بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

١
٢

٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين

وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين

حجج الله على الخلق أجمعين

ولعنة الله على اعدائهم ابد الآبدين.

٤

المطلب الثاني : إشتباه الواجب بغير الحرام

دوران الأمر بين المتباينين (١)

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر وهو قسمان :

القسم الأوّل : الشك في الجزء الخارجي

١ ـ الشك في الجزئيّة لفقدان النص

٢ ـ الشك فيها لإجمال النص

٣ ـ الشك فيها لتعارض النصّين

٤ ـ الشك فيها لإشتباه الموضوع

القسم الثاني : الشك في الجزء الذهني ( القيد )

ـ دوران الأمر بين التعيين والتخيير

ـ الشك في المانعيّة

ـ الشك في القاطعيّة

تنبيهات الأقلّ والأكثر

التنبيه الأوّل : الشك في الرّكنيّة

__________________

(١) وقد مرّ البحث فيه بطوله وتفصيله في المجلد الرابع.

٥

التنبيه الثاني : سقوط التكليف بالكل أو المشروط عند تعذّر الجزء أو الشرط

التنبيه الثالث : دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة

التنبيه الرابع : دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة أو بين الجزئية والزيادة المبطلة

المطلب الثالث : اشتباه الواجب بالحرام

ـ خاتمة فيها مقامان :

المقام الأوّل : ما يعتبر في العمل بالاحتياط

المقام الثاني : ما يعتبر في العمل بالبراءة ، وفيه مقامان :

الأوّل : في وجوب أصل الفحص

الثاني : في مقدار الفحص

ـ الفاضل التوني وشرطان آخران للبراءة

١ ـ ان لا يكون موجبا لثبوت حكم آخر

٢ ـ عدم تضرّر آخر

قاعدة لا ضرر

٦

القسم الثاني

من اشتباه الواجب بغير الحرام

الأقلّ والأكثر

٧
٨

(١) قوله قدس‌سره : ( الثاني : فيما دار الأمر في الواجب بين الأقل والأكثر ) (١). ( ج ٢ / ٣١٥ )

__________________

(١) قال العلاّمة الجليل السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« أقول : وجه رجوعه إلى الشك في جزئيّة شيء ـ والحال انّ الشك بين الأقلّ والأكثر على قسمين : ارتباطي يرجع إلى الشك في جزئيّة شيء ، واستقلالي لا يرجع إلى ما ذكر ـ : أن المسألة من أقسام الشك في المكلّف به والأقلّ والأكثر الإستقلالي راجع إلى الشك في التكليف وهو العلم التفصيلي بالأقلّ وكون الشك في الأكثر بدويا فلا يدخل في المسألة.

ومن هنا يحتاج إلى تقييد عنوان المسألة بالأقلّ والأكثر الإرتباطي ليخرج الإستقلالي منه صريحا ، بل وكذا يحتاج إلى تقييد الشك في الشرطيّة والجزئيّة فيما نحن فيه بما يكون في عرض المأمور به وماهيّته لا في طوله ومقوّماته الخارجة عن ماهيته ، فيخرج من الشرط والجزء المشكوك ما يرجع إلى الشك في طريق الإطاعة كالشك في شرطيّة العلم التفصيلي بتعيين المأمور به وعدم كفاية العلم الإجمالي بتعيينه ؛ فإنه يرجع إلى الشك في طريق الإطاعة.

وكذلك الشك في كون الأمر توصّليا أم تعبّديا يعتبر فيه القربة ؛ فإنّه أيضا راجع إلى طريق الإطاعة ، وكذلك الشك في إشتراط نيّة الوجه في العبادات ؛ فإنه وإن كان من الشك في الشرطيّة إلاّ انّه مع ذلك خارج عن هذا النزاع لخروجه عن ماهيّة المأمور به ، وإنّما هو من مقوّماته الخارجة عنه ـ على تقدير اعتباره ـ هذا في تحرير محلّ النزاع.

وأما تأسيس الأصل للعمل في المسألة ففي كونه الإحتياط ؛ نظرا إلى قاعدة لزوم دفع الضّرر المحتمل أو البراءة ؛ نظرا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وجهان : أوجههما الأخير ؛ نظرا إلى ورود قاعدة القبح على قاعدة لزوم دفع الضّرر لرفع قاعدة القبح موضوع لزوم الدفع وهو احتمال الضّرر ، فلم يبق بعدها شائبة المعارضة سواء فرضنا قاعدة القبح قاعدة عقليّة من مستقلاّت العقل كقبح الظلم ـ كما هو ظاهر الماتن ـ أم فرضناها قاعدة شرعيّة مأخوذة من

٩

في دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر

أقول : قد عرفت ممّا أسمعناك سابقا ـ في بيان دوران الأمر بين المتباينين موضوعا ـ : الفرق بينه وبين دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، وأن مرجع الدوران هناك ولو كان بين الأقل والأكثر إلى أقل بشرط لا ، والأكثر بشرط شيء كالقصر والتمام ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإن مرجع الدوران فيه إلى أقلّ لا بشرط والأكثر حتى فيما احتمل مانعيّة شيء للمأمور به ؛ فإن مرجعه إلى الشكّ في الشرطيّة بالنسبة إلى عدمه ، فلو كان الواجب هو الأمر الغير المربوط بعدمه كان لا بشرط بالنسبة إليه لا محالة ، ومن هنا أدرجه شيخنا قدس‌سره في أقسام المقام وتعرّض لحكم دوران الأمر بين الجزئيّة والمانعيّة فيما سيأتي من كلامه.

__________________

أخبار البراءة الثابتة بعد ثبوت الشريعة ـ كما هو المختار ـ غاية الفرق : انه على تقدير كونها عقليّة تتوسّع دائرتها لما قبل الشريعة فلم يبق لوجوب شكر المنعم ووجوب النّظر في المعجزة دليل ، وعلى تقدير كونها شرعيّة تتضيّق دائرتها بالإختصاص بما بعد ورود الشريعة وثبوتها هذا كلّه في تأسيس الأصل العملي في المسألة.

وأما الكلام في الدليل ، فالدليل على البراءة في المسألة بعد تأسيس الأصل وقاعدة القبح بأحد وجهيه وجوه :

منها : الشهرة المنقولة ، بل المحصّلة ، بل الإجماع المنقول ، بل المحصّل بين القدماء والمتأخرين ممن عدى السبزواري وتابعيه على ما حكاه أستاذنا العلاّمة [ الفاضل الإيرواني ] من تتبّع كلماتهم ولكنّه على تقدير تسليمه دليل إقناعي لا إلزامي » إنتهى.

التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٩.

١٠

ثمّ إنّ موضوع البحث ومحلّه هو الأقلّ الأكثر الارتباطيّين ؛ فإنه من صور الشكّ في المكلّف به ودورانه وإن كان القائل بالبراءة قائلا برجوع الشكّ بالنسبة إلى الزائد والأكثر إلى الشكّ في التكليف كما ستقف عليه.

وأما الأقلّ والأكثر الاستقلاليّان فهو خارج عن محل البحث وموضوعه ؛ فإن وجود الأكثر على تقدير وجوبه ليس معتبرا في صحة الأقل وسقوط الأمر به ؛ فإنّ الأمر المعلّق بالأقلّ فيه نفسيّ استقلاليّ على كل تقدير ، فهو خارج عن موضوع الشكّ في المكلّف به وداخل في الشكّ في التكليف حقيقة من غير فرق بين تعلّق العلم التفصيلي أوّلا بالأقلّ والشكّ بالزائد ، وبين انحلال المعلوم إجمالا إلى معلوم تفصيليّ ومشكوك على ما عرفت شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا عند التكلم في حكم الموضع الأوّل يعني الشك في التكليف.

فما في كلام بعض المتأخرين من إدراجه في المقام ليس ممّا ينبغي وإن كان المتراءى من الأكثر تبعا للشيخ قدس‌سره القول : بجريان قاعدة الاشتغال والتمسّك بها في بعض جزئيّاته وفروضه كدوران الفائتة بين الأقلّ والأكثر مع التزامهم به في سائر جزئيّاته وفروضه على ما عرفته من كلام شيخنا في الموضع الأوّل ؛ فإن مجرّد ذكر القاعدة اعتمادا أو تأييدا في بعض جزئيّات المسألة لا يوجب دخولها في الشكّ في المكلّف به كما هو واضح.

ثمّ إن الكثرة المحتمل اعتبارها قد تلاحظ بحسب الوجود الخارجي للمأمور به ، فيكون الأكثر المحتمل وجوبه زائدا بحسب الوجود الخارجي على الأقلّ فيكون الزائد من مقولة الكمّ ، ويعبّر عن هذا القسم بالشك في الجزئيّة.

١١

وقد تلاحظ بحسب الوجود الذهني للمأمور به ، فيكون التركّب ذهنيّا مع اتحاد وجود المحتمل اعتباره في المأمور به معه في الخارج ، فيكون الزائد من مقولة الكيف ، فالمعتبر حقيقة هو تقييده لا نفسه ، ويعبّر عنه بالشكّ في الشرطيّة ويدخل فيه الشكّ في المانعة أيضا ؛ من حيث إن تقييد المأمور به بعدم المانع كتقييده بوجود الشرط ، فالشرط دائما من الحيثيّة المعتبرة في المأمور به خصوصيّة متحدة معه في الوجود من غير فرق بين ما يحتاج إلى إيجاد فعل في الخارج لتحصيلها في الغالب كالطّهارة ونحوها مما يعتبر في الصلاة ـ وهو المراد من الانتزاع في كلامه قدس‌سره ـ وبين غيره مما لا يحتاج في الغالب إليه ، وإن توهّم الفرق بينهما حكما بإلحاق الأوّل بالشكّ في الجزئيّة من حيث الرجوع إلى البراءة ، والثاني بالمتباينين من حيث الرجوع إلى قاعدة الاشتغال كما ستقف عليه من كلام شيخنا العلاّمة ، ومن هنا أفرده في التكلّم والبحث.

ثمّ إن الكلام في المسألة كسائر مسائل الباب قد يقع : في الشبهة الحكميّة الراجعة إلى عدم تبيّن القضيّة الشرعيّة إمّا من جهة عدم الدليل ، أو إجماله بالمعنى الأعمّ الذي عرفت المراد منه ، أو تعارض الدليلين. وقد يقع : في الشبهة الموضوعيّة فالمراد من النصّ في « الكتاب » هو الدليل لا خصوص الحديث ، أو قسم منه كما هو واضح.

١٢

القسم الأوّل :

الشك في الجزء الخارجي

(٢) قوله : ( والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣١٧ )

__________________

(١) قال الأصولي المحقق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« عزّاه إلى المشهور أيضا المحقق القمّي رحمه‌الله في مبحث كون الفاظ العبادات أسامي للصحيح أو للأعم منه قال :

« وكيف كان : فالمتبع هو الدليل ولا ينبغي التوحّش مع الإنفراد إذا وافقنا الدليل ، كيف! وجلّ الأصحاب إن لم نقل كلّهم متفقون على عدم الفرق ، فمن يعمل بالأصل يعني أصالة البراءة لا يفرّق بين العبادات وغيرها » إنتهى.

وصرّح بالإتّفاق عليه قبله قال :

« فاعلم ان الظّاهر انه لا إشكال في جواز إجراء أصل العدم في ماهيّة العبادات كنفس الإحكام والمعاملات ، بل الظاهر انه لا خلاف فيه كما يظهر من كلمات الأوائل والأواخر ولم نقف على تصريح بخلافه في كلام الفقهاء » إنتهى.

وحكى الفاضل الإصبهاني في حاشية المعالم عن بعضهم نسبة القول بالالفاظ إلى المشهور أيضا.

ولعلّ منشأ الشبهة في النسبة : إمّا عدم عنوان هذه المسألة في كلماتهم الأصوليّة ؛ لأنّه إنّما أحدث البحث عنها جماعة من المتأخرين ، ولذا قد اختلفت مذاهبهم فيها واختلفت النسبة

١٣

__________________

إليهم.

وإمّا لأنهم قد تمسّكوا بالبراءة في كثير من موارد هذه المسألة في أبواب الفقه ، فمن ادعى شهرة القول بالبراءة نظر إلى ظاهر كلماتهم في الفقه ، ومن ادعى شهرة القول بالإحتياط نظر إلى القاعدة لكون الشغل اليقيني بالواقع مقتضيا عندهم للبراءة اليقينيّة ، فزعم منه كون القول بالإحتياط مذهبا لهم في المقام ويحتمل أن يريدوا بالبراءة في موارد التمسّك بها إطلاق الأدلّة على القول بالأعم في ألفاظ العبادات بأن تسامحوا في التعبير بها عنه لموافقتها في المؤدى ، ومن هنا سرت الشبهة إلى صاحب الرّياض فزعم كون القول بالبراءة ملازما للقول بوضع الفاظ العبادات أسام للأعم قال في صلاة الجمعة عند بيان اشتراطها بوجود سلطان عادل :

« ليس هنا إلاّ الجمعة بهذا الشرط وباقي الشروط الآتية ، ونفيه بأصالة البراءة إنّما يتّجه على القول بكونها أسام للأعم من الصحيحة والفاسدة ، وأمّا على القول بأنها أسام للصحيحة خاصة كما هو الأقرب فلا » إنتهى. [ الرياض ج ٣ / ٣١٦ ط مؤسّسة آل البيت ].

وظنّي انّ هذه الشبهة إنّما نشأت مما ذكره الوحيد البهبهاني ثمرة للقولين في ألفاظ العبادات من جواز التمسّك بأصالة البراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط على القول بالأعم وعدمه على القول بالصحيح.

والحق عدم دلالة ما ذكره على الملازمة بين القول بالصحيح والرجوع إلى قاعدة الإشتغال وأن التمسّك بأصالة البراءة على القول بالأعم غلط فاحش.

أمّا الأوّل : فإن المقصود من ذكر هذه الثمرة بيان جواز التمسّك بالبراءة على القول بالأعم ؛

١٤

بيان حكم الأقلّ والأكثر والآراء فيه

أقول : ما استظهره قدس‌سره من ذهاب المشهور إلى البراءة بقول مطلق ـ بعد حمل تمسّك جمع من القدماء بقاعدة الاشتغال في بعض جزئيّات المسألة على التأييد لما دلّ على حكم مورد التمسّك كما ترى تمسّكهم بها فيما اتّفقوا على كون الأصل فيه البراءة كالشكّ في التكليف خصوصا الشبهة الوجوبيّة ـ في كمال الاستقامة ، وإن زعم بعض خلافه ، وذكر آخر كالمحقّق المحشيّ على « المعالم » :

__________________

نظرا إلى إطلاق الأدلة على هذا القول بالصحيح فحيث كان لازمه القول بإجماع الأدلة الذي يلزمه الرجوع في مواردها إلى مقتضى الأصول وكان المرجع عنده عند الشك في الأجزاء والشرائط هو الرجوع إلى قاعدة الإشتغال أطلق القول بالرّجوع إلى قاعدة الإحتياط على القول بالصحيح ، لا أن هذا لازم للقول بالصحيح فهو أعم من القول بالإحتياط وأما الثاني : فلعدم جريان الأصول العمليّة سواء كانت هي أصالة البراءة أو الإشتغال مع وجود دليل اجتهادى في مواردها طابقته أو خالفته في المؤدّى ، فعلى القول بكون الفاظ العبادات أسام للأعم يكون إطلاق أدلة العبادات حاكما أو واردا عليها ، وأمّا على القول بالصحيح ـ كما هو الصحيح ـ فيمكن القول بالبراءة كما هو المختار ويمكن القول بوجوب الإحتياط كما حكاه المصنّف رحمه‌الله عن السبزواري.

وكيف كان : فالذي يقضي به المتتبع في فتاوي الفقهاء هو اشتهار القول بالبراءة في المقام كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٦١.

١٥

أنه اختلف نقل الشهرة على طرفي المسألة واضطربت فيها كلماتهم.

وكيف كان : ما اختاره شيخنا هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، وإن ذهب جمع من أفاضل المتأخّرين ـ ممن قارب عصرنا ، أو عاصرناه (١) ـ إلى وجوب الاحتياط ، منهم : الأستاذ الشريف (٢) شيخ شيخنا ( قدّس الله سرّهما ).

وبالحريّ أن نتعرّض أوّلا لما اعتمدوا عليه على سبيل الإجمال والاختصار ، ثمّ نعقّبه بالكلام فيما أفاده قدس‌سره من دليل المختار.

وجوه الحكم بالإشتغال في الأقلّ والأكثر

فنقول : إنهم تمسّكوا على ذلك بوجوه :

أحدها : ما يظهر من غير واحد من حكم العقل بذلك ؛ من حيث إن الشغل اليقيني بالتكليف بالأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر يقتضي البراءة اليقينيّة وتحصيل العلم بفراغ الذمة عنه في حكم العقل على ما هو الأصل في جميع ما يكون من هذا القبيل ؛ ضرورة كون مبنى الأصل المذكور هو حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل

__________________

(١) كالمحقق السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٧٣ ـ والشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين : ٤٤٩ ط ق ، ج ٣ / ٥٦٩ ط جماعة المدرسين والسيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٥٢٨.

(٢) شريف العلماء المازندراني في ما قرّر عنه من بحوث في ضوابط الأصول : ٣٢٦.

١٦

من غير فرق بين الموارد ، ولا يحصل العلم بالفراغ من هذا التكليف النفسي إلاّ بإتيان الأكثر ؛ فإنه على تقدير وجوب الأكثر يكون فعل الأقلّ لغوا.

فلا يقال : إن القدر الثابت هو وجوب الأقل ، ووجوب الزائد مشكوك ، فالاشتغال اليقيني إنّما هو بالنسبة إليه ، وأمّا الأكثر فاشتغال الذمة بالنسبة إليه مشكوك فيرجع إلى البراءة كما يرجع إليها بالنسبة إلى الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ؛ ضرورة منافاته لفرض الدوران في المقام ؛ فإن الثابت هو وجوب الأقلّ بالمعنى الأعمّ لا وجوبه بالوجوب النفسي وإلاّ لم يكن الواجب النفسي مردّدا بين الأمرين ولا يعلم حصول البراءة من الواجب النفسي بفعل الأقل ، ومنه يظهر : فساد قياس المقام بالأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ؛ فإن الأقلّ فيه واجب نفسيّ من غير أن يكون له ارتباط بالأكثر أصلا.

ثانيها : استصحاب الاشتغال اليقيني بالطبيعة المردّدة بين الأقل والأكثر ؛ حيث إنه لا يعلم بكون فعل الأقلّ رافعا له فيحتمل بقاؤه.

قال المحقّق المحشي قدس‌سره في تقريب الاستصحاب : « إنه لا شكّ في اشتغال ذمّة المكلّف بتلك العبادة المعيّنة وحصول البراءة بفعل الأقلّ غير معلوم لاحتمال الاشتغال بالأكثر فيستصحب إلى أن تبيّن الفراغ » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ومثل الاستصحاب المذكور : استصحاب بقاء الوجوب والتكليف ،

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٥٦٥.

١٧

واستصحاب عدم حصول الواجب بعد الإتيان بالأقلّ وغيرهما ممّا يوهم جريانه في المتباينين.

ثالثها : ما دلّ بظاهره على وجوب الاحتياط المختصّ بالشكّ في المكلّف به ، بل المقام على وجه واحتمال ، وإن استفيد منه حكم غيره كالصحيحة الواردة في جزاء الصيد (١) وقد تقدم نقلها في « الكتاب » (٢) ، أو المحمول على الشكّ في المكلّف به بحيث يشمل المقام جمعا بينه وبين ما دل على البراءة وقد تقدّمت الطّائفتان في « الكتاب » أيضا.

رابعها : ما سلكه بعض من تأخّر وركن إليه : من أن الأحكام الشرعيّة لمّا كانت مبنيّة على المصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال ومعلولة لها حقيقة ـ على ما استقرّ عليه رأي العدليّة من الإماميّة والمعتزلة ـ فالمطلوب الأوّلي في كل واجب في الحقيقة : هو تحصيل المصلحة الموجبة لوجوبه ؛ إذ هو المقصود بالطلب والعنوان في الواجب ، وإن كان الأمر معلّقا في الظاهر بنفس الفعل ، إلاّ أنّا نعلم من جهة انطباق العنوان المطلوب حقيقة عليه ، فالواجب هو تحصيل تلك المصلحة

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٤ / ٣٩١ ـ باب « القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون » ـ ح ١ ، والتهذيب : ج ٥ / ٤٦٦ و ٤٦٧ ـ باب « من الزيادات في فقه الحج » ـ ح ٢٧٧ ، والوسائل :

ج ١٣ / ٤٦ ـ باب : « انه إذا اشترك اثنان أو جماعة وهم محرمون ـ ولو رجالا ونساءا ـ في قتل صيد لزم كل واحد منهم فداء كامل » ـ ح ٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧٦.

١٨

النفس الأمريّة أوّلا وبالذات ، ويكون الأمر بالفعل من حيث كونه وصلة إليه. وهذا معنى قولهم : إن الواجبات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ولو بالإجمال ؛ حيث إن العقل يحكم بلزوم ما أوجبه الشارع من حيث اشتماله على ما يجب تحصيله في حكم العقل.

وإن شئت تقرير الدليل على معنى آخر لقولهم فقل : إنه لا شكّ في كون العنوان في الواجب السّمعي الذي أوجب وجوبه كونه لطفا ومقرّبا إلى المستقلاّت العقليّة التي يحكم العقل بها تفصيلا مع قطع النظر عن الأحكام الشرعيّة السمعيّة كردّ الوديعة ونحوه ؛ من حيث إن إيجاب فعل الواجبات تكميل النفوس الموجب للتنزّه عن القبائح والمنكرات العقليّة كما يدل عليه قوله تبارك وتعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) فالواجب أوّلا هو تحصيل اللطف فإذا لم يعلم تحصيل المصلحة أو اللطف بفعل الأقلّ ، فيجب في حكم العقل الإتيان بالأكثر من حيث كونه محصّلا يقينيّا لهما ؛ ضرورة لزوم تحصيل المأمور به على سبيل الجزم واليقين وعدم جواز الاكتفاء باحتمال حصوله ولم يخالف فيه أحد من العلماء والعقلاء وسيجيء الاعتراف به من شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في المسألة الرابعة (٢) ؛ فإن مرجع الدليل المذكور إلى رجوع الشبهة الحكميّة دائما إلى الشبهة

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

(٢) انظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٢.

١٩

الموضوعيّة بالاعتبار المذكور. وإن كان الفرق بينهما من جهة أخرى وهي : عدم تبيّن القضيّة الظاهريّة الشرعيّة في الأولى وتبيّنها في الثانية.

خامسها : ما سلكه بعض أفاضل مقاربي عصرنا أو عاصرناه في « فصوله » :

من أن دليل البراءة لا يثبت ماهيّة المأمور به ولا يبيّنها ولا يعيّن كونها الأقل ؛ نظرا إلى عدم جواز التعويل على الأصول المثبتة ، مضافا إلى أن مفاده مجرّد نفي العقاب فيلزم للقول بالاحتياط من جهة استقلال العقل بلزوم تحصيل المأمور به على سبيل القطع واليقين ما لم يقم طريق ظاهريّ على تبيّنه. والفرق بين المقام وغيره ممّا علم فيه التكليف على سبيل الإجمال مع كون التكليف المتعلّق نفسيّا ـ كما في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ـ غير خفيّ على المتأمّل.

وما ذكرناه وإن كان ملخّص كلامه إلاّ أن الأولى نقله بألفاظه وطوله. قال قدس‌سره ـ بعد جملة كلام له في المسألة ونقل الخلاف فيها والإشارة إلى ما ذكره فيها عند البحث في الحقيقة الشرعيّة ـ ما هذا لفظه :

« ونقول : هنا توضيحا وتنقيحا : إنّ أصل البراءة وإن كان باعتبار عموم أدلّته قاضيا بنفي الوجوب الغيري عند الشكّ كالنفسي ، فيصحّ نفي وجوب الأجزاء والشرائط المشكوكة للتوصّل بها إلى فعل الكلّ وللشروط ، إلاّ أن المستفاد من أدلته : إنّما هو مجرّد نفي الحكم لا إثبات لوازمه العادية ككون الماهيّة المجعولة معرّاة عن اعتبار ذلك الجزء ، أو ذلك الشرط ، فلا يصلح دليلا على نفي الجزئيّة

٢٠