موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فمنها : ما ذكره الطبرسي في مجمع البيان مرسلاً عن الشيخ الطوسي قال روي عنهم : جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه (١) وهي كما ترى مرسلة من جهتين ، ولعل المراد إحدى الروايات الآتية.

ومنها : رواية سفيان بن السمط قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ترتيل القرآن ، فقال : اقرأوا كما علمتم » (٢) وهي أيضاً ضعيفة بسهل وبسفيان نفسه.

ومنها : ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « قلت له جعلت فداك إنّا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟ فقال : لا ، اقرأوا كما تعلّمتم فسيجيئكم من يعلّمكم » (٣) وهي ضعيفة أيضاً بسهل وبالإرسال.

ومنها : وهي العمدة ما رواه الكليني بسنده عن سالم أبي سلمة كما في الوسائل قال : « قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا أستمع ، حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام كفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم ، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه‌السلام » إلخ (٤).

وهي كما ترى ظاهرة الدلالة ، إنّما الكلام في سندها ، فانّ الموجود في الوسائل عن سالم أبي سلمة كما قدّمناه الذي هو سالم بن مكرم ، وهو ثقة على‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٦٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٤ ح ٥ ، مجمع البيان ١ : ٨٠.

(٢) الوسائل ٦ : ١٦٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٤ ح ٣.

(٣) الوسائل ٦ : ١٦٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٤ ح ٢ ، الكافي ٢ : ٦١٩ / ٢.

(٤) الوسائل ٦ : ١٦٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٤ ح ١ ، الكافي ٢ : ٦٣٣ / ٢٣.

٤٤١

الأظهر ، وإن نسب العلامة إلى الشيخ أنّه ضعفه في مورد (١) ، لكنه لا يتم ، بل هو من الخطأ في التطبيق كما تعرّضنا له في المعجم (٢) والمذكور في الوافي والحدائق (٣) هكذا : سالم بن سلمة ، بتبديل الأب بالابن وهو مجهول.

والموجود في الطبعة الحديثة من الكافي (٤) في باب النوادر من القرآن : سالم ابن أبي سلمة بالجمع بين الأب والابن وفي جامع الرواة (٥) أيضاً كذلك ، وهو ضعيف قد ضعّفه النجاشي والشيخ (٦) ، إذن يتردد الراوي الأخير بين الثقة والمجهول والضعيف ، فتسقط الرواية عن الاستدلال (٧).

فقد ظهر من جميع ما مرّ أنّه ليست عندنا رواية يعتمد عليها في الحكم بالاجتزاء بكل قراءة متعارفة حتى يخرج بذلك عن مقتضى القاعدة الأوّلية.

لكنه مع ذلك كله لا ينبغي الشك في الاجتزاء ، لجريان السيرة القطعية من أصحاب الأئمة : على ذلك ، فانّ اختلاف القراءات أمر شائع ذائع بل كان متحققاً بعد عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقراءة ابيّ وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ، وقد صنّف في ذلك كتب كالمصاحف للسجستاني وغيره ، وقد أحرق عثمان جميع المصاحف سوى مصحف واحد حذراً عن الاختلاف‌

__________________

(١) الخلاصة : ٣٥٤ / ١٤٠٤.

(٢) معجم رجال الحديث ٩ : ٢٤ / ٤٩٦٦.

(٣) الوافي ٩ : ١٧٧٧ / ٩٠٨٧ ، الحدائق ٨ : ١٠٠.

(٤) الموجود في الطبعة الحديثة : سالم بن سلمة.

(٥) جامع الرواة ١ : ٣٤٧.

(٦) رجال النجاشي : ١٩٠ / ٥٠٩ ، الفهرست : ٧٩ / ٣٢٧.

(٧) ولكنه ( دام ظله ) رجّح في المعجم ٩ : ٢٠ / ٤٩٤٨ ، ٤٩٥٤. نسخة صاحب الوسائل ووقوع التحريف في غيرها ، وبذلك تصبح الرواية معتبرة.

٤٤٢

ومع ذلك تحقق الاختلاف بعد ذلك كثيراً حتى اشتهرت القراءات السبع وغيرها في عصر الأئمة ، وكانت على اختلافها بمرأى ومسمع منهم : ، فلو كانت هناك قراءة معيّنة تجب رعايتها بالخصوص لاشتهر وبان وكان من الواضحات وكان ينقله بطبيعة الحال كابر عن كابر وراوٍ عن راوٍ ، وليس كذلك بالضرورة ، فيظهر جواز القراءة بكل منها كما عليه العامّة وإلاّ لبيّنوه : ونقل إلينا بطريق التواتر ، كيف ولم يرد منهم تعيين حتى بخبر واحد.

نعم ، إنّ هناك رواية واحدة قد يظهر منها التعيين ، وهي رواية داود بن فرقد ، والمعلى بن خنيس جميعاً قالا : « كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال ، ثم قال أما نحن فنقرؤه على قراءة أُبيّ » (١) واحتمل ضعيفاً أن تكون العبارة هكذا على قراءة أبي يعني الباقر عليه‌السلام.

وكيف كان ، فهي محمولة على إرادة مورد خاص (٢) كانت القراءة فيه شاذّة أو مغيّرة للمعنى ، لما عرفت من أنّ التعيين لو كان ثابتاً لنقل بالتواتر وكان من الواضحات ، كيف وقد ادعي الإجماع على جواز القراءة بكل قراءة متعارفة‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٦٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٤ ح ٤.

(٢) ولكن يبعّده ملاحظة متن الحديث بتمامه ، فإنّه كما في الكافي ٢ : ٦٣٤ / ٢٧ هكذا : عبد الله بن فرقد والمعلى بن خنيس قالا : « كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ومعنا ربيعة الرأي فذكرنا فضل القرآن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قرائتنا فهو ضال ، فقال : ربيعة ضال؟ فقال : نعم ، ضال ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام أما نحن فنقرأ على قراءة ابيّ ».

فانّ قول أبي عبد الله عليه‌السلام « إن كان ابن مسعود ... » إلخ بعد تذاكر القوم في فضل القرآن بشكل عام لا ينسجم مع كون نظره عليه‌السلام إلى مورد خاص كما لا يخفى.

٤٤٣

[١٥٤٣] مسألة ٥١ : يجب إدغام اللاّم مع الألف واللاّم في أربعة عشر حرفاً وهي التاء ، والثاء ، والدال ، والذال ، والراء ، والزاي ، والسين ، والشين والصاد ، والضاد ، والطاء ، والظاء ، واللاّم ، والنون ، وإظهارها في بقيّة الحروف فتقول في ( الله ) ، و ( الرّحمن ) ، و ( الرّحيم ) ، و ( الصراط ) ، و ( الضالين ) ، مثلاً بالإدغام ، وفي ( الحمد ) ، و ( العالمين ) ، و ( المستقيم ) ، ونحوها بالإظهار (١).

______________________________________________________

متداولة. على أنّ متن الخبر لا يخلو عن شي‌ء ، فانّ الأنسب أن يقال : إن كان ابن مسعود لم يقرأ إلخ ، دون « لا يقرأ » لظهور الثاني في زمان الحال (١) وأن ابن مسعود حيّ حاضر مع أن زمانه متقدم عليه عليه‌السلام بكثير.

وقد تحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الأقوى جواز القراءة بكل ما قام التعارف الخارجي عليه ، وكان مشهوراً متداولاً بين الناس ، كي لا تحصل التفرقة بين المسلمين ، ولا شك أنّ المشهور غير منحصر في السبع المعهودة ، فلا خصوصية ولا امتياز لها من بين القراءات أبداً ، فكل معروف يجزئ وإن كان من غير السبع ، فالعبرة بما يقرأه الناس وإن كان الاختلاف من جهة اختلاف البلدان كالبصرة والكوفة ونحوهما.

(١) إذا دخل حرف التعريف على أحد الحروف الشمسية أُدغم فيها وهي أربعة عشر : التاء والثاء من أوائل حروف التهجي واللاّم والنون من آخرها والدال وما بعدها إلى الظاء. وإذا دخل على ما عداها من بقية الحروف وهي المسمّاة بالحروف القمرية وجب الإظهار فتقول مثلاً : الصراط والضالين بالإدغام والحمد والعالمين بالإظهار ، والمستند فيه دخل ذلك في صحة اللفظ العربي كما تشهد به الاستعمالات الدارجة بينهم بحيث لو أُبدل فادغم في مورد الإظهار أو‌

__________________

(١) بل في الماضي كالأوّل ، والدال عليه هو ( كان ) قال تعالى ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) [ الحاقة ٦٩ : ٣٣ ] وقال تعالى ( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً ) [ المائدة ٥ : ١٠٤ ].

٤٤٤

[١٥٤٤] مسألة ٥٢ : الأحوط الإدغام في مثل : اذهب بكتابي ، ويدرككم ممّا اجتمع المثلان في كلمتين مع كون الأوّل ساكناً ، لكن الأقوى عدم وجوبه (١).

[١٥٤٥] مسألة ٥٣ : لا يجب ما ذكره علماء التجويد من المحسّنات (٢) كالإمالة ، والإشباع ، والتفخيم ، والترقيق ، ونحو ذلك ، بل والإدغام غير ما ذكرنا ، وإن كان متابعتهم أحسن.

[١٥٤٦] مسألة ٥٤ : ينبغي مراعاة ما ذكروه من إظهار التنوين والنون الساكنة ، إذا كان بعدهما أحد حروف الحلق ، وقلبهما فيما إذا كان بعدهما حرف الباء ، وإدغامهما إذا كان بعدهما أحد حروف يرملون ، وإخفاؤهما إذا كان بعدهما بقيّة لحروف ، لكن لا يجب شي‌ء من ذلك حتى الإدغام في يرملون كما مرّ.

______________________________________________________

بالعكس عدّ لحناً في الكلام ، وكان من الأغلاط كما لا يخفى فليتأمل.

(١) لعدم ثبوت وجوب الإدغام في مثل المقام بمثابة يوجب الإخلال به اللحن في كلام العرب.

(٢) فانّ ما ذكروه من القواعد التجويدية كالإمالة والإشباع والتفخيم والترقيق كلّها من محسّنات الكلام وليست دخيلة في الصحة ، وكذا ما ذكروه من الحالات الأربع للتنوين أو النون الساكنة ، من الإظهار فيما إذا وقع بعدهما أحد حروف الحلق ، وهي الهمزة ، والهاء ، والحاء ، والخاء ، والعين ، والغين. والقلب فيما إذا وقع بعدهما حرف الباء ، والإدغام فيما إذا كان الواقع أحد حروف يرملون مع مراعاة الغنّة فيما عدا اللاّم والراء ، والإخفات لو كان الواقع بقية الحروف ، فانّ هذه كلّها من محسّنات الكلام الفصيح فلا تجب مراعاتها بعد أداء الكلمة صحيحة وإن كان الأحسن ذلك (١). ومنه يظهر الحال في المسألة الآتية.

__________________

(١) هذا على إطلاقه بحيث يتناول الإدغام الكبير وهو إدراج المتحرك بعد الإسكان في

٤٤٥

[١٥٤٧] مسألة ٥٥ : ينبغي أن يميّز بين الكلمات ، ولا يقرأ بحيث يتولّد بين الكلمتين كلمة مهملة كما إذا قرأ ( الحمد لله ). بحيث يتولد لفظ دلل ، أو تولد من ( لله رب ) لفظ ( هرب ) وهكذا في ( مالك يوم الدين ) تولد ( كيو ) وهكذا في بقية الكلمات ، وهذا معنى ما يقولون إنّ في الحمد سبع كلمات مهملات وهي : دلل ، وهرب ، وكيو ، وكنع ، وكنس وتع ، وبع.

[١٥٤٨] مسألة ٥٦ : إذا لم يقف على ( أحد ) في ( قل هو الله أحد ) ووصله بـ ( الله الصمد ) يجوز أن يقول : أحد الله الصمد ، بحذف التنوين من أحد (*) وأن يقول : أحدن الله الصمد ، بأن يكسر نون التنوين (١) وعليه ينبغي أن يرقق اللام من الله ، وأما على الأوّل فينبغي تفخيمه كما هو القاعدة الكلية من تفخيمه إذا كان قبله مفتوحاً أو مضموماً ، وترقيقه إذا كان مكسوراً.

[١٥٤٩] مسألة ٥٧ : يجوز قراءة مالك وملك يوم الدين ، ويجوز في الصراط بالصاد والسين ، بأن يقول : السراط المستقيم وسراط الذين.

______________________________________________________

(١) أمّا الوجه الثاني ، فلا إشكال في صحته وأنّه على القاعدة ، فيكسر النون من أجل التقاء الساكنين كما هو ظاهر.

وأمّا الوجه الأوّل ، فصحته لا تخلو من إشكال ، بعد مخالفته للقاعدة المقتضية‌

__________________

المتحرك متماثلين أو متقاربين في كلمة : كسلككم وخلقكم ، أو كلمتين : كيعلم ما بين أيديهم ، ومن زحزح عن النار مشكل بل ممنوع كما نبّه عليه جملة من أعلام المحققين ومنهم سيدُنا الأُستاذ ( دام ظله ) في المسألة ٢٧٩ من المسائل المنتخبة حيث قال : إنّ بعضاً منها لا يخلو عن إشكال كالادغام في كلمتي سلككم وخلقكم بإدغام الكاف أو القاف في الكاف.

(*) فيه إشكال والأحوط عدم الحذف.

٤٤٦

[١٥٥٠] مسألة ٥٨ : يجوز في ( كُفُواً أَحَدٌ ) أربعة وجوه : كفُؤاً بضم الفاء وبالهمزة ، وكفْؤاً بسكون الفاء وبالهمزة وكفواً بضم الفاء وبالواو ، وكفْواً بسكون الفاء وبالواو وإن كان الأحوط ترك الأخيرة (١).

[١٥٥١] مسألة ٥٩ : إذا لم يدر إعراب كلمة أو بناءها أو بعض حروفها أنّه الصاد مثلاً أو السين أو نحو ذلك ، يجب عليه أن يتعلّم ، ولا يجوز له أن يكرِّرها بالوجهين (*) لأنّ الغلط من الوجهين ملحق بكلام الآدميين (٢).

______________________________________________________

للزوم إظهار التنوين ، فحذفه لا دليل عليه ، وإن نسب الطبرسي (١) إلى أبي عمرو الذي هو أحد القرّاء أنّه قرأ كذلك ، لكنّه لم يثبت ، فلم يحرز أنّه من القراءة المتعارفة. ومعه يشكل الحكم بالإجزاء.

نعم ، ربما يسقط لدى الضرورة كما في الشعر ، وكذا يسقط عن العلم الواقع بعده لفظ الابن فيقال : علي بن أبي طالب ، ومحمد بن عبد الله ، بحذف التنوين لثقله حينئذ. وأمّا فيما عدا ذلك فالسقوط على خلاف القاعدة ، وعليه فالأحوط لزوماً اختيار الوجه الثاني فقط.

(١) الوجوه الثلاثة الأُول ، أعني كفؤاً بالهمزة مع ضم الفاء وسكونه ، وكفواً مع ضم الفاء ، كل منها قد ثبتت قراءتها ، بل هي معروفة متداولة فلا ريب في إجزائها ، وأمّا الوجه الأخير ، أعني مع الواو وسكون الفاء ، فهو وإن نسب إلى بعضهم لكنه لم يثبت ، فالأحوط تركه كما ذكره في المتن.

(٢) حكم قدس‌سره حينئذ بوجوب التعلم وعدم جواز تكرار الكلمة‌

__________________

(*) في إطلاقه منع ظاهر.

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٦.

٤٤٧

[١٥٥٢] مسألة ٦٠ : إذا اعتقد كون الكلمة على الوجه الكذائي (١) من حيث الأعراب أو البناء أو مخرج الحرف ، فصلى مدّة على تلك الكيفية ، ثم تبين له كونه غلطاً ، فالأحوط الإعادة أو القضاء ، وإن كان الأقوى عدم الوجوب.

______________________________________________________

بالوجهين ، لأنّ الغلط من أحدهما ملحق بكلام الآدميين وموجب للبطلان.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره إنّما يتم فيما إذا كان الوجه الآخر غلطاً في كلام العرب ، وأمّا إذا كانت الكلمة صحيحة على التقديرين غير أنّه لم يعلم أنّ القرآن المنزل أيّ منهما ، كإعراب الرّحمن الرّحيم ، حيث يجوز في الصفة وجوه ثلاثة باعتبارات مختلفة ، وكل منها صحيح في لغة العرب ، لكنّه لم يدر أنّ المنزل على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ منها ، فلا مانع حينئذ أن يقصد بأحد الوجهين أو الوجوه ما هو القرآن وبما عداه ذكر الله (١). فما أفاده في المتن لا يتم على إطلاقه.

(١) حكم قدس‌سره بعدم وجوب الإعادة ولا القضاء في من اعتقد صحة كلمة وصلّى مدة على تلك الكيفية ثم تبيّن لحنها ، وإن كان ذلك أحوط.

وما ذكره قدس‌سره هو الصحيح ، عملاً بحديث لا تعاد ، بناءً على ما هو الأقوى من عدم اختصاصه بالناسي وشموله للجاهل القاصر الذي يرى صحة عمله ولا يحتمل الخلاف. نعم ، إذا كان مقصِّراً وإن اعتقد الصحة ، أو كان ملتفتاً متردِّداً ومع ذلك صلّى ، فالأظهر البطلان حينئذ ، لعدم شمول الحديث لمثل ذلك. وسيجي‌ء تمام الكلام في مبحث الخلل إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) هذا إنّما يستقيم فيما إذا كان ما عداه مصداقاً لذكر الله ، وليس كل القرآن كذلك كما لا يخفى.

٤٤٨

فصل

[ في الركعة الثالثة والرابعة ]

في الركعة الثالثة من المغرب والأخيرتين من الظهرين والعشاء يتخير بين قراءة الحمد أو التسبيحات الأربع (١).

______________________________________________________

(١) على المعروف والمشهور بين الأصحاب ، بل قد ادعي الإجماع عليه في الجملة في كثير من الكلمات ، وإن كان هناك خلاف فيما هو الأفضل منهما. وذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) أنّ مورد الإجماع على التخيير إنّما هو المنفرد وأمّا في الجماعة فليس إجماع.

وكيف ما كان ، فيقع الكلام في المنفرد تارة وفي الإمام اخرى ، وفي المأموم ثالثة.

وقبل التعرض لذلك ينبغي التنبيه على أمر : وهو أنّه قد ورد في التوقيع الذي رواه الطبرسي في الاحتجاج ما يظهر منه تعيّن الحمد مطلقاً ، روى الحميري عن صاحب الزمان عليه‌السلام « أنّه كتب إليه يسأله عن الركعتين الأخيرتين قد كثرت فيهما الروايات فبعض يرى أنّ قراءة الحمد وحدها أفضل ، وبعض يرى أنّ التسبيح فيهما أفضل ، فالفضل لأيّهما لنستعمله؟ فأجاب عليه‌السلام قد نسخت قراءة أُم الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح ، والذي نسخ التسبيح قول العالم عليه‌السلام كل صلاة لا قراءة فيها فهي خداج إلاّ للعليل أو من‌

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٣٢٢.

٤٤٩

يكثر عليه السهو فيتخوف بطلان الصلاة عليه » (١).

لكنّها كما ترى لا تصلح للاعتماد عليها.

أمّا أوّلاً : فلمخالفتها للأخبار الكثيرة المتظافرة الآمرة بالتسبيح ، وفي بعضها أنّه أفضل من القراءة ، وقد جرت سيرة المتشرعة على ذلك ، فهي ممّا يقطع ببطلانها فلا تكون حجة.

وثانياً : أنّها ضعيفة السند في نفسها لمكان الإرسال ، فإنّ الطبرسي يرويها مرسلة.

وثالثاً : أنّ متنها غير قابل للتصديق ، فانّ قول العالم عليه‌السلام « كل صلاة لا قراءة » إلخ لا يدل إلاّ على اعتبار القراءة في المحل المقرّر لها ، أعني الركعتين الأولتين ، ومثل هذا كيف يكون ناسخاً للتسبيح المقرر في محل آخر وإلاّ فليكن ناسخاً للتشهّد أيضاً ، فاعتبار القراءة في محل لا يصادم اعتبار التسبيح في محل آخر حتى يكون ناسخاً له ، إذ لكل منهما محل مستقل وأحدهما أجنبي عن الآخر ، فالرواية ساقطة بكل معنى الكلمة.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ الكلام يقع في موارد ثلاثة :

المورد الأوّل : في المنفرد ، وهو المتيقن من مورد الإجماع على التخيير ، وقد جرت السيرة عليه من غير نكير ، ويستدل له بجملة من الأخبار :

منها : رواية علي بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال : إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب ، وإن شئت فاذكر الله فهو سواء ، قال : قلت : فأيّ ذلك أفضل؟ فقال : هما والله سواء إن شئت سبّحت ، وإن شئت قرأت » (٢).

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٢٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٤ ، الاحتجاج ٢ : ٥٨٥ / ٣٥٧.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٣.

٤٥٠

لكنها ضعيفة السند فانّ علي بن حنظلة لم يوثق (١) ، إلاّ أن يدعى أنّ في السند الحسن بن علي بن فضال ، وقد ورد في حق بني فضال بالأخذ بما رووا وطرح ما رأوا كما ادعاه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢). لكن الرواية لم تثبت في نفسها لضعف سندها. وعلى تقدير الثبوت فلا تدل على أكثر من توثيق بني فضال وعدم سقوطهم بالانحراف عن الوثاقة ، لا أنّ رواياتهم تقبل حتى لو رووا عن فاسق أو ضعيف أو مجهول بحيث يكونون أعظم شأناً من زرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما بل ومنهم أنفسهم حال الاستقامة.

أو يدعى أنّ في السند عبد الله بن بكير وهو من أصحاب الإجماع.

وفيه : أيضاً ما لا يخفى ، لعين المناقشة المتقدمة ، فإنّ أصحاب الإجماع يصدقون فيما يقولون ، فهم موثوقون في أنفسهم ، لا أنّ رواياتهم تقبل حتى عن ضعيف أو مجهول كما أشرنا إليه مراراً. فهذه الرواية ساقطة والأولى الاستدلال بالروايات الآتية.

ومنها : صحيحة عبيد بن زرارة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الركعتين الأخيرتين من الظهر ، قال : تسبّح وتحمد الله وتستغفر لذنبك ، وإن شئت فاتحة الكتاب فإنّها تحميد ودعاء » (٣) وهي صحيحة السند ظاهرة الدلالة ، غير أنّها خاصة بالظهر فيتعدى إلى غيرها بعدم القول بالفصل.

والعمدة في المقام صحيحتان ، إحداهما : صحيحة معاوية بن عمار قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين‌

__________________

(١) سيأتي في ذيل المسألة الثانية [ ص ٤٧٩ ] توثيقه وإن خلت عنه كتب الرجاليين لرواية معتبرة دالة عليه.

(٢) كتاب الصلاة ١ : ٣٦.

(٣) الوسائل ٦ : ١٠٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ١.

٤٥١

فقال : الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومن خلفه يسبّح ، فاذا كنت وحدك فاقرأ فيهما وإن شئت فسبّح » (١).

والأُخرى : صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا كنت إماماً فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب ، وإن كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل » (٢) ومورد الاستدلال ذيل الصحيحتين كما هو ظاهر.

المورد الثاني : في الإمام ، وقد تضمنت جملة من الأخبار الأمر بقراءة الفاتحة كصحيحتي معاوية ومنصور المتقدمتين ، وظاهر الأمر الوجوب ، غير أنّها حملت على التقية لموافقتها العامة ، حيث ينسب إليهم تعينها في الركعات مطلقاً (٣).

ويمكن أن يقال : إنّ الأمر المزبور وإن كان ظاهراً في الوجوب ، لكنه يحمل (٤) على الاستحباب أو الجواز على الخلاف كما سيجي‌ء بقرينة صحيحة سالم ابن أبي خديجة (٥) الذي هو سالم بن مكرم الجمال عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا كنت إمام قوم فعليك أن تقرأ في الركعتين الأولتين ، وعلى الذين خلفك أن يقولوا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر وهم قيام ، فاذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب وعلى الإمام أن يسبّح مثل ما يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين » (٦).

قوله عليه‌السلام : « وعلى الذين خلفك أن يقولوا ... » إلخ لا بدّ من حمله‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١١.

(٣) المغني ١ : ٥٦١ ، الام ١ : ١٠٧ ، المجموع ٣ : ٣٦١.

(٤) لكنه سيأتي في مطاوي المسألة الثانية [ ص ٤٧٧ ] تعذّر هذا الجمع واستقرار التعارض والحكم بالتساقط.

(٥) سيأتي في التعليق الآتي [ ص ٤٦٥ ] زيادة كلمة ( ابن ) وأنّ الصحيح سالم أبي خديجة.

(٦) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٣.

٤٥٢

على صورة عدم السماع ، وإلاّ وجب الإنصات ، أو على الصلاة الإخفاتية والضمير في قوله عليه‌السلام « فاذا كان ... » إلخ عائد إلى الائتمام ، ولذا حكم عليه‌السلام بوجوب القراءة على المأمومين حينئذ لأنها أوّل ركعتهم. ومحل الاستشهاد قوله عليه‌السلام « وعلى الإمام أن يسبّح ... » إلخ وبذلك يرفع اليد عن ظهور الأمر بالقراءة في الأخبار المتقدمة في الوجوب ، ويحمل على الجواز أو الاستحباب كما عرفت ، وأمّا أنّ أيّهما أفضل فسيجي‌ء الكلام حوله إن شاء الله تعالى (١) ، فظهر أنّ الإمام حاله كالمنفرد في ثبوت التخيير.

المورد الثالث : في المأموم ، ويقع الكلام في الصلاة الإخفاتية تارة ، وفي الجهرية اخرى.

أمّا الإخفاتية : فالظاهر أيضاً هو التخيير ، لصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إن كنت خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتى يفرغ وكان الرجل مأموناً على القرآن فلا تقرأ خلفه في الأولتين ، وقال يجزئك التسبيح في الأخيرتين ، قلت : أيّ شي‌ء تقول أنت؟ قال : أقرأ فاتحة الكتاب » (٢).

فانّ قوله عليه‌السلام « يجزئ » يدل على التخيير وجواز الإتيان بكل منهما ، ولعل اختياره عليه‌السلام للفاتحة لأفضليتها أو لوجه آخر.

وأمّا في الجهرية : فمقتضى بعض الأخبار تعيّن التسبيح ، إذ لم ترد رواية تدل على جواز القراءة بالنسبة إليه ، إلاّ المطلقات المقيدة بهذه الأخبار فهي المحكّم وقد ورد ذلك أعني الأمر بالتسبيح في صحيحتين :

إحداهما : صحيحة سالم بن أبي خديجة المتقدمة آنفاً ، فانّ قوله ( عليه‌السلام )

__________________

(١) في ص ٤٧٣.

(٢) الوسائل ٦ : ١٢٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١٢.

٤٥٣

« مثل ما يسبّح القوم في الأخيرتين » يظهر منه أنّ التسبيح في الأخيرتين كان متعيّناً للمأموم ولذا شبّه الإمام به.

الثانية : التي هي أوضح دلالة ، صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة أيضاً المتعرّضة لحكم الإمام والمأموم والمنفرد قال عليه‌السلام فيها « ومن خلفه يسبّح » (١) وظاهر الأمر الوجوب التعييني ، وحيث لا معارض لذلك تعيّن الأخذ به.

نعم ، هي مطلقة من حيث الجهر والإخفات ، فتقيد بصحيحة ابن سنان الدالّة على جواز القراءة في الإخفاتية كما تقدم ، فتحمل على الجهرية إذ لا دليل على جواز القراءة فيها كما عرفت. فاذن مقتضى القاعدة تعيّن التسبيح على المأموم في الجهرية عملاً بهاتين الصحيحتين ولا سيما الثانية ، فإن كان هناك إجماع على ثبوت التخيير فيه أيضاً فهو ، وإلاّ فيتعيّن التسبيح في حقه ، ومن هنا كان الأحوط لزوماً اختيار التسبيح بالنسبة إليه.

هذا كلّه حكم الركعتين الأخيرتين بالعنوان الأوّلي ، وقد عرفت أنّه التخيير إلاّ في بعض الصور ، وهل الحكم كذلك حتى لو نسي القراءة في الركعتين الأوّلتين أو تتبدّل الوظيفة إليها حينئذ فتجب القراءة معيّناً عند نسيانها في الأولتين؟

المشهور هو الأوّل ، ونسب إلى الشيخ في الخلاف (٢) الثاني كي لا تخلو الصلاة عن القراءة ، وإن صرّح في المبسوط بالتخيير (٣) ، وقد نسبه إليه جمع منهم الشهيد في الذكرى (٤) ، لكن نوقش في النسبة بأنّ عبارة الخلاف المحكية عنه‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٠٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٢.

(٢) الخلاف ١ : ٣٤١ المسألة ٩٣.

(٣) المبسوط ١ : ١٠٦.

(٤) الذكرى ٣ : ٣١٦.

٤٥٤

لا تدل على أكثر من الاحتياط من جهة رواية الحسين بن حماد الآتية (١) دون الفتوى ، وقد مال إلى هذا القول صاحب الحدائق (٢) ، مدعياً دلالة الصحيحة عليه ، غير أنّه توقف فيه أخيراً ، إذ لم يجد قائلاً به صريحاً ، وناقش في عبارة الخلاف بما عرفت.

وكيف كان ، فلا بدّ من النظر إلى الأخبار ، ولا شك أنّ مقتضى الإطلاقات هو بقاء التخيير كما عليه المشهور ، فان ثبت التخصيص وإلاّ فالإطلاق هو المحكّم ، وقد استدلّ للوجوب بوجوه :

أحدها : النبوي « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (٣) وبمضمونه صحيحة محمد ابن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته ، قال : لا صلاة له إلاّ أن يقرأ بها في جهر أو إخفات ... » إلخ (٤) حيث إنّ ظاهرها نفي حقيقة الصلاة عن الفاقدة للفاتحة ، فلو نسيها في الأولتين لا مناص من الإتيان في الأخيرتين كي لا تخلو الصلاة عنها.

وفيه أوّلاً : أنها منصرفة إلى العامد كما لا يخفى.

وثانياً : لو سلّم الإطلاق ودلالتها على الاعتبار في حقيقة الصلاة مطلقاً فغاية ما يُستفاد منها اعتبار الفاتحة في المحل المعيّن المعهود المقرّر له شرعاً أعني الركعتين الأولتين ، فلو كنا نحن والصحيحة مع قطع النظر عن حديث لا تعاد لحكمنا بالبطلان لدى الإخلال بها ولو سهواً في محلها الموظف لها ، غير أنّ مقتضى الحديث الحاكم عليها هو الصحة. وأمّا لزوم الإتيان بها في محل‌

__________________

(١) في ص ٤٥٧.

(٢) الحدائق ٨ : ٤٢٠.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ١٩٦ ، المستدرك ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥.

(٤) الوسائل ٦ : ٣٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ١.

٤٥٥

آخر كالركعتين الأخيرتين فهو محتاج إلى الدليل ، وهذه الصحيحة لا تتكفل بإثباته.

وعلى الجملة : عند النسيان إمّا أن يحكم بالبطلان مع قطع النظر عن حديث لا تعاد ، ومع قطع النظر عما ذكرناه أوّلاً ، من الانصراف إلى العامد ، أو يحكم بالصحة بملاحظة الحديث ، أو الانصراف المزبور ، فالأمر دائر بينهما ولا ثالث. وأمّا احتمال التدارك في محل آخر بحيث لو استمرّ النسيان إلى ما بعد الركعتين الأخيرتين فتذكّر في ركوع الرابعة أو سجودها أو التشهّد الأخير وجب التدارك كي لا تخلو الصلاة من الفاتحة ، فيحتاج إلى دليل آخر ، وهذه الصحيحة قاصرة عن عهدة إثباته إذ لا تقتضي أكثر من الاعتبار في المحل المعهود كما عرفت.

الثاني : ما استدلّ به في الحدائق (١) من صحيحة زرارة المروية في الفقيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت له رجل نسي القراءة في الأولتين فذكرها في الأخيرتين ، فقال : يقضي القراءة والتكبير والتسبيح الذي فاته في الأولتين ولا شي‌ء عليه » (٢). هكذا ذكرت في الوسائل.

وصاحب الحدائق قدس‌سره نقلها بزيادة كلمة « في الأخيرتين » في آخر الخبر قبل قوله « ولا شي‌ء عليه » وقال : إنّ بعض المتأخرين نقلها عارية عن هذا اللّفظ والظاهر أنّ مراده صاحب الوسائل كما عرفت فحملها على القضاء بعد التسليم والفراغ من الصلاة ، لكن المنقول عن كتب الأخبار ما أثبتناه من الاشتمال على هذه الكلمة. وعليه فهي صريحة الدلالة على هذا القول من تعيّن الفاتحة في الركعتين الأخيرتين ، وكأنّ من ذكر (٣) أنّه لم يجد دليلاً على هذا القول‌

__________________

(١) الحدائق ٨ : ٤٢١.

(٢) الوسائل ٦ : ٩٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٠ ح ٦ ، الفقيه ١ : ٢٢٧ / ١٠٠٣.

(٣) [ المراد به هو الشهيد في الذكرى ٣ : ٣١٦ ].

٤٥٦

لم يلتفت إلى هذه الصحيحة ، انتهى ملخّصاً.

وفيه أوّلاً : أنّه لم يثبت اشتمال الصحيحة على تلك الزيادة ، بل قد قيل إنّ النسخ المصحّحة للفقيه كلّها خالية عنها ، ولعلّ النسخة المشتملة عليها الموجودة عند صاحب الحدائق لم تكن مصحّحة. وعليه فظاهر الصحيحة وجوب القضاء خارج الصلاة (١) كما حملها عليه صاحب الوسائل لا في الأخيرتين ، وحيث لا يحتمل الوجوب ، بل ولا قائل به ، فيحمل الأمر على الاستحباب جزماً للقطع بصحة الصلاة وأنّه لا شي‌ء عليه ، فتكون الصحيحة أجنبية عن محل الكلام رأساً.

وثانياً : لو سلّم اشتمال الصحيحة على تلك الزيادة ، وأنّ النسخ المصححة كذلك ، فغاية ما يستفاد منها وجوب القضاء في الأخيرتين زائداً على الوظيفة المقررة فيهما من التخيير ، لا أنّ الوظيفة تتبدل من التخيير إلى القضاء كي تتعيّن الفاتحة مقتصراً عليها ، فإنّها لا تدل على ذلك بوجه ، وحيث لا يحتمل وجوب القضاء زائداً على الوظيفة المقررة فلا مناص من الحمل على الاستحباب ، فظهر أنّ الصحيحة قاصرة الدلالة ، لا أنّ الشهيد لم يلتفت إليها ، سواء أكانت مشتملة على تلك الزيادة أم لا.

الثالث : رواية الحسين بن حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قلت له : أسهو عن القراءة في الركعة الأُولى ، قال : اقرأ في الثانية ، قلت : أسهو في الثانية ، قال : اقرأ في الثالثة ، قلت : أسهو في صلاتي كلها ، قال : إذا حفظت‌

__________________

(١) لعل ظاهر الأمر بالقضاء في جواب السؤال عمّن تذكّر وهو في الركعتين الأخيرتين هو وجوبه في زمان التذكر ، إذ لو أُريد ما بعد الصلاة لقيّد به كما قيّد به في نصوص قضاء الأجزاء المنسية ، ومنه تعرف أنّ دعوى انصراف القضاء في لسان الأخبار إلى ما بعد الصلاة غير واضحة.

٤٥٧

الركوع والسجود فقد تمت صلاتك » (١).

وهذه هي العمدة فيما استند إليه الشيخ في الخلاف من تعين القراءة على ما نسب إليه ، واستدل بها في الحدائق أيضاً ، قائلاً إنّ ظاهر الأمر الإيجاب عيناً.

والإنصاف : أنّها من حيث الدلالة تامة ، فإنّ قوله عليه‌السلام « اقرأ في الثالثة » ظاهر في أنّ تمام الوظيفة في هذه الحالة هي القراءة معيناً.

والإيراد عليها بمعارضتها بروايات التخيير كما قيل ، ساقط جدّاً لأنّها مطلقة وهذه مقيّدة ، ولا ريب أنّ ظهور المخصص مقدّم على ظهور العام. وإنّما الكلام في سندها ، فانّ الحسين بن حماد مهمل لم يوثق في كتب الرجال ، وأمّا عبد الكريم الواقع في السند فهو ثقة كما نصّ عليه النجاشي (٢) وإن صرّح الشيخ بأنّه واقفي خبيث (٣) ، فانّ العبرة بوثاقة الراوي لا عدالته ، فالمناقشة السندية إنّما هي من أجل الحسين فحسب.

هذا ، وعلى تقدير صحة الرواية فهي معارضة بروايتين يستظهر منهما عدم الوجوب :

إحداهما : صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت : الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأولتين فيذكر في الركعتين الآخرتين أنّه لم يقرأ ، قال : أتمّ الركوع والسجود؟ قلت : نعم ، قال : إنّي أكره أن أجعل آخر صلاتي أوّلها » (٤).

فانّ المراد بكراهة جعل آخر الصلاة أوّلها إن كان كراهة قراءة الحمد فهي‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٩٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٠ ح ٣.

(٢) رجال النجاشي : ٢٤٥ / ٦٤٥.

(٣) رجال الطوسي : ٣٣٩ / ٥٠٥١.

(٤) الوسائل ٦ : ٩٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٠ ح ١.

٤٥٨

وهي : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، والأقوى إجزاء المرّة والأحوط الثلاث (١).

______________________________________________________

صريحة في المطلوب من عدم الوجوب ، بل وأفضلية التسبيح حتى للساهي كما احتمله جماعة ، وإن كان المراد ما استظهره في الحدائق (١) من كراهة قراءة الحمد والسورة معاً ، حيث إنّها التي يترتّب عليها قلب الصلاة ، فهي ظاهرة في المطلوب وإن لم تكن بتلك الصراحة ، حيث يظهر من ذكر ذلك في مقام البيان أنّ الوظيفة في فرض النسيان هي التخيير أيضاً ، وأنّ السهو لم يترتّب عليه شي‌ء وإلاّ وجب التنبيه عليه.

وبالجملة : ظهورها في عدم ترتب أثر على السهو غير قابل للإنكار ، وإلاّ بقي السؤال بلا جواب كما لا يخفى. فهي كالصريح في عدم لزوم تدارك الحمد وبقاء الحكم السابق ، أعني التخيير لولا السهو على ما هو عليه ، وكأنّه عليه‌السلام أشار بذلك إلى رد العامة حيث يوجبون قراءة الحمد (٢).

الثانية : موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إن نسي أن يقرأ في الأُولى والثانية أجزأه تسبيح الركوع والسجود » (٣).

والمتحصل من جميع ما قدمناه : أنّ ما ذكره المشهور من التخيير في الركعتين الأخيرتين حتى لمن نسي القراءة في الأوّلتين هو الصحيح.

(١) قد وقع الخلاف في تعيين التسبيح الذي هو طرف التخيير على أقوال :

أحدها : أنّ صورته هكذا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر‌

__________________

(١) الحدائق ٨ : ٤٢١.

(٢) المغني ١ : ٥٦١ ، المجموع ٣ : ٣٦١.

(٣) الوسائل ٦ : ٩٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٩ ح ٣.

٤٥٩

يكرّرها ثلاثاً ، فيكون المجموع اثني عشر تسبيحاً كما هو المتعارف. نسب ذلك إلى الشيخ في النهاية والاقتصاد (١) ، وإلى ابن أبي عقيل حيث ذكر أنّه يقولها أي التسبيحات الأربعة سبعاً أو خمساً ، وأدناها ثلاث (٢).

وقد استدل له بأُمور : منها : الفقه الرضوي (٣) ، حيث صرّح فيه بذلك.

وفيه : ما تقدّم مراراً من أنّه لم يثبت كونه رواية فضلاً عن أن يكون معتبراً.

ومنها : رواية رجاء بن أبي الضحاك « أنه صحب الرضا عليه‌السلام من المدينة إلى مرو فكان يسبّح في الأُخراوين يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ثلاث مرات ثم يركع » (٤).

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند ، وإلى أنّه حكاية فعل مجمل العنوان فلا يدل على الوجوب ، بل غايته المشروعية أو الرجحان ولعل اختياره عليه‌السلام لذلك لكونه أفضل الأفراد أو أحدها ، أنّها لم تثبت بهذا المتن ، فقد ذكر المجلسي على ما حكى عنه صاحب الحدائق (٥) أنّ النسخ المصححة القديمة من العيون غير مشتملة على التكبير ، فيكون المجموع تسع تسبيحات الذي هو أحد الأقوال في المسألة كما سيجي‌ء.

على أنّه يكفي مجرد الاحتمال الناشئ من اختلاف النسخ ، لعدم الوثوق حينئذ بما هو الصادر عن المعصوم عليه‌السلام.

ومنها : وهو العمدة ما رواه ابن إدريس في أوّل السرائر نقلاً عن كتاب‌

__________________

(١) النهاية : ٧٦ ، الاقتصاد : ٢٦١.

(٢) حكاه عنه في المختلف ٢ : ١٦٤.

(٣) فقه الرضا : ١٠٥.

(٤) الوسائل ٦ : ١١٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٢ ح ٨.

(٥) الحدائق ٨ : ٤١٤ ، البحار ٨٢ : ٨٨.

٤٦٠