بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

معظم الأجزاء. وبعبارة أخرى : موضوعة لماهيّة لا بشرط اشتمالها على غير معظم الأجزاء وإن وضع لها في حال اشتمالها عليه لكنه لم يلاحظ في الوضع.

وهذا ما يقال : إن المسمّى شرعي والتسمية عرفيّة ، فيكون حالها على هذا القول حال الألفاظ الموضوعة في العرف للمركّبات كالسّرير والبيت ونحوهما من المركّبات ، وإن كان المراد دائما المركّب التام لا محالة ؛ لعدم إمكان التعميم بالنسبة إلى الإرادة ؛ ضرورة منافاته لفرض الاعتبار والجزئيّة كما هو ظاهر.

فإذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به ولم يكن ممّا يتوقف عليه صدق وقوام الماهيّة فيرجع الشكّ لا محالة إلى الشكّ في التقييد ؛ لفرض صدق الموضوع له وتحقّقه بدونه ، وعدم شكّ بالنظر إلى الوضع أصلا ، فيكون اللفظ مبيّنا بالنظر إلى ذاته كالمطلقات العرفيّة.

وإن شكّ في إرادة خلاف الظاهر والمقيّد منه من جهة الشكّ في الجزئيّة فالشك إنّما هو في الإرادة لا الوضع والصدق ، غاية ما هناك : عدم جواز الأخذ بإطلاقها فيما فرض عدم وجود ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق فيرجع إلى الأصول العمليّة ، وأين هذا من إجمال اللفظ المراد به عدم وضوح دلالته بحسب الوضع؟ فإن الأمر في جميع المطلقات والألفاظ المبنيّة كذلك ؛ فإنه إذا لم يكن لها إطلاق معتبر من حيث انتفاء شرائط التمسّك به يرجع إلى الأصل في المسألة الفقهيّة.

فإن قلت : على ما ذكرت : من كون الموضوع له مفهوما مبيّنا لا إجمال ولا

١٤١

تردّد فيه أصلا ، على القول بالوضع للأعمّ يلزمك القول بتعيّن الرجوع إلى أصالة الاشتغال في ماهيّة العبادات بناء عليه لما مرّ ويأتي : من أن المأمور به إذا كان مبيّنا من حيث المفهوم وشك في مصداقه يجب تحصيل القطع بإحرازه ولا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة فيه ، مع أن النزاع في البراءة والاشتغال يأتي على كلّ من القولين والمختار البراءة على كل حال على ما سيأتي تفصيل القول فيه.

قلت : ما ذكرنا ونذكره مبنيّ على تبيّن المراد من اللفظ لا مجرّد تبيّن مفهومه كما لا يخفى ، ومجرّد تبيّن الوضع لا يوجب تبيّن المراد كما هو واضح بل مفروض ، وكيف كان : لا إشكال في عدم توجّه الكلام المذكور على ما أفاده.

نعم ، حال ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ بالنسبة إلى معظم الأجزاء حال القول بالوضع للصحيح بالنسبة إلى مطلق الأجزاء كما هو الشأن بالنسبة إلى الألفاظ الموضوعة للمركّبات في العرف ، ولكن لا يتوجّه على ما أفاده إشكال من هذه الجهة ؛ فإن غرضه مما أفاده لزوم الإجمال بناء على القول بالوضع للصحيح لا عدم تصوّره على القول بالوضع للأعمّ.

بل يمكن التفصّي بملاحظة ما ذكرنا عن الإشكال بوجه آخر بناء على تعميم الإجمال لما يشمل مطلق اللفظ الذي لا يكون ظاهرا في المراد ولو لعارض ، مع تبيّنه بحسب الوضع حتى يشمل المطلق الذي لا يجوز التمسّك بإطلاقه ؛ نظرا إلى فقد شرطه فيعمّ ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ في الجملة ؛ فإن الإجمال كما عرفت لازم القول بالوضع للصحيح بخلافه على القول

١٤٢

بالوضع للأعمّ ؛ فإن الإجمال بالمعنى المذكور لا يلزمه وإن أمكن وجوده في الجملة فتأمّل.

(٣٣) قوله قدس‌سره : ( والحاصل : أن مناط وجوب الاحتياط ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٤٠ )

أقول : ما أفاده : من عدم الفرق في حكم الشكّ في المقام بين وجود اللّفظ المجمل المتعلّق بالماهيّة المردّدة وعدمه ؛ لعدم الفرق في جريان دليل البراءة عقلا ونقلا بالنسبة إليهما فيكون المسألتان متّحدتين حكما أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، كما هو الشأن في جميع ما يرجع فيه إلى البراءة أو الاحتياط من مسائل الباب ؛ فإن مجرّد وجود اللفظ مع عدم تبيّن المراد منه لا يؤثر في شيء قطعا غاية الأمر : كونه كالدليل العلمي المقتضي لوجوب أحدهما مع فقد الدليل على التعيين الذي يعبّر عنه بعدم النصّ ، وتوهّم الفرق سار في القسم الأول من الشكّ أيضا وهو الشك في التكليف وقد عرفت وضوح فساده هناك.

نعم قد يستظهر مما أفاده ـ في بيان مناط وجوب الاحتياط في موارد العلم

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« ظاهره أن المناط فيه تعارض أصالة البراءة في طرفي العلم الإجمالي وتساقطهما لذلك ولكن مختار المصنّف رحمه‌الله كما صرّح به في المتباينين وغيره : ان المناط فيه عدم جريان أصالة البراءة في موارد العلم الإجمالي من رأس وأن مقتضى أخبار البراءة فيها إمّا جواز المخالفة القطعيّة وهو مناف للعلم الإجمالي أو وجوب الموافقة القطعيّة وهو المطلوب ».

أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٩.

١٤٣

الإجمالي ـ كون الوجه في وجوب الاحتياط عنده فيها جريان الأصل في كلا المشتبهين أو المشتبهات وتعارض الأصل الجاري في كل شبهة مع الأصل الجاري في الأخرى وتساقطهما والرجوع إلى أصالة الاحتياط بعد الجريان والتساقط كما هو أحد المسلكين على ما عرفت تفصيل القول فيه.

مع أن الذي يقتضيه التحقيق ـ عنده وعندنا بل عند جمع من المحققين ـ : كون المناط عدم شمول دليل الأصل لشيء من المشتبهين بالبيان الذي عرفته غير مرّة ، ويمكن أن يقال : إن الوجه عنده وإن كان عدم جريان الأصل في شيء من المشتبهين بعد العلم الإجمالي بتنجّز الخطاب التوجّه إلى أحدهما ، إلاّ أن المناط المذكور لمّا لم ينفكّ عن الوجه المذكور موردا فجعله مناطا لوجوب الاحتياط في موارده من غير أن يكون استناده إليه في وجوب الاحتياط لا ضير فيه فتدبّر.

(٣٤) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : إذا كان متعلّق الخطاب مجملا ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٤١ )

أقول : هذا السؤال مبنيّ على ما يبتني الأمر عليه في المسألة الرابعة من نفي الإشكال في وجوب الاحتياط فيما إذا كان ثمّة خطاب متعلّق بما هو مبيّن مفهوما دار الأمر في مصداقه وما يحصّل به في الخارج بين الأقلّ والأكثر.

بيان ذلك : أن الخطاب وإن كان مجملا بحسب متعلّقه ؛ نظرا إلى تردّده بين

__________________

(١) أقول : ولاحظ تعليقة الشيخ موسى التبريزي في أوثق الوسائل : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

١٤٤

الأقل والأكثر ، إلاّ أنا نقطع بأن الحكم تعلّق بما هو المراد من اللفظ والمقصود منه ، فالتكليف قد تعلّق وتنجّز بما هو مبين مفهوما ، أي : المراد أو ما يؤول إليه من المفاهيم المبيّنة من المقصود والمفهوم والمدلول والموضوع له والمعنى ونحوها ؛ ضرورة كون هذه العنوانات مبيّنة من حيث المفهوم قد شكّ في صدقها على الأقلّ أو الأكثر ، فيجب الإتيان بالثاني تحصيلا للبراءة اليقينيّة عمّا اشتغلت الذمّة به قطعا ، فقد حصل الفرق بين المسألتين ، أي : عدم النصّ وما أجمل فيه وعدم وجود الخطاب التفصيلي في المسألة ووجوده فيها ، وبطل القول بعدم الفرق بينهما هذا.

ولكنك خبير بأنه توهّم فاسد وتمحّل بارد كما صرّح به شيخنا قدس‌سره أيضا ؛ لأن التكليف لم يتعلّق بمفاهيم الألفاظ المذكورة حتى يقال : إن متعلّق التكليف مبيّن مفهوما دار الأمر في مصداقه بين الأقل والأكثر ، كيف! ولو كان كذلك خرج الفرض عن إجمال النصّ ، بل إنّما تعلّق بمصاديقها المردّدة ؛ حيث إن اللفظ وضع لها لا لتلك المفاهيم المنتزعة عنها بالاعتبارات المختلفة ، بل التحقيق : عدم إمكان وضع اللفظ لها لتأخّرها عن الوضع بمرتبة أو بمرتبتين أو بمراتب ، فكيف يمكن مع ذلك وضع اللفظ لها ؛ فإن اتصاف المعنى الذي وضع له اللفظ بالموضوع له بعد الوضع ، وبالمستعمل فيه بعد الوضع والاستعمال ، وبالمراد والمقصود بعد الوضع والاستعمال والإرادة وهكذا.

فإذن يستحيل تعلّق التكليف المستفاد من اللفظ بتلك المفاهيم المتأخرة عن الوضع ، كما أنه يمتنع وضع اللفظ لها ، فالموضوع له الذي تعلّق به التكليف

١٤٥

هو معروض تلك المفاهيم المنتزعة بالاعتبارات المختلفة ومصداقها المردّد بين الأقل والأكثر ، فالاشتباه من المتوهم في المقام من اشتباه العارض بالمعروض نفس متعلّق التكليف مردّد بين الأمرين لا مصداقه ، فإذن بطل توهّم الفرق بين المسألتين.

وقد وقع هذا الخلط والاشتباه في مواضع.

منها : ما وقع في مسألة الصحيح والأعمّ على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح أو استعماله فيه مجازا. فتوهّم : أنّ الموضوع له الذي تعلّق به التكليف أمر مبيّن مفهوما ؛ حيث إن اللفظ وضع للصحيح وهو المركّب التامّ الجامع لجميع الأجزاء والشرائط فهو مبيّن مفهوما وإن تردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح تعيّن الرجوع إلى أصالة الاشتغال في ماهيّات العبادات المردّدة وعدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة ، بل جعلوه ثمرة للمسألة.

وفساد هذا التوهّم يظهر بأدنى التفات ؛ لأن لفظ العبادة لم يوضع لمفهوم الصحيح بل لمصداقه ، كيف؟ ولو كان كذلك كان لفظ الصلاة والصحيح مترادفين ، بل كان لجميع العبادات حقيقة واحدة وهو مفهوم الصحيح ، وهو كما ترى ، فنفس متعلّق التكليف على هذا القول مردّد بين الأقلّ والأكثر لا مصداقه.

وأما الثمرة الّتي فرّعوها على القول بوضع الألفاظ للصحيح من وجوب الاحتياط في ماهيّات العبادات ، فإن أراد المتوهّم المستشهد بتفريع تلك المسألة

١٤٦

تفريعها من الكلّ حتى من القائلين بالبراءة عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في ماهيّات العبادات فهو في محلّ المنع كما لا يخفى على المتتبّع ، وإن أراد التفريع من القائلين بالاشتغال في تلك المسألة فهو لا يدلّ على كون الموضوع له مفهوما مبيّنا دار الأمر في مصداقه بين الأقل والأكثر كما هو ظاهر.

والحاصل : أنا لم نجد في كلام الكلّ بل ولا الأكثرين تفريع الثمرة المذكورة ، وإنّما ذكره غير واحد ممّن تأخّر تبعا لما أفاده الفريد البهبهاني قدس‌سره في « فوائده » (١) وردّه جماعة من المتأخرين حتى بعض تلامذته مثل المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » ومنعوا من لزوم الاحتياط على القول بالوضع للصحيح (٢).

وقد وجّه شيخنا الأستاذ العلاّمة ما أفاده الفريد البهبهاني قدس‌سره في المقام : بأن غرضه ليس بيان الثمرة للمسألة وأنّ كلّ من قال بالوضع للصحيح يقول بالاشتغال أو يلزمه القول به ، بل بيان الثمرة على ما اختاره من الرجوع إلى الاحتياط في ماهيّات العبادات المردّدة ، بل ربّما يتطرّق هذا التوجيه في كلام من تبعه (٣) في ذكر الثمرة المذكورة للمسألة ، كيف؟ والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيح قد ملؤوا طواميرهم من إجراء أصالة البراءة عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة ، ولا

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : الفائدة ١٩ ص ٤٤١.

(٢) قوانين الأصول : ج ١ / ٥٥.

(٣) كصاحب هداية المسترشدين في هدايته : ج ١ / ٤٨٤.

١٤٧

يظن اشتباه مثل هذا الأمر الواضح المبيّن على مثل هؤلاء الأعلام ، فغرضه : أن القول بالصحيح ينفع الاشتغاليين لا أن كل من قال بالصحيح يلزمه القول بالاشتغال فضلا عن أن يقول به هذا (١).

ولكنك خبير بأن هذا التوجيه وإن كان حسنا ينبغي إرادته إلاّ أن كلامهم يأبى عن إرادته سيّما بملاحظة ما ذكروه من أن لازم القول بالأعمّ عدم وجوب الاحتياط ، بل في كلام بعضهم : أن لازمه الرجوع إلى البراءة فراجع إلى كلماتهم.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( والتحقيق : أن ما ذكروه ثمرة للقولين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٤٢ )

في فساد ما ذكروه من ترتب الثمرة على القولين

أقول : لا خفاء فيما أفاده : من عدم ترتب الثمرة المذكورة على القولين وفساده ، أمّا عدم تعيّن الرجوع إلى أصالة الاشتغال في ماهيّات العبادات المردّدة بين الأقلّ والأكثر على القول بالوضع للصحيح فقد اتضح أمره مما فصّلنا لك القول فيه : من أن ما يلزم هذا القول الراجع إلى مدخليّة كل ما يعتبر في مهيّة المأمور به في أصل الوضع والصدق إجمال اللفظ عند الشكّ في مدخليّة شيء للمأمور به ليس إلاّ.

وأمّا حكمه فهو مبنيّ على حكم المجمل في المقام على الوجه الكلّي من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.

١٤٨

الرجوع إلى البراءة كما عرفت : أنه المختار الذي عليه الأكثرون ، أو الاشتغال على ما عليه جماعة.

وأمّا عدم لزوم الاحتياط على القول بالأعمّ (١) :

سواء قيل : بأن لازمه الرجوع إلى البراءة وكونها الأصل في المسألة كما زعمه غير واحد في بيان الثمرة على ما في « الفصول » وغيره.

__________________

(١) قال العلاّمة السيد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« وحاصله ـ على طوله ـ : أن الصحّة المعتبرة في الصلاة ـ على الصحيحي ـ صحّة حكميّة مستفادة من حكم الشارع بالصحة الظاهريّة المستفادة من الأدلّة الظاهريّة والأصول العمليّة ـ ولهذا تجري فيها البراءة لا الإحتياط على المختار ـ لا صحة اسميّة داخلة في إسم الصلاة ومستفادة من وضعها له شرعا حتى يتعيّن فيها الإحتياط.

ومن المعلوم أنّ الصحّة الحكميّة المنتزعة عن الإمتثال بألفاظ العبادات لا يعقل أخذها قيدا للموضوع له اللفظ منها وإلاّ لزم الدّور.

وحينئذ فلا يكون الشك في حصول تلك الصحّة شكّا في حصول المصداق المأمور به حتى يوجب الإحتياط.

وكذلك الفاسد في طرف القول بالأعم من الصحيح والفاسد ليس الفاسد بحسب اسم الصلاة ووضعها له حتى يكون خروجه موجبا للعود إلى القول بالصحيح في الثمرة ، بل الفاسد بحسب الواقع ، الصحيح بحسب ظاهر الإسم والوضع للأعم منه في الظاهر ، ولهذا يجري فيه أصالة الإطلاق وعدم التقييد بالصحّة » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٣.

١٤٩

قال في الأوّل : « ذكر جماعة : أن فائدة النزاع تظهر في إجراء أصل البراءة عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للعبادة ، والشكّ في المانعيّة راجع إلى الشكّ في الشرطيّة ؛ من حيث أن عدم المانع شرط بالمعنى الأعمّ ؛ فإنه على القول بأنّها موضوعة للمعنى الأعمّ يمكن إجراء الأصل المذكور في نفيها بعد تحصيل ما يصدق عليه الاسم ؛ لأن الأمر حينئذ إنما تعلّق بالمفهوم العام ، وقضيّة الأصل إجزاء كلّ ما يصدق عليه ذلك المفهوم ما لم يثبت اعتبار أمر زائد عليه شطرا أو شرطا ، وأمّا على القول بأنّها موضوعة بإزاء الصحيحة فلا يمكن نفي ما شكّ فيه بالأصل المذكور ... إلى آخر » ما ذكره في المقام (١) ».

أو قيل : بأن لازمه الرجوع إلى أصالة الإطلاق عند الشكّ كما عن آخرين وهو المستفاد مما أفاده شيخنا في المقام في بيان ما زعموه.

فلأن غاية ما يلزم على هذا القول تحقّق الصّدق بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء وما به قوام الماهيّة ، ومجرّد تحقّق الاسم والصّدق لا يلزم شيئا من الأمرين ؛ لأنه ـ مع القطع بالصّدق ـ إذا شكّ في جزئيّة شيء ودخله في المراد والمطلوب ـ لعدم التنافي بين الصدق وتقييد المراد ـ ولم يتحقّق هناك ما يعتبر في التمسك بالإطلاق لا يلزم الرجوع إلى البراءة ، كما أنه لا معنى للتمسّك بالإطلاق بل يلزم الرجوع إلى أصالة الاشتغال على القول بها في دوران الأمر في ماهيّات

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٩.

١٥٠

العبادة بين الأقلّ والأكثر.

توضيح ما ذكرنا : أنّا قد أسمعناك سابقا : أن ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ كالألفاظ العرفيّة الموضوعة عند العرف للمركّبات ، ومن هنا قالوا :

إن الوضع عرفي وإن كان المسمّى شرعيّا ، ومن البيّن أنه لا يمكن اعتبار الإطلاق في الألفاظ الموضوعة للمركّبات الاعتباريّة والخارجيّة بالنسبة إلى جميع الأجزاء والشرائط بحيث يكون صدق الماهيّة المركّبة على وجه اللابشرط بالنسبة إلى كل جزء من الأجزاء على وجه لا يكون شيء منها مقوّما للصّدق وداخلا في تحقّق الحقيقة والمعنى الموضوع له.

وإن كان كلام بعضهم في بيان الثمرة وتحرير القول والدليل موهما لذلك في باديء النظر ، بل لا بدّ من أخذ بعض الأجزاء في تحقّق الحقيقة وإن كانت على وجه اللابشرطيّة بالنسبة إلى بعض آخر ، فلا بد أن يكون اعتباره على وجه التقييد ولو كان المعتبر جزءا ؛ لفرض تحقق الصّدق بدونه فهو جزء للفرد ومقوّم للمطلوب ، وتقييده أعتبر في تعلّق الأمر به ، إلاّ أنه لا يتوقّف الصّدق عليه فاعتباره كاعتبار التقييد في تمام المطلقات ؛ فإنه على هذا الوجه مع صدق الحقيقة المطلقة على فاقد القيد والشرط حقيقة ، وإلاّ لم يعقل التقييد كما هو واضح.

فحال ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ بالنسبة إلى ما يكون مقوّما للصّدق والحقيقة حالها على القول بالوضع للصحيح بالنسبة إلى جميع ما فرض اعتباره في الماهيّة ، كما أن حالها بالنسبة إلى ما لا يتوقّف الصّدق عليه حال تمام

١٥١

المطلقات بالنسبة إلى القيود المقسّمة لها ؛ فإن فرض كون مشكوك الاعتبار مقوّما للصّدق والحقيقة في نظر الشارع على تقدير اعتباره أو احتمل ذلك على تقدير الاعتبار وإن لم يقطع بذلك ، بل ولم يظنّ به لم يكن معنى للتمسّك بالإطلاق لرجوع الشك على ما هو المفروض إلى الشكّ في صدق أصل الحقيقة.

كما أنه لا معنى للرجوع إلى البراءة على القول بالاشتغال في دوران الأمر في ماهيّة العبادة بين الأقلّ والأكثر ، وإن فرض كونه على تقدير الاعتبار بأحد الوجهين مما لا يتوقّف الصّدق عليه ، بل مأخوذ في المطلوب وقيد له وإن كان من الأجزاء الخارجيّة المعتبرة تقييده في المطلوب.

فإن وجد هناك تمام ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق وظهور الألفاظ المطلقة وكشفها عن إرادة الطبيعة المطلقة تعيّن الرجوع إليه والحكم لأجله بعدم اعتبار المشكوك في المطلوب أصلا ، من غير فرق بين كون المذهب وجوب الاحتياط عند دوران الأمر في المكلّف به بين الأقلّ والأكثر أو البراءة ؛ لأن الرجوع إلى الأصل العملي إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك دليل ولو على طبق الأصل والإطلاق المعتبر من الظواهر والأدلّة الاجتهاديّة ، خلافا لبعض أفاضل مقاربي عصرنا ؛ حيث لم ير الدليل الموافق للأصل مانعا من الرجوع إليه في ظاهر كلامه بل صريحه في طيّ كلماته.

وإن لم يوجد هناك ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق من الشرائط تعيّن الرجوع إلى الأصل العملي كل على مذهبه من البراءة ، أو الاحتياط عند الشكّ في المكلّف

١٥٢

به ؛ إذ مجرّد الصّدق وتحقق الحقيقة لا يجدي في المنع عن الرجوع إلى الأصل ؛ إذ المانع الدليل وهو اللفظ الكاشف عن إرادة المتكلم لا مجرّد صدق المعنى الموضوع له اللفظ ولو لم يكشف عن المراد أصلا ، وإلاّ لزم أن يكون الفاسد مرادا وهو خلف محال.

فإن شئت قلت : الدليل المانع عن الرجوع إلى الأصل في أمثال المقام إطلاق اللفظ الظاهر في إرادة المعنى المطلق عنه فإذا لم يكن ظاهرا لم يكن دليلا كما هو ظاهر.

شرائط التمسّك بالإطلاق

ومن المعلوم أن للتمسّك بالإطلاق شروطا مذكورة في مسألة المطلق والمقيّد كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا.

منها : أن يكون في مقام بيان تمام المراد ولا يكون في مقام الإهمال والإعلام في الجملة ، ككثير من مطلقات الكتاب والسّنة.

ومنها : أن لا يكون مسوقا لبيان الحكم من جهة خاصّة ، وبعبارة أخرى : واردة لمورد حكم آخر ، ويمكن إرجاعه إلى الوجه الأوّل في وجه.

ومنها : عدم تطرّق التقيّد بما يوجب الوهن في إطلاقه.

١٥٣

ومنها : عدم تقييده بقيد مجمل متصل أو مطلقا على الخلاف.

ومنها : عدم اقترانه بما يصلح للتقييد.

ومنها : عدم انصرافه إلى بعض الأفراد ؛ لكثرة الاستعمال الغير البالغ حدّ الوضع ، أو شيوع الفرد على الخلاف.

ومنها : عدم ذهاب المشهور إلى خلافه على ما ذكره بعض الأفاضل ، وإن كان ممنوعا عندنا ، إلى غير ذلك مما ذكر في محلّه من الشرائط أو الموانع الغير المطّردة جميعها.

فإذا فرض هناك مطلق اقترن ببعض ما يكون مانعا عن ظهوره في إرادة الإطلاق فلا معنى للتمسّك به في نفي ما شك في اعتباره في ماهيّات العبادات وإن كان الصدق متحققا بالنسبة إلى فاقده ، فإذا كان المذهب وجوب الاحتياط في المسألة فلا ينفع صدق الماهيّة والحقيقة على الفاقد لما شكّ في اعتباره في المنع عنه ، كما أنه لم يمنع عدم صدقها من الرجوع إلى أصالة البراءة على القول بالوضع للصحيح عند القائل بكونها الأصل في المسألة هذا.

وفي هامش « الفصول » كلام منسوب إلى المصنّف في المقام لا محصّل له قال فيه ـ ناظرا إلى كلام في المتن في بيان الثمرة المذكورة ومنعها ـ ما هذا لفظه :

وفيه : أن تحصيل المسمّى بصدق الاسم عرفا الموجب لشمول الإطلاق مع

١٥٤

فرض عدم المعارض كاف على القولين ؛ لأنّ المكلّف به المسمّى عند الشارع الذي يكشف عنه الصّدق عند المتشرّعة وقد حصل ، ولازمه حصول الامتثال إذا أتى به ؛ نظرا إلى الإطلاق وأصالة عدم اعتبار أمر آخر ـ سواء قلنا إنّ المسمّى هو الصحيح أو الأعمّ ـ ضرورة أن الصّدق العرفي الذي هو المناط في المقام لا يدور مدار اختيارنا القول بالأعم أو الصحيح ، بل هو شيء منضبط في نفسه.

ودعوى : صدق الاسم عرفا على القول بالأعمّ على خصوصيّات موارده دون القول بالصحيح ، مجازفة (١) ». إنتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى غير محصّل المراد ؛ إذ لا يظن بمن دونه بمراتب في العلم الاعتقاد بظاهر هذه المقالة.

فتبين ممّا ذكرنا كله : أنّ ما فرّعوه على القول بالأعمّ وجعلوا من لوازمه من الرجوع إلى أصالة البراءة مطلقا حتى على القول بأن الأصل وجوب الاحتياط في ماهيّات العبادات ـ سواء كان هناك إطلاق معتبر أم لا ؛ إذ الرجوع إلى إطلاق ألفاظ العبادات مطلقا حتى بالنسبة إلى معظم الأجزاء سواء كان شرط التمسك بالإطلاق متحققا أم لا ـ فاسد جدّا ، كتفريع الرجوع إلى أصالة الاشتغال على القول بالصحيح ، بل الذي يلزم القول بالصحيح ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ الإجمال

__________________

(١) الفصول الغروية : ٤٩.

١٥٥

الذاتي ، والقول بالأعمّ صلاحيّة اللفظ وقابليته للتمسّك به في نفي الشكّ في اعتباره بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء ، وبعد تحقّق ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق نحكم بمقتضاه من غير التفات إلى الأصل العملي في المسألة.

وقد يعبّر عنه بالبيان الذاتي بالنسبة بناء على كون الأصل عند الشكّ في طروّ المانع من التمسّك بالإطلاق ، أو كون المتكلم بالمطلق في مقام بيان تمام المراد البناء على عدمه والحكم بكونه في مقام بيان تمام المراد ويعبّر عنه بأصالة البيان.

١٥٦

« توهّمان »

نعم ، هنا توهّمان :

أحدهما : يقتضي وجوب الاحتياط على القول بالأعم مطلقا انبعث من التوهّم المقتضي له على القول بالصحيح على ما عرفت الكلام فيه قد تعرّض له شيخنا في « الكتاب » كالتوهم المذكور.

وتوضيحه : أنه لا إشكال في اتفاق الفريقين على أن المطلوب ومراد الشارع من ألفاظ العبادات : الماهيّة الصحيحة التامة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، فقد قيّدت بتمامها دفعة واحدة بقيد مبيّن مفهوما شكّ في مصداقه ومحصّله في الخارج ، فيجب الاحتياط في تحصيله على ما قضت به كلمتهم في المسألة الرابعة ؛ لعدم الفرق في المسألة بين تعلّق الحكم بعنوان مطلق مبيّن مفهوما وبين تعلّقه بعنوان مقيّد بقيد مبيّن كذلك ؛ إذ كما يجب في حكم العقل تحصيل ما يقطع بحصول المطلوب معه في الأقلّ ، كذلك يجب تحصيل ما يقطع معه بحصول العنوان المقيّد في الثاني ، ولا يجوز الاقتصار بما يحتمل معه الحصول في المقامين كما هو ظاهر.

وليس هذا الدوران والترديد في نفس المقيّد حتى يرجع معه إلى أصالة الإطلاق بناء على القول بالرجوع إليها عند إجمال المقيّد ودورانه بين ما يوجب

١٥٧

قلّة التقييد وكثرته ، أو إلى أصالة البراءة بناء على القول بعدم الرجوع إليها مطلقا كما قيل ، أو إذا كان المقيّد متّصلا لبيّا كالإجماع ونحوه كما هو المختار لحصول الإجماع المانع من التمسّك بالإطلاق ، فيرجع إلى أصالة البراءة لكونها الأصل في المسألة بل في مصداقه ومحصّله الخارجي بعد تبيّن مفهومه هذا.

ويظهر فساده مما ذكرنا سابقا : من أنّ لفظ الصحيح وإن كان مبيّنا لا إجمال فيه أصلا ، إلاّ أن لفظ العبادة كالصّلاة مثلا لم يوضع على القول بوضعه للصحيح لمفهوم هذا اللفظ بل لمصداقه المردّد ، وكذلك نقول : في المقام : إن الصّلاة على القول بوضعها للأعمّ بعد العلم بإرادة الصحيحة منها بالنظر إلى الاتفاق بل الضرورة لم يقيّد بمفهوم لفظ الصحيح بل مقيّد على فرض تسليم التقييد والإغماض عمّا سيجيء من منعه بما يكون المفهوم المذكور صادقا عليه.

ثانيهما : يقتضي المنع عن التمسّك بالإطلاق مطلقا فيرجع إلى أصالة الاشتغال على ما هو لازم القول بالوضع للصحيح على ما زعموا فيتجّه القولان من حيث اللازم والثمرة ، ومبناه ـ على ما عرفت في التوهّم الأول : من قيام الإجماع بل الضرورة على كون المراد من ألفاظ العبادات ـ هي الماهيّة التامّة الجامعة ، فيقال في بيان التوهّم : إن لازم تقييدها بما ذكر مع إجماله وتردّده بين الأقل والأكثر ؛ نظرا إلى تقييدها بالمصداق إلاّ بالمفهوم صيرورة المطلقات بأسرها مجملة فيكون حالها حال القول بالصّحيح من عدم الإطلاق لها أصلا.

وأنت خبير بضعف هذا التوهّم أيضا ؛ لأن الصلاة كما لم يقيّد بمفهوم

١٥٨

الصحيحة ، كذلك لم يقيّد بمصداقها بمعنى استعمال اللفظ فيه حتى يلزم الإجمال كما عرفت على القول بالوضع للصحيح ، بل القدر المسلّم هو تقييد إطلاقها بما ثبت من الدليل اعتباره فيها شطرا أو شرطا فيما لو فرض وجود الإطلاق لها ، فيلزم رفع اليد من الإطلاق بالنسبة إليه خاصّة.

وكون المراد والمطلوب هو الصحيح في الواقع ونفس الأمر لا يستلزم تقييد الإطلاق به بحيث يعتبر عنوانا ضرورة أن الإرادة لا يقيّد اللفظ بحيث يصير المراد عنوانا ؛ كما أنه لا يوجب استعمال اللفظ فيه ، كيف! وقد تقرّر في محلّه ـ حسبما مرّت الإشارة إليه أيضا ـ أن النزاع في مسألة الصحيح والأعمّ ليس مبنيّا على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه ولا محرّرة على القولين في تلك المسألة ، بل النّزاع إنّما هو فيما استعمل فيه اللفظ وإن كان الاستعمال بطريق المجاز ، وإن بلغ حدّ الحقيقة في عرف المتشرّعة من باب الاتفاق من غير أن يكون النزاع مبنيّا عليه.

فكيف يمكن أن يقال ـ مع ذلك ـ : إن المستعمل فيه على القول بالأعمّ هو خصوص الصحيح الجامع لتمام ما يعتبر في العبادة؟ بل اللازم بعد قضاء الأدلّة القطعيّة على ثبوت الملازمة بين إرادة الشارع والصحّة وعدم تعلّق إرادته بالفاسد ـ كما يقتضيه فرض فساده ـ هو الحكم بعدم انفكاك ما أراده الشارع بظاهر اللفظ عن الصّحة في الواقع لا بطريق الاستعمال بل على وجه التصادق والتقارن. ومن الواضح البيّن أن هذا المعنى لا يوجب الإجمال في اللفظ أصلا ، فلا يوجب منع الرجوع إلى إطلاق اللفظ فيما فرض له إطلاق معتبر.

١٥٩

وقد وقع نظير التوهّم المذكور لبعض المتأخرين في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) في قبال المتمسّكين بالآية الشريفة على اللزوم والصحّة ؛ حيث زعم : أنه لا يجوز التمسّك بالآية الشريفة على اللزوم إلاّ بعد إحراز صحة العقد من الخارج ومن دليل آخر ؛ نظرا إلى أن المراد من العقد الذي تعلّق الأمر بوفائه هو الصحيح فلا يمكن إحرازه من نفس الأمر.

ويظهر فساده أيضا مما ذكرنا : من عدم إرادة الصحّة من اللفظ بأحد الوجهين المتقدّمين فيستكشف من لزوم العقد صحّته بالدلالة الالتزاميّة التبعيّة بعد ثبوت الملازمة المسلّمة.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في فساد التوهم المذكور في المقام ؛ لما عرفت ، مضافا إلى استلزامه لعدم جواز التمسّك بشيء من الإطلاقات بل العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في أبواب الفقه من أوّله إلى آخره حتى المعاملات بالمعنى الأعمّ ، وظهور الملازمة كفساد التالي مما لا يحتاج إلى البيان أصلا.

وقد أشرنا إلى سريان التوهّم المذكور إلى الآية الشريفة ؛ فإنه بناء على التوهّم المذكور إذا أريد التمسّك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) أو

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

١٦٠