موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنه قال : لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئاً إماماً كنت أو غير إمام ، قال قلت : فما أقول فيهما؟ قال : إذا كنت إماماً أو وحدك فقل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ثلاث مرات ثم تكبّر وتركع » (١).

وهي صريحة في المدعى ، إلاّ أنّ الشأن في سندها أوّلاً ومتنها ثانياً أمّا السند فقد ذكرنا غير مرّة أنّ طريق ابن إدريس إلى كتاب حريز غير معلوم ، ولعلّ الكتاب الواصل إليه لم يكن هو كتابه إمّا كلا أو بعضاً ، وعدم عمله بأخبار الآحاد لا يجدي ، إذ لعله اعتمد على قرينة تفيد القطع له ولا تفيد لغيره.

وأمّا المتن فلم يثبت كونه كذلك ، كيف وقد رواها ابن إدريس نفسه في آخر السرائر فيما استطرفه من كتاب حريز بعين السند والمتن ، غير أنّه لم يذكر فيه التكبير (٢) ، بل قد ذكر المجلسي في البحار على ما حكاه عنه في الحدائق (٣) أنّ النسخ المتعددة التي رأيناها متفقة على ذلك ، وعليه فلم يعلم أنّ الصحيح هو ما ذكره ابن إدريس في أوّل السرائر أم ما أثبته في آخره. ومن هنا احتمل بعض ومنهم المجلسي أن تكونا روايتين قد رواهما زرارة على الوجهين ، وكذا حريز عنه في كتابه ، فأثبتهما ابن إدريس في الموضعين ، وإن كان بعيداً غايته كما لا يخفى.

وكيف كان ، فلا يخلو إمّا أنّهما روايتان ، أو هما رواية واحدة دائرة بين الزيادة والنقيصة ، فعلى الثاني ، يدور الأمر بين الحجة واللاّحجة ، إذ الصادر ليس إلاّ أحدهما ، وبما أنّه غير معلوم لاشتباهه بالآخر فلا يمكن الحكم بصحة المشتمل على التكبير ، لعدم الوثوق بصدوره فيسقط عن الاستدلال.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٢٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٢ ، السرائر ١ : ٢١٩.

(٢) السرائر ٣ : ٥٨٥.

(٣) الحدائق ٨ : ٤١٢ ، البحار ٨٢ : ٨٧.

٤٦١

وعلى الأوّل ، فمع بعده في نفسه كما عرفت سيّما من مثل زرارة ، إذ بعد أن سأل حكم المسألة عن الإمام عليه‌السلام كيف يسأله مرّة أُخرى فغاية ما هناك أنّهما روايتان تضمّنت إحداهما الأمر بالتكبير ، والأُخرى عدم الأمر الظاهر بمقتضى الإطلاق في جواز تركه ، لكونه مسوقاً في مقام البيان وتعيين تمام الوظيفة ولا شك أنّ مقتضى الجمع العرفي بينهما هو الحمل على الاستحباب وأنّ الواجب هي التسبيحات التسع ، والثلاث الزائدة في الرواية الأُخرى مستحبّة هذا.

وممّا يؤيد زيادة كلمة التكبير في الرواية وأنّها سهو من قلم النساخ من جهة انس الذهن الناشئ من المعهودية الخارجية : أنّ الصدوق رواها بعينها بطريق صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام من دون ذكر التكبير مصرّحاً بالتسع ، بحيث لا يحتمل معه النقص ، حيث قال : « ... فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله ثلاث مرات تكمله تسع تسبيحات ثم تكبِّر وتركع » (١).

فتحصّل : أنّ هذا القول ساقط لعدم الدليل عليه.

القول الثاني : أنّها عشر تسبيحات فيقول هكذا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله ثلاث مرات ، ثم يقول : الله أكبر ، فيكون المجموع عشراً. نسب ذلك إلى السيد المرتضى (٢) والشيخ في الجمل والمبسوط (٣) ، وابن إدريس (٤) وسلاّر (٥) وابن البراج (٦) ، ومال إليه في الحدائق (٧) معترفاً كغيره من جملة من الأصحاب‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٢٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١ ، الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٥٨.

(٢) جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٣٣.

(٣) الجمل والعقود ( ضمن الرسائل العشر ) : ١٨١ ، المبسوط ١ : ١٠٦.

(٤) السرائر ١ : ٢٢٢.

(٥) المراسم : ٧٢.

(٦) المهذب ١ : ٩٧.

(٧) الحدائق ٨ : ٤١٦.

٤٦٢

بعدم الوقوف على رواية تدل عليه ، غير أنّه قدس‌سره تصدى لإثباته بضم بعض الأخبار إلى بعض.

هذا ، ويمكن أن يستدل لهذا القول بصحيحة زرارة على رواية الصدوق المتقدمة آنفاً ، بناءً على حمل التكبير في قوله عليه‌السلام « ثم تكبّر وتركع » على ما هو من متمم التسبيح الواجب في الركعتين الأخيرتين لا على تكبير الركوع.

لكنه كما ترى بعيد جدّاً ، فانّ ظاهرها أنّ تمام الواجب إنّما هو التسع وأنّ التكبير هو تكبير الركوع ، ولذا عطفه على سابقه بكلمة « ثم » الظاهر في الانفصال وإلاّ كان الأحرى أن يقال : تكمله تسع تسبيحات وتكبّر ثم تركع ، أو تكمله عشر تسبيحات ثم تكبّر وتركع.

وكيف كان ، فلا ينبغي الريب في ضعف هذا القول أيضاً ، وصاحب الحدائق (١) قد استند في التسع إلى هذه الصحيحة وفي التكبير المتمم للعشر إلى الروايات الأُخر ، وهو أيضاً لا يتم كما لا يخفى.

القول الثالث : أنّها تسع تسبيحات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله يكرّرها ثلاث مرّات. نسب إلى الصدوق (٢) ووالده (٣) وأبي الصلاح (٤). ونسب أيضاً إلى حريز الراوي للتسع (٥) وهو من قدماء الأصحاب. فيظهر أنّ فتواه أيضاً كذلك ، مضافاً إلى روايته.

والدليل عليه : هو صحيح حريز عن زرارة المتقدم آنفاً ، الذي نقله الصدوق‌

__________________

(١) الحدائق ٨ : ٤١٢ ، ٤١٦.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٥٨ ، الهداية : ١٣٥.

(٣) حكاه عنه في المختلف ٢ : ١٦٤.

(٤) الكافي في الفقه : ١١٧.

(٥) حكاه عنه في المعتبر ٢ : ١٨٩.

٤٦٣

وقدر مرّ أنّ ابن إدريس أيضاً رواه كذلك في آخر السرائر نقلاً عن كتاب حريز عن زرارة.

وهذا القول لا بأس به ، فإنّ الرواية صحيحة صريحة ، فان ثبت جواز الاكتفاء بما دونه وإلاّ فلا بدّ من الالتزام به.

القول الرابع : الاجتزاء بالتسبيحات الأربع مرة واحدة ، اختاره جمع كثير بل نسب ذلك إلى المشهور.

وتدل عليه صريحاً : صحيحة زرارة قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ما يجزئ من القول في الركعتين الأخيرتين؟ قال : أن تقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، وتكبّر وتركع » (١) ، وهي واضحة الدلالة للتصريح بالإجزاء ، فالزائد عليه من الأذكار فضل وندب ، وبذلك نرفع اليد عن القول السابق ، أعني التسع ويحكم باستحبابها ، ويؤيّده : رواية محمد بن عمران ومحمد ابن حمزة (٢).

وقد يستدل لذلك كما في الحدائق (٣) بصحيحة سالم بن مكرم أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا كنت إمام قوم فعليك أن تقرأ في الركعتين الأولتين ، وعلى الذين خلفك أن يقولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر وهم قيام ، فاذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب وعلى الإمام أن يسبّح مثل ما

يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٠٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٥.

(٢) الوسائل ٦ : ١٢٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٣.

(٣) الحدائق ٨ : ٤١٢.

(٤) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٣.

٤٦٤

وهذه الرواية صحيحة السند ، إذ ليس في الطريق من يغمز فيه عدا الراوي الأخير ، والظاهر أنّه سالم بن مكرم المكنى بأبي خديجة مرّة وأبي سلمة اخرى فأبو خديجة كنية له لا لأبيه ، فما وقع في الوسائل في المقام من قوله : سالم بن أبي خديجة سهو من قلمه الشريف أو من النسّاخ. وقد ذكر قدس‌سره هذه الرواية بعينها في باب ٣٢ من الجماعة بحذف كلمة ابن فقال : عن سالم أبي خديجة (١) ، وكذا في التهذيب ٣ : ٢٧٥ / ٨٠٠ وهو صحيح كما عرفت.

وهذا الرجل أعني سالم بن مكرم قد وثقه النجاشي وقال : إنّه ثقة ثقة (٢) إلاّ أنّ الشيخ قدس‌سره قد ضعّفه في الفهرست (٣) صريحاً وإن وثقه في موضع آخر على ما حكاه العلاّمة (٤) ولكن الظاهر أنّ تضعيف الشيخ يبتني على تخيل اتحاده مع سالم بن أبي سلمة الكندي السجستاني وهو سهو منه بلا شك ، وقد أوضح ذلك سيدُنا الأُستاد ( دام ظله ) (٥) في المعجم ٩ : ٢٧ / ٤٩٦٦ فليلاحظ.

وكيف كان ، فلا ينبغي الريب في صحة السند ، ومن هنا عبّر عنها في الحدائق بالصحيحة (٦).

ولكنّها قاصرة الدلالة على الاجتزاء بالمرّة وإن ادعاها صاحب الحدائق ولعلّه باعتبار ذكر التسبيح مرّة واحدة في الركعتين الأوّلتين ، وهو كما ترى فانّ‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٦٢ / ح ٦.

(٢) رجال النجاشي : ١٨٨ / ٥٠١.

(٣) الفهرست : ٧٩ / ٣٢٧.

(٤) الخلاصة : ٣٥٤ / ١٤٠٤.

(٥) [ هذا خروج عن رسم التقريرات ، وكم له نظير في هذه الموسوعة ].

(٦) لم أظفر على تصريح من الحدائق بذلك في المقام ولعلّه عبّر عنها بذلك في مقام آخر فلاحظ.

٤٦٥

النظر فيها مقصور على بيان التفرقة بين الركعتين الأوّلتين والأخيرتين ، وأنّ الإمام يقرأ في الأوّلتين والمأموم يسبّح ، وأمّا في الأخيرتين فهما سواء ، وأمّا أنّ كيفية التسبيح في الأخيرتين أيّ شي‌ء فهي ساكتة عنه بالكلية ، ومجرد ذكر تسبيح خاص في الأوّلتين لا يقتضي كونه في الأخيرتين كذلك ، فهذا الاستدلال ساقط ، والعمدة فيه صحيحة زرارة المؤيّدة بالروايتين كما تقدم.

القول الخامس : ما نسب إلى ابن الجنيد (١) من كفاية ثلاث تسبيحات بأن يقول : الحمد لله وسبحان الله والله أكبر ، وهذا القول أيضاً غير بعيد ككفاية التسبيحات الأربع ، إذ قد دلت عليه صحيحة الحلبي صريحاً ، فقد روى الشيخ في الصحيح عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما ، فقل الحمد لله وسبحان الله والله أكبر » (٢).

وقد رواها في الاستبصار والتهذيب (٣) غير أنّ كلمة « الأخيرتين » غير مذكورة في الثاني ، ولعلها سقطت من قلمه الشريف. وكيف كان ، فالدلالة ظاهرة سواء جعلنا قوله عليه‌السلام « لا تقرأ فيهما » صفة « للأخيرتين » أو جزاء للشرط بأن تكون نهياً أو نفياً تفيده ، لكونها في مقام الإنشاء.

القول السادس : ما نسب إلى ابن أبي عقيل (٤) من كفاية التسبيح ثلاثاً بأن يقول : « سبحان الله سبحان الله سبحان الله » وقد استدلّ له برواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : أدنى ما يجزئ من القول في الركعتين الأخيرتين ثلاث تسبيحات أن تقول : سبحان ، الله سبحان الله ، سبحان الله » (٥).

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف ٢ : ١٦٤.

(٢) الوسائل ٦ : ١٢٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٧.

(٣) الاستبصار ١ : ٣٢٢ / ١٢٠٣ ، التهذيب ٢ : ٩٩ / ٣٧٢.

(٤) لم نعثر عليه.

(٥) الوسائل ٦ : ١٠٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٧.

٤٦٦

وفيه : أن الدلالة وإن كانت تامة لكن السند ضعيف لضعف طريق الصدوق إلى وهيب بن حفص بشيخه محمد بن علي ماجيلويه فإنه لم يوثق ، وبمحمد بن علي الهمداني الذي استظهر الأردبيلي في جامعه (١) أنه محمد بن علي القرشي أبو سمينة المعروف بالكذب ولكنه في غير محله بل هو محمد بن علي بن إبراهيم الهمداني وكيل الناحية وإن كان ضعيفاً أيضاً حيث استثناه ابن الوليد من رجال نوادر الحكمة (٢) ، ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على رواياته. فهذا القول ساقط. نعم ، بناءً على جواز الاكتفاء بمطلق الذكر وانه ليس في التسبيح شي‌ء موقت كما هو أحد الأقوال وسيجي‌ء الكلام عليه ان شاء الله تعالى أمكن الاكتفاء به حينئذ لا لخصوصية فيه بل لكونه مصداقاً للذكر المطلق.

والمتحصل : من جميع ما قدمناه لحد الآن جواز الاقتصار على التسبيحات التسع ، بل الاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرة واحدة ، بل بالتسبيحات الثلاث لورود النص الصحيح على كل ذلك ، كما تقدم في بيان القول الثالث والرابع والخامس.

بل لا يبعد الاكتفاء بالتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء ، لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : عشر ركعات ، ركعتان من الظهر وركعتان من العصر ، وركعتا الصبح ، وركعتا المغرب ، وركعتا العشاء الآخرة لا يجوز فيهنّ الوهم إلى أن قال ـ : وهي الصلاة التي فرضها الله ، وفوّض إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة سبع ركعات هي سنّة ليس فيهنّ قراءة ، إنّما هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء فالوهم إنّما هو فيهنّ » الحديث (٣). وبمضمونها روايته الأُخرى الواردة في المأموم‌

__________________

(١) جامع الرواة ٢ : ٣٩٢ ، ٥٤٢.

(٢) رجال النجاشي : ٣٤٨ / ٩٣٩.

(٣) الوسائل ٦ : ١٠٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٦.

٤٦٧

المسبوق (١).

كما لا يبعد الاجتزاء بأقل من ذلك ، أعني التسبيح والتحميد والاستغفار لوروده في صحيحة عبيد بن زرارة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الركعتين الأخيرتين من الظهر ، قال : تسبّح وتحمد الله وتستغفر لذنبك ، وإن شئت فاتحة الكتاب فإنها تحميد ودعاء » (٢).

بل يظهر من ذيلها جواز الاكتفاء بأقل من ذلك أيضاً ، أعني مجرد التحميد والدعاء ، فلا حاجة إلى التسبيح والاستغفار إلاّ من جهة كونه مصداقاً للدعاء لتعليل الاجتزاء بالفاتحة باشتمالها على التحميد والدعاء ، ومن الواضح أنّها غير متضمنة للاستغفار ، فيظهر أنّ العبرة بالدعاء ، كان استغفاراً أم لا. ومن جميع ما سردناه يظهر قوّة :

القول السابع : من التخيير بين جميع هذه الصور وجواز العمل بكل ما تضمنته النصوص الصحيحة المتقدمة ، المنسوب إلى ابن طاوس (٣) والمحقق في المعتبر (٤) ، ومال إليه جملة من المتأخرين ، فإنّ هذا القول قريب جدّاً ، لصحة تلكم الأخبار سنداً ودلالة كما عرفت ، ولا تعارض بينها ، غايته أنّ الأمر في كل منها ظاهر في الوجوب التعييني فيحمل على التخيير جمعاً. بقي الكلام في القول الأخير وهو :

القول الثامن : من الاجتزاء بمطلق الذكر وإن لم يكن بإحدى الصور المتقدمة في النصوص السابقة كما نسب إلى بعض ، ويمكن أن يستدل له بوجوه :

الأوّل : أنّ الاختلاف الكبير الواقع في الأخبار في تعيين الأذكار كما مرّ‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٨٨ / أبواب صلاة الجماعة ب ٤٧ ح ٤.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ١.

(٣) حكاه عنه في الذكرى ٣ : ٣١٥.

(٤) المعتبر ٢ : ١٩٠.

٤٦٨

يكشف عن أنّ الاعتبار بمطلق الذكر وأنّه ليس هناك شي‌ء مؤقّت. فالواجب إنّما هو طبيعي ذكر الله ولا خصوصية للمذكور في النصوص وإنّما هي أمثلته وبيان بعض مصاديقه. فالمقام نظير الأخبار الواردة في باب صلاة الميت ، فكما أنّا استفدنا من الاختلاف الكثير الواقع في كيفية تعيين الأدعية أنّ العبرة بمطلق الدعاء وليس هناك شي‌ء موقّت ، فكذا في المقام طابق النعل بالنعل.

وفيه : أنّ القياس مع الفارق ، فإنّ الأمر وإن كان كذلك في باب صلاة الميت لكنه ليس لأجل اختلاف الأخبار فحسب ، بل للتصريح في تلك الأخبار بأنّه ليس هناك شي‌ء موقّت. ومثل هذا التصريح لم يرد في نصوص المقام حتى يلتزم بإلغاء تلك الخصوصيات الواردة فيها ، إذ من الواضح أنّ مجرّد الاختلاف وإن كثر لا يقتضي ذلك بل لا بدّ من مراعاتها ، غاية الأمر أنّ الأمر الوارد في كل خبر ظاهر في نفسه بمقتضى الإطلاق في الوجوب التعييني فيرفع اليد عنه ويحمل على التخييري جمعاً بينها كما تقدم ، فلا يجوز له اختيار ذكر لا نص فيه لعدم الدليل عليه.

الثاني : رواية علي بن حنظلة وقد تقدمت (١) قال : « سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ ، فقال : إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب ، وإن شئت فاذكر الله فهو سواء ، قال قلت : فأيّ ذلك أفضل؟ فقال : هما والله سواء إن شئت سبّحت وإن شئت قرأت » (٢) فيظهر منها أنّ العبرة بمطلق ذكر الله كيف ما تحقق.

وفيه أوّلاً : أنّها ضعيفة السند كما مرّ (٣) وإن عبّر عنها بالموثقة في كلمات بعض فانّ علي بن حنظلة (٤) لم يوثق وإن كان أخوه عمر تقبل رواياته ويعبّر عنها‌

__________________

(١) في ص ٤٥٠.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٣.

(٣) في ص ٤٥١.

(٤) سيجي‌ء قريباً في أواخر المسألة الثانية [ ص ٤٧٩ ] توثيق الرجل فلاحظ.

٤٦٩

بالمقبولة.

وثانياً : مع الغض عن السند فالدلالة قاصرة ، إذ غايتها أنّها بالإطلاق فيقيد بما ورد في سائر الأخبار من التقييد بالذكر المخصوص كما هو مقتضى صناعة الإطلاق والتقييد ، بل يمكن دعوى منع انعقاد الإطلاق من أصله ، للتصريح في الذيل بقوله عليه‌السلام « إن شئت سبّحت ... » إلخ ، الكاشف عن أنّ المراد بالذكر في الصدر خصوص التسبيح لا مطلق الذكر فتدبر جيداً.

الثالث : ما ادّعاه المحقق الهمداني قدس‌سره من أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة المتقدمة « إنّما هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء ... » إلخ (١) هو الاجتزاء بكل واحد من هذه الأُمور ، وأنّ ذلك من باب التنويع. ثم قال قدس‌سره ولو سلّم عدم ظهور الصحيحة في نفسها في ذلك فلتحمل عليه بقرينة رواية علي بن حنظلة المتقدمة ، انتهى ملخصاً (٢).

وهذه الدعوى كما ترى لم نتحققها ، فانّ ظاهر الواو هو الجمع ، فارادة التنويع كي يكون بمعنى أو خلاف الظاهر لا يصار إليه من دون قرينة. وأضعف من ذلك : الاستشهاد برواية علي بن حنظلة ، إذ قد عرفت أنّها في نفسها ضعيفة سنداً ودلالة فكيف يستشهد بها.

فظهر أنّ القول بالاجتزاء بمطلق الذكر ساقط.

وقد تحصل لك من جميع ما قدمناه : أنّ الأقوى هو الاجتزاء في التسبيح بكل ما ورد في النصوص الصحيحة كما ذكره جماعة ، لكن الأحوط اختيار التسبيحات الأربعة مرة واحدة ، وأحوط من ذلك تكرارها ثلاثاً ، فإنه مجزٍ ومبرئ للذمة قطعاً ، لعدم الخلاف فيه من أحد كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٠٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٦.

(٢) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٣١٨ السطر ٢١.

٤٧٠

والأولى إضافة الاستغفار إليها (١) ولو بأن يقول : اللهمّ اغفر لي.

______________________________________________________

(١) للأمر به في صحيحة عبيد بن زرارة المتقدمة قال عليه‌السلام : « تسبّح وتحمد الله وتستغفر لذنبك ... » إلخ (١) المحمول على الاستحباب لخلو سائر الأخبار عنه. مضافاً إلى عدم القائل بالوجوب. نعم ، ربما يستظهر أو يستشعر من كلام العلاّمة في المنتهي وجود القائل به ، حيث إنّه بعد أن سلّم دلالة الصحيحة عليه قال : الأقرب عدم وجوب الاستغفار (٢) ، فإنّ التعبير بالأقرب يشعر بوجود الخلاف ، لكن الظاهر أنّ مراده قدس‌سره الأقرب بالنظر إلى الصحيحة لا في قبال قول آخر.

وكيف ما كان ، فالظاهر عدم الوجوب لقصور الصحيحة في نفسها عن الدلالة عليه ، فانّ ذيلها يشهد بأنّ الاستغفار إنّما ذكر لكونه مصداقاً للدعاء لا لخصوصية فيه ، لقوله عليه‌السلام : « وإن شئت فاتحة الكتاب فإنّها تحميد ودعاء » فيكشف عن أنّ العبرة بالدعاء ، والاستغفار المذكور في الصدر من مصاديقه (٣) ، ولا يحتمل العكس لخلوّ الفاتحة عن الاستغفار.

على أنّه مع التسليم فغايته وجوب الاستغفار فيما لو اكتفى بالتحميد والتسبيح المشتمل عليهما هذه الصحيحة ، أمّا لو اختار ذكراً آخر مذكوراً في بقية النصوص فلما ذا؟ فما ذكره الفقهاء من الاستحباب هو المتعيّن.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٠٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ١.

(٢) المنتهي ١ : ٢٧٥ ، السطر الأخير.

(٣) المفهوم من الصحيحة أنّ التسبيح تحميد كما أنّ الاستغفار دعاء ، وسورة الحمد مشتملة عليهما معاً ، وغاية ما يستفاد من الذيل جواز الإتيان بكل ما يشتمل على التحميد والدعاء ، لا جواز ترك الاستغفار وعدم تبديله بما يشتمل على الدعاء لو اختار المكلف التسبيح كما هو المدعى.

٤٧١

ومن لا يستطيع يأتي بالممكن (١) منها ، وإلاّ أتى بالذكر المطلق (*) (٢) وإن كان قادراً على قراءة الحمد تعيّنت حينئذ (٣).

[١٥٥٣] مسألة ١ : إذا نسي الحمد في الركعتين الأُوليين ، فالأحوط اختيار قراءته في الأخيرتين ، لكن الأقوى بقاء التخيير بينه وبين التسبيحات (٤).

______________________________________________________

(١) وهذا هو الصحيح ، لا لقاعدة الميسور لعدم تماميتها ، بل لأنّ المستفاد من الأخبار بمقتضى الفهم العرفي أنّ كلا من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير جزء مستقل ، لا أنّ المجموع جزء واحد ، وعليه فلو عجز عن البعض لم يسقط الأمر بالباقي لإطلاق دليله.

(٢) لا يمكن المساعدة عليه ، لما مرّ (١) من أنّ الاكتفاء بالذكر المطلق لا دليل عليه ، فلا يجزئ في المقام حتى لو بني على تمامية قاعدة الميسور ، إذ الإتيان بفرد آخر من الذكر غير ما هو الموجود في النصوص الصحيحة ، كقوله : الله خالق أو رازق ونحو ذلك مباين لما هو الواجب المذكور في تلك النصوص من التسبيح والتحميد والتهليل ونحوها ، لا أنّه ميسور لها ومن مراتبها كما لا يخفى.

(٣) بلا إشكال كما هو الحال في كل واجب تخييري تعذّر ما عدا الواحد من أطرافه ، فانّ الواجب يتعين فيه عقلاً ، ولا تنتقل الوظيفة إلى البدل الواقع في طوله.

(٤) تقدم الكلام في هذه المسألة مفصلاً (٢) ، وظهر حالها بما لا مزيد عليه ، فلا حاجة إلى الإعادة.

__________________

(*) على الأحوط.

(١) في ص ٤٦٨.

(٢) في ص ٤٥٤.

٤٧٢

[١٥٥٤] مسألة ٢ : الأقوى كون التسبيحات أفضل (*) من قراءة الحمد في الأخيرتين ، سواء كان منفرداً أو إماماً أو مأموماً (١).

______________________________________________________

(١) كما نسب ذلك إلى جمع كثير من الأصحاب ، وقيل بأفضلية القراءة إمّا لخصوص الإمام أو مطلقاً ، وقيل بالتساوي وعدم ترجيح في البين ، وحيث إنّ منشأ الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في المقام فلا بدّ من التعرّض إليها ، فنقول : مقتضى طائفة كثيرة من النصوص وأغلبها صحيح أو موثق أفضلية التسبيح وقد تقدم التعرض لها ونشير إليها إجمالاً وهي :

صحيحة زرارة التي رواها الصدوق (١) وصحيحته الأُخرى (٢) وبمضمونهما صحيحتان أخريان له (٣).

وصحيحة الحلبي (٤) « إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما ، فقل : الحمد لله وسبحان الله والله أكبر » ، سواء أكان قوله عليه‌السلام « لا تقرأ فيهما » صفة للأخيرتين أم جزاءً للشرط ، وإن كان الأول أظهر ، والجزاء هو قوله : فقل ... إلخ ، وإن كان الأنسب دخول الفاء على هذه الجملة كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالنهي عن القراءة أو نفيها وإن كان ظاهراً في عدم المشروعية لكنه محمول على المرجوحية بقرينة الأخبار الأُخر كما مرّ ، فينتج أفضلية التسبيح.

__________________

(*) في ثبوت الأفضلية في الإمام والمنفرد إشكال ، نعم هو أفضل للمأموم في الصلوات الإخفاتية من القراءة ، وأمّا في الصلوات الجهرية فالأحوط له وجوباً اختيار التسبيح.

(١) الوسائل ٦ : ١٢٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١ ، الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٥٨.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٦.

(٣) الوسائل ٨ : ١٨٧ / أبواب الخلل ب ١ ح ١ و ٣٨٨ / أبواب الجماعة ب ٤٧ ح ٤.

(٤) الوسائل ٦ : ١٢٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٧.

٤٧٣

وصحيحة محمد بن قيس (١) فانّ التعبير بـ « كان » يدل على الاستمرار الكاشف عن أفضلية التسبيح ، وظاهرها الإطلاق ، لأنّه عليه‌السلام كان يصلي إماماً ومأموماً ومنفرداً.

هذه جملة الروايات المعتبرة الدالّة على أفضلية التسبيح مطلقاً. ويؤيدها روايات أُخر ، وإن كانت أسانيدها لا تخلو عن الخدش كرواية رجاء بن الضحاك (٢) ورواية محمد بن عمران (٣) المصرّحة بأفضلية التسبيح وغيرهما ممّا لا يخفى على المراجع.

وبإزائها طائفة أُخرى من الأخبار تقتضي أفضلية الحمد مطلقاً ، وهي روايتان إحداهما : رواية محمد بن حكيم قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام أيّهما أفضل القراءة في الركعتين الأخيرتين أو التسبيح؟ فقال : القراءة أفضل » (٤) لكنها ضعيفة السند بمحمد بن الحسن بن علان ومحمد بن حكيم ، فإنّهما لم يوثقا.

الثانية : رواية الطبرسي في الاحتجاج عن الحميري عن صاحب الزمان عليه‌السلام « أنّه كتب إليه يسأله عن الركعتين الأخيرتين إلى أن قال فأجاب عليه‌السلام قد نسخت قراءة أُم الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح والذي نسخ التسبيح قول العالم عليه‌السلام « كل صلاة لا قراءة فيها فهي خداج ... » إلخ (٥) ، وقد تقدّم التعرّض لها في أوّل الفصل (٦) ، وعرفت أنّها ضعيفة السند بالإرسال أوّلاً ، ومشوّشة المتن ثانياً. ولو تمت لكانت حاكمة على جميع‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٢٥ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٩.

(٢) الوسائل ٦ : ١١٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٨.

(٣) الوسائل ٦ : ١٢٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٣.

(٤) الوسائل ٦ : ١٢٥ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٠.

(٥) الوسائل ٦ : ١٢٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٤ ، الاحتجاج ٢ : ٥٨٥ / ٣٥٧.

(٦) في ص ٤٤٩.

٤٧٤

أخبار الباب.

فظهر أنّه ليست هناك رواية يعتمد عليها تقتضي أفضلية الحمد مطلقاً حتى تعارض الطائفة السابقة من الأخبار المقتضية لأفضلية التسبيح مطلقاً ، فهذا القول ساقط.

يبقى الكلام : في التفصيل الذي قيل به بين الإمام وغيره. ويقع الكلام تارة : في المنفرد ، واخرى : في الإمام ، وثالثة : في المأموم.

أمّا المنفرد ، فلم يرد في شي‌ء من النصوص ما تضمن الأمر بالفاتحة خاصة بالنسبة إليه ، عدا رواية جميل بن دراج « ... ويقرأ الرجل فيهما إذا صلى وحده بفاتحة الكتاب » (١) لكنها ضعيفة السند بعلي بن السندي ، فإنّه لم يوثق إلاّ من نصر بن صباح (٢) ولا عبرة به ، لعدم ثبوت وثاقته في نفسه. ومن هنا لا يبعد القول بأفضلية التسبيح بالإضافة إليه كما نبّه عليه سيدنا الأُستاذ ( دام ظله ) في تعليقته الشريفة (٣) عملاً بالنصوص المتقدمة ، وإن كان هذا أيضاً لا يخلو عن شي‌ء كما ستعرف.

وأمّا الإمام ، فمقتضى النصوص المتقدمة أفضلية التسبيح له ، بل قد يظهر من صحيحة سالم أبي خديجة (٤) تعيّنه كما لا يخفى.

لكن بإزائها صحيحتان تضمّنتا الأمر بالفاتحة خاصة ، وهما : صحيحة معاوية ابن عمار « عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين ، فقال : الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومن خلفه يسبِّح ، فاذا كنت وحدك فاقرأ فيهما وإن شئت فسبّح » (٥)

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٤.

(٢) رجال الكشي : ٥٩٨ / ١١١٩ ، معجم رجال الحديث ١٣ : ٥٠ / ٨١٩٥.

(٣) [ تقدم في التعليقة الإشكال في أفضلية التسبيح للمنفرد. راجع ص ٤٧٣ ].

(٤) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٣.

(٥) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٢.

٤٧٥

وصحيحة منصور بن حازم « إذا كنت إماماً فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب وإن كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل » (١).

وقد جمع المحقق الهمداني قدس‌سره (٢) بينهما بالالتزام بالتخصيص ، وأنّ خصوص الإمام تتعين عليه الفاتحة ، فتحمل النصوص السابقة على غير الإمام وهو كما ترى فانّ في بعض تلك النصوص التصريح بالتسبيح في خصوص الإمام كصحيحة سالم أبي خديجة المتقدمة آنفاً ، فتقع المعارضة لا محالة ، ولا سبيل للتخصيص ، بل إنّ مقتضى الجمع العرفي بينهما هو الحمل على التخيير ، لظهور كل منهما في التعيين ، فيرفع اليد عن خصوصية التعينية ويحمل على التخيير.

ومنه تعرف أنّه لا مجال لحمل الصحيحتين على التقية كما ارتكبه صاحب الحدائق (٣) ، إذ الحمل المزبور فرع تعذر الجمع العرفي وقد عرفت إمكانه بما ذكرناه ونتيجة ذلك هو الحكم بالتخيير من دون ترجيح لأحدهما على الآخر.

هذا ، والتحقيق عدم إمكان الحمل على التقية في نفسه ، فإنّ الأمر بالقراءة في الصحيحتين ظاهر في الوجوب ، فامّا أن يراد به الوجوب التعييني أو التخييري لا سبيل للثاني للتصريح في ذيلهما بثبوت التخيير للمنفرد أيضاً ، فلم يبق فرق بينه وبين الإمام ، ومن الواضح أنّ التفصيل قاطع للشركة.

كما لا سبيل للأوّل أيضاً ، إذ لم يقل به أحد حتى من العامة ، فإنّ مذهبهم أفضلية القراءة في الأخيرتين لا تعيّنها فكيف يحمل على التقية.

ودعوى حمل الأمر على الاستحباب ، ثم الحمل على التقية ، كما ترى ، إذ لا مقتضي لحمل اللفظ على خلاف ظاهره ثم الحمل على التقية.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١١.

(٢) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٢٨٥ ، السطر ٢٨.

(٣) الحدائق ٨ : ٤٠٢.

٤٧٦

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما قدّمناه (١) من الجمع العرفي أيضاً ساقط ، لما عرفت من تعذر الحمل على التخيير ، فلا مناص من الالتزام باستقرار المعارضة بينهما وبين صحيحة سالم أبي خديجة المتقدمة الصريحة في تعيّن التسبيح للإمام فيتساقطان لا محالة ، والمرجع بعدئذ إطلاق صحيحة عبيد بن زرارة (٢) القاضية بالتخيير والمساواة بين القراءة والتسبيح من دون ترجيح.

فان قلت : قد ورد النهي عن القراءة في بعض النصوص المحمول على الكراهة جمعاً ، ولازمه أفضلية التسبيح فكيف يلتزم بالتخيير.

قلت : النهي عن القراءة لم يرد إلاّ في صحيحتين ، إحداهما : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إن كنت خلف إمام فلا تقرأنّ شيئاً في الأولتين ، وأنصت لقراءته ، ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين ، فإنّ الله عزّ وجل يقول للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني في الفريضة خلف الإمام ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ، فالأخيرتان تبعاً للأوّلتين » (٣).

وهي كما ترى ظاهرة في المنع عن القراءة في الصلوات الجهرية ، ولا معارض لها في موردها ، فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة لحكمنا بعدم جواز القراءة في الأخيرتين للمأموم في الصلاة الجهرية ، إذ لا مقتضي لحمل النهي على خلاف ظاهره بعد سلامته عن المعارض في مورده ، غير أنّ المشهور لم يلتزموا بذلك.

ومن هنا كان الأحوط وجوباً اختيار التسبيح بالنسبة إليه ، كما نبّه عليه سيدُنا الأُستاذ ( دام ظله ) في التعليقة (٤).

__________________

(١) في ص ٤٥٢.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ١.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٥٥ / أبواب الجماعة ب ٣١ ح ٣.

(٤) تقدمت في ص ٤٧٣.

٤٧٧

الثانية : صحيحته الأُخرى عنه عليه‌السلام « أنّه قال : لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئاً إماماً كنت أو غير إمام ... » إلخ (١) لكن هذا النهي باعتبار تأكيده بالنون المثقلة وتنكير لفظ الشي‌ء غير قابل للحمل على الكراهة كما لا يخفى ، ومقتضى الجمع بينها وبين سائر الأخبار المرخّصة للقراءة ، هو إرادة النهي عن القراءة بعنوان الوظيفة المقررة في الركعتين الأخيرتين ، فلا يجوز الإتيان بها فيهما بهذا العنوان ، أي بعنوان الوظيفة الأصلية والواجب الأوّلي ، على حد الإتيان بها في الأوّلتين كما تفعله العامة كذلك ، فلا ينافي ذلك جواز الإتيان بها فيهما بعنوان أنّها مصداق للتسبيح ، وباعتبار اشتمالها على التحميد والدعاء كما صرح بذلك في صحيحة عبيد بن زرارة المتقدمة.

وملخّص الكلام في المقام : أنّ المستفاد من الأخبار بعد ضمّ بعضها إلى بعض ، أنّ الوظيفة الأوّلية في الركعتين الأخيرتين اللتين هما ممّا سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدخلهما الوهم ، إنّما هو التسبيح فقط في مقابل الركعتين الأوّلتين اللتين هما من فرض الله ولا يدخلهما الوهم ، فإن الوظيفة فيهما القراءة فحسب ، وقد جعل هذا الفرق امتيازاً لما فرضه الله عمّا سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أُشير إلى ذلك في بعض النصوص (٢) ، فالقراءة بعنوانها الأوّلي غير مشروعة في الأخيرتين ، بل المقرر إنّما هو التسبيح كما تشهد بذلك الصحاح الثلاث لزرارة المصرّحة بأنّه ليس فيهنّ قراءة (٣).

فلو كنا نحن وهذه النصوص ، لحكمنا بعدم مشروعية القراءة في الأخيرتين مطلقاً ، إلاّ أنّه يظهر من صحيحة عبيد بن زرارة المتقدمة جواز القراءة فيهما‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٢٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١.

(٢) الوسائل ٦ : ١٢٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٤.

(٣) الوسائل ٦ : ١٠٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٦ ، ١٢٤ / ب ٥١ ح ٦ ، الوسائل ٨ : ١٨٧ / أبواب الخلل ب ١ ح ١.

٤٧٨

أيضاً ، لا بعنوانها الأوّلي ، بل لمكان اشتمالها على التحميد والدعاء ، فتكون أيضاً فرداً من أفراد التسبيح ، فهي والتسبيحات المقررة على حد سواء ، والمكلف مخير عقلاً بين الأمرين ، لأنّ المأمور به هو جامع التسبيح وطبيعيه ، وبما أنّ القراءة من أفراده بمقتضى هذه الصحيحة ، فيكون التخيير بينهما عقلياً ، فهذه الصحيحة حاكمة على جميع أخبار الباب ومثبتة للتساوي بين الأمرين من غير ترجيح في البين ، وقد عرفت (١) أنّ الأمر بالقراءة للإمام في صحيحتي معاوية ومنصور معارض بالأمر بالتسبيح في صحيحة سالم أبي خديجة ، وبعد التساقط يرجع إلى إطلاق هذه الصحيحة المثبتة للتخيير على الإطلاق من غير فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد ، إلاّ قسماً خاصاً من المأموم كما تقدم ، لورود النص الخاص فيه السليم عن المعارض.

ويدلُّ على ما ذكرناه من التخيير مطلقاً : مضافاً إلى صحيحة عبيد ، موثقة علي بن حنظلة (٢) بل هي أصرح منها ، لتضمنها الحلف على التساوي بين القراءة والتسبيح ، ونحن وإن ناقشنا فيما سبق (٣) في سند هذه الرواية ، بل حكمنا بضعفها من جهة عدم ثبوت وثاقة علي بن حنظلة ، ولا أخيه عمر في كتب الرجال ، وإن تلقّى الأصحاب روايات الثاني بالقبول وأسموها مقبولة عمر بن حنظلة.

لكن الظاهر وثاقة الرجل علي بن حنظلة فإن ما تقدم من التضعيف كان مبنياً على الغفلة عمّا ورد في شأنه من رواية صحيحة تدل على وثاقته بل ما فوقها ، وهي ما رواه في بصائر الدرجات (٤) بسند صحيح عن عبد الأعلى بن‌

__________________

(١) في ص ٤٧٥.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٣.

(٣) في ص ٤٥١ ، ٤٦٩.

(٤) بصائر الدرجات : ٣٤٨ / ٢ ، وقد أشار ( دام ظله ) إلى ذلك في المعجم ١٢ : ٤٢٩ / ٨١١٥.

٤٧٩

أعين قال : « دخلت أنا وعلي بن حنظلة على الصادق عليه‌السلام فسأله علي ابن حنظلة فأجابه فقال : فإن كان كذا وكذا فأجابه فيها حتى أجابه بأربعة وجوه ، فالتفت إليّ علي بن حنظلة قال : يا أبا محمد قد أحكمناه فسمع الصادق عليه‌السلام فقال : لا تقل هكذا يا أبا الحسن فإنّك رجل ورع ، إنّ من الأشياء أشياء ضيّقة ... » إلخ ، فإن أبا الحسن كنية علي بن حنظلة وقد وصفه الإمام بالورع الذي هو فوق العدالة فضلاً عن الوثاقة. فلا ينبغي التشكيك في وثاقه الرجل.

وعليه فروايته في المقام موثقة ، ولو لا وقوع عبد الله بن بكير والحسن بن علي بن فضال في السند لعبّرنا عنها بالصحيحة ، لكنّها موثقة من أجلهما ومقتضاها كصحيحة عبيد هو التخيير والتساوي بين الأمرين مطلقاً كما عرفت.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر الحال في المأموم ، فإنّ الروايات فيه أيضاً متعارضة كالإمام. فيظهر من بعضها أنّ الوظيفة هي التسبيح كرواية سالم أبي خديجة (١) حيث قال عليه‌السلام : « وعلى الإمام أن يسبّح مثل ما يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين ». فإنّ ظاهرها أنّ كون وظيفة المأمومين هي التسبيح أمر مسلّم بحيث شبّه به تسبيح الإمام.

ويظهر من بعضها أنّ الوظيفة إنّما هي القراءة ، كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إن كنت خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتى يفرغ وكان الرجل مأموناً على القرآن فلا تقرأ خلفه في الأوّلتين. وقال : يجزئك التسبيح في الأخيرتين قلت : أيّ شي‌ء تقول أنت؟ قال : أقرأ فاتحة الكتاب » (٢).

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٣.

(٢) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٢.

٤٨٠