بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٥

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-284-5
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩١

عنهما في المقام.

ولك أن تقول : بأن ضعف شمول الرواية للمقام منجبرة بالشهرة العظيمة التي كادت أن تكون إجماعا على ما حكاه الفاضل المعاصر (١). وربّما يظهر بالتفحّص في مصنّفاتهم والتتبع في مطاوي كلماتهم ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« ولنا في المقام كلام آخر يأتي بيانه في الأدلة العقليّة » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

هذا قابلا للنفي فكيف يقتصر عليه بالنسبة إلى الأقل!

وأمّا الثاني : فلأنّ جعل الماهيّة واختراعها عبارة عن اعتبار أمور متعدّدة أمرا واحدا على نسق خاص وترتيب مخصوص ، فاعتبر الشارع قياما بعنوان القنوت والرّكوع وسجدتين على ترتيب مخصوص واعتبر تحريما وتحليلا وجعل لكل صلاة ركعات محدودة ثم أمر بها تارة ونهى عنها أخرى ، فحيث شككنا في اعتبار وراء ما يعلم باعتباره معها ، فالأصل عدمه ، وهذا الأصل ليس إعتمادا على حالة سابقة ، بل إنّما هو أصل عدم خروج الشيء عمّا هو عليه ، ومن المعلوم : أن الأصل في كلّ حادث هو العدم ، والتفصيل في مبحث الإستصحاب.

وأطال الأستاذ قدس‌سره في إبطال هذا الوجه بما لا طائل تحته » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٤٩.

(١) يريد به الفاضل القمي في القوانين.

(٢) الفصول الغرويّة : ٥١.

١٠١

نقل كلام آخر له في الأدلّة العقليّة

والأولى نقل كلامه بطوله في الأدلّة العقليّة أيضا لارتباطه بالمقام قال ـ قدس‌سره بعد جملة كلام له في بيان أصل العدم والفرق بينه وبين أصالة البراءة بجريانه في الأحكام الوضعيّة كالجزئيّة والشرطيّة دونها والاستدلال له بوجهين أحدهما : أخبار الاستصحاب. والإيراد عليه : بأن التعويل عليها لإثبات الماهيّة المردّدة تعويل على الأصول المثبتة التي لا نقول بها ـ ما هذا لفظه :

« الثاني : عموم ما دلّ على أنه رفع عن هذه الأمّة ما لا يعلمون ، وأنّ ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، إلى غير ذلك من الأخبار التي مرّ ذكرها. وتخصيصها بالحكم التكليفي خروج عما يقتضيه وضع اللفظ من غير دليل. وقيام الدليل في بعض الأحكام الوضعيّة وعدم اشتراطه بالعلم لا ينافي تعميمه إلى الموارد التي لا دليل فيها على ذلك.

ثمّ دائرة أصل العدم بحسب هذا الدليل ، أعني : الأخبار ، أوسع من دائرته بحسب الدليل السابق لجريانه بمقتضى هذا الدليل في مطلق أحكام الوضع حتى الجزئيّة منها الشرطيّة والمانعيّة ؛ لأن المفهوم من أخبار الباب رفع الحكم المجهول وإثبات ما يترتّب عليه من الأحكام الشرعيّة وغيرها ممّا يترتب عليه أحكام شرعيّة عملا بظاهر الإطلاق السالم عما يقتضيه صرفه هنا عنه ؛ إذ الوجه الذي

١٠٢

قرّرناه في منع الإطلاق (١) أخبار الاستصحاب غير متطرّق إلى إطلاق هذه الأخبار ، ولو لا ذلك لالتزمنا بالإطلاق هناك أيضا.

فاتّضح بما قرّرناه : أن الأصل المثبت بالمعنى المذكور إن كان استصحابا لم يعتبر ، وإن كان أصل العدم بالاعتبار الذي ذكرنا كان معتبرا ، هذا تحقيق ما أدّي إليه نظري سابقا.

والذي أدّي إليه نظري لاحقا فساد هذا الوجه ؛ فإن الظاهر من أخبار الوضع والرّفع وما في معناهما : إنما هو وضع المؤاخذة والعقوبة ورفعهما ، فيدلّ على رفع الوجوب والتحريم الفعليّين في حقّ الجاهل دون غيرهما وحملهما على رفع نفس الحكم وتعميمه إلى حكم الوضع مع بعده عن سياق الرواية مناف لما تقرر عند الأصحاب : من أن أحكام الوضع لا تدور مدار العلم ، بل ولا العقل والبلوغ.

ولهذا تراهم يحكمون في مباحث الفقه بترتّب أحكامها الوضعيّة كالحدث بأنواعه ، والطهارة ، والنجاسة ، والملكيّة ، المتعلّقة بالعين والمنفعة بأقسامها المقررة ، والضمان ، والخيارات ، والصحة ، والبطلان ، إلى غير ذلك مما لا يحصى على الصغير ، والمجنون ، والجاهل ، والعاقل ، إلاّ فيما شذّ وندر.

وبالجملة : فالذي يظهر من اتفاقهم : أن الأصل في أحكام الوضع عمومها للعالم وغيره ، وأن الخروج من هذا الأصل في بعض الموارد النّادرة إنّما هو

__________________

(١) كذا والظاهر : إطلاق.

١٠٣

لدلالة دليل عليه بالخصوص.

ثمّ نؤكّد الكلام في منع دلالة هذه الأخبار على أصالة عدم الجزئيّة والشرطيّة وما في معناهما بالنسبة إلى ما شكّ في اتصافه بذلك : بأن مرجع عدم وضع الجزئيّة الشرطيّة في الجزء والشرط المشكوك فيهما إلى عدم وضع المركّب من ذلك الجزء والمشروط بذلك الشرط ؛ فإن عدم جزئيّة الجزء بمعنى عدم كليّة الكلّ ، وعلى قياسه الشرط والمشروط ، ولا ريب في عدم جريان أصل العدم بالنسبة إلى المركّب والمشروط ؛ لأن أصالة عدم وضع الأكثر في مرتبة أصالة عدم وضع الأقلّ ، وأصالة عدم وضع المقيّد في مرتبة أصالة عدم وضع المطلق ، يعارضهما العلم الإجمالي بوضع أحدهما : فيسقطان عن درجة الاعتبار ، فكذا ما يرجع إلى ذلك ممّا لا يغايره إلاّ بمجرّد المفهوم.

سلّمنا مغايرتهما بغير المفهوم لكن لا خفاء في أن الجزئية والشرطيّة لا يستدعيان وضعا مغايرا لوضع الكلّ والمشروط ، بل هما اعتباريّان عقليّان متفرّعان على وضع الكلّ والمشروط ، وعدمهما من الحكم الشرعي مبني على مراعاة هذا الاعتبار ، وإلاّ فليسا عند التحقيق منه ، فلا ينصرف الوضع والرّفع في الأخبار إليهما.

سلّمنا لكن لا ريب في أن الجزئيّة والشرطيّة كما ينتزعان من اعتبار الجزء في الكلّ والشرط مع المشروط كذلك ينتزع عدمهما من عدم اعتبارهما ، فيكون عدمهما أيضا حكما وضعيّا كثبوتهما. ونسبة عدم العلم إلى كل منهما بالخصوص

١٠٤

سواء ، فلا وجه لترجيح إعمال الأصل بالنسبة إلى أحدهما بالخصوص مع العلم بانتقاض الأصل بالنسبة إلى أحدهما لا على التعيين ، فيسقط الاستدلال بأخبار الوضع والرفع وما في معناهما.

بقي الاحتجاج برواية « من عمل بما علم كفي ما لم يعلم » (١).

فالوجه في الجواب : القدح في دلالته ؛ بأن الظاهر مما علم ما علمه من المطلوبات النفسيّة دون الغيريّة والإتيان بما علم من أجزاء العبادة وشرائطها ليس إتيانا بما علم أنه مطلوب نفسي ، فلا يندرج في عموم الرواية.

سلّمنا لكن معنى ( ما علم ) ما علم مطلوبيّته لا ما علم جزئيّته أو شرطيّته ، ولا ريب في العلم بمطلوبيّة الجزء والشرط المشكوك فيهما من باب المقدّمة فلا يندرجان في عموم ( ما لم يعلم ). فاتضح ممّا حققنا : أن المستند على حجيّة أصل العدم في أحكام الوضع منحصر في الاستصحاب ، وقد بيّنا عدم مساعدته على جريانه بالنسبة إلى وضع الجزئيّة والشرطيّة. فالتحقيق إذن : هو القول بوجوب الاحتياط فيهما حيث لا يقوم دليل على نفيهما » (٢). انتهى كلامه المتعلّق بالمقام بتمامه رفع الله في الخلد مقامه.

__________________

(١) انظر توحيد الشيخ الصدوق : ص ٤١٦ ـ ح ١٧.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٦٤.

١٠٥

في التعرّض لما اعترضه المصنّف على الكلام المذكور

وفي كلامه ـ كما ترى ـ أنظار غير مخفيّة على الواقف بما ذكرنا في طيّ أجزاء التعليقة وسنذكره يطول المقام بذكرها ، ونقتصر فيه على التعرّض لما أورده شيخنا قدس‌سره عليه في « الكتاب » بقوله قدس‌سره : ( أقول : قد ذكرنا في المتباينين وفيما نحن فيه : أن استصحاب الاشتغال ... الى آخره ) (١) (٢).

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« حاصله : دعوى حكومة أخبار البراءة على قاعدة الإحتياط سواء كان المستند فيها استصحاب الشغل أو العقل.

نعم ، لو كان المستند فيها الأخبار كان لما ذكره صاحب الفصول وجه.

أمّا الأوّل : فلكون الأصل مثبتا ؛ لأن استصحاب الإشتغال بعد الإتيان بالأقلّ لا يثبت وجوب الأكثر إلاّ على القول بترتّب الآثار العقليّة على المستصحب ومع التسليم فاخبار البراءة حاكمة عليه كما أوضحه المصنف رحمه‌الله.

وأقول : هذا مضافا إلى منع جريان استصحاب الإشتغال في مورد جريان قاعدته كما أشار إليه المصنف رحمه‌الله سابقا وفيما يأتي ان شاء الله تعالى.

وأما الثاني : فإن قاعدة الإحتياط المستندة إلى العقل إن كان مقتضاها الدلالة على ان ما وجب في الواقع هو الأكثر دون الأقل كان لما ذكره وجه ، وليس كذلك لأن مبناها على حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل فإذا فرضت دلالة أخبار البراءة على عدم وجوب الأكثر

١٠٦

وحاصله : كما ترى ، يرجع إلى وجوه :

لا معنى لحكومة قاعدة الإشتغال على اخبار البراءة

الأوّل : أن الحكم بحكومة قاعدة الاشتغال على أخبار البراءة كـ ( رواية الحجب ) ونحوها ، لا معنى له سواء كان مدركها حكم العقل بها : من باب حكمه

__________________

وعدم ترتّب العقاب على تركه لا يبقى مجرى لقاعدة الإحتياط كما لو صرّح الشارع بعدم ترتّب العقاب من جهة إحتمال وجوب الإكثر.

وأمّا الثالث : فإن أخبار الإحتياط إن كان مقتضاها إثبات الوجوب الشرعي الظاهري فلما ذكره من حكومتها على أخبار البراءة وجه ، وقد أوضحه المصنف رحمه الله في الشبهة التحريميّة من مسائل الشك في التكليف ؛ لأن مقتضى أخبار البراءة هي الإباحة الظاهريّة فيما لم يرد فيه بيان من الشارع خصوصا ولا عموما ، أو نفي العقاب في مورد عدم ثبوت التكليف ولو ظاهرا وأخبار الإحتياط لعمومها بيان ومثبتة للوجوب الظاهري في مورد إحتماله أو العلم به إجمالا.

وإن كان مقتضاه الإرشاد إلى دفع العقاب المحتمل لما فيه من مصلحة المكلّف كان مؤداه موافقا لحكم العقل فتكون أخبار البراءة حينئذ حاكمة عليها.

ومن هنا يظهر أن حكم المصنّف رحمه‌الله بحكومة أخبار الإحتياط عليها مبني على ظاهر كلام من تمسك بها في أمثال المقام لإثبات الوجوب الشرعي لا على ما اختاره من حملها على الإرشاد كما صرّح به في الشبهة التحريميّة البدويّة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣١.

١٠٧

بوجوب دفع الضّرر المحتمل ، أو استصحاب الاشتغال ، أو الأخبار.

أما الأول :

فلما عرفت : من ورود أخبار البراءة على الحكم المذكور ؛ نظرا إلى ارتفاع موضوعه وما هو المناط له من العقاب المحتمل من جهة حكم الشارع بالجواز وعدم الوجوب من الأخبار المذكورة ، فليس الحكمان في مرتبة واحدة فضلا عن حكومة الأول على الثاني ، وليس حكم العقل بوجوب الاحتياط في المقام على تقدير تسليمه أقوى من حكمه به في المتباينين من الشبهة الحكميّة والموضوعية كاشتباه القبلة مثلا ، والمناط فيه في كليهما دفع الضرر المحتمل في أطراف الشبهة والمحتمل كما في المقام.

فإذا حكم الشارع بجواز ترك الصلاة إلى بعض الجهات كما وقع في الشرعيّات ، فهل يتوهّم أحد أن الحكم المذكور مناف لحكم العقل بوجوب الاحتياط ويجعله مخصّصا له؟ حاشا بل يحكم كل أحد بكونه رافعا لموضوع حكم العقل بوجوب الاحتياط ، فإذا كان حال الحكم المذكور بالنسبة إلى حكم العقل كذلك ، كان حال حكم الشارع بجواز ترك الجزء المشكوك ، أو الأكثر : من جهة أخبار البراءة بالنسبة إلى حكمه كذلك ، فلا محالة يكون واردا عليه ؛ إذ الفرق بالخصوص والعموم لا يصلح فارقا بعد عدم إمكان التخصيص في العقليّات.

١٠٨

وأما على الثاني :

فأمّا أوّلا : فبأن استصحاب الاشتغال بأحد معنييه لا معنى له أصلا على ما عرفت سابقا ، وبالمعنى الآخر لا ينفع جزما ، ولا يثبت وجوب الاحتياط إلا على القول بجواز التعويل على الأصول المثبتة الذي لا نقول به وفاقا للفاضل المذكور والمحققين بناء على القول باعتبار الاستصحاب : من جهة الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ.

ومن هنا التزم بوجوب الاحتياط فيما عرفت من كلامه : من جهة عدم جواز إثبات الماهيّة بأصالة البراءة ، وما يرجع إليها : من أصالة العدم بناء على الاستدلال لها بأخبار الاستصحاب وكونها منه مبتنيا المسألة على جواز تعيين الماهيّة بالأصل وعدمه هذا. مع أنه على تقدير جواز التعويل على الأصل المثبت لا معنى للرجوع إلى استصحاب الاشتغال لحكومة أصالة البراءة المعيّنة للماهيّة ، وكذلك أصل العدم المعيّن لها عليه كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فبأنّه على فرض تسليم جواز التعويل على الأصل المثبت لا ينفع الاستصحاب المذكور في محلّ البحث لحكومة أخبار البراءة عليه في خصوص الفرض ؛ حيث إن المقصود من استصحاب الاشتغال في الزمان اللاحق وتعيين الواجب في ضمن الأكثرية ليس إلاّ إثبات وجوب الجزء المشكوك والحكم به ، وقد تعلّق الحكم الظاهري بنفي وجوب الأكثر والجزء المشكوك قبل

١٠٩

جريان الاستصحاب المذكور وتحقّق موضوعه ، فبعد الحكم بنفيه ظاهرا في السّابق وتجويز تركه لا معنى للحكم بإثباته ظاهرا في اللاحق.

فإن شئت قلت : في بيان الحكومة : إنّ الشكّ في بقاء الاشتغال والوجوب مسبّب عن الشكّ في وجوب الأكثر ، أو الجزء المشكوك في أصل الشرع. فإذا حكم بنفيهما بمقتضى أخبار البراءة فيرتفع الشكّ عن البقاء بحكم الشارع ، وهذا معنى الحكومة. والعكس بأن يقال : إن الشكّ في أصل حكم الشارع مسبّب عن الشكّ في بقاء الاشتغال والوجوب بعد الإتيان بالأقلّ لا معنى له كما هو ظاهر ، مع أنه مستحيل مطلقا ؛ ضرورة امتناع صيرورة علّة الشيء معلولا له.

وبالتأمّل فيما ذكرنا من شرح الحكومة وبيانها يظهر لك فساد ما قد يورد على ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في بيان الحكومة بقوله : « وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار ... إلى آخره » (١) :

بأن الذي يظهر مما ذكره حسبما يفصح عنه مقالته اقتضاء الأخبار نفي العقاب ليس إلاّ ، ومن المعلوم عدم ظهور حكومة أخبار البراءة بملاحظة هذا المعنى المستظهر منها على الاستصحاب المذكور ؛ لأن حكم الشارع بنفي العقاب إنّما ينفع في رفع اليد عن الحكم المبتني على احتمال العقاب كحكم العقل بوجوب الاحتياط ، لا في رفع اليد عمّا يكون مقتضيا في الظاهر لوجوب الإتيان

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٢.

١١٠

بالمشكوك من حيث هو ، بل المتعيّن عليه هو القول بعكس ذلك ، وتحكيم الاستصحاب المقتضي لوجوب الجزء المشكوك ظاهرا بناء على القول بالأصل المثبت على أخبار البراءة ؛ فإن رفع العقاب على ترك المشكوك رفع لوجوبه في مرحلة الظاهر ، كما أن الإخبار بثبوت العقاب على ترك فعل إثبات لوجوبه ، فالتحكيم الذي أفاده إنما هو بالنظر إلى رفع الوجوب لا مجرّد رفع العقاب فقط ، فتأمل حتى لا يختلط عليك الأمر في المقام.

وأما على الثالث :

فلما عرفت في طيّ الكلام على أخبار الاحتياط في الموضع الأول من الشك في الشبهة التحريميّة الحكميّة التي ذهب الأخباريّون إلى وجوب الاحتياط فيها مستدلّين بتلك الأخبار : من أن مساق أكثرها إن لم يكن كلّها مساق حكم العقل المبتني على دفع الضّرر فيحمل على الطلب الإرشادي لا الشرعي ، فيرتفع موضوعها بأخبار البراءة. وعلى تقدير حملها على الطلب الشرعي لا بدّ من أن يحمل على الطلب القدر المشترك لئلا يرد التخصيص عليها بإخراج ما لا يجب الاحتياط فيه باتفاق الأخباريين مع إبائها عن التخصيص هذا.

مع ما عرفت : من أنه على تقدير حملها على الطلب الشرعي الإلزامي الظاهري لا يجوز تحكيمها على أخبار البراءة ؛ لما عرفت : من أن نفي العقاب على الحكم الواقعي المجهول في معنى تجويز الفعل وعدم وجوب الاحتياط سيما

١١١

حديث الرّفع الظاهر في رفع وجوب الاحتياط الثابت في الشريعة ، بل الأمر عكس ما ذكره بالنسبة إلى الحديث الشريف. ومن هنا جعلناه حاكما على ما دلّ على ثبوت الآثار الشرعيّة بعمومها في مورد الحالات المذكورة في الرواية على تقدير التعميم لجميع الآثار.

نعم ، لو كان الموضوع في أخبار البراءة الجهل المطلق بحكم الشيء وبجميع مراتبه ، الموضوع في أخبار الاحتياط الجهل بحكم الشيء في مرحلة الواقع ومن حيث هو ، وكان المحمول وجوب الاحتياط كانت أخبار الاحتياط حاكمة على أخبار البراءة في وجه وواردة عليها في وجه آخر ، لكن المقدّرات بأسرها ممنوعة وإن أمكن تقديرها ؛ لأن فرض المحال ليس بمحال فضلا عن الممكن المخالف لظاهر الدليل.

وإلى التقدير الأخير ينظر تصديقه في « الكتاب » بقوله : « نعم ، لو كان مستند الاحتياط ... الى آخره » (١) (٢) فافهم ، وراجع ما ذكرنا في شرح المقام في الموضع

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : إن قلنا إنّ مفاد قوله عليه‌السلام : ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) أنّ ما حجب علمه ـ ولو في مرحلة الظاهر ـ بعنوان كونه مشكوك الحكم ، كانت أخبار الإحتياط ـ على تقدير الدلالة على وجوب الإحتياط ـ حاكمة عليه.

وإن قلنا إن مفاده ما حجب علمه بعنوانه الواقعي يعني أنّ الأشياء التي لم يعلم حكمها

١١٢

__________________

بعناوينها المخصوصة بها يعارضها أخبار الإحتياط ولا بد حينئذ من الرجوع إلى المرجّحات » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٥٦.

* وعلّق عليه المحقق الكرماني قدس‌سره قائلا :

« أقول : إن كان العلم المأخوذ في حديث الحجب أعمّ من المتعلّق بالحكم الأولي الواقعي والثانوي الظاهري كان ما دلّ على وجوب الإحتياط في مشكوك الحكم الواقعي لو دلّ واردا على هذا الخبر باعتبار منطوقه ومعاضدا له باعتبار مفهومه وإن اختص بالحكم الواقعي الأوّلي دخل مشكوك الحكم الواقعي الذي هو موضوع أخبار الإحتياط فيما حجب الله علمه عن العباد وصار مادّة التعارض بين الطائفتين من الأخبار وتتأتّى أحكام التعارض ، ولا ينبغي الذهول عن أن ورود أخبار الإحتياط على حديث الحجب على تقدير تعميم العلم فيه يصحّ لو خلّيناها وأنفسها ابتداء للمشكوك الحكم من غير ملاحظة مزاحمة أخبار الوضع والسعة لها فيه حتى يصير معلوم الحكم في الظاهر ويخرج عن تحت المحجوب ، امّا لو جعلناه ابتداء معركة نزاع الفريقين فكما انّ أخبار الإحتياط تقتضي أخذه لنفسها وتصيّره معلوم الحكم في الظاهر كذلك أخبار الحجب والسعة يقتضي أخذه لنفسها وتصيّره موضوعا عن العباد موسّعا فيه وتمنع أخبار الإحتياط بأن تجعله معلوم الحكم فتتعارض الطائفتان فيه كفرض تخصيص العلم بالحكم الأوّلي الواقعي فإذا زال غسق الليل بالإصباح واستغنيت عن الإسراج والإقداح فحيّ على الفلاح » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٢٧٧.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« وقد ذكر في الشبهة التحريميّة من أقسام الشك في التكليف : أن أخبار البراءة بل الآيات

١١٣

الأوّل من الشكّ.

__________________

المستدل بها لها على تقدير تماميتها ما سوى خبر ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) مفادها : أن ما لا يعلم حكمه الواقعي ولا الظاهري فحكمه البراءة.

وبعبارة أخرى : مفادها مساوق للحكم العقلي بالبراءة وحينئذ لا تعارض أخبار الإحتياط لأن مورد وجوب الإحتياط قد علم حكمه الظاهري فخرج بذلك عن موضوع أخبار البراءة لكن ذكرنا نحن هناك : أن أغلب أخبار الباب بل الآيات ظاهرة في أن ما لم يعلم حكمه الواقعي فهو مرخّص فيه وعليه تتعارض أخبار البراءة وأخبار الإحتياط ؛ إذ مفاد الأوّلة : نفي العقاب على الواقع المجهول ، ومفاد الثانية : ثبوت العقاب على الواقع المجهول بناء على أنّ مفادها الإرشاد إلى تنجيز الواقع وكذا إذا حملناها على الموضوعيّة وأن مفادها إثبات الحكم الظاهري للمحتمل وترتّب العقاب على مخالفته ولو تخلّف عن الواقع على خلاف التحقيق ؛ لأنّ مفاد أخبار البراءة إثبات الإباحة الظاهريّة ومفاد أخبار الإحتياط إثبات الوجوب أو الحرمة الظاهريين.

نعم ، لو قلنا بأن أخبار البراءة لا تدل على الإباحة الظاهريّة الفعليّة ، بل إنّما تدلّ على نفي ترتّب عقاب الواقع المجهول ولا تنافي ترتّب العقاب المترتّب على ارتكاب محتمل الحرمة وترك محتمل الوجوب كان أخبار الإحتياط حينئذ مقدما على أخبار البراءة ولزم العمل على الإحتياط ، لكنه خلاف التحقيق ؛ فإن أخبار البراءة ظاهرة في الإباحة الفعليّة فتدبّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٨١.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ / ٣٣١.

١١٤

الوجه الثاني :

لا معنى للملازمة المزبورة

الثاني : ما أفاده : من الملازمة بين حكومة أخبار البراءة على قاعدة الاشتغال وبين دلالتها على عدم حجيّة الأدلّة الظنيّة كأخبار الآحاد وتعارضها معها ؛ من حيث عدم حصول العلم منها بالواقع كما لا يحصل من القاعدة بقوله : ( وإلاّ لدلّت هذه الأخبار ... إلى آخره ) (١) مما لا معنى له عند من له أدنى تأمّل ، لوجود الفرق البيّن بينهما بما لا يخفى على الأوائل ؛ فإن حجيّة الأدلّة الظنيّة ليست من حيث احتمال الضرر والعقاب ، بل من حيث كشفها عن الواقع ظنّا ولو بحسب النوع والطبع. ودليل اعتبارها إنما دلّ عليه من هذه الحيثيّة والجهة.

وحاصل مفاده : عدم الاعتناء باحتمال عدم إصابتها للواقع وخطأها ، ومعناه : رفع اليد عن الأصل الذي أسّس شرعا في موضوع احتمال الواقع والشكّ فيه ، فهو شارح لدليل اعتبار الأصل ومفسّر له ومبيّن لمقدار مدلوله ، فهو وإن لم يكن رافعا لموضوع الاحتمال وجدانا وحقيقة إلا أنه رافع له بحكم الشارع ، وهذا بخلاف القاعدة المبتنية على وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ فإنّها لا يمكن أن تكون

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥١ والذي فيه : ( وإلاّ لدلّت هذه الرّواية ).

١١٥

شارحة لما سواها من الأصول الشرعيّة ، ولو جعل الموضوع فيها : عدم العلم بالحكم بالمعنى الأعمّ من الظاهري والواقعي لا خصوص الأخير ، والعجب كل العجب من اشتباه هذا الفرق البيّن عليه مع ما عليه من مقام العلم هذا.

مع أن لنا قلب ما أفاده عليه : بأنه لو كانت القاعدة حاكمة على أخبار البراءة لوجب الحكم بحكومتها على الأدلّة الظنيّة المطابقة لها في القضايا ؛ إذ المفروض على ما زعمه : حكومة القاعدة على ما ينفي التكليف في مرحلة الظاهر من غير فرق بين أقسامه ؛ إذ المفروض : أن مفاد الأدلة الظنيّة أيضا حكم ظاهريّ كمفاد أخبار البراءة ، فإذا بني على عدم التميز والفرق لزمه ذلك فتأمل.

ومنه يظهر ما في قوله : ( ولو بني على تخصيصها ... الى آخره ) (١) ؛ إذ قد عرفت : أن وجه العمل بها في قبال الأصول الشرعيّة بأسرها هو حكومتها عليها ، مع أن تخصيصها بها مع الغضّ عمّا ذكرنا من الترتّب والتقدّم الذاتي وتسليم كونهما في مرتبة واحدة ، لا يوجب الحكم بجواز تخصيص أخبار البراءة بالقاعدة المبتنية على احتمال العقاب مع ورود الأخبار عليها كما هو ظاهر.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥١.

١١٦

الوجه الثالث :

تمسّكه بالأخبار لنفي الحكم الوضعي أشدّ ضعفا

من تمسّكه بها لنفي الحكم التكليفي

الثالث : أن عدوله عن التمسّك بالأخبار المذكورة لنفي الحكم التكليفي إلى التمسّك بها لنفي الحكم الوضعي في ذيل كلامه أشدّ ضعفا :

أمّا أوّلا : فيمنع العموم للأخبار المذكورة لنفي الحكم الغير التكليفي على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ كلماتنا واعترف به أيضا قدس‌سره في كلامه الذي نقلناه عنه أخيرا في باب أصل العدم.

وأمّا ثانيا : فبمنع كون الجزئيّة أمرا شرعيّا حتى يتعلّق الحكم بإثباتها ونفيها ، بل هي كسائر الأحكام الوضعيّة من الأمور الاعتباريّة المنتزعة من الأحكام التكليفيّة على ما عرفت بعض الكلام فيه وستعرف تفصيله في كلماتنا بعد ذلك وقد اعترف به أيضا في كلامه المذكور ، بل قيل : معنى جعل الحكم الوضعي جعل الحكم التكليفي الذي ينتزع عنه كما هو الظاهر من قول شيخنا قدس‌سره ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعوليّا شرعيّا غير الحكم التكليفي ؛ فإن المراد مغايرتهما بحسب الجعل بمعنى تعلّق الجعلين بهما وإن كان ظاهر كلام هذا الفاضل في أوّل

١١٧

« الكتاب » كونه مجعولا مستقلاّ في قبال جعل الحكم التكليفي ، لا أن يرجع جعله إلى جعله ؛ فإن مرجعه إلى إنكار جعل الحكم الوضعي ؛ فإن أحدا لم ينكر الجعل بالنسبة إلى الحكم التكليفي في مورد الأحكام الوضعيّة.

وبالجملة : جزئيّة الجزء ككلّيّة الكلّ كما اعترف به قدس‌سره من الاعتباريّات العقليّة لا يجامع الحكم لشمول الرواية لها كما لا يخفى.

وأما ثالثا : فبأنه إذا بني على عدم مساعدة الأخبار لإثبات الأصول المثبتة ـ ولأجله قال : إن نفي الوجوب بمقتضى الأخبار لا يثبت الماهيّة ولا يعيّنها في ضمن الأقلّ ، وكذلك نفي الجزئيّة بمقتضى أخبار الاستصحاب أيضا لا يثبتها ـ لم يعقل الفرق في مدلولها بين الاستناد إليها لنفي الحكم التكليفي وبينه لنفي الحكم الوضعيّ ، فكما أن نفي وجوب الجزء المشكوك كذلك نفي وجوب الأكثر بالأخبار المذكورة لا يثبت الماهيّة ، كذلك نفي جزئيّة المشكوك وكليّة الأكثر المشتمل عليه بالأخبار المذكورة لا يثبتها ؛ إذ لا يعقل الفرق بين الأمرين بعد البناء على كون المجعول بالروايات المذكورة هو خصوص الآثار الشرعيّة المترتّبة على المنفيّ بها في مرحلة الظاهر.

وكأنه قدس‌سره زعم كون مفادها فيما إذا نسب إلى الحكم التكليفي هو النفي في مرحلة الظاهر ، وفيما إذا نسب إلى الحكم الوضعي هو النفي في مرحلة الواقع فيكون دليلا اجتهاديّا بهذه الملاحظة كما يفصح عنه قوله : ( إن مقتضى هذه

١١٨

الروايات أن ماهيّة العبادات ... إلى آخره ) (١).

وأنت خبير بما فيه ؛ إذ كيف يعقل الفرق في مفاد رواية واحدة بين النسبتين؟

وأما ما أفاده في المقام في كلامه الذي حكينا عنه أخيرا من المعارضة بين الجزئية وعدمها ؛ نظرا إلى كون كل منهما حكما شرعيّا بناء على القول بتعلّق الجعل بالأحكام الوضعيّة ، فيتعارض الأصلان بالنسبة إلى وجودها وعدمها للعلم الإجمالي بجعل أحدهما ، فهو مما لا محصّل له ، وإن هو إلا كالقول : بأن الوجوب كما يكون حكما شرعيّا كذلك عدمه أيضا حكم شرعيّ ، فكل مورد شكّ فيه يجري الأصلان فيه بالنسبة إلى وجوده وعدمه ويتعارضان فتأمل.

والقول : بأن تعيين الماهيّة في الأقلّ يحتاج إلى جنس وجوديّ وهو اعتبار الأجزاء المنسيّة ، وفصل عدميّ وهو عدم اعتبار غيرها. والجنس موجود بالفرض والفصل مورد للأصل ، فلا يلزم هناك من تعيين الماهيّة بنفي الجزئيّة التعويل على الأصل المثبت ، وهذا بخلاف نفي الوجوب ؛ فإنه يلازم كون الماهيّة هي الأقلّ وليس عين مجرى الأصل ، ومن هنا يفرّق بين الحكمين في مفاد الرّوايات ، فليس هنا اختلاف في أصل معناها فاسد.

مضافا إلى ما ستقف عليه عن قريب من ضعف هذا التوهّم : بأنه اعترف : بأن نفي الجزئيّة بأخبار الاستصحاب لا يجدي في تعيين الماهيّة ، إلاّ على القول

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥١.

١١٩

بجواز التعويل على الأصل المثبت ، وإنما أراد الفرق بين الحكمين بالنظر إلى أخبار البراءة.

الرابع : أن ما استشهد لتعميم روايات الباب أخيرا : من فهم العلماء منها ذلك حيث إن من الأصول المعروفة المسلّمة عندهم : أصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم ، ويستعملونها في نفي ما شكّ فيه مطلقا من غير فرق بين الحكم التكليفي وغيره ، ولا مستند لهم في ذلك إلاّ الروايات ، فلا بد من تعميمها ولو بمساعدة أفهامهم ممّا لا معنى له أيضا ؛ لأن استنادهم إلى الأصلين في نفي غير الحكم التكليفي في الجملة مما لا مجال لإنكاره ، كما أن عدم استنادهم في الأصلين إلى روايات الباب مما لا ينبغي التأمّل فيه :

أمّا غير حديث الرفع : مثل ( رواية الحجب ) ونظائرها ، فلم يستظهر منهم إلاّ الاستناد إليه في نفي المؤاخذة والحكم التكليفي فقط ، كما هو الظاهر منه بلا ارتياب.

وأمّا ( حديث الرفع ) فهم بين مخصّص له برفع المؤاخذة والحكم التكليفي ـ على ما عرفت في القسم الأوّل من الشكّ : من أنه الظاهر منه ـ وبين معمّم له لرفع غير المؤاخذة من الآثار الشرعيّة المترتّبة على الموضوعات المذكورة في الرواية بالمعنى الذي عرفته ثمّ ، فيجعلونه حاكما على أدلّة الآثار كدليل نفي الحرج الضرر بالنسبة إلى أدلّة الأحكام الشرعيّة.

وهذا المعنى لمّا لم يتصوّر بالنسبة إلى قوله : ( ما لا يعلمون ) ـ ضرورة عدم

١٢٠