بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

فإن شئت قلت : في وجه الفرق بينهما : أن الصفة الحاصلة من الفعل من مقولة الفعل التوليدي فيمكن أن يعرضها الوجوب ، وهذا بخلاف الصفة الغير الحاصلة منه ، فإنه لا يتعلّق بها الطلب وإن كان الفعل الملحوظ بهذه الصفة متعلّقا للطلب.

كما أنك لو شئت قلت ـ في وجه عدم الفرق ـ : أن المؤاخذة في حكم العقل على ترك المأمور به من حيث ترك شرطه مع عدم العلم به قبيح في حكم العقل مطلقا من غير فرق بين القسمين ، كما أن مقتضى ما دلّ على إثبات السّعة وعدم الضيق من جهة الجهل من الدليل النقلي عدم الفرق بينهما أيضا فافهم وتدبّر.

(٤١) قوله قدس‌سره : ( وممّا ذكرنا كله : يظهر الكلام فيما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٥٧ )

وجه إلحاق دوران الأمر بين التخيير والتعيين بالأقلّ والأكثر

أقول : الوجه في إلحاق الدوران المذكور بالدوران بين الأقلّ والأكثر ـ لا المتباينين كما عليه بعض الأصحاب ـ : هو جريان ما اقتضى الرجوع إلى البراءة في الأقلّ والأكثر في الدوران المذكور من العقل والنقل ؛ حيث إنّ في الدوران المفروض أيضا نعلم بوجوب قدر مشترك بين الأمرين ، وهو أحدهما ويشك في وجوب خصوص الواحد المعيّن منهما وحيث إن بيانه من الشارع فيحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الواجب المسبّب عن ترك الخصوصيّة

١٨١

المجهولة ، وكذا الدليل النقلي دلّ على وضع ما حجب علمه عن العباد ، وهو وجوب خصوص الواحد المعيّن في المقام.

ولا يعارض : بأن وجوب الواحد المخيّر أيضا محجوب ؛ لأن وجوبه بهذا العنوان التخييري وإن كان محجوبا ، إلاّ أن وجوبه لا بهذا العنوان ، بل بالعنوان الذي يجامع وجوب الواحد المعيّن في الواقع غير محجوب.

وبعبارة أخرى : وجوبه بعنوان « اللابشرط المقسمي » غير محجوب وإن كان وجوبه بعنوان « اللابشرط القسيمي » محجوبا على نحو ما عرفت تقريبه في الشك في الشرط حرفا بحرف ، وكذا الضيق الناشئ من الالتزام بالخصوصيّة التعيينيّة لمكان الجهل بالإلزام المذكور منفي بمقتضى قوله : « الناس في سعة ما لا يعلمون ».

ولا يعارض : بأن في المتباينين أيضا قد يكون أحدهما أثقل من الآخر كالتمام بالنسبة إلى القصر في موارد دوران الأمر بينهما ، فيحكم بنفي وجوبه بما دلّ على تقديم ما فيه السعة على ما فيه الضيق.

وهو كما ترى ؛ لأن المستفاد من الرواية نفي الضيق المستند إلى الجهل وإثبات السعة بالنسبة إلى ما لا يعلم ، لا ترجيح ما فيه السعة على ما فيه الضيق كيف ما اتفق ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا لمن له أدنى خبرة بمعنى الرواية هذا.

وأما وجه عدم إلحاق الدوران المذكور بالدوران بين الأقلّ والأكثر حتى

١٨٢

من جهة الشكّ في الشرط بقسميه ، وإلحاقه بالدوران بين المتباينين في وجوب الاحتياط ـ وإن كان الاحتياط في المتباينين بحسب الكيفيّة يغاير الاحتياط في المقام ؛ حيث إنه في المتباينين بالجمع بين المحتملين ، وفي المقام باختيار ما يحتمل تعيينه ـ فهو : أنه ليس في المقام قدر مشترك يعلم بوجوبه ويشكّ في وجوب الزائد عليه ؛ لأنّ مفهوم أحدهما أمر ينتزع من الفعلين ، وليس متعلّقا لخطاب الشارع يقينا سواء فرض الواجب معيّنا أو مخيّرا ؛ لأن الخطاب التخييري في الواجب المخيّر يتعلّق بكلّ من الفعلين لا بعنوان أحدهما المنتزع منهما ، وإن صحّ الحكم بأن أحدهما واجب إلاّ أن الوجوب لا يتعلّق بالفعلين من أجل كونهما مصداقين لهذا المفهوم.

نعم ، ربّما يتوهّم : الإلحاق مما لا يجب الاحتياط فيه على مذهب العامّة في الواجب للمخيّر لكنه فاسد أيضا ؛ لعدم العلم بالوجوب التخييري ، ولم يتوهّم أحد تعلّق الخطاب بهذا المفهوم المنتزع في الواجب المعيّن ، فالذي تيقّن وجوبه على كل تقدير هو الذي يحتمل وجوبه التعييني ، ووجوب غيره وإسقاطه عنه مشكوك كيف يجوّز العقل العدول في مقام الامتثال من اليقين إلى الاحتمال؟ وكيف ينفى وجوبه بالدليل النقلي على وجه اليقين معه إن تعلّق الخطاب به بخصوصه ، أو به لا بهذا العنوان وصاحبه في مرتبة واحدة؟

وممّا ذكرنا كله يعلم : فساد قياس المقام بدوران الأمر بين المطلق والمقيّد ؛ حيث إن الدوران فيه أيضا يؤول إلى الدوران بين التخيير والتعيين ، غاية الأمر :

١٨٣

كون التخيير المحتمل في الدوران المذكور من جهة حكم العقل به ، وفي المقام من جهة حكم الشارع لانتفاء الخطاب التخييري في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد قطعا ؛ لأنّه على تقدير وجوب المطلق ليس هناك خطاب تخييريّ بالنسبة إلى الخصوصيّات أصلا لا من الشارع ولا من العقل.

أمّا الأوّل : فلأنه المفروض ، وأمّا الثاني : فلأن الذي يحكم به العقل على وجه الإدراك لا الإنشاء ـ بعد العلم بأن الواجب وهو الطبيعة المطلقة نسبته إلى الأفراد على وجه سواء ونسبته واحدة ـ جواز اختيار المكلف كل فرد في مقام الامتثال ، فإذا اختاره فقد وجد الواجب المعيّن في الخارج. وهذا أمر ظاهر قد نبّهنا عليه في مسألة تعلّق الأمر بإيجاد الطبيعة ، فالصفة الجامعة بين المطلق والمقيّد يعرضها الوجوب لا محالة على كل تقدير فلا يجوز قياس المقام به أصلا.

فاتضح ممّا ذكرنا كلّه : أنه لا مناص عن القول بوجوب الاحتياط في المقام وعدم جواز العدول عمّا احتمل تعيّنه لا الحكم بعدم وجوب الطرف الآخر ؛ فإنّه مبنيّ على جواز الرجوع إلى البراءة في نفي التخيير ولا تعلّق له بالمقام ، وقد عرفت ما يقتضيه الدليل بالنسبة إليه في مطاوي كلماتنا السابقة.

١٨٤

(٤٢) قوله قدس‌سره : ( وأما الشكّ في القاطعيّة ... إلى آخره ) (١) (٢). ( ج ٢ / ٣٥٩ )

المرجع عند الشك في القاطعيّة هو الإستصحاب مطلقا

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره في قلائده ( ج ١ / ٥٨٤ ) :

« أقول : إن الفرق بين القاطع والمانع :

أن الثاني يكون عدمه من مقولة الشرط بخلاف الأوّل ؛ فإنّ عدمه من قبيل شرط الشرط حيث ان الشرط في الصلاة إنّما هو صفة الإتصال وعدم القاطع شرط لها ، وليس عدم القطع عبارة عن الإتصال ؛ لوجود الفرق بينهما مفهوما ومصداقا ، فحاصل الفرق بينهما : أنّ عدم الشيء إن كان بنفسه شرطا في المركّب ـ كالحدث بالنسبة إلى الصلاة ـ فهو من مقولة المانع.

وإن كان اعتباره من جهة ان وجوده مخلّ بالهيئة الإتصاليّة التي هي من شرائط الصلاة ـ كالقهققة مثلا ـ فهو من مقولة القاطع.

وكيف كان : فمن خواص الأوّل : انه لا بد من إحرازه قبل الدخول في العمل وهذا بخلاف الثاني ؛ فإنّ عنوان القاطع لا يتحقّق إلاّ حال العروض في الأثناء » إنتهى.

(٢) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان كون العدم شرطا لا معنى له ، وإنّما المانع أمر وجودي يحول بين المقتضي وأثره ، والشرط أمر وجودي له مدخليّة في ترتّب الأثر على المقتضي ؛ وأمّا الهيئة الإتصاليّة القائمة بما تحقق وما لم يتحقّق فلا معنى لقطعها ؛ لعدم تحقّقها ، وما قامت بالمتحقّق من الأجزاء يستحيل زوالها ؛ والقاطع في الصّلاة إنّما يقطع الإحرام المتحقّق بالتكبيرة ، فللإحرام إستمرار ينقطع بالحدث وما بمنزلته ويظهر التفصيل ممّا حقّقناه في كتاب الصلاة » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ٢ / ٥٢.

١٨٥

أقول : القاطع وإن كان قسما من المانع حقيقة ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه ـ وحق المقام : أن نحكم بإلحاقه بالمانع : من حيث جواز الرجوع إلى البراءة بالنسبة إليه وعدمه ؛ فإن الكلام في مسائل الباب من حيث الاحتياط والبراءة لا الاستصحاب ، إلاّ أن المختار عنده قدس‌سره لمّا كان جريان الاستصحاب في الشكّ في القاطع دون مطلق الشكّ في المانع ـ كما ستقف عليه ـ أراد الإشارة إلى أن المتعيّن فيه الرجوع إلى الاستصحاب سواء كان المذهب الاحتياط في الأقلّ والأكثر بقسميه ، أو البراءة كما هو ظاهر.

(٤٣) قوله قدس‌سره : ( ثم إنّ الشكّ في الشرطيّة قد ينشأ ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٥٩ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« لا يخفى ان الحكم التكليفي النفسي لا يمكن ان يكون منشأ للشرطيّة حتى يكون الشك فيه منشأ للشك فيها ؛ ضرورة أن جعل الشرطيّة مغاير لجعل التكليف لا ملازمة بينهما أصلا ، بل التكليف النفسي والغيري متباينان وإن كان قد يتّحد موردهما ويكون معروضا للحكمين ، إلاّ انه لا يلزم من إتصاف المورد بالوجوب النفسي إتصافه بالوجوب الغيري والشرطيّة ، اللهمّ إلاّ في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على القول بعدم جوازه فيمكن أن يقال : إن شرطيّة إباحة المكان للصّلاة مستفادة عن النهي النفسي عن الغصب فلو شك في حرمة شيء آخر متحد في الوجود مع الصّلاة حصل الشك في كونه مانعا أو كون عدمه شرطا ، فبأصالة البراءة عن حرمة ذلك المشكوك يحكم بعدم مانعيّته وعدم شرطيّة عدمه.

والتحقيق : أن ذلك أيضا ليس مما نحن فيه في شيء ؛ لأن كلامنا في الشك في المكلّف به

١٨٦

__________________

وفي شرائط المأمور به وأجزاءه وموانعه لا في شرائط الأمر وموانعه ، وما ذكر متفرّعا على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي إنّما يكشف عن عدم تعلّق الأمر بما هو مورد للنهي ، لا أن المأمور به مقيّد بقيد آخر.

نعم ، يمكن فرض ذلك فيما لو دلّ دليل على انّ كلّ واجب نفسي وقع حال الصلاة فهو جزء أو شرط ، وكلّ حرام نفسي وقع حال الصّلاة فهو مانع ، وحينئذ فلو شك في انّ ما وقع في صلاته كان واجبا حتى يكون شرطا أو جزءا أو كان حراما حتى يكون مانعا ، فبإجراء أصالة البراءة عن الوجوب أو الحرمة يحكم بنفي الشرطيّة والمانعيّة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٣.

* وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« كما اذا شك في اشتراط إباحة مكان المصلّي من جهة الشك في حرمة الغصب مثلا ـ بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي ـ فالأصل الجاري في الحرمة مثبتا كان لها أو نافيا ، كان حاكما على الأصل في الشرطيّة.

ثم إن الشك من جهة ذلك إنّما يتصوّر في الشرطيّة ولا يتأتّى في الجزئيّة ؛ إذ لا يعقل أن تنشأ الجزئيّة من التكليف النفسي فإلحاقها بها مجرّد فرض كما صرّح قدس‌سره بذلك في الهامش » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٦٠.

* وقال صاحب القلائد قدس‌سره :

« أقول : في بعض النسخ كان العبارة هكذا « ثم إن الشك في الجزئية أو الشرطيّة ... » وفي

١٨٧

__________________

الحاشية المنسوبة إلى المصنف رحمه‌الله في المقام ما لفظه :

« لا يخفى عليك : أن هذا الكلام بالنسبة إلى الشك في الجزئية مجرّد فرض ؛ إذ لا يعقل أن ينشأ الجزئيّة من الشك في أحكام التكليف النفسي حتى صار الشك فيها من الشك فيه » إنتهى.

أنظر قلائد الفرائد : ج ١ / ٥٨٤.

أقول : وهذه هي النسخة التي كانت عند المحقق الخراساني حين التعليق عليها كما هو ظاهر وقد أشار إلى هذه الحاشية من دون أن يذكرها بقوله : « كما صرّح قدس‌سره بذلك في الهامش ».

وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

قد ضرب على قول الجزئيّة في بعض النسخ المصحّحة والوجه فيه واضح ؛ لأن الأمر بشيء في مركّب إن كان نفسيّا فلا يدل على جزئيّته له وإن كان غيريّا فلا يكون نفسيّا ، وإن كان نفسيّا وغيريّا فهو ممتنع ؛ لعدم إمكان تصادق الوجوب النفسي والغيري في مورد ، وقد حقّق ذلك في مبحث المقدّمة وأشار اليه المصنّف رحمه‌الله في الجواب عما أورده على نفسه.

وأمّا مثال تسبّب الشك في الشرطيّة من الشك في حكم تكليفي نفسي ، فمثل الشك في إباحة المكان في الصلاة أو لبس الذهب فيها عند من شك في جواز اجتماع الأمر والنهي أو قال به وشك في حكم تقديم جانب الوجوب أو الحرمة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٧٦.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« قيل : هذا الكلام بالنسبة إلى الشك في الجزئيّة مجرّد فرض ؛ إذ لا يعقل أن تنشأ الجزئيّة من

١٨٨

الشرط قسمان

أقول : توضيح ما أفاده يحتاج إلى بسط الكلام فيما يتعلّق بالمقام فنقول ـ بعون الله الملك العلاّم ودلالة أهل الذكر عليهم أفضل التحيّة والصّلاة والسلام ـ :

__________________

التكليف النفسي حتى صار الشك فيها من الشك فيه ولهذا ضرب على لفظ الجزئيّة في بعض النسخ المصحّحة بل ونقل عن المصنّف أيضا.

إلا أن فيه ـ على نظري ـ :

نقضا : بانه لو لم يعقل أن يكون منشأ الشك في الجزئيّة الشك في التكليف النفسي لم يعقل في الشك في الشرطيّة أيضا.

وحلاّ : بانه كما مثّل للشك في الشرطيّة الناشئة عن التكليف النفسي بالشك في اشتراط صحّة الصلاة بمعرفة احكامها وخللها الناشيء شكه عن وجوب تلك المعرفة نفسا وعدمه ، كذلك يمكن أن يمثّل للشك في الجزئيّة الناشئة عن الشك في التكليف النفسي بالشك في جزئيّة الصلوات في الصلاة من جهة الشك في وجوبها النفسي عند ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكما ينشأ الشك في شرطيّة إباحة المكان في الصلاة عن الشك في حرمة الغصب ، كذلك ينشأ الشك في جزئيّة الإستعاذة في الصلاة ناشيء عن الشك في وجوب الإستعاذة عند قراءة القرآن ، فتكون أصالة البراءة في هذا الحكم التكليفي النفسي حاكما على الأصل في الجزئيّة والشرطيّة بناء على حكومة الأصل في الشك السببي على الأصل في المسبّب » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٤٠ ـ ٤٣٩.

١٨٩

إن الشرط على قسمين :

أحدهما : ما يكون شرطا ومعتبرا في المأمور به ويكون مأخوذا في موضوع الأمر ، فيكون مقدّما عليه بحسب الملاحظة كسائر ما له دخل في وجود المأمور به مثل الأجزاء ، كغالب الشرائط للعبادات.

ثانيهما : ما يكون معتبرا في امتثال الأمر المتعلّق بالمأمور به بحيث لا يكون له تعلّق وارتباط بالماهيّة المأمور بها أصلا ، فيكون المتوقّف الامتثال دون وجود المأمور به في الخارج ، كإباحة المكان واللباس للصّلاة مثلا ، وإباحة الماء والتراب في وجه في الغسل والوضوء والتيمّم ، إلى غير ذلك من استفادة الإباحة من مانعيّة الغصب المجامع للعبادة وجودا المتّحد معها مصداقا المستفادة من النهي المتعلّق به في نفسه الذي يمنع من تحقّق الامتثال الأمر المتعلّق بالعبادة : من حيث امتناع التقرّب بما يكون مبغوضا للمولى ـ حسبما تبين مفصّلا في مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي ـ وليس الإباحة ـ المستفادة من مانعية الغصب بالتقريب الذي عرفته ـ مأخوذة في مهيّة العبادات على حد سائر شرائط المأمور به كالطهارة ، والسّتر ، والقبلة ، ونحوها.

ومن هنا يصحّ العبادات بارتفاع النهي عن الغصب واقعا ـ كما في مورد الضرورة والاضطرار ولو من جهة الأمر بالخروج فيمن توسّط الدار المغصوبة ـ أو فعلا كالجاهل القاصر بالحكم ـ بالمعنى الأعمّ من الغافل والناسي والشاك ـ أو بالموضوع كذلك ـ بناء على أن المزاحم للأمر هو النهي الفعلي كما بنوا عليه الأمر

١٩٠

في مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي لا النهي الواقعي النفس الأمري وإن لم يتوجّه إلى المكلّف أصلا ؛ لعذر عقلي أو شرعيّ من توجيهه إليه ـ أو القول بإمكان الامتثال بالمبغوض إذا كانت له جهة محبوبيّة أيضا فيما كانت الجهتان تقييديتين على ما بني الأمر عليه من ذهب إلى جواز الاجتماع في تلك المسألة.

وبالجملة : لا إشكال في افتراق القسمين بحسب الآثار والأحكام كثيرا في الفقه.

القسم الأوّل لا يكون معلولا للخطاب النفسي

أمّا القسم الأول : فممتنع عقلا أن يكون مسبّبا من الخطاب النفسي ومعلولا له وناشئا منه ، بل هو علّة تامّة ـ بناء على القول بوجوب المقدّمة لأمر غيري تبعيّ متعلق به ـ فهو علّة للأمر الغيري وإن كان الكاشف عنه الخطاب المتعلّق بالمشروط بعد ثبوت الملازمة العقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته.

فحال هذا القسم من الشرط حال الجزء في امتناع صيرورته مسبّبا عن الأمر النفسي ؛ ضرورة امتناع تأثير طلب الشيء لنفسه في كونه ممّا يتوقّف عليه وجود الغير شطرا أو شرطا بحيث يوجب حدوث المقدّميّة والارتباط بينهما.

نعم ، لا امتناع بين اجتماع جهتي الغيرية والنفسيّة ، بمعنى : صيرورة الشيء المطلوب نفسا مقدّمة للغير ، كالطّهارة من الحدث مثلا أو الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٩١

عند ذكر اسمه الشريف المطلوبة نفسا حيث صارت جزءا للتشهّد وهكذا.

لكنّه لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ فإن المدّعى : أن الأمر الدّال على الأمر بالصّلوات عند ذكره ( صلوات الله عليه وآله ) لا يدلّ على كون الصلوات عليه جزءا للصّلاة أو عبادة أخرى ، وكذا الأمر بالسجود عند قراءة آية السجدة أو استماعها لا يدل على كون السجود للعزيمة جزءا للصّلاة ، والنهي عن الغصب بما هو غصب لا يدلّ على كون الغصب من موانع الصّلاة وممّا يكون عدمه مأخوذا في مهيّة الصّلاة مع كون النهي المتعلّق به نفسيّا ، بل نقول : إن تحريم الشيء في العبادة نفسيّا بحيث لا يكون محرّما في غيرها لا يمكن دلالته على المانعيّة.

ومن هنا ذهب جمع من القدماء والمتأخرين إلى أن تحريم الارتماس والحقنة والقيء في الصوم لا يدلّ على كونها من موانع الصوم ، وإن هي إلاّ كالمحرّمات النفسيّة في حال الإحرام.

نعم ، لو استفيد من النهي كونه إرشاديّا وغيريّا كما استظهره كليّة بعض الأساطين من المتأخّرين وجعله الأصل في النواهي المتعلّقة بما يوجد في ضمن العبادة ـ كما هو مسلّم في جملة من الموارد بالاتفاق كالتكتّف ونحوه ـ دل على المانعية لا محالة ، لكنّه يخرج عن النهي النفسي ولا تعلق له بالمقام ؛ فإن النهي الإرشادي الغيري معلول للمانعية السابقة عليه وإن كان متعلّقا بالمعاملة أيضا. وهذا ما ذكرنا : من أن الشرط علّة للخطاب الغيري.

١٩٢

وبالجملة : الخطاب النفسي بما هو نفسي لا يمكن دلالته على المقدّمية والارتباط ، وإن كان ظرف متعلّقه العبادة فضلا عما إذا لم يكن كذلك ، بل نقول : إن النهي النفسي المتعلّق بما فرغ عن شرطيّته يدلّ على الفساد والمانعيّة فضلا عن غيره ، ولذا نقول : بأنه إذا ورد النهي النفسي عن لبس الحرير في الصلاة لم يدل على فساد الصّلاة في الحرير ، بخلاف ما لو ورد النهي النفسي عن الصلاة في الحرير ؛ فإنّه يدخل في المنهي عنه بشرطه من أقسام النهي في العبادات.

نعم ، لو استفيد من النهي عن لبس الحرير في الصلاة الإرشاد إلى مانعيّة نفس الحرير عن الصلاة دلّ على الفساد لا محالة وخرج عن محلّ الفرض.

والسرّ : إن الفعل المحصل للشرط ترتّبه عليه قهريّ توصلي لا يفرّق في حصوله بين كون مبدأه ومحصّله مبغوضا للمولى وبين أن لا يكون مبغوضا وليس أمره كالجزء للعبادة حتى لا يجامع مبغوضيّته للأمر بالعبادة. وهذا ما يقال وقرع سمعك وسمع كل أحد : من أن حيثيّة الشرط حيثيّة توصّليّة تحصل بفعل الحرام إذا لم يكن المحصّل بنفسه من العبادات كالطّهارات تفارق حيثيّة الجزء.

وكيف ما كان : لا ينبغي الارتياب في أن الخطاب النفسي بما هو خطاب نفسيّ لا يمكن دلالته على كون متعلّقه مقدّمة للعبادة وشرطا فيها. ومن هنا قد حكمنا : بأن عطف الجزئيّة على الشّرطيّة كما في جملة من نسخ « الكتاب » (١) غلط

__________________

(١) كما في نسخة ( ص ) و ( ظ ) المذكورة في طبعة المؤتمر ، أنظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٩

١٩٣

ظاهر ؛ لعدم جريان القسمين في الجزئيّة (١).

ومن هنا صرّح شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » فيما سيجيء من كلامه : بأن الخطاب النفسي بالفعل لا يمكن دلالته على كون متعلّقه جزءا للعبادة.

القسم الثاني من الشرط المستفاد من النهي النفسي وما يتفرّع عليه

وأمّا القسم الثاني : فيستفاد من النهي النفسي لكن يعتبر في دلالته إذا لم يكن متعلّقا بالعبادة أن يكون متعلّقا بعنوان متّحد وجودا مع العبادة ولو باعتبار جزئها. وبعبارة أخرى : يعتبر في دلالته تصادق متعلقه مع العبادة وجودا وإن انفكّ عن موارد العبادة ووجد في غيرها أيضا ، فمثل النهي عن لباس الشهرة ، أو النهي عن لبس الرّجل لباس النساء ، أو العكس ونحوهما خارجة عن محلّ الكلام ؛ فإنّها لم يتعلّق بما يتّحد وجودا مع العبادة فلا يحكم بفساد الصّلاة فيها ولا يقال : علي هذا كيف يحكم بفساد الصّلاة في لباس الحرير للرجال أو لباس الذهب لهم ونحوهما؟

فإن الحكم بفساد الصّلاة فيها ليس من جهة النهي النفسي المتعلّق بلبسها ،

__________________

الهامش رقم ٢.

(١) أقول : قد مرّ كلام المحقّق الخراساني فيها وإشارة الشيخ غلام رضا القمي إليها في قلائده فراجع.

١٩٤

بل من جهة النّهي عن العبادة فيها ، ولولاه لم يحكم بالفساد لأجلها. ومن هنا أفتى جماعة بصحّة الوضوء من أواني الذهب والفضّة مع عدم الانحصار ، زعما منهم : أن الوضوء منهما ليس استعمالا لهما وإن كان الاغتراف منهما استعمالا حراما إلاّ أنّه خارج عن الوضوء ، فحالهما حال الإناء المغصوب مع عدم الانحصار ، وإن كان الحق خلافه على ما بيّنّاه في الفقه.

وذهب بعض إلى عدم بطلان الصلاة في المحمول المغصوب إذا لم يتحرّك بحركات الصّلاة مستقلاّ ومال إليه شيخنا قدس‌سره في الفقه وإن كان لنا كلام فيه من حيث كفاية الحركة التبعيّة الغير المنفكّة في المنع من حيث كونه نحوا من التصرّف أيضا.

وبالجملة : المدار في هذا القسم المستفاد منه الشرطيّة : تصادق المنهي عنه مع المأمور به وجودا ولو بحسب الاتفاق ، لا مجرّد اجتماعهما موردا فإنه لا يمكن استفادة الشرطيّة منه ولو تعلّق النهي بمبدأ الشرط كما عرفته من التمثيل بلبس لباس الشهرة وأمثاله ، ولذا حكموا بصحّة الصّلاة مع النظر إلى الأجنبيّة بشهوة فيها بحيث لم يتوهّم أحد فساد الصّلاة معها. والوجه فيه : ما ذكرنا : من عدم تصادقه مع الصّلاة أصلا وإن وقع في أثنائها.

ومن هنا يحكم بصحّة الصّلاة مع حمل ساعة الذهب وإن فرض كونها إناء وقلنا بأن وضعها في الجيب مثلا استعمال لها ؛ لعدم اتحاد الحرام مصداقا مع

١٩٥

الصّلاة وإن أفتى بعض المعاصرين (١) رحمه‌الله بفساد الصّلاة فيها زاعما : اتّحاد كون الصّلاة معها كما سمعته منه مشافهة ، وتشخيص مصاديق هذه الكليّة ومواردها بنظر الفقيه وليس علينا الاستقصاء والعمدة بيان الضابطة.

ثمّ إن الوجه في استفادة الشرطيّة من هذا القسم من النهي ما أشرنا إليه : من أنه بعد فرض التصادق والاتحاد في وجود واحد لمّا امتنع الامتثال وإن كان جهة الأمر والطلب موجودة فلا محالة يجعل الغصب المتعلّق للنهي الفعلي مانعا من قصد التقرّب بالأمر ، فجعل إباحة المكان مثلا شرطا وهكذا.

وأولى منه : ما لو تعلّق النهي التحريمي بنفس العبادة ، كما إذا تعلّق النهي بالصّلاة في الدار المغصوبة ، أو الحرير ، أو في غير المأكول إلى غير ذلك مع كونه نفسيّا على ما هو مبنى المسألتين ، أي : مسألة اجتماع الأمر والنهي ، والنهي في العبادات لما عرفت : من أن النهي الإرشادي لا يعقل البحث فيه ؛ فإن الامتثال بالخصوصيّة المبغوضيّة (٢) محال ، فجهة الفساد في الفرض وإن كانت هي جهة في الفرض الأول حقيقة ، إلاّ أن بعض القائلين بجواز الاجتماع حكم بالفساد في مسألة النهي في العبادات ؛ نظرا إلى عدم تحقق جهة الصحّة فيها وإن حكم بالفساد

__________________

(١) العالم الفقيه المتبحّر المولى علي الكني المتوفي سنة ١٣٠٦ ه‍ له : « تحقيق الدلائل » في غاية من النّفاسة لو كان يعرف له قدر.

(٢) كذا والظاهر : المبغوضة.

١٩٦

بعضهم كالمحقق القمّي في « القوانين » : من جهة الدلالة العرفية والتخصيص مع اعترافه : بأنّ المسألتين من واد واحد بالنظر إلى حكم العقل.

وهذا نظير قول بعض المتأخرين في مسألة اجتماع الأمر والنهي وابتناء حكمها على مسألة تعارض العامّين من وجه وتقديم النهي في مادّة الاجتماع : من جهة كون دلالته أقوى من دلالة الأمر ، وإن كان فاسدا عندنا : من جهة أن مبنى المسألة على التزاحم لا على التعارض.

ومن هنا قد حكمنا بصحّة العبادة في موارد الغصب مع عذر المكلّف وانتفاء النهي الفعلي ، وإن حكمنا بأجرة المثل والضمان مع العذر أيضا ، ولو لا ما ذكرنا من المبنى لم يكن لما ذكرنا ـ وتسالموا عليه ـ وجه أصلا ، كما لا يخفى. هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام على سبيل الضّابطة.

وبقي هنا مطالب آخر جليلة تعرّضناها في محالّها فلعلّ المتأمّل الدقيق يكتفي بما ذكرنا عما طوينا ذكره ، ويتّضح له أبواب من الفقه بشرطها وشروطها وهو الموفّق للصواب.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنعد إلى بيان حكم المقام.

فنقول : إذا تسبّب الشكّ في الشرطيّة في القسم الثاني عن الشكّ في الخطاب النفسي تعيّن الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الشكّ في الخطاب ، سواء قلنا بالبراءة في الشك في الشرطيّة ، أو الاشتغال ؛ لما عرفت مرارا : من عدم جريان

١٩٧

الأصل في الشكّ المسبّب مع جريانه في الشكّ السّبب ، من غير فرق بين أن يكون الأصلان متوافقين ، أو متخالفين ، من جنس واحد ، أو جنسين ، فإذا كان قضيّة الأصل في الشكّ في التكليف البراءة باتفاق المجتهدين ، بل الأخباريّين أيضا ـ في الجملة ـ حكم بعدم الالتفات إلى الشكّ في الشرطيّة المسبّبة عنه ، ولا يكون مقتضاه الاحتياط ، إلاّ على مذهب الأخباريّين في الشبهة التحريميّة.

فقوله قدس‌سره في « الكتاب » : ( فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم : من وجوب ذلك المشكوك في شرطيّته أو عدم وجوبه ) (١) مبنيّ على الفرض. والغرض : أنه لا يلاحظ مقتضى الأصل في الشكّ في الشرطيّة في هذا القسم أصلا ، بل يتّبع حكمه حكم الشكّ في التكليف النفسي فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٩.

١٩٨

تنبيهات الأقل والأكثر

* التنبيه الأوّل : الشك في الركنيّة

* التنبيه الثاني : سقوط الكل أو المشروط عند تعذّر الجزء أو الشرط

* التنبيه الثالث : دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة

* التنبيه الرابع : الدوران بين الشرطيّة والمانعيّة أو بين الجزئيّة والزيادة المبطلة

١٩٩
٢٠٠