بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

تنبيهات دوران الأمر بين

الأقلّ والأكثر

٢٠١
٢٠٢

التنبيه الأوّل : الشك في الركنيّة (١)

(٤٤) قوله قدس‌سره : ( أو مبني على مسألة البراءة والاحتياط (٢) ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٦١ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« اذا دار أمر الجزء بين كونه ركنا أو غير ركن فالأصل عدم ركنيّته ؛ فإن الركن في المركّب ما به قوامه وهذه خصوصيّة زائدة على أصل الجزئية المعلومة ، وتظهر الثمرة في التعذّر وما بمنزلته ، فيكتفى بما اشتمل على الأركان وإن كان فاقدا لبعض الأجزاء ، وعلى هذا الأصل يتفرّع الحكم بصحّة الصّلاة مع نسيان الفاتحة وما يشبهها ؛ حيث انّ المحرم بالصّلاة لا سبيل له إلى قطعها لتدارك الفاتحة بعد تجاوز المحل ؛ لأن حفظ الإحرام أهمّ في نظر الشارع مما عدى الأركان ، بل يكتفى مع الدوران من الأركان بالبدل الإضطراري ، فالمحرم بالصلاة عاجز شرعا عن تبديل هذا الإمتثال بامتثال آخر ويتعيّن عليه ما تلبّس به وإن لم يتمكّن إلاّ ممّا يكتفي به من ذوي الأعذار وقد خفي ما حقّقناه أصلا وفرعا على الأستاذ قدس‌سره » انتهى.

انظر محجة العلماء : ج ٢ / ٥٢.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : إبتناءه على تلك المسألة بمعنى الإلتزام بعد الإختلال بنقصه وزيادته سهوا على القول بالبراءة والإخلال بهما على القول بالإحتياط مبنيّ على عدم اعتبار الشك الفعلي في جريان الأصلين كما لا يخلو عن وجه.

وأمّا على القول باعتبار الشك الفعلي في اجرائهما ، فلا يعقل الإلتزام بشيء منهما في حق

٢٠٣

أقول : قد حكى قدس‌سره الابتناء المذكور في مجلس البحث عن شيخه

__________________

الناسي ، وإجراءهما بعد الإلتفات لنفي وجوب الإعادة أو وجوبها غير صحيح ؛ لأن وجوب الإعادة وعدم وجوبها من الآثار العقليّة المترتّبة على بقاء الأمر الواقعي وعدمه ، فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٦٥.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« ربّما يقال : إن هذا البناء إنّما يتم بالنسبة إلى زيادة الجزء عمدا دون نقصه أو زيادته سهوا ؛ لعدم جريان أصالتي البراءة والإشتغال بالنسبة إلى الجزء المغفول عنه من حيث الزيادة أو النقيصة لأخذ الشك في موضوعهما فلا تجريان في صورة السهو والغفلة كما ستقف على توضيحه.

وإن أريد إجزاؤها بالنسبة إلى الإعادة بعد الفراغ من العمل الذي وقع فيه السهو مع الإلتفات إلى ما وقع فيه من السهو والشك في بطلانه.

يرد عليه : اني لا أظنّ أحدا يقول بالبراءة حينئذ ؛ لأن ثبوت التكليف بالأمر المجمل المحتمل بطلانه بما وقع فيه من السهو يقتضي اليقين بالبراءة وهي لا تحصل إلاّ بالإعادة ، فإن جرت أصالة البراءة من أوّل الأمر وإلاّ وجبت الإعادة تحصيلا لليقين بالبراءة.

فإن قلت : كيف تنكر وجود قول بالبراءة في المقام والمحقق القمي رحمه‌الله يقول بالإجزاء فيما نحن فيه؟

قلت ـ مع ما سيشير اليه المصنّف رحمه‌الله : من كون مقتضى القاعدة هو البطلان ـ : أن القول بالإجزاء هنا مبني على صدق الإمتثال بالمأتي به وانه لا إمتثال عقيب الإمتثال ، وهو دليل عدم الأمر بالإعادة ومعه لا معنى للتمسّك بأصالة البراءة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٧٦.

٢٠٤

الشريف قدس‌سره (١) ولا بدّ أن يكون المراد من ابتناء حكم المقام على الخلاف في المسألة على سبيل المهملة ولو بالنسبة إلى الزيادة العمديّة ؛ إذ إرادة القضيّة المطلقة لا معنى لها أصلا ؛ لعدم تصوّر جريان الأصل بالنّسبة إلى النقض السّهوي والزيادة السّهويّة ؛ ضرورة عدم تحقّق الشكّ الفعلي المعتبر في مجاري الأصول مع الغفلة لأنه فرع الالتفات كما هو ظاهر.

لا يقال : إجراء أصل البراءة بالنسبة إلى الجزء المتروك سهوا وإن لم يكن ممكنا ما دام المكلّف غافلا ، إلاّ أنّه يمكن إجراؤها بعد زوال الغفلة وحصول الالتفات بالنسبة إلى وجوب الإعادة المشكوك المترتّب على احتمال الجزئيّة حال الغفلة ، فيستكشف من الحكم بعدم وجوب الإعادة بعد الالتفات لأصالة البراءة عن عدم الجزئيّة حال الغفلة.

لأنا نقول : الشكّ في وجوب الإعادة وعدمه مسبّب عن الشكّ في قناعة الشارع عن المأمور به بغيره وحكمه بكونه مسقطا عنه ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه ـ ولم يقل أحد ـ ممن قال بالبراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ـ :

بأن مقتضاها الحكم بقناعة الشارع بفعل الناقص الغير المأمور به عن التام ، بل كلمتهم متفقة على : أنّ مقتضى قاعدة الاشتغال هو البناء على عدم القناعة ووجوب الإتيان بالتام ، كما هو واضح لمن له أدنى تتبّع ، كيف؟ والعقل الضروري يحكم

__________________

(١) يريد الأصولي الشهير شريف العلماء المازندراني « رضوان الله تعالى عليه ».

٢٠٥

بعدم جواز الاقتصار بالناقص مع الشكّ هذا ، وانتظر لتمام الكلام في ذلك فيما سيتلى عليك عن قريب.

(٤٥) قوله قدس‌سره : ( فنقول : إن الركن في اللغة والعرف معروف ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٦١ )

معنى الركن والمراد منه

أقول : « الركن » : مصدر ركن يركن بمعنى الاعتماد ، وقد يطلق على ما به

__________________

(١) قال المؤسس الأصولي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان الركن ما يركن اليه ويعتمد عليه وهو في العبادة من الأجزاء ما لا قوام لها بدونه بوجه من الوجوه.

وأمّا الزيادة فربّما تكون قادحة في غير الأركان كالقران ـ على القول به ـ ولا إصطلاح للفقهاء فيه ، ولا إشكال في الإختلال بالنقض من غير فرق بين العمد والنسيان ؛ فإنّه مقتضي الجزئيّة ، ولكن الثمرة تظهر في الأعذار وإن كان الترك عن عمد ؛ فإنّ ما عدا الركن يكتفى بفاقده وإن كان الترك عن عمد حيث كان هناك عذر آخر غير النسيان من قبيل ضيق الوقت أو خوف على نفس محترمة وما أشبهها ، غاية الأمر ان رعاية الإحرام في خصوص الصّلاة من الأعذار فيجتزى من الناسي بفاقد غير الركن فلا معنى لتأسيس الأصل للجزء في نفسه وإنّما الحكم للمزاحم في مسألة النسيان وهو الإحرام الذي ثبت فيه شدّه الإهتمام كالرّكن وهذا لا ينافي الإخلال بترك الجزء ؛ فإن الإجتزاء بالفاقد لا ينافي النقصان » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٥٣.

٢٠٦

قوام الشيء ، وليس له في الكتاب والسنّة ذكر حتى نتعرّض لمعناه في زمان تعلّق الحكم به من الشارع ، وأن المراد منه المعنى المتبادر منه عرفا المنطبق على اللّغة إذا لم يكن للشارع عرف واصطلاح خاصّ فيه كما هو الشأن في الألفاظ الواقعة في كلام الشارع ؛ ضرورة أن بحث الفقيه عن معنى اللفظ ووضعه وظاهره وخلافه مع عدم تعلّق الحكم به في كلام الشارع مما لا معنى له ، وإنّما يبحث عنه اللغوي من حيث إنه لغوي.

نعم ، قد يبحث عنه إذا وقع في معقد الإجماع محقّقا أو منقولا كما في المقام ، ففي الأوّل : يرجع إلى العرف العام إذا لم يكن للمجمعين عرف خاصّ فيه. وفي الثاني : إلى ما أراده حاكي الإجماع إن علم ما أراده ، وإلاّ فإلى عرف الفقهاء إن كان ، وإلاّ فإلى العرف العام.

ولمّا وقع الخلاف بينهم في معنى الركن مع الاتفاق على ثبوته في الجملة ، وأنّه هل يتقوّم بثبوت البطلان على ترك الجزء سهوا كما يبطل بتركه عمدا وإلاّ لم يكن جزءا وهو خلف ، كما اقتصر به جمع وهو الأوفق بمعناه العرفي المطابق للّغة كما هو واضح ، أو للبطلان بزيادته عمدا وسهوا مدخل فيه كما عن آخرين ، فإذا أريد فهم مقتضى الأصل الأوّلي أو الثانوي في الجزء الذي ثبت جزئيّته ويشكّ في ركنيّته فلا بدّ من تحرير الكلام في مسائل ثلاث لاختلاف مقتضى الأصل كما ستقف عليه بالنظر إلى النقيصة والزيادة.

ثمّ إن البحث وإن لم يكن له اختصاص بباب الصّلاة ، إلاّ أن حال الأجزاء من حيث الأحكام المذكورة ظاهرة عندهم في غيره.

٢٠٧

المسألة الأولى في ترك الجزء سهوا

(٤٦) قوله قدس‌سره : ( لأن ما كان جزءا [ في ] حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٦٣ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« فيه : انه يمكن اختصاص اعتبار جزئيّة شيء بما اذا التفت إليه بحيث يختلف الاجزاء زيادة ونقيصة واقعا حسب حالتي الإلتفات اليه والغفلة عنه ، كسائر الحالات الموجبة لذلك بأن يؤمر بالصلاة مثلا أوّلا ثم يقيّد بدليل دالّ على جزئيّة السورة في حال الالتفات إليها بناء على وضعها للأعم ، أو يشرح به وبما يدلّ على سائر ما يعتبر فيها شطرا أو شرطا بناء على وضعها للصحيح ؛ فإن الغافل حينئذ يلتفت إلى ما توجّه إليه من الأمر ويتمكّن من إمتثاله حقيقة بإتيان ما هو المأمور به واقعا في هذا الحال وإن كان غافلا عن غفلته الموجبة لكون المأتي به تمام المأمور به ؛ فإن اللازم إنّما هو الإلتفات إلى ما يتوجّه إليه من الأمر وما أمر به بتمامه ولو على نحو الإجمال ، لا الإلتفات إلى ما يكون بحسبه من الحال ، فليست الغفلة عن الغفلة بمانعة من أن يتغيّر بها المأمور به : بأن يتوجّه خطاب واحد إلى وجوب إقامة الصلاة على إطلاقها وإجمالها ، ثم يقيّد أو يشرح كما ذكرنا بما يدل على جزئيّة السورة لها في خصوص حال الإلتفات إليها ، فيكون الدّاعي إلى الطاعة في كلّ ـ الغافل وغيره ـ هو هذا الخطاب وإن كان الواجب به عليه غير الواجب على الغير.

نعم ، إنّما هي مانعة عن الإيجاب عليه بخطاب مختص ببيان تكليفه ، مع ان هذا إنما هو اذا

٢٠٨

أقول : لا يخفى عليك أن ما أفاده قدس‌سره في تقريب أصالة البطلان بنقض الجزء سهوا يرجع إلى القياس المركّب من الصغرى والكبرى ، ولمدا كانت الكبرى واضحة مسلّمة حرّر الكلام في الصغرى ، ومقتضى القياس المذكور بظاهره كما ترى ، وإن كان بطلان العبادة بنقض الجزء سهوا كيف ما اتفق ، إلاّ أنّ المراد كما يعلم من كلامه قبل ذلك وبعده الحكم بالبطلان ما لم يقم هناك دليل على الاكتفاء بالناقص عن التام ولا يتنافى بين نتيجة القياس وما ذكره أصلا ؛ لأن النتيجة كون المأتي به غير مأمور به.

ومقتضاه كما ترى البطلان ووجوب الإعادة ما لم يقم هناك دليل من الشارع على القناعة بغير المأمور به عن المأمور به. فإذا شكّ في قيام الدليل فيرجع إلى أصالة الاشتغال ، فالمراد من الأصل في المقام لا بدّ أن يكون ما ذكرنا

__________________

خوطب به بهذا العنوان ، أي : الغافل ، لا بما يلازمه من عنوان آخر كما لا يخفى.

هذا مع انه لا يلزم خطاب في هذا الحال أصلا ويكفي مجرّد محبوبيّة الخالي عن المغفول عنه في الحال كمحبوبيّة المشتمل عليه في حال الإلتفات إليه ؛ فإن فائدة الخطاب ليس إلاّ البعث والتحريك وهو حاصل من نفس الخطاب بالمركّب ؛ حيث إنّ الغافل يعتقد شموله فافهم.

ومن هنا انقدح : انه لو شك في الجزئيّة في حال الغفلة لإجمال الدليل المقيّد فالمرجع هو الإطلاق لو كان ، وإلاّ فأصالة البراءة أو الإحتياط على الخلاف فيما هو الأصل في مسألة الشك في الجزئية فتأمّل جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٦٠.

٢٠٩

لا ما يقتضيه ظاهر « الكتاب » : من أصالة عدم القناعة والإسقاط وما يرجع إليهما من الأصول العدميّة ؛ لعدم ترتّب الحكم على مجاريها ، بل على مجرّد احتمال عدم القناعة كما هو ظاهر ، إلاّ أن الأمر في ذلك سهل.

وتوضيح ما أفاده في بيان الصغرى هو ما مرّت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة : من استحالة تنويع المأمور به في نفس الأمر والواقع بحسب العلم والجهل والالتفات والغفلة والسهو والنسيان : بأن يكون المأمور به في حال العلم بوجوب الحمد مثلا الصّلاة المشتملة على الحمد ، ومع الجهل به الصّلاة الخالية عنه ، وكذا يكون المأمور به في حال الالتفات إلى السورة الصلاة المشتمل عليها ، ومع الغفلة عنها الصّلاة الخالية عنها.

أمّا عدم إمكان التنويع بحسب حالتي العلم والجهل : فللزوم الدور الظاهر الذي أسمعناك القول فيه مرارا. وأمّا عدم إمكانه بحسب الغفلة والالتفات : فلأنّ الحالة التي يؤخذ موضوعا لا بدّ من أن يكون قابلة لأن يخاطب المكلّف بالفعل في حال الاتّصاف بها مع الالتفات إليها. والغفلة والنسيان والسهو لا يكون قابلة لذلك ضرورة ؛ أنه بمجرّد التفات المكلّف إلى كونه ناسيا عن السورة يزول نسيانه وغفلته ، فينتفي موضوع التكليف المتعلّق بالفعل الناقص من حيث كون المكلّف غافلا عن التّام وهو أمر ظاهر كظهور المقدّمة الأولى.

لا يقال : إنّ الآتي بالصّلاة بدون السورة يلتفت إلى ما يأتي به من الأجزاء فلا مانع من أمره بها ، غاية الأمر : عدم التفاته إلى كونها مقرونة بنسيان السّورة.

٢١٠

وعدم الالتفات إلى هذا العنوان لا تعلّق له بما يأتي به من الأجزاء.

فإن شئت قلت : المأمور به في حق ناسي السّورة مثلا غيرها من الأجزاء التي يأتي بها والمفروض أنه يلتفت إليها ، وإنّما لا يلتفت إلى ما نسيه والمفروض سقوطه عنه ، فالذي أمر به لم يتعلّق به النسيان والذي تعلّق به النسيان لم يؤمر به ، فلم قلت بعدم إمكان التنويع بحسب الالتفات والغفلة؟ مع أنّه لا محذور فيه أصلا بعد رجوع الأمر إلى ما ذكر ، وإلاّ يلزم في التكليف بشيء الالتفات إلى غيره ممّا لم يكلف به.

لأنّا نقول : إن لم يكن لنسيان السّورة في الفرض دخل في التكليف بغيرها من الأجزاء ، فيتوجّه عليه : أن لازمه عدم دخل السّورة في الصّلاة أصلا ، فيلزم أن يكون سائر الأجزاء مكلّفا بها على كلّ حال وهو خلف. مضافا إلى منافاته لفرض التنويع وإن كان له دخل فيه ، فلا بدّ أن يكون عنوانا للتكليف بغيرها ، فيلزم ما ذكرنا من المحذور.

فإن قلت : نسيان السورة أوجب التكليف بغيرها من الأجزاء في حالته لا أن يكون شرطا للتكليف بغيرها بحيث يلزم الالتفات إليه في زمان الإتيان به ، فالتكليف إنّما هو في حال نسيانها لا بشرطه.

قلت : ما ذكر لا محصّل له أصلا ؛ لأنه خلاف فرض التنويع ؛ فإن معناه دخل الحالة في موضوع الحكم فإن كان للحالة المذكورة دخل في عروض الحكم وبقائه فيعود المحذور ، وإلاّ فلا معنى للقول بكون التكليف في حال النسيان

٢١١

لا بشرطه ؛ فإنه إذا فرض عدم اشتراطه فأيّ معنى للقول المذكور؟

(٤٧) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : عموم جزئيّة الجزء لحالتي (١) النسيان ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٦٣ )

عدم إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي

أقول : لمّا أفاد قدس‌سره في صغرى القياس ـ الذي أفاده لتأسيس الأصل في المسألة ـ عموم جزئيّة المنسي لحالتي النسيان والالتفات فقد توهّم : أن المراد التمسّك بالعموم اللفظي لدليل الجزئيّة ، فيتوجّه السؤال : بأن ذلك إنما يستقيم فيما لو كان له عموم ، وأمّا إذا لم يكن له عموم سواء كان لبيّا أو لفظيّا بصورة الجملة الخبريّة مع إهماله والإنشائيّة الغير القابلة لأن يشمل صورة النسيان والغفلة فلا معنى للحكم بالعموم ، فيرجع إلى إطلاق دليل العبارة إن كان له إطلاق يشمل صورة النسيان ـ على قول الأعمّي في ألفاظ العبادات ـ وإلاّ فيبني على مسألة البراءة والاشتغال في ماهيّات العبادات ؛ فإن ثبوت الجزئيّة في الجملة ـ كما هو المفروض ـ لا ينافي الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى حالة يشكّ في عموم الجزئيّة بالنسبة إليها كما لا يخفى ، فإذا بني على عدمها من جهة الأصل اللفظي أو العملي يكون حال الجزء حال الشرط المختصّ بحال الذكر.

__________________

(١) كذا وفي نسخة الكتاب : لحال النسيان ... إلخ.

٢١٢

وأجاب عنه بقوله : ( قلت ... إلى آخره ) (١) بما عرفت : من أن التنويع بحسب حالتي الغفلة والالتفات يستحيل عقلا ، فلا يمكن توجيه التكليف إلى الغافل عن الفعل حقيقة ؛ لأن التام غير مقدور له ، والنّاقص وإن كان مقدورا له ذاتا إلاّ أنه غير مقدور له بعنوانه ، فهو ما دام غافلا كالنائم في برهة من الوقت لا يكون مكلّفا بشيء ، وإذا زالت غفلته توجّهت الخطابات الواقعيّة بالمركب التام إليه.

نعم ، يمكن أن يكون الناقص مشتملا على مصلحة ملزمة كافية عن المصلحة الموجودة في المركّب التام في حق خصوص الناسي مع قصوره عن توجّه التكليف بالنسبة إليه لعجزه ، ولكن هذا مجرّد إمكان لا ينفع إلا بعد قيام الدليل على كفاية الناقص عن التام ؛ فإنه يستكشف منه ذلك رفعا للحكم الجزافي القبيح عن الشارع المنزّه ، فيحكم بعد قيام الدليل ـ كما قام في جملة من الموارد ـ :

بأن غير المأمور به مسقط عن المأمور به في العبادات ، كما نقول : بمثله في مسألتي الجهر والإخفات في الجاهل المركّب والمتمّم في السفر جهلا مركّبا كما ستقف على تفصيل القول فيه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه : أن النّاسي ما دام ناسيا لا يتوجّه إليه خطاب وأمر لا من الشارع ولا من العقل.

نعم ، يحكم العقل بكونه معذورا ما دام غافلا ، وهذا لا تعلّق له بكونه مأمورا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٦٤.

٢١٣

عقلا ، كيف؟ والعقل ليس مشرّعا ، مضافا إلى ما عرفت : من عدم إمكان توجيه الخطاب بالنسبة إليه شرعا وعقلا ؛ لعدم قدرته.

نعم ، يأتي بالفعل بداعي امتثال الأمر الواقعي المتعلّق بالمركب غفلة عن بعض أجزائه.

وهذا الإقدام لا يحدث في حقه أمرا ، ومن هنا قال قدس‌سره : ( ومما ذكرنا ظهر : أنه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للإجزاء ... إلى آخر ما أفاده ) (١) ؛ فإن ابتناء حكم المقام على المسألة المذكورة موقوف على فرض أمر فيه وقد عرفت عدم إمكانه.

إشارة إلى أمّهات مطالب بحث الإجزاء

وحيث انجر البحث إلى هذا المقام فلا بأس بإيراد بعض الكلام في المسألة المذكورة عسى أن ينفع في توضيح المقام ؛ فنقول : ـ بعون الله وتوفيقه ودلالة أوليائه الكرام عليهم آلاف التحيّة والسلام ـ : إنهم ذكروا للأمر في تلك المسألة وجوها وأقساما أربعة لا خامس لها.

أحدها : الأمر الواقعي الاختياري ، وهو الذي يتعلّق بالموضوعات تعلّقا أوّليّا بمعنى : عدم أخذ الظن أو الشكّ في حكم آخر في موضوعه وعدم دخل العذر

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٦٥.

٢١٤

بالمعنى الأعم من المرض والخوف والتقيّة والاضطرار الشامل لفقدان الماء ونحو ذلك فيه ، وإن اختلف بحسب سائر حالات المكلّفين كالحضر والسفر.

وهذا هو الذي ادّعي اتفاق الفريقين على القول بالإجزاء فيه إلاّ عن أبي هاشم من العامّة. وقد ادّعي اتفاق العقلاء في تخطئته ، ومن غاية افتضاحه وجّهه بعض : بأن بحثه في إمكان أن يرد من الشارع عقيب امتثاله بإتيان الفعل ثانيا لا بعنوان المتدارك ، وجعل مرجع النزاع في المسألة إلى إمكان ورود الأمر المذكور وعدمه وإن كان في غاية الضعف ؛ لأن إمكان ذلك بمعنى إيجاب الشارع للفعل ثانيا بعنوان التكرار مما لا يعقل النزاع فيه.

وبالجملة : اقتضاء أمثال هذا القسم من الأمر سقوط الفعل ثانيا بالمعنى الأعمّ من الإعادة والقضاء عقلي مع فرض تعلّق الأمر بنفس إيجاد الطبيعة ، بل التحقيق : أنّ اقتضاء امتثال كل أمر ـ لعدم إمكان تعلّق الأمر بإيجاد الفعل على طبقه ثانيا لا بعنوان طلب التكرار ـ عقليّ من غير فرق بين أقسام الأمر كما هو ظاهر ؛ فإن كان البحث في المسألة عن هذا المعنى ـ كما استظهره بعض ـ كان الاقتضاء عقليّا بالنسبة إلى الجميع وإن كان النزاع في الأعم منه ـ كما يظهر من الشهيد قدس‌سره وغيره ـ فيشمل النزاع في اقتضاء امتثال أمر سقوط الفعل بمقتضى أمر آخر افترق هذا القسم عن باقي الأقسام ؛ إذ لا يتصوّر بالنسبة إليه أمر آخر كما هو ظاهر.

ثانيها : الأمر الواقعي الاضطراري المتعلّق بالموضوعات الأوليّة بالمعنى الذي عرفته مع دخل العذر بالمعنى الأعمّ في موضوعه ، فأمر ذوي الأعذار إذا

٢١٥

قيل بجواز البدار لهم واقعا بمجرّد طروّ العذر في بعض أجزاء الوقت وإن علم بزواله في جزء آخر يدخل في هذا القسم ، وهذا كالأوّل في اقتضاء امتثاله عقلا لسقوط الفعل ثانيا من غير فرق بين الوقت وخارجه وإن زال العذر فيهما ؛ لأنّ المفروض كونه واقعيّا.

نعم ، يمكن تعلق الأمر الندبي بعد زوال العذر بإيجاد الفعل على طبق الأمر الأوّل ، كما أنه يمكن تعلّق الأمر الندبي بإيجاد الأفضل بعد إيجاد غيره لإدراك المصلحة الأوليّة الفائتة كالمعادة جماعة هذا.

ولكن ربّما يجري في لسان شيخنا قدس‌سره عند البحث عن هذه المسألة : أن مقتضى الأصل وإن كان الإجزاء بالنسبة إلى هذا القسم ، إلاّ أنه يمكن الأمر الإلزامي بإيجاده ثانيا لتدارك المصلحة الأوليّة الفائتة سيّما في خارج الوقت.

وقال قدس‌سره في تقريب ذلك : أنه لا ينبغي الإشكال في أن قضيّة الأصل والقاعدة في امتثال التكليف الاضطراري حصول الإجزاء به ، فيجري على مقتضى هذا الأصل ما لم يقم دليل على خلافه ؛ فإن مقتضى اختلاف التكليف الواقعي في أجزاء الوقت بحسب أحوال المكلّف التي منها الاضطرار مع فرض وحدة التكليف ـ كما هو المفروض ـ هو رفع التكليف عن المكلف المضطرّ الآتي بوظيفته كالآتي بالصلاة تقيّة ، أو الوضوء كذلك ، أو الآتي بالصلاة مع الطهارة الترابيّة إلى غير ذلك.

إلاّ أنه يصحّ أن يرد دليل من الشارع على وجوب الإتيان بالواقع

٢١٦

الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار لأجل إدراك مصلحته التي هي الأصل المكتفي عنها بالمصلحة الموجودة في حال الاضطرار من باب البدليّة ، وليس الأمر فيه كامتثال الأمر الواقعي الاختياري الذي لا يتصوّر عدم الإجزاء فيه ، بل ربّما يقال : إن مقتضى ما دلّ على وجوب تدارك ما فات بعد خروج الوقت هو ثبوت القضاء ، إلاّ أن يقوم دليل على سقوطها لفرض فوت الواجب الاختياري هذا حاصل ما أفاده في مجلس المذاكرة.

ولكني لم أستصوبه ؛ لأن الفعل الناقص في حال الاضطرار إن لم يكن فيه مصلحة يتدارك بها المصلحة الملزمة ، ولم يبلغ إلى تلك المرتبة كان الأمر به من الشارع واقعا قبيحا ، وإن كان فيه المصلحة المذكورة لزم من إيجاده على طبق الأمر المتعلّق به ارتفاع الأمر عن الواقع.

فإن شئت قلت : إن الواقع الاضطراري من مراتب الواقع حقيقة فإذا أتى به المكلّف فقد أتى بالواقع فيرتفع أمره الإلزامي.

ومنه يظهر فساد التمسّك في المقام بما دلّ على وجوب القضاء على من فاته الفريضة في الوقت ؛ فإنّا نمنع من صدق الفوت بعد ثبوت التّدارك ، بل نمنع من صدق مجرّد عدم الإتيان بالواجب الواقعي أيضا لو جعل الفوت عبارة عن هذا المعنى ، لما عرفت : من أن الإتيان بالواقع الاضطراري من مراتب الإتيان بالواقع.

وإن شئت قلت : إن القضاء وإن كان بأمر جديد ، إلا أنّه بعد ثبوته من مراتب الأمر بالواقع أيضا وبعد امتثاله لا يبقى موضوع الأمر بالقضاء. ومن هنا قلنا تبعا

٢١٧

للعلاّمة ( قدّس الله نفسه الزكيّة ) : إن مرجع أمر الكفار بالقضاء وتكليفهم به حقيقة إلى مؤاخذتهم على تفويت الواقع الذي أمروا به ، فلا يتوجّه الإشكال المشهور : بأن القضاء غير مقدور لهم لا قبل الإسلام ولا بعده لسقوط التكليف بدليل جبّه عمّا قبله.

فإن قلت : بعد اشتمال الفعل على مصلحة الواجب الواقعي على ما هو المفروض لا بد أن يكون بدلا اختياريّا والتكليف به والواجب الاختياري تكليفا تخييريّا وهو خلف.

قلت : ما ذكر توهّم فاسد ؛ إذ لا امتناع في أن يكون للفعل مصلحة في حال دون حال كالصلاة مع الطهارة الترابيّة ؛ فإن مصلحتها إنّما هي في حق الفاقد للماء.

فإن قلت : بعد تسليم ارتفاع الأمر عن الواقع رأسا أيّ معنى لقولك بإمكان تعلّق الأمر الندبي من الشارع بإتيان الواقع الاختياري بعد ارتفاع العذر؟ فإن الأمر الندبي كالأمر الإيجابي يتوقّف على المصلحة والمفروض تداركها.

قلت : إنّما التزمنا بتدارك المقدار الموجب من مصلحة الواقع لإتمام المصلحة لعدم الدليل عليه أصلا ، فيمكن صدور الأمر الندبي عن الشارع لأجل تداركه ، وقد التزمنا بمثله في الإتيان بالبدل الاختياري كالصلاة المعادة جماعة في الجملة ، فكيف البدل الاضطراري؟

ثالثها : الأمر الظاهري الشرعي ، ولو كشف عنه العقل المتعلّق بالموضوعات

٢١٨

تعلّقا ثانويّا من حيث الظن بالواقع الأوّلي بالمعنى الأعمّ من الظن النوعي ، أو عدم العلم به فينطبق على مجاري الأصول العمليّة. وهذا على قسمين :

أحدهما : ما يتعلّق بالمكلف من حيث عجزه عن تحصيل الواقع كالأصول الحكميّة وبعض الأصول الموضوعيّة والأمارات الظنيّة في الأحكام والموضوعات بشرط الانسداد وعدم التمكّن من تحصيل العلم بالواقع الأوّلي.

ثانيهما : ما يتعلّق به لا من الحيثيّة المذكورة ، بل من حيث ظنّه بالواقع أو عدم علمه به ولو تمكن من تحصيل العلم بالواقع ، كالظنون الخاصّة المطلقة وأكثر الأصول الموضوعيّة.

أما الأوّل : فلا إشكال في عدم اقتضاء سلوكه القناعة به عن امتثال الأمر الواقعي وسقوط الفعل على طبقه أداء وقضاء فيحكم بمقتضى الأمر الواقعي بعد تبيّن خطأ الحكم الظاهري وعدم موافقته للواقع بوجوب الإتيان على طبقه في الوقت وخارجه فيما يثبت له القضاء ولو بالعموم ؛ إذ الحكم الظاهري لا يوجب التصرّف في الواقع أصلا ، غاية الأمر حكم العقل بكون سالكه معذورا في مخالفة الواقع ما لم ينكشف الخلاف.

ودعوى : أن الحكم الظاهري وإن لم يوجب التصرّف في الواقع ، وإلا لزم التصويب الباطل عند أهل الصواب ، إلا أنّ مقتضاه لما كان ترتيب جميع آثار الواقع التي منها سقوط الفعل ثانيا بعد تحقّقه الإجزاء شرعا ، فاسدة بأن الأمر المذكور ـ على ما عرفت توضيحه ـ من اللوازم العقليّة لإتيان الواقع الأولي

٢١٩

فلا يمكن تعلّق جعل الشارع به على ما عرفت الكلام فيه وستعرفه في محلّه ، وهذا هو الذي يلزم سلوكه في هذا القسم وعليه المحققون وزعم جماعة بالنظر إلى إطلاق كلماتهم خلافه.

وأمّا القسم الثاني : فلا إشكال في عدم اقتضاء سلوكه الإجزاء عن الواقع أيضا فيما لو تبيّن الخطأ والوقت باق لتدارك الواقع بعين ما عرفته في القسم الأوّل : من عدم تصرّف الحكم الظاهري في الواقع ، وإن ترتّب عليه تمام آثار الواقع من حيث البناء على كونه واقعا ما دام الحكم الظاهري موجودا ، بل الإشكال في تصوير الإجزاء بعد قيام الدليل عليه في بعض الموارد على ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من أن الأصل في امتثال الأمر الظاهري عدم الإجزاء فيبني على مقتضاه فيما لم يقم هناك دليل من الشارع على الإجزاء.

وقد عرفت في الجزء الأول من « الكتاب » : ابتناء ثاني الشهيدين « قدس‌سرهما » القول بالإجزاء على القول بالتصويب وجعل الإجزاء وعدمه ثمرة للقول بالتصويب والتخطئة (١).

وغاية ما يقال في توجيه الإجزاء بعد قيام الدليل عليه : إن قيامه يكشف عن أن في أمر الشارع ظاهرا وحكمه بالبناء على ترتيب آثار الواقع مصلحة يتدارك بها تمام المصلحة الملزمة في الواقع فيرتفع الحكم الواقعي ؛ لأن بقاءه بعد

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١١٩ وأنظر تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٢٢٠