بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

إمكان رفع ما له دليل علمي ولو على وجه العموم على ثبوته بما دلّ على رفع الحكم عند عدم العلم به ، بل على تقدير جعل المراد من الرفع : المعنى الأعم الشامل للدّفع أيضا لا يمكن تعميمه بالنسبة إلى قوله : ( ما لا يعلمون ) لشمول المعنى العام لصورة وجود الدليل الغير المجامعة على ما عرفت مع تعلّق الرفع بعدم العلم كما هو ظاهر ـ فلا يمكن الاستناد للأصلين بالروايات المذكورة ، غاية ما هناك : تصادق الروايات بحسب المورد مع موارد الأصلين في الجملة. وهذا لا يدلّ على الاستناد فيهما إليها ، بل يدل على العدم ضرورة امتناع أخصّيّة العلّة من المعلول وافتراقها منه ولو في بعض الموارد كما هو ظاهر.

فلا بد أن يكون استنادهم في الأصلين إلى شيء آخر غير الأخبار المذكورة :

أمّا أصل العدم : فهو من أقسام الاستصحاب فيدلّ عليه ما دلّ على اعتباره من الأخبار أو بناء العقلاء. ويمكن الاستدلال في خصوص باب الألفاظ ببناء أهل اللسان والعرف عليه من باب الظنّ والظهور من غير أن يكون بناؤه على ملاحظة الحالة السّابقة حتى يدخل بذلك في الاستصحاب.

وأمّا عدم الدليل دليل العدم : (١) فبناؤه إمّا على حصول القطع منه ، كما في مسألة النبوّة وأمثالها من مسائل الأصول. وإمّا على حصول الظنّ منه كما يظهر

__________________

(١) أقول : مضى كلام المحقق الطهراني حول الأصلين المذكورين في التعليقة السابعة فراجع.

١٢١

بالتصفّح في كلماتهم سيّما كلام المحقّق قدس‌سره وإن لم نقل باعتباره على الوجه الثاني على تقدير

تسليم حصول الظن منه مطلقا ، أو فيما يحصل منه إذا لم نقل بحجيّة مطلق الظن في الأحكام الشرعيّة.

(٢٩) قوله قدس‌سره : ( وحاله حال سابقه بل أردأ ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٣٦ )

محلّ النزاع في مسئلة مقدمة الواجب

أقول : ظاهر ما أفاده بل صريحه : إجراء أصل العدم بالنسبة إلى الحكم التكليفي المتصوّر للجزء في قبال ما يذكره بعده. ومحصّل القول في ذلك : أن للحكم التكليفي الثابت للجزء وجوها بعضها محلّ النزاع والكلام في مسألة وجوب المقدّمة وبعضها خارج عن حريم البحث.

أحدها : الوجوب العارض عليه بملاحظة انضمامه مع سائر الأجزاء وما له دخل في تحقّق المطلوب وبعبارة أخرى : من حيث صيرورته جزءا فعليّا للمركّب ووجوبه بهذا الاعتبار واللحاظ عين وجوب الكلّ ؛ لأنّه عين الكلّ بهذه الملاحظة وإن غايره بحسب التعبير أو الاعتبار ، فمرجع أصالة عدم وجوب الجزء بهذا المعنى والاعتبار في المقام إلى أصالة عدم وجوب الأكثر.

ثانيها : اللزوم واللاّبدّيّة. أي : الوجوب بالمعنى اللغوي. وذكر شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : « أن الوجوب بهذا المعنى ليس حادثا مغايرا للجزئيّة والمقدّميّة ، بل

١٢٢

حدوثه بحدوث المقدميّة كالزوجيّة للأربعة » (١) فلا يمكن إجراء الأصل فيه وإن هو إلا نظير إجراء الأصل في عدم الزوجيّة في العدد المردّد بين الأربعة والثلاثة مثلا. ولكن التحقيق : أن الوجوب بهذا المعنى عين المقدميّة فليس نفيه بالأصل من نفي الحكم التكليفي حقيقة فتدبّر.

ثالثها : الوجوب الإرشادي العقلي الثابت لجميع المقدّمات الداخليّة والخارجيّة ، وهذا المعنى وإن لم يقع النّزاع في ثبوته في مسألة مقدّمة الواجب ـ على ما حقّقناه فيها وفاقا لشيخنا قدس‌سره ومن هنا توهّم بعض : خروج المقدّمة العلميّة عن حريم البحث : زعما منه عموم النّزاع لما يشمل الوجوب الثابت للمقدّمة العلميّة من الوجوب الإرشادي العقلي مع وضوح فساده ؛ لأن الوجوب الإرشادي ثابت لجميع المقدّمات إتفاقا من غير فرق بين المقدّمة العلميّة والوجوديّة ، غاية ما هناك : عدم إمكان عروض غير الوجوب الإرشادي للمقدّمة العلميّة ؛ حيث إن الوجوب الثابت لذيها ليس إلا الوجوب الإرشادي العقلي ؛ إذ مبناه على وجوب دفع الضرر المحتمل وليس له وجوب شرعيّ حتى يتوهم الوجوب بمعنى آخر لمقدميّته ـ إلا أنه لا يعقل الشكّ فيه مع الشك في الجزئيّة حتى يرجع إلى الأصل فيه كما هو الشأن في جميع الأحكام العقليّة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٦.

١٢٣

ومن هنا ذكرنا في مسألة وجوب المقدّمة ـ في قبال من جعل الأصل في المسألة عدم الوجوب ـ : أنه لو كان المشكوك الوجوب الغيري الذي أنشأه الشارع للمقدّمة جاز الرجوع إلى الأصل بالنسبة إليه على تقدير وقوع الشكّ فيه.

ولو كان المشكوك الوجوب العقلي ، أو حكم العقل بثبوت الملازمة بين طلب الشيء وطلب مقدّماته ـ لا الملازمة الواقعيّة التي يرجع إلى المعنى الأول باعتبار ـ وأراد القائل نفيها بالأصل لم يكن معنى له ؛ لأنه لا يمكن وقوع الشكّ في الحكم العقلي.

رابعها : الطلب الشرعي التوصّلي التّبعي الغيري الثابت للجزء من حيث توقف وجود الكل عليه ، كما هو ثابت للمقدمة الخارجيّة بهذه الملاحظة ، وإن كان العقل يحكم به ويكشف عن ثبوته أيضا بعد إحراز المقدّميّة وهو الذي وقع النزاع فيه في مسألة وجوب المقدّمة ، وإنّما الكلام في جواز الرجوع إلى الأصل المذكور بالنسبة إليه.

فإن كان الغرض من الأصل المذكور : نفي الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الوجوب الغيري فلا إشكال في جريانه بناء على ما ستقف عليه : من عدم معارضة الأصل في الأقل معه.

وإن كان المقصود منه : مجرّد نفي المؤاخذة المطلوب بأصالة البراءة فحاله حال الأصل المتوهم جريانه في الأكثر لترتب هذا الأثر ، وقد عرفت : أن عدم

١٢٤

استحقاق المؤاخذة مضافا إلى كونه مما يحكم به العقل فلا معنى للشكّ فيه مترتّب على عدم العلم بالوجوب لا على عدم الوجوب في نفس الأمر.

وإن كان الغرض منه : تعيين الماهيّة والواجب النفسي في المركب الخالي عنه وهو الأقل فهو مبنيّ على القول باعتبار الأصول المثبتة بناء على عدم معارضته بالأصل الجاري في الأقل من حيث وجوبه لابتلائه بالأصل الجاري في الأكثر من حيث وجوبه بهذا المعنى ، مع كونهما في مرتبة واحدة وكون الشكّ في الجزء المشكوك ناشئا عن الشكّ المتقوّم بهما فيكون الأصل الجاري في الجزء نظير الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ فتأمّل في المقام ؛ فإنه من مزالّ الأقدام وقد تقدّم منّا فيه الكلام فراجع إليه هذا.

ولعلّك تظفر ممّا فصّلنا لك على كون الأصل المذكور أردأ من الأصل الجاري في وجوب الأكثر ، وإن كان الظاهر منه الاحتمال الأخير المتّحد مع سابقه حكما ، بل ربّما يكون سابقه أردأ بالنظر إلى ما ذكرنا من البيان كما لا يخفى.

(٣٠) قوله قدس‌سره : ( ومنها : أصالة عدم جزئيّة المشكوك. وفيه : أن جزئية الشيء المشكوك ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٣٦ )

__________________

(١) قال المحقّق الخراساني أعلى الله تعالى درجاته الشريفة :

« حاصله : أن الغرض من أصالة عدم الجزئيّة :

١٢٥

__________________

إن كان هو أصالة عدم إتصاف المركّب الواقعي بكون المركّب المشكوك جزءا له ، فليس إتّصافه أمرا حادثا مسبوقا بالعدم بحيث كان المركّب ولم يكن الإتّصاف ثم حدث ، بل هو إمّا حدث معه أو لم يحدث بعده.

وإن كان هو أصالة عدم إتصاف المشكوك بالجزئيّة للمركّب ، فالإتّصاف هاهنا وإن كان مسبوقا بالعدم ، إلاّ انّ الأصل بالنسبة إلى إثبات المقصود مثبت » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٥٧.

* وعلّق عليه المحقّق الكرماني قدس‌سره :

« ليت شعري ما الفرق بين حدوث المركّب الواقعي متّصفا بكون المشكوك جزءا له وحدوث وصف الجزئيّة للمشكوك حيث منع الخراساني من إجراء الأصل في الأوّل دون الثاني ، والفارق الذي زعمه فارقا غير صالح له ؛ فإنّ الأصل جار في الحادث الذي شك في حدوثه سواء كان حدوثه المشكوك ـ على تقديره ـ موجودا ومع حدوث موجود متحقّق الحدوث مشكوك الزائد على المتحقّق ؛ فإن الأصل ينفي حدوث الزائد المشكوك من غير فرق بين حدوثه على تقديره واردا على موجود سابق أو معه مقارنين.

وكيف كان : الظاهر انّ منع الشيخ الأعظم من إجراء الأصل في جزئيّة الشيء المشكوك وإنكار كونه أثرا حادثا مسبوقا بالعدم من جهة ان أحكام الوضع عنده أمور اعتباريّة منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، ألا ترى إلى قوله في السابق : ( ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعولا شرعيّا غير الحكم التكليفي وهو ايجاب المركّب المشتمل على ذلك الجزء )؟ [ فرائد : ج ٢ / ٣٣٣ ].

والخراساني علّل المنع بما لا يرضى به المانع ولو عرض عليه لأنكر المنع من جهة.

١٢٦

أصالة عدم الجزئيّة لا تنفع في المقام

أقول : لا يخفى عليك أن المراد مما أفاده أوّلا من الوجه في الجزئيّة الذي حكم بعدم كونه حادثا مسبوقا بالعدم هو التوقّف والمقدّمية لا المعنى الوضعي المعروف كما سبق إلى بعض الأوهام فلا معنى لجعل قوله : « وإن أريد ..... إلى آخره ) (١) تفصيلا لما أجمله.

__________________

ثمّ إنّ الذي له مهارة ونباهة في فهم المرادات من التعبيرات لا يشك في أنّ المنع باعتبار عدم وجود الموصوف قبل الإتّصاف ليس عبارته انّ جزئيّة الشيء ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم ، مع ان حدوث الإتّصاف يتحقّق بوجود الموصوف حين الإتّصاف سواء كان موجودا قبل الإتّصاف أو وجد متّصفا.

ومعنى قولهم : ( ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ) ليس ولا يكون وجوب وجوده في الخارج قبل وجوده قبليّة زمانيّة ، بل معناه وجوده بنحو من انحاءه حين ثبوته له.

وبالجملة : هذا المعنى الذي فسّر به الخراساني كلام المصنّف في المنع يكاد يلصق به خصوصا مع ملاحظة عدم صلوحه للمنع ولما طال التعليق ختمته راجيا من الله التوفيق » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٧٩.

* أقول : مرّ ما ينفعك في المقام من المحقّق الطهراني قدس‌سره عند ذكروهم بعض المعاصرين للشيخ الأعظم قدس‌سره فراجع.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٦.

١٢٧

وبالجملة : لا إشكال عندنا في عدم جريان الأصل في الجزئيّة بمعنى التوقّف والمقدّميّة ؛ لأن العدم المتحقّق في زمان عدم ذي المقدّمة لا ينفع في إجراء الأصل بالنسبة إلى زمان فرض ذي المقدّمة وتحقّقها.

وبعبارة أخرى : عدم وجود الجزئيّة في زمان عدم وجود جزء وكلّ لا يجدي استصحابه لإثبات عدمه بعد جعل الكلّ.

وبعبارة ثالثة : عدم الوصف باعتبار عدم الموصوف ، وعدم العرض باعتبار عدم الموضوع والمعروض ، ليس مما يجري فيه الاستصحاب بعد وجود الموصوف والمعروض وهو المراد من الأصل الاعتباري في ألسنة جمع ممن قارب عصرنا في باب الاستصحاب الذي حكموا بعدم اعتباره هذا.

وإن أريد من الجزئيّة الحكم الوضعي المعروف الذي وقع الكلام في كونه مجعولا شرعيّا أو أمرا اعتباريّا عقليّا ومفهوما منتزعا من الحكم التكليفي حسبما هو الظاهر من كلام المتمسّك بالأصل ، فيكون المراد من عدم جزئيّة السّورة مثلا عدم صيرورتها جزءا للمركب المأمور به ، فيكون المقصود من نفيها بالاستصحاب إثبات خلوّ المركّب المأمور به عنه.

فيتوجّه عليه : أن قضيّة التحقيق ـ الذي ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه ـ عدم تعلّق الجعل بالأحكام الوضعيّة فلا يعقل الحكم بنفيها بالأصل إلاّ باعتبار نفي منشأ انتزاعها بالأصل ، فمرجع الأصل المذكور بعد فرض جريان الأصل في نفس الجزئيّة إلى أصالة عدم الأمر به أو إلى أصالة عدم الأمر بما يكون

١٢٨

مركّبا منه وجزءا له ، فيرجع إلى الأصل في الحكم التكليفي بالنسبة إلى الجزء أو الأكثر ، فيتوجّه عليه ما عرفت شرحه في إجراء الأصل بالنسبة إلى الحكم التكليفي فلا ينبغي إعادته.

وإن أريد من الجزئيّة تصوّر الجزء وملاحظته مع سائر ما له دخل في المركّب شيئا واحدا وإن كان خلاف الظاهر منها عند الإطلاق ، إلاّ أنّه لا كلام في ثبوتها لجميع ما يكون جزءا للمركبات الاعتباريّة بحيث لا يعقل إنكاره ، وإلاّ لزم إنكار المركّب الاعتباري واختراع الماهيّات والجعل بالنسبة إليها ؛ فإنّ معنى تركيبها واختراعها وجعلها هو ملاحظة المركب والمخترع من غير فرق بين الشارع وغيره عدّة أمور لا ارتباط بينها حسّا ولا تجتمع وجودا أصلا شيئا واحدا فالجعل والاختراع والتركيب إنّما هو بحسب الملاحظة لا الحقيقة ، فمرجع أصالة عدم جزئيّة المشكوك إلى عدم ملاحظته مع سائر ما فرغ عن دخله في المركّب المأمور به شيئا واحدا.

فإن أريد من نفيها بالأصل ترتيب ما فرض ترتّبه شرعا على مجرى عدم الجزئيّة بهذا المعنى فلا كلام فيه إلاّ أنه لا جدوى له ؛ إذ لا تعلّق له بالمقام أصلا.

وإن أريد منه إثبات خلوّ المركّب المأمور به عنه ، وأنه اعتبر المركّب بالنسبة إلى ما عداه وهو الأقل فيثبت بذلك كليّة الأقلّ.

فيتوجّه عليه : ـ مضافا إلى معارضته بالمثل ؛ لأنّ الأصل عدم ملاحظة التركيب بالنسبة إلى سائر الأجزاء فإن مجرّد الملاحظة المعلومة بالنسبة إلى سائر

١٢٩

الأجزاء ؛ لا تفيد في تحقّق التركيب بالنسبة إليها ؛ لتوقّفه على ملاحظتها بعنوان الوحدة ـ : بأنه أصل مثبت.

فإن قلت : نمنع من كونه أصلا مثبتا ؛ لأن كون الماهيّة الأقل ويتوقّف على أمرين : أحدهما : ملاحظة ما فرض دخله في المركّب وهو بمنزلة الجنس له ، وعدم ملاحظة غيره معه وهو بمنزلة الفصل له (١) ، والجنس موجود بالفرض ، والفصل ثابت بالأصل ، فلا يراد إثبات شيء آخر ، وهذا بخلاف كونها الأكثر ؛ فإنه يتوقّف على جنس وجوديّ وفصل وجوديّ أيضا ؛ ضرورة أن القلّة والكثرة من الأمور الإضافيّة بالنسبة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأقليّة الأقل إنّما هي باعتبار عدم اشتماله على ما يشتمل عليه الأكثر لا باعتبار اشتماله على ما يشتمل عليه الأجزاء ؛ ضرورة عدم اتصافه بكونه أقل بهذا اللحاظ والاعتبار ، كما أنّ أكثرية الأكثر إنّما هي باعتبار اشتماله على ما لا يشتمل عليه دونه من المراتب ، فإذا فرض كون الأقلّ مركبا من جنس وجوديّ متحقق بالفرض وفصل عدميّ شكّ في ثبوته ، فالشكّ في عنوانه مسبب لا محالة عن الشكّ في اشتماله على الجزء الزائد ، فمعنى الحكم بعدم جزئيّة المشكوك ودخله في المركّب وعدم ملاحظته مع سائر الأجزاء الحكم بكون سائر الأجزاء ملحوظا بدونه ، وكونه غير ملحوظ معها وهو معنى الأقلّ ، فلا يقصد بالأصل إلاّ الحكم بتحقق نفس مجراه وترتيب آثاره عليه

__________________

(١) وهذا هو الأمر الثاني من الأمرين المزبورين.

١٣٠

من غير أن يقصد منه ترتيب لوازمه العقلية أو العاديّة المترتب عليها الأحكام ، وأين هذا من الأصل المثبت؟

قلت ـ بعد تسليم ترتّب الأثر الشرعي على أقليّة الأقلّ ـ أوّلا : إن مجرّد ثبوت أحد جزئي المفهوم بالوجدان والفرض مع إثبات جزئه الآخر بالأصل لا يخرج الأصل المذكور عن الأصول المثبتة ؛ ضرورة ترتّب الحكم على العنوان لا على نفس الجزءين حسبما ستقف على شرح القول فيه في الجزء الثالث من التعليقة.

ومن هنا أوردنا فيما تقدّم من كلامنا على بعض الأفاضل ممن قارب عصرنا ـ القائل بإثبات الاستحباب في دوران الأمر بينه وبين الوجوب بنفي المنع من الترك بالأصل ؛ حيث إن الاستحباب مركّب من جنس متحقق بالفرض وهو الرجحان وفصل مثبت بالأصل وهو عدم المنع من الترك ـ : بأنه تعويل على الأصل المثبت فراجع إليه.

نعم ، على القول بالتفصيل في اعتبار الأصل المثبت بين الواسطة الخفيّة والجليّة ـ كما ستعرف الميل إليه من شيخنا قدس‌سره في الجزء الثالث ـ يمكن القول باعتبار الأصل المذكور في المقام مع قطع النظر عما سنذكره.

وثانيا : إن كليّة الأقلّ وكونه المركّب المأمور به وكليّة الأكثر ليستا بمجرّد عدم ملاحظة المشكوك مع سائر الأجزاء وملاحظته معها ، بل يحتاج مضافا إلى تلك الملاحظة والعدم إلى اعتبار الملحوظ شيئا واحدا حتى يتحقّق هناك وحدة

١٣١

اعتباريّة يجمعها كي يوجد التركيب على ما عرفت ، فمجرّد عدم ملاحظة المشكوك لا يترتّب عليه كليّة الأقل إلاّ بعد إثبات ملاحظة ما لوحظ من الأجزاء بلحاظ الوحدة ، ونسبة هذه الملاحظة إلى الأقلّ والأكثر سواء ، فمرجع الأصل المذكور إلى أصالة عدم ملاحظة الشارع للمشكوك مع سائر الأجزاء شيئا واحدا وهو معنى نفي كليّة الأكثر ليثبت بذلك ملاحظته لغيرها من الأجزاء شيئا واحدا وهو معنى كليّة الأقلّ فيرجع إلى إثبات كلية الأقلّ بنفي كليّة الأكثر ، فهو من إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل.

فيتوجّه عليه ما ذكرنا : أوّلا : من المحذورين من كونه معارضا بالمثل ، وأصلا مثبتا. فالمعنى المذكور وإن كان ثابتا للجزء ولا دخل له بالحكم الوضعي ولا بالجعل الإنشائي وإن كان نوعا من الإيجاد والتكوين فلا دخل له بما هو محل البحث في باب الأحكام الوضعيّة ، إلاّ أن يريد قائل ما يعمّ ذلك ويشمله فلا ننكره ، إلاّ أنه لا يجدي نفيه بالأصل شيئا على ما عرفت.

ومثله الكلام فيما لو أريد من الجزئيّة المعنى الثابت للأجزاء بالثبوت التكويني على مذهب العدليّة : من مدخليّته في المصلحة الملزمة الموجبة لتشريع الحكم ؛ فإنه لا يقبل الإنكار أيضا ، وإلا لزم الترجيح من غير مرجّح كما هو ظاهر ؛ فإنه لا يترتّب على نفي مدخليّة المشكوك في مصلحة المركّب ما هو المقصود بالبحث أصلا ، كما لا يخفى.

وكذا لو أريد من نفيها نفي الالتفات إليه بالأصل عند الالتفات إلى سائر

١٣٢

الأجزاء ؛ فإنه أيضا حادث مسبوق بالعدم فيجري الأصل بالنسبة إليه هذا. مع أنّ نفي الالتفات من الشارع المنزّه عن الغفلة والذهول الذي قضى البرهان الضروري على حضور جميع الأشياء في علمه بحقيقها وكنهها لا يعقل له معنى مع أن الالتفات مع قطع النظر عمّا ذكرنا مفروض في بعض فروض المسألة وهو دوران الأمر في الجزء بين الوجوب والاستحباب.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إن المعلوم في الدوران المذكور الالتفات في الجملة لا خصوص الالتفات بعنوان الوجوب ، فالمنفي الالتفات الخاصّ ، ولعلّه أشار إليه قدس‌سره بقوله : ( فتأمّل ) (١) (٢) إلاّ أنه شطط من الكلام ؛ لأن جزء الواجب والمستحبّ

__________________

(١) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« الجزء المستحب ليس داخلا في قوام الواجب من أجزاء ماهيّته وإلاّ لا يعقل إتّصافه بالإستحباب ، بل من أجزاء بعض مصاديقه ومشخصاته ، فلا يستلزم الإلتفات إلى الواجب بجميع أجزاءه حين ايجابه الإلتفات إليه أصلا.

نعم ، الإلتفات اليه في الجملة مما لا بد منه فيقطع به ، لا خصوص الإلتفات المتوقّف عليه لحاظ جزئيّته للواجب ، ولعلّه أشار اليه بأمره بالتأمّل ». أنظر درر الفوائد : ٢٥٨.

* وقال القمي في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٥٦٠ ) :

« أقول : لعلّه إشارة إلى ان الإستحباب يحتاج إلى التفات آخر ، وذلك لأنّ الأجزاء المستحبّة كان لها جعل على حدة غير جعل الأجزاء الواجبة ؛ لأنّ الاستحباب إنّما هو من مراتب الكمال في فرد الواجب والجزء الواجب من المقوّمات وحينئذ يكون الجاري في المقام هو

١٣٣

__________________

الأصلان بطريق التعارض.

والأصل بالنسبة إلى الالتفات في طرف الجزء المستحب ليس له أثر عدا إثبات كون الجزء المشكوك واجبا وهو من الأصول المثبتة فيبقى الأصل الجاري في الإلتفات إلى جعل وجوبه سليما عن المعارض » إنتهى.

* وقال الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« لعلّه إشارة إلى ان ليس المراد من عدم الإلتفات الغفلة حتى لا يناسب مقام الشارع ، بل المراد منه عدم الإلتفات على الوجه المخصوص المترتّب عليه كون هذا الشيء جزءا ، وكذا فيما دار الأمر بين كونه جزءا واجبا أو مستحبّا ؛ فإنّ المراد من الإلتفات المنفي بالأصل هو الإلتفات الخاص المترتّب عليه عدم تحقّق المأمور به بدونه لا الأعم منه ومما يترتّب عليه كون الشيء مكمّلا مزيّنا للمأمور به » إنتهى. حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٧٩.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان دعوى حصول الغفلة على وجه خاص لاختلاف الإلتفات في مقام الإيجاب والإستحباب ؛ لأن الإلتفات إلى الشيء على وجه يكون مقوّما لغيره بحيث ينتفي بانتفائه مغاير للإلتفات اليه على وجه لا يكون كذلك والإلتفات على الوجه الثاني لا يستلزمه على الوجه الأوّل فتدبّر » انتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٩.

* وقال السيد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« إشارة إلى أن عدم الالتفات لا يستلزم الغفلة الممتنعة على الشارع ؛ لأن المراد نفي الالتفات الخاص على وجه الجزئيّة والوجوب لا نفي مطلق الإلتفات الممتنع على العالم المطلق » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٢.

١٣٤

لا يختلفان من حيث الالتفات والملاحظة والتصوّر جزما.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا كله : أن الرجوع إلى أصالة عدم الجزئيّة في محل البحث بأي معنى فرض لها لا محصّل له.

__________________

(٢) المصدر السابق : ج ٢ / ٣٣٨.

١٣٥

المسألة الثانية :

الشك في الجزئية من جهة إجمال الدليل

(٣١) قوله قدس‌سره : ( والإجمال قد يكون في المعنى العرفي ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٣٩ )

أقول : قد عرفت المراد من الإجمال مرارا ، وأن الغرض منه عدم ظهور اللفظ بأي سبب كان ، وأمّا المراد بالمعنى العرفي في كلامه قدس‌سره فالظاهر أنه مقابل الشرعي فيشمل العرف العام واللغة ، بل العرف الخاصّ فيما يحمل كلام الشارع عليه سواء كان عرف بلد الإمام عليه‌السلام أو المخاطب فيما لو اختلف عرف البلدين.

(٣٢) قوله قدس‌سره : ( على أن هذه الألفاظ موضوعة للماهيّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٣٩ )

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« وكذا على القول بوضعها للأعم لو علمنا باستعمالها في الصحيحة بقرينة حاليّة أو مقاليّة فلا ينحصر المثال في قول الصحيحي وكذا لو قلنا بوضعها للأعم لكن ورد أن السورة جزء لها وتردّد أمرها بين كونها جزء واجبا أو مستحبّا أو ورد أمر بقوله عليه‌السلام : ( إقرء السورة ) وتردّد بين كونه للوجوب أو الندب بناء على القول بالإشتراك اللفظي بينهما أو القول بالقدر المشترك بل لو كان في هذه الصورة ثبوت وجوب أصل الصّلاة بدليل لبّي كالإجماع يكون الشك من باب إجمال النص أعني النص المتعلّق بالجزء.

١٣٦

في ان لازم قول الصحيحي الإجمال الذاتي

وقول الأعمّي البيان الذاتي

أقول : قد يناقش ـ فيما أفاده من الابتناء ـ : بأنه مبني على جعل المراد من المعنى الشرعي هو الذي اخترعه الشارع ووضع اللفظ له وليس الأمر كذلك ؛ لأن المراد منه المعنى الذي اخترعه الشارع سواء وضع اللفظ له أو استعمله فيه مجازا ، وهذا هو المتعيّن منه في المقام ؛ لأن الإجمال اللازم على القول الصحيحي ليس ملازما للقول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ؛ لعدم ابتناء أصل المسألة عليه ، بل على

__________________

وكيف كان : فينحصر مثال المسألة الأولى أي : ما كان الشك فيه من فقدان النص فيما كان ثبوت وجوب أصل المركّب بدليل لبّي أو لفظي بناء على القول بالأعم مع عدم نص مجمل متعلّق بالجزء ، بل كان منشأ الشك اختلاف الفقهاء مثلا » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٠.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« ان هذه الألفاظ على معانيها اللغويّة واستعمال الشارع لها في المعاني اللغويّة لما قرّرناه في محلّه : من إمكان تأتّي النّزاع في الصحيح والأعمّ والثمرة المرتبة عليه من الإجمال والبيان في استعمال الشارع أيضا وإن قلنا ببقاءها على المعاني اللغويّة » إنتهى.

انظر أوثق الوسائل : ٣٦٩.

١٣٧

مجرّد الاستعمال في الصحيح ولو مجازا. ولو فرض تحرير النزاع في المسألة من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعيّة ووقوع النزاع منهم ـ كما احتمل ـ لم يكن إشكال في ترتّب الإجمال على مجرّد الاستعمال هذا.

ويمكن التفصيّ عن المناقشة المذكورة : بأن المراد من الوضع ما يشمل الوضع النوعي الترخيصي الثابت في المجازات ، فيكون في قبال ما اختاره الباقلاني ومن تبعه في المسألة : من بقاء ألفاظ العبادات في عرف الشارع على معانيها اللغويّة والعرفيّة (١) كألفاظ المعاملات عند المشهور ، وإنّما جعل الشارع في ترتيب أحكامه عليها شروطا هذا. مع أنه بناء على إرادة المعنى الأخصّ من الوضع ـ كما هو ظاهره ـ لا يتوجّه عليه شيء ؛ لعدم إرادة المفهوم مما أفاده ؛ فإن الغرض منه بيان إجمال اللفظ بحسب معناه الشرعي في الجملة لا استقصاء موارد إجمال اللفظ بحسب ما أراده الشارع منه حتى يشمل المجازات الشرعيّة فتدبّر.

إشكال آخر

وهاهنا كلام آخر على ما أفاده لا بأس بالإشارة إليه وإلى دفعه وإن كان ما يفيده بعد ذلك كافيا في دفعه وهو : أن بناء الإجمال على القول بالوضع للصحيح ظاهر في عدمه على القول بالوضع للأعمّ مع أن الأمر ليس كذلك ؛ فإن ألفاظ

__________________

(١) انظر التقريب والإرشاد : ج ١ / ٣٨٧.

١٣٨

العبادات على هذا القول قد لا يكون لها ظهور وإطلاق يتمسّك على نفي ما شكّ في اعتباره فيها شطرا أو شرطا : من جهة ورودها في مقام بيان القضيّة المهملة ، أو ورودها في مقام حكم آخر ، أو تقيّدها بقيد مجمل إلى غير ذلك ممّا ذكر مانعا للتمسّك بإطلاقها في محلّه كما هو الشأن في سائر المطلقات أيضا ، هذا بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء. وأما بالنسبة إليها فحالها حال الوضع للصحيح ؛ ضرورة عدم تصوّر الوضع للأعمّ بالنسبة إليها.

فإن شئت قلت : الوضع للصحيح بالنسبة إلى معظم الأجزاء مما اتفق عليه الفريقان ، فإذا كان الجزء المشكوك على تقدير اعتباره من معظم الأجزاء لم يكن إطلاق للعبادة بالنسبة إليه على كلا القولين.

نعم ، يمكن فرض الإطلاق لألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء ، كما إذا فرض وجود ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق بخلاف الوضع للصحيح ؛ فإنه لا يمكن فرض البيان والظهور للّفظ بالنظر إلى نفسه لكن مجرّد هذا لا يوجب ابتناء الإجمال على القول بالوضع للصحيح هذا.

دفع الإشكال

ويدفعه : أنه نشأ عن قلّة التدبّر في المراد من الوضع للصحيح أو الأعمّ فلا بد من بيانه إجمالا فنقول : إن معنى الوضع للصحيح كما يشير إليه في « الكتاب » أيضا

١٣٩

كون اللفظ موضوعا للمركّب التام الجامع لجميع الأجزاء والشرائط بناء على تعميم الكلام والبحث بالنسبة إلى الشرائط في قبال القول بالتفصيل ـ المحكّي عن الفريد البهبهاني قدس‌سره ـ بحيث لو انتفى جزء أو شرط انتفى الصّدق لانتفاء الموضوع له ، فيكون اللفظ مستعملا في غير معناه وما وضع له على تقدير استعماله في الناقص لفرض مدخليّة كلّ جزء وشرط في الموضوع له من حيث إنه كذلك.

فإذا شكّ في جزئيّة شيء للعبادة كالاستعاذة مثلا فيرجع الشك لا محالة إلى الشك في الموضوع له وأنه الأقلّ أو الأكثر ، فيصير حاله على هذا القول حال ما لو فرض العلم بوضع اللفظ لأحد شيئين متباينين ؛ ضرورة عدم وجود القدر المتيقن بالنظر إلى الوضع فهو نظير ما لو فرض وضع اللفظ لمفهوم معيّن مبيّن شك في صدقه على بعض الأمور الخارجيّة من جهة الشبهة الموضوعيّة وإن كان الفرق بينهما موجودا من حيثيّة أخرى ، فلا بدّ من الحكم بإجمالها ذاتا بالنظر إلى أنفسها على هذا القول.

نعم يمكن عروض البيان لها من جهة دليل خارجيّ يدلّ على حصر أجزائها وشرائطها في أمور مخصوصة ، مع أنّ لنا كلاما عند قيام الدليل على الحصر في أن المرجع عند الشك في الفرض الدليل الخارجي الذي اقتضى الحصر أو لفظ العبارة.

وكيف كان : لا إشكال في الإجمال الذاتي للفظ العبارة على هذا القول هذا. ومعنى الوضع للأعمّ كونها موضوعة للأعم من الجامع لجميع الأجزاء وفاقد غير

١٤٠