بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

عمومه على الوجهين لصحّته ببيع وقع الكلام فيه مثلا يقال : إن مورد تحليل الشارع هو البيع الجامع للشرائط والأمور المعتبرة في تأثيره وصحّته عنده ؛ إذ تحليله لا يتعلّق بالفاسد فقد ثبت تقييده بهذا العنوان المبيّن مفهوما ، أو مصداقه المجمل المردّد فلا إطلاق للآية الشريفة ، فيجب الرجوع إلى أصالة الاشتغال ولا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة أيضا.

وهكذا الكلام إذا أريد التمسّك بالعمومات كما عرفت تقريبه مما ذكرنا سابقا في بيان توهّم بعض المتأخرين ، والدافع للتوهم المذكور في جميع موارده ما عرفت : من أن الدليل القاضي بعدم إرادة الشارع للفاسد لا يقتضي أخذ عنوان الصحيح على وجه التقييد ولا استعمال اللفظ فيه ولو مجازا ، بل مقتضاه هو التلازم بين الإرادة والصحّة في نفس الأمر فيكشف من جهة إطلاق اللفظ أو عمومه عن كون الفاقد لما يحتمل اعتباره مرادا في الواقع فيحكم بصحّته وعدم دخل المحتمل فيها أصلا ، بالنظر إلى التلازم المذكور.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : الفرق بين جعل الشيء قيدا للعنوان والموضوع الذي تعلّق به الحكم أو استعمل فيه اللفظ كما لو قال المولى : « أكرم العلماء العدول » مثلا ، أو « أكرم جيراني المحبّين » إلى غير ذلك ، وبين العلم بعدم إرادة المولى من متعلّق خطابه إلاّ من كان واجدا لصفة كذائيّة ، أو ما كان كذلك في نفس الأمر ، كما إذا قال : « أكرم جيراني » وعلم من الخارج أن إرادته لا يتعلّق بإكرام من كان عدوّا له ، أو ورد أمر من المولى بلعن طائفة كبني أميّة مثلا أو إظهار البراءة والعداوة وعلم

١٦١

من الخارج أنه لا يأمر بلعن من لا يكون مستحقّا له ؛ فإنه لا يمكن الأخذ بالعموم في الفرض الأول في مشكوك العداوة والمحبّة ، ويجب الأخذ به في الفرض الثاني في مشكوك المحبّة والعداوة واستحقاق اللعن ونحكم لأجله بكونه محبّا ومستحقّ اللعن والأمر في العرفيّات والشرعيّات في باب الألفاظ على نهج واحد كما هو واضح.

* * *

١٦٢

المسألة الثالثة :

الشك في الجزئية من جهة تعارض النصّين (١)

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره الشريف :

« اذا كان منشأه تعارض النّصين فمقتضى القواعد التساقط والرجوع إلى الأصل.

وقد يتوهّم : ان الحكم فيه التخيير للأخبار الآمرة بالأخذ بهما من باب التسليم على التخيير.

وفيه : ان موردها ما علم بصدورهما عنهم عليهم‌السلام لإلقاء الخلاف بين الفرقة الناجية كي لا يتميّزوا فيعرفوا ، قال عليه‌السلام : ( نحن القينا الخلاف بينهم وإنّ أدنى ما للإمام أن يفتي بسبعة وجوه ) ، قال عزّ من قائل : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [ حج : ٧٨ ] والمخاطب هم الأئمة عليهم‌السلام وهذا نحو من التقية لا تعتبر فيها الموافقة للعامة ؛ فإنها تحصل بنفس اختلاف الشيعة.

فالإختلاف في الرواية قد يكون للتعمّد في الكذب ، المندفع إحتماله بالأخذ بالأوثق.

وقد يكون من جهة الإشتباه ويندفع احتماله بالأخذ بقول الأفقه.

وقد يكون من جهة الموافقة للعامّة ويندفع بالأخذ بما خالفهم.

وقد يكون بعد الفراغ عن هذه الجهات وكون الخبرين مشهورين أي ظاهرين كالشمس ولا يحتمل فيهما شيء من وجوه الخلل فحينئذ بأيّهما أخذ من باب التسليم وسعه ، فهذا ليس حكم المتعارضين ، وإليه ينظر من قال بالتخيير الواقعي.

وقد حقّقناه في مبحث التعارض :

١٦٣

(٣٦) قوله قدس‌سره : ( وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٤٨ )

أقول : ظاهر ما أفاده بل صريحه عند التأمّل : كون أصالة التخيير الجارية في تعارض الخبرين ، أو مطلق الدليلين المتكافئين ، أصلا عمليّا كسائر الأصول العمليّة ، ومن هنا توجّه السؤال المذكور في « الكتاب » عليه ، فيكون حالها حال أصالة التخيير ـ الجارية في المسألة الفرعيّة في دوران الأمر بين المحذورين بحكم العقل ـ في كونهما من الأصول العمليّة ، وهو مبني على القول : بأن حكم الشارع بالتخيير بين المتعارضين المتكافئين إنّما هو من جهة رعاية الحجّة المحتملة بالنسبة إلى كل منهما مع العلم بوجودها إجمالا بينهما.

وهذا الوجه وإن كان فاسدا عندنا وعنده قدس‌سره ـ كما ستقف على تفصيل القول

__________________

ان ما في الكتب الأربعة ليس موردا لشيء من هذه الأحكام ، وإنّما هي أحكام الروايات قبل التنقيح والثبت في الأصول المدوّنة بامرهم عليهم‌السلام.

وأمّا الأصول الاربعمائة التي دوّنها الأساطين من علماء الإماميّة من أصحابهم صلوات الله عليهم منهم أربعة الآف من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام فليست موضوعة لهذه الأحكام ، والإختلال اليسير فيها ناش عن النقل بالمعنى أو غلط في النسخة أو ما يشبهها.

ولا يخفى الوجه على الفقيه الماهر ومن أراد الإطّلاع على التفصيل فليراجع ما صنّفناه في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام ؛ فإنهم عليهم‌السلام لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال ، فالأعلام واضحة بحمد الله ولكن لا يهتدي إلى الحق إلاّ الأوحديّ الماهر وهو المؤمن الممتحن قلبه للإيمان » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٥٠.

١٦٤

فيه في الجزء الرابع من « الكتاب » والتعليقة ـ إلاّ أنه لا مناص عنه بعد البناء على ما أفاده : من كون التخيير أصلا عمليّا اتفق الفريقان المختلفان في حكم المسألة : من حيث وجوب الاحتياط والبراءة على الرجوع إليه ، وهو مبني على ما يقتضيه الرأي في باديء النظر ، وإلاّ فقوله بعد ذلك : ( ولكن الإنصاف ) صريح في خلافه.

ثمّ إن فرض الإطلاق المعتبر الجامع لشرائط التمسّك به في العبادات لا بدّ أن يكون مبنيّا على القول بالأعمّ في ألفاظ العبادات ، كما ذهب إليه جمع من المتأخّرين ، وأمّا على القول بالصحيح فيها على ما اختاره شيخنا قدس‌سره في المسألة وفاقا للمحقّقين فلا يفرض لها إطلاق أصلا كما لا يخفى.

١٦٥

(٣٧) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : فأيّ فرق بين وجود ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٤٩ )

أقول : السؤال المذكور ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ مبنيّ على جعل التخيير الجاري في المسألة الأصوليّة من الأصول العمليّة ، كالتخيير العقلي الجاري في المسألة الفرعيّة.

__________________

(١) قال العلامة اللاري قدس‌سره :

« حاصله : منع اشتراط التخيير بين المتكافئين بعدم وجود مطلق في البين ؛ لانه إن كان الأصل الأوّلي فيهما التساقط فعدم اشتراط التخيير به من باب السالبة بانتفاء موضوعه ، وإن كان الأصل فيهما التخيير فالأصل وإطلاق التخيير عدم اشتراطه بعدم المطلق.

وحاصل « قلت » اعتبار اشترطه بعدم المطلق بأن المطلق على كل من تقديري مرجّحيّته ومرجعيّته هو المعتبر لا المتكافئين فيكون اعتبار التخيير بينهما مشروطا بعدم المطلق ؛ لأن مفهوم التخيير بينهما هو المنع عن الرجوع في موردهما إلى الأصل العملي لا اللفظي المفروض هو المطلق.

ولكن فيه : ما أشار اليه من انه على تقدير مرجّحيّة المطلق يسلم الإشتراط. وأمّا على تقدير مرجعيّته يكون حاله حال سائر الأصول العملية في المحكوميّة لأدلة التخيير بينهما كمحكوميّته لأدلة تعيين أحدهما من غير فرق ، فاشتراط عدمه إنما هو على تقدير المرجحيّة لا المرجعيّة.

لا يقال : لا فرق بين الأصول العمليّة واللفظيّة في المحكوميّة لأدلة التخيير.

لأنّ المفروض ورود التخيير بقوله عليه‌السلام : « إذن فتخيّر » بعد فرض الراوي التساوي من جميع الجهات وانتفاء جميع المرجّحات فكيف تقدّم عليها؟ » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٦.

١٦٦

(٣٨) قوله : ( قلت : أمّا لو قلنا بأن المتعارضين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٤٩ )

بيان تحكيم أخبار التخيير على أصالتي الإطلاق والعموم

أقول : لا إشكال فيما أفاده قدس‌سره : من خروج الفرض عن محلّ البحث (١) على

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« هذا بناء على اعتبار أصالة الإطلاق من باب الظهور النوعي والترجيح بكل مزيّة داخليّة كانت أو خارجيّة حسب ما يستظهر من أخبار العلاجيّة » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٥٨.

* وعلّق عليه المحقق الكرماني قدس‌سره قائلا :

« بناء هذا على اعتبار الترجيح بالمزايا الخارجيّة واضح ، كما ان بناء تكافؤهما على عدم اعتبارها قول الخراساني من أخبار العلاجيّة غلط ، إنّما الصّواب الأخبار العلاجيّة بتحلية الأخبار بالألف واللام أو أخبار العلاج بتجريده عن ياء النسبة ؛ لأنها تلحق مع التوصيف وإذا كان وصفا مع اللام كان الموصوف أيضا كذلك وأمثال هذا كثيرا مّا يخفى على أمثال الخراساني وإنّما يعرفها الأديب كلّ الأديب بل الأديب » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ٢٨٣.

أقول : ولا يخفى ما فيه من القسوة والجفاء ؛ فإن جلالة المحقق الخراساني وعظمته في ميدان العلم والعمل ليس بها من خفاء وصدور مثل ذلك منه ليس إلاّ من سهو القلم بعد ذلك العطاء.

وكيف كان : فإن كتابات جماعات من أعلامنا العجم مملوءة من أمثال ذلك وهو غير خفي على الناقد البصير المنصف غير المتعسّف وهذه كفاية الخراساني بالإضافة إلى بحر

١٦٧

القول بكون موافقة أحد الخبرين للأصل اللفظي من الإطلاق أو العموم يوجب ترجيح الخبر الموافق له ؛ فإن التخيير إنّما هو في مورد التكافؤ ، كما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى الأصل العملي على القول بكونه مرجّحا ، كما إذا وافق أحد الخبرين على الاستصحاب على القول باعتباره من باب الظن.

وأمّا الفرق بين الأصل اللفظي والعملي على القول بعدم الترجيح بهما من حيث كون اعتبارهما من باب التعبّد ، فحاصل ما أفاده في بيانه :

هو دعوى سوق أخبار التخيير لإثبات جواز الأخذ بكل من المتعارضين فيما لم يكن دليل على قول الشارع بحيث يكون المكلّف متحيّرا في الأخذ بأيّ قولي الشارع الّذين وقع التعارض بينهما في مرحلة الظاهر ، والأصل اللفظي من الإطلاق أو العموم أصل في المسألة الأصوليّة اللفظيّة مفاده : البناء على وجود قول الشارع في المسألة ، فيكون حاكما على أخبار التخيير. وأمّا الأصل العملي فهو أصل في المسألة الفرعيّة مع عدم وجود دليل في تلك المسألة ، ومفاد أخبار التخيير البناء على دليليّة أحد المتعارضين عند عدم وجود الدليل ، فهي حاكمة على الأصل العملي الشرعي وواردة على الأصل العملي العقلي ، فالمراد من

__________________

الآشتياني وتعليقة الكرماني بين يديك ، إلاّ أن كل ذلك لا يقدح بمقاماتهم العلميّة الرفيعة ويكفيك انهم أتعبوا الأجيال على مرّ السنين في فهم كلماتهم فما ظنّك بهضمها أو بلوغ شأوها؟!!

١٦٨

الحكومة في كلامه قدس‌سره أعمّ من الورود ولو مسامحة هذا.

مضافا إلى أن القول بعدم الفرق بينهما يوجب تخصيص أخبار التخيير بما لا يكون هناك أصل عمليّ ، أو بما كان الأصل في المسألة التخيير. وهو كما ترى ، هذا ما يقتضيه النظر الأوّل في تحقيق المقام.

وأما ما يقتضيه النظرة الثانية فهو الذي أفاده بقوله : قدس‌سره « ولكن الإنصاف (١) ... إلى آخره » (٢) من تحكيم أخبار التخيير على أصالتي الإطلاق والعموم ، وإن كان اعتبارهما من باب الظنّ والظهور ومفادها الأخذ بأحدهما من

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« توضيحه : أن ظاهر أخبار التخيير هو التخيير في مقام الأخذ بالخبرين لا التخيير في مجرّد العمل ـ كما قيل ـ فتفيد حجّيّة أحدهما على التخيير ويكون الخبر الخاص حاكما على أصالة الإطلاق نظير حكومته لو دلّ دليل على حجّيّته معيّنا.

نعم ، لو قيل : بان المراد منها هو التخيير في العمل ، أعني : التخيير في تطبيق العمل على وفق أحد الخبرين كان مفادها كالأصول العمليّة يقدّم عليها الأصول اللفظيّة.

ويرد عليه : أنّ أخبار التخيير حاكمة على أصالة الإطلاق بناء على الثاني أيضا ؛ لأنّ العمل على التخيير هذا وإن كان في عرض الأصول العمليّة بالنسبة إلى الأدلة لكنه مقدّم على سائر الأصول ، ألا ترى انه لا يعمل بسائر الأصول من البراءة والاستصحاب والإحتياط في مورده وإن كانت موجودة ولا يعارض بها فيتوقّف بل يعمل على طبق التخيير » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٨.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٠.

١٦٩

حيث التعبّد ؛ نظرا إلى عدم إمكان ملاحظة الطريقيّة في مقام التخيّر مع قطع النظر عما اقتضى ترجيح أحد المتعارضين وتقديمه بما يوجب قوّته ، كما أنها حاكمة على الأصل العملي المفيد للظنّ أيضا مع قطع النظر عما ذكرنا ؛ نظرا إلى أن كلاّ من الأصلين الجاريين في كلام الشارع ولفظه وإن كان مقتضاه وجود قول الشارع والدليل في المسألة الفرعيّة ، إلاّ أنه أصل تعليقي ؛ ضرورة كونه مشروطا بعدم ورود التقييد والتخصيص ، وأخبار التخيير المقتضية لحجيّة المخالف للمطلق والعام يجعله مقيّدا ومخصّصا لهما فهي من هذه الحيثيّة كالأدلّة الدّالة على حجيّة الأخبار ؛ فإنه لا إشكال في حكومتها على الأصلين فيما كان هناك خبر سليم يخالفهما ؛ ضرورة اتحادهما من حيث الدلالة على حجيّة الخبر المخالف لهما.

والقول بالفرق بينهما : من حيث الدلالة على الحجيّة التعيينيّة والتخييرية ، شطط من الكلام بعد تسليم كون مفاد أخبار التخيير تجويز الأخذ بالخبر المخالف وحجيّته ؛ إذ تجويز ذلك لا يجامع البناء على كل من الأصلين كما هو ظاهر.

ودعوى : أن الأصل المذكور وإن كان تعليقيّا ، إلاّ أنّ أصالة التخيير أيضا تعليقيّة فلنا أن نقلب الدليل ، فنقول : إن الأصل المذكور يقتضي البناء على الإطلاق وعدم التقييد ، فيثبت الدليل وقول الشارع في المسألة فيرتفع موضوع التخيير ، فلا يجوز تقديم أخبار التخيير إلاّ على القول بثبوت إطلاق فيها يشمل صورة وجود الإطلاق مثلا فيكون تنجيزيّا بالنسبة إليه ، وإلاّ فلا معنى لتحكيم أحد التعليقين على الآخر أو وروده عليه للزوم الترجيح بلا مرجّح.

١٧٠

فاسدة : بأن إجراء الأصل المذكور موقوف على منع جريان أخبار التخيير المقتضية للتقييد ورفع موضوعه بالفرض وهو لا يصلح للمانعيّة جزما ، وإلاّ لزم الدور الظاهر ، وإن هو إلاّ نظير جعل قاعدة وجوب دفع الضرر واردة على قاعدة القبح ، وقد عرفت امتناعه فتأمّل.

فإذن لا بدّ أن يكون مبنى حكم المشهور بعدم التخيير بين الخبرين في صورة وجود أصالتي الإطلاق والعموم ما نصّ عليه في أخبار العلاج : من تقديم ما وافق الكتاب والسنّة بتعميم الموافقة لما يشمل الموافقة بالإطلاق والعموم.

مضافا إلى الكليّة المستفادة منها : من لزوم الترجيح بكل مزيّة ـ على ما ستقف على تفصيل القول فيه بناء على كون اعتبار الأصلين : من باب الظن والظهور كما هو المسلّم عندهم ـ فالعمل بالمطلق ليس من حيث كونه مرجعا بعد تساقط الخبرين ، أو عدم شمول أخبار التخيير لصورة وجود المطلق في المسألة ، بل من حيث كونه مرجّحا للخبر الموافق له ، والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

لا يقال : بناء على ما ذكر لا فرق في كون مبنى اعتبار الأصل على الظن والظهور أو التعبّد.

لأنا نقول : الفرق إنّما هو من جهة عدم مساعدة أخبار العلاج على الترجيح بالأمور التعبّدية لحصر دلالتها على ما يوجب قوّة لأحد المتعارضين وما كان من سنخهما في الطريقيّة وإن لم يكن حجّة في نفسه.

١٧١

لا يقال على ما ذكر لا يبقى فرق بين الأصل اللفظي والأصل العملي إذا كان مبناه على الظن كما عن المشهور ؛ فإن الترجيح به وإن لم يكن منصوصا عليه في الأخبار ، إلاّ أنّ الكليّة المستفادة منها يشمله مع أن كلماتهم لا يساعد على الترجيح بالأصل العملي.

لأنا نقول : نحن نلتزم بعدم الفرق على القول المذكور إلاّ أن القول به ضعيف عندنا ، وأمّا تقديم جمع في باب الترجيح الخبر المخالف للأصل فليس من جهة عدم الترجيح بما يوجب القوة والأقربية ، بل من جهة رجحان عندهم للخبر المخالف مذكور في ذلك الباب مثل : أن بناء الشارع غالبا على تبليغ المحرّمات وما يخالف الأصل فيظن صدور المخالف ، إلى غير ذلك مما يرجع إلى تسليم الكلّيّة والبناء عليه في ترجيح المخالف فراجع باب التعارض.

* * *

١٧٢

المسألة الرابعة :

الشك في الجزئية من جهة اشتباه الموضوع

(٣٩) قوله قدس‌سره : ( المسألة الرابعة : فيما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع (١) الخارجي ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٥٢ )

__________________

(١) قال المحقق الكرماني قدس‌سره : « إيضاح »

« ليس المراد من الموضوع هنا معناه اللغوي الذي هو مقابل الرفع ولا ما هو مصطلح أهل الميزان الذي يستمّيه أهل العربية بالمحكوم عليه والمسند اليه ، بل المراد منه ما تعلّق به حكم من الأحكام الخمسة التكليفيّة ابتداء كالأفعال الصادرة عن المكلّفين أو بالواسطة كالأعيان التي تعلّق بها الأفعال.

فإن كان المراد منه غير المعنى اللغوي أو العرف العام بالوضع التعييني أو التعيّني فهو الذي يسمّيه الأصوليون بالموضوع المستنبط وبيانه وظيفة الشارع كالصلاة والصوم والحج والكفر والإسلام والسرقة والزنا ونحو ذلك ولو باعتبار زيادة القيد على المعنى اللغوي أو العرفي وهو بيّن ومبيّن ومجمل ، والأمر في الأوّلين واضح والثالث يؤخذ فيه بالمتيقّن إن كان والمرجع في الزائد إلى ما هو أصل فيه وإن لم يرد منه معنى جديدا غير ما يعرفه العرف فليس بيانه وظيفة الشارع وليس عليه بيانه ويطلقون عليه الموضوع الخارجي ، يريدون أن بيانه وتفسيره خارج عن وظيفة الشارع ، والشك فيه كان باعتبار المفهوم فالمرجع فيه إلى

١٧٣

مناقشة المثالين المذكورين في الكتاب للشبهة الموضوعيّة

أقول : وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة من الأقلّ والأكثر مضافا إلى أنه مما لا إشكال ولا خلاف فيه بين الأصحاب إلاّ ما يحكى عن المحقّق الخوانساري والقمّي قدس‌سرهما ، إلاّ أنّ التمثيل لها بما في « الكتاب » محلّ مناقشة.

أمّا المثال الأوّل (١) : فلأن دوران الأمر في الشهر الهلالي المبيّن بحسب المفهوم بين الأقلّ والأكثر من الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين فلا تعلّق لها بالمقام ؛ ضرورة كون صوم كلّ يوم واجبا مستقلاّ في الشرعيّات ، وإن قلنا بكفاية نيّة

__________________

العرف إن كان مع الوحدة أو عرف الناقل او المنقول منه مع الإختلاف ، أو اللغة إن لم يكن على التفاصيل المذكورة في محلّها ، وإن كان باعتبار تحقّق المفهوم في مصداق مشكوك تحقّقه فيه أو رفعه عن مصداق معلوم تحقّقه فيه لعروض أمر لو لم يكن لم يشك كالغيم وكان الشك في الجزء الإرتباطي فهو المتكلّم فيه هنا واتخذ هذا الإيضاح منّا لا لنا ولا علينا » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٨٣.

(١) قال السيد المحقّق اللاري قدس‌سره :

« وفيه : انه خارج عن الأقل والأكثر الارتباطي ، بل الإرتباطي منه الداخل في محل النزاع هو الشك في دخول الليل المغيّى به وجوب صوم النهار بواسطة عروض غيم ونحوه من الموانع الخارجيّة من الرؤيّة » إنتهى. انظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٧.

١٧٤

واحدة عن تمام الشهر كما عن علم الهدى (١) وبعض آخر من الأصحاب (٢) ؛ فإن القول بذلك ليس من جهة كون صوم الشهر عندهم تكليفا واحدا بحيث لو لم يمتثل الأمر في بعض الأيّام نسيانا أو عمدا بطل صومه فيما صامه من الأيّام ؛ فإن أحدا من علماء الإسلام لم يقل بذلك ، بل لما ذكروه في باب الصوم في الفقه.

نعم ، يمكن فرض ذلك في النذر : بأن تعلّق بالشهر على وجه الاجتماع بحيث لو أخلّ بصوم يوم حصل الحنث معه وإن لم يفسد صومه بالنسبة إلى ما صامه ، فهو نظير التتابع المعتبر في الكفارة فتأمّل.

وأما المثال الثاني (٣) : فلأن الظاهر منه تعلّق الشكّ بجزئيّة شيء للوضوء والغسل من جهة الشبهة الحكميّة ولو كانت مسبّبة عن إجمال المفهوم ، كالشكّ في

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ٢ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦ والإنتصار : ٦١.

(٢) كالمفيد والطوسي وسلاّر وأبي الصّلاح ، أنظر المقنعة : ٣٠٢ الخلاف ٢ / ١٦٣ المسألة ٣ ، المبسوط ١ : ٢٧٦ ، النهاية : ١٥١ ، الإقتصاد : ٢٨٧ ، جمل العلم والعمل : ٩٥ ، المراسم : ٩٦ ، الكافي في الفقه : ١٨١.

(٣) قال السيّد اللاّري قدس‌سره :

« وفيه : ان الشك في جزئيّة شيء للوضوء وعدمه كالشك في جزئيّة غسل باطن العكنة والأذن ومحلّ الخاتم وثقب الأذن ونحوه داخل فيما سبق من الشبهة الحكميّة وخارج عما نحن فيه من الشبهة الموضوعيّة إلاّ أن يراد منه الشك في حصول ذلك الجزء المعلوم الجزئيّة وعدمه وفي وصول الماء إلى ذلك المحل المعلوم الجزئيّة وعدمه بواسطة مانع خارجي من الرؤية » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٨ ـ ٤٣٧.

١٧٥

كون شيء من ظاهر البدن أو باطنه فيهما : من جهة عدم تحقّق معنى الظاهر والباطن بكنههما بحيث لا يبقى شك في مصداق من مصاديقهما من جهة المفهوم ، فالظهور وإن كان بحسب المفهوم مبيّنا لا إجمال فيه ، إلاّ أنّ الشكّ في حصوله حقيقة في الخارج ليس مستندا إلى اشتباه الأمور الخارجيّة ، بل إلى عدم العلم بحقيقة الوضوء والغسل الواجبين شرعا ، فهو اشتباه مسبّب عن الاشتباه في الحكم الشرعي حقيقة لا عن اشتباه الأمور الخارجيّة.

ومرجع هذا الاشتباه وإن كان إلى اشتباه المصداق ، إلاّ أنه لا دخل له باشتباه الموضوع الخارجي ، بل هو من اشتباه المصداق الشرعي. ومن هنا جعله من أمثلة المسألة الثانية من الشبهة الحكميّة فيما تقدّم من كلامه ، بل قد يتأمّل في تبيّن الطهور بمعنى الفعل الرافع مع عدم تبيّن حقيقة الوضوء والغسل ؛ فإنه عبارة عنهما في الخارج ليس له وجود آخر فتأمل.

وكيف كان : لا يمكن الجمع بين التمثيل بالمثال للمقام والتمثيل به للشبهة الحكميّة ، مع أنه على تعميم العنوان في المقام لما يشمل المثال نمنع من وجوب الاحتياط فيما يرجع من هذا العنوان إلى الشبهة الحكميّة ، وإن رجع شكّه إلى الشكّ في المصداق الشرعي ؛ لأن الشكّ في حصول الطهور إذا كان مسبّبا عن الشكّ في حقيقة الوضوء والغسل شرعا وأجرينا البراءة بالنسبة إليهما ؛ لعدم المانع منها أصلا ، ارتفع الشكّ عن حصول الطهور فلا معنى للرجوع إلى قاعدة الاشتغال بالنسبة إليه ؛ لابتنائها على احتمال العقاب على تقدير الاكتفاء باحتمال حصوله

١٧٦

كما هو واضح. فإذا حكم الشرع والعقل بالأمن منه فيرتفع موضوع القاعدة. فلا بدّ على القول بالتعميم من اختيار التفصيل في المسألة.

فالمثال الصحيح للمقام بحيث لا يتطرّق إليه مناقشة أصلا : هو تردّد اليوم الذي يجب فيه الصوم ، مع تبيّن مفهومه بين الأقلّ والأكثر : من جهة الشكّ في حصول المغرب : من جهة الشبهة الموضوعيّة لا من جهة الاختلاف في معنى الغروب الذي هو غاية اليوم ، وعدم فهم المراد منه : أو الاختلاف في معنى ذهاب الحمرة وأنّها المغربيّة أو المشرقيّة ، وكيف كان لا بدّ من تمثيل المقام به وبأمثاله.

ثمّ إنه يدلّ على وجوب الاحتياط ـ في محلّ البحث والفرق بينه وبين المسائل الراجعة إلى الشبهة الحكميّة ـ العقل الحاكم على وجه القطع بوجوب تحصيل اليقين عما اشتغلت الذمّة به يقينا في مقام الامتثال ، وعدم الاكتفاء باحتمال امتثال الأمر المتوجّه إلى المكلّف ، والخطاب الصّادر من الشارع يقينا الواصل إلى المكلّف بحيث لا اشتباه فيه موضوعا ومحمولا ونسبة ، وإنّما وقع الاشتباه في تحقّق موضوعه المعيّن في الخارج : من جهة اشتباه الأمور الخارجيّة الذي لا تعلّق له بالشارع أصلا ، ولا يجب إزالته عليه جزما ، وإلاّ وجب عليه بيان الموضوع الخارجي دائما كالحكم الشرعي.

وليس المقام إلاّ مثل ما لو شكّ المكلف في الوقت في إتيانه بالصلاة المفروضة أو شكّ في إتيانه بالجزء الذي علم بوجوبه ونحوهما ؛ فإنه لا ريب في حكم العقل بوجوب الإتيان وعدم جواز القناعة بالاحتمال مع قطع النظر عن

١٧٧

حكم الشارع بعدم الالتفات بالشكّ في إتيان الجزء بعد التجاوز عن محلّه ؛ لحكمه ـ باعتبار الظنّ النوعي الحاصل للمكلّف ـ بالإتيان ، على ما هو قضيّة بعض أخباره أو مجرّد التعبّد.

ومنه يظهر الفرق بين المقام والمسائل الثلاث الراجعة إلى الشبهة الحكميّة ، وعدم جريان أدلّة البراءة المضيات (١) الجارية فيها فيه ؛ حيث إن مفادها عقلا ونقلا نفي المؤاخذة عما لم يعلم إلزام الشارع به ، لا عن ترك ما علم تعلّق الإلزام به من الشارع كما في المقام.

وبمثل ما حرّرناه ينبغي تحرير المقام لا بمثل ما حرّره شيخنا قدس‌سره ؛ فإن التمسّك للمدّعى بأصالة عدم تحقّق المشكوك ، أو استصحاب بقاء الاشتغال ، والجمع بين التمسّك بهما وقاعدة الاشتغال لا يستقيم على ما بني الأمر عليه مرارا : من عدم جريان الاستصحاب في مورد جريان القاعدة كالعكس ، اللهمّ إلاّ أن يريد منه الإشارة إلى مسلك غيره في المقام وأمثاله لا التمسّك بخصوص ما هو الحق عنده فتدبّر.

__________________

(١) كذا في النسخ ولعله من إشتباه النسّاخ والصحيح : الماضيات. ومراده : عدم جريان أدلّة البراءة الماضية في المقام.

١٧٨

القسم الثاني :

الشك في القيد

(٤٠) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الثاني : فالظاهر اتحاد حكمهما وقد يفرّق بينهما ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٥٤ )

أقول : وجه الاتحاد أنّ الشرط بما هو شرط ـ على ما عرفت ـ : من مقولة الكيف المتّحد مع المشروط بحسب الوجود الخارجي ؛ فإن المعتبر حقيقة تقيّد المشروط به واشتراطه ، فهو وإن كان زائدا على المشروط في الذهن ومعقولا متصوّرا في نفسه ، إلاّ أنّهما متحدان في الخارج ، وبهذا افترق عن الجزء الخارجي ؛ فإنه من مقولة الكمّ يزيد المركّب بملاحظته في الخارج ، إلاّ أنّ في موارد الشكّ في الشرط يشكّ في وجوب المشروط بعنوان أنه مشروط مع العلم بوجوب ذات المشروط في الجملة ، مع قطع النظر عن كونه « لا بشرط » أو « بشرط شيء » ، فمعلوم الوجوب هو « اللاّبشرط » المنقسم إليهما وإن لم ينفكّ في الواقع عن أحدهما ، إلاّ أنه يعرضه الوجوب لا محالة على كلّ تقدير ؛ لأن مطلق الوجود أمر معقول في نفسه مع قطع النظر عن الوجود المطلق وإن كان تحققه بأحد الأمرين.

فالفعل الذي يؤخذ « بشرط شيء » ويعرضه الطلب الوجوبي مثلا بهذا

١٧٩

العنوان يكون واجبا نفسيّا ، ونفس الفعل وذاته الغير الملحوظة بالملاحظة المذكورة يعرضها الطلب التّبعي الغيري من حيث توقّف وجود العنوان على وجوده وحقيقته فتأمّل.

فإذا كان هناك معلوم ومشكوك من جهة الشكّ في الشرط نحكم ـ من جهة دليل البراءة عقلا ونقلا ـ بعدم وجوب المشكوك ، فلا يعارض : بأن وجوب الفعل لا بعنوان شيء بشرط غير معلوم أيضا : فإنه إن أريد من هذه القضيّة كون وجوب الفعل بعنوان « اللاّبشرط » غير معلوم فهو مسلّم ؛ فإن العلم به موجب للعلم بعدم الشرطيّة. وإن أريد منه كون وجوب ذات الفعل مع قطع النظر عن عنوان « اللاّبشرط » و « بشرط شيء » غير معلوم فهو ممنوع.

وهذا المعنى كما ترى ، لا فرق فيه بين ما يتوقّف وجوده على تحصيل فعل في الخارج يؤثّر في وجوده كالطّهارة وما لا يكون كذلك.

نعم ، لو كان المعتبر في دليل البراءة تعلّق الشكّ بوجوب فعل في الخارج منفكّ عن وجود معلوم الوجوب ، أمكن الفرق بينهما بدعوى : أنّ اعتبار الشرط في القسم الأول لمّا كان راجعا إلى إيجاب سببه في الخارج فيشمله دليل البراءة ، بخلافه في القسم الثاني ؛ فإنه ليس فيه فعلان في الخارج ، أحدهما : معلوم الوجوب ، والآخر : مشكوك الوجوب ؛ لفرض اتّحاد القيد والمقيّد في الخارج ، وإليه ينظر من ذهب إلى الفرق بينهما.

١٨٠