ؛ لأنه إذا قيل بكون العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة في نظر العقل في حكمه بوجوب الاحتياط وإن تردّد متعلّقه بين الأقل والأكثر لم يكن معنى للدعوى المذكورة أصلا.

ومن هنا نلتزم بوجوب الاحتياط فيما التزمنا بوجوبه من المتباينين حتى في صورة العلم بعدم نصب الدلالة عن المولى على بيان المكلّف به على ما عرفت

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣١٨.

٤٠