موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[١٥١٨] مسألة ٢٦ : مناط (*) الجهر والإخفات ظهور جوهر الصوت وعدمه ، فيتحقق الإخفات بعدم ظهور جوهرة وإن سمعه من بجانبه قريباً وبعيداً (١).

______________________________________________________

(١) ذكر جمع أنّ المناط في الجهر أن يسمع غيره ، وفي الإخفات أو أدنى الإخفات أن يسمع نفسه ، وهذا مضافاً إلى أنّه لا دليل عليه ، غير قابل للتصديق إذ الظاهر عدم تحققه في الخارج ، للملازمة بين سماع النفس وإسماع الغير ، ولو بأن يضع الغير اذنه على فم القارئ ، ففرض الخفت على حد يصل الصوت إلى إذن القارئ ولا يصل إلى اذن غيره بوجه ، حتى يتحقق سماع النفس دون سماع الغير ، مجرّد فرض لا واقع له ، ولو بدّلوا هذا التعريف بأنّ الجهر ما يسمعه البعيد والإخفات ما لا يسمعه القريب أيضاً إلاّ همساً كما هو مضمون مرسلة علي بن إبراهيم في تفسيره قال : وروى عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام « قال : الإجهار أن ترفع صوتك تسمعه من بعد عنك ، والإخفات أن لا تسمع من معك إلاّ يسيراً » (١) لكان له وجه (٢) لمعقوليته في نفسه ، وإن كان هذا أيضاً لا دليل عليه لضعف المرسلة.

__________________

(*) بل المناط هو الصدق العرفي ، ولا ينبغي الإشكال في عدم صدق الإخفات فيما يشبه كلام المبحوح ونحوه.

(١) الوسائل ٦ : ٩٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٣ ح ٧ ، تفسير القمي ٢ : ٣٠.

(٢) بل لا وجه له ، لورود المرسلة في تفسير الجهر والإخفات المنهيين في الآية الشريفة ولا ترتبط بالمعنى المبحوث عنه منهما في المقام كما يظهر بملاحظة نص عبارة التفسير وهي هكذا : روي أيضاً عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) قال : الإجهار أن ترفع صوتك تسمعه من بعُد عنك ، والإخفات أن لا تسمع من معك إلاّ سراً ( يسيراً ) ج ٢ ص ٣٠ ولعل منشأ الغفلة الاقتصار على ملاحظة الوسائل حيث حذف الآية الكريمة عن متن الحديث.

٤٠١

ومن هنا ذكر جماعة آخرون ومنهم الماتن أنّ مناط الجهر والإخفات ظهور الصوت وعدمه.

وهذا أيضاً لا دليل عليه. على أنّ لازمه أن يكون الصوت الشبيه بالمبحوح إخفاتاً ، لعدم ظهور جوهر الصوت معه مع أنّه لا يمكن الالتزام به.

فالظاهر إيكال تحديدهما إلى الصدق العرفي ، فإنّ الإجهار هو الإعلان ويقابله الإخفات ، والمتبع فيه نظر العرف ، فكلما صدق عليه عرفاً أنّه جهر أو أنّه إخفات ترتب عليه حكمه.

والظاهر أنّ الصوت الشبيه بالمبحوح ليس من الإخفات في نظر العرف ، فان تمّ هذا الاستظهار فهو ، وإلاّ فماذا يقتضيه الأصل العملي؟

ذكر المحقق الهمداني قدس‌سره : أنّ مقتضى القاعدة حينئذ هو الاشتغال لأنّا مأمورون بالجهر أو الإخفات ، ونشك في الصدق على هذا الفرد فاللاّزم تركه ، واختيار غيره تحصيلاً للفراغ عن عهدة التكليف المقطوع (١).

وذكر بعضهم : أنّ المرجع البراءة ، إذ ليس الشك في المصداق كي يكون من الشك في المكلف به ، بل هو من الشك في التكليف للترديد في سعة المفهوم وضيقه ، وأنّ مفهوم الإخفات هل اعتبرت فيه خصوصية بحيث لا تنطبق على المبحوح أو لا ، ومن المعلوم أنّ المرجع في الشبهة المفهومية أصالة البراءة ، للعلم بالجامع والشك في الخصوصية الزائدة ، والأصل عدمها.

ولا يخفى أنّ هذا متين بحسب الكبرى. وقد ذكرنا نظائره كثيراً فيما مرّ كالصعيد ونحوه ، إلاّ أنّه لا يمكن الالتزام به في خصوص المقام للعلم الإجمالي باعتبار عدمه ، إمّا في مفهوم الجهر أو في مفهوم الإخفات لعدم الواسطة بين الأمرين ، فانّا مكلفون بالجهر في صلاة الغداة وبالإخفات في صلاة الظهر مثلاً ونعلم إجمالاً بتقيّد أحد التكليفين بعدم وقوع القراءة على صفة المبحوح ، وأصالة‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٣٠١ السطر ٣٦.

٤٠٢

[١٥١٩] مسألة ٢٧ : المناط في صدق القراءة قرآناً كان أو ذكراً ، أو دعاءً ما مرّ (١) في تكبيرة الإحرام ، من أن يكون بحيث يسمعه نفسه تحقيقاً أو تقديراً بأن كان أصم أو كان هناك مانع من سماعه ، ولا يكفي سماع الغير الذي هو أقرب إليه من سمعه.

______________________________________________________

عدم التقييد في كل منهما معارض بالآخر ، فلا مناص من ترك هذا النوع من القراءة رأساً ، رعاية لتنجيز العلم الإجمالي واختيار غيره ، تحصيلاً للقطع بالفراغ عن عهدة التكليف المعلوم.

(١) قد مرّ بعض الكلام في مبحث التكبير ، وتوضيح المقام يستدعي التكلّم تارة في كفاية سماع الغير في صدق القراءة وإن لم يسمعه نفسه ، كما لو كان الغير أقرب إليه من سمعه ، وعدم الكفاية بل لا بدّ من سماع نفسه ، ولو تقديراً كما لو كان أصم أو كان هناك مانع خارجي عن السماع. وأُخرى في أنّه على تقدير الكفاية فهل يجزئ ذلك في امتثال الأمر بالقراءة في الصلاة أو لا؟ فهنا جهتان :

أمّا الجهة الأُولى : فعلى تقدير تسليم الفرض وتحققه خارجاً مع أنّه محل تأمل بل منع ، إذ بعد تحقق الصوت وتموّج الهواء فهو يسمع لا محالة كما يسمعه غيره ولا نعقل التفكيك فلا ينبغي الريب في صدق الكلام والقراءة عليه ، ولذا لو تكلم بمثل ذلك وكان من كلام الآدمي بطلت صلاته بلا إشكال ، إذ لم يعتبر في مفهوم الكلام ولا في مصداقه إسماع النفس ، وهذا ظاهر.

وأمّا الجهة الثانية : فالظاهر كما عليه المشهور عدم الاجتزاء بمثل ذلك في الصلاة وإن صدق عليه عنوان القراءة ، للنصوص الكثيرة الناهية عن ذلك التي منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : لا يكتب من القراءة والدعاء إلاّ ما أسمع نفسه » (١) ، وموثقة سماعة قال : « سألته عن قول الله عزّ وجلّ :

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٩٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٣ ح ١.

٤٠٣

[١٥٢٠] مسألة ٢٨ : لا يجوز من الجهر ما كان مفرطاً خارجاً عن المعتاد (١) كالصياح ، فان فعل فالظاهر البطلان.

______________________________________________________

( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها )؟ قال : المخافتة ما دون سمعك ، والجهر أن ترفع صوتك شديداً » (١) ونحوهما غيرهما فلاحظ.

نعم ، بإزائها صحيحة علي بن جعفر قال : « سألته عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته ويحرّك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه؟ قال : لا بأس أن لا يحرّك لسانه يتوهم توهماً » (٢) فإنّها صريحة في عدم اعتبار سماع النفس ، بل الاكتفاء بمجرّد التوهّم وحديث النفس ، لكنّها مخالفة للكتاب والسنّة إذ مرجعها إلى عدم اعتبار القراءة في الصلاة فيخالفها قوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (٣) وكذا الأخبار الكثيرة الآمرة بقراءة الفاتحة في الصلاة أو هي مع سورة أُخرى ، فلا بدّ من طرحها أو ردّ علمها إلى أهله.

وعن الشيخ حملها على من يصلي خلف من لا يقتدى به (٤) ، وهو وإن كان بعيداً في نفسه جدّاً ، لظهور الصحيحة في حال الاختيار دون التقية والاضطرار إلاّ أنّه لا بأس به (٥) حذراً عن طرحها رأساً.

(١) بلا خلاف فيه ، للأخبار الكثيرة الناهية عن ذلك الواردة في تفسير الآية المباركة ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) (٦) كموثقة سماعة وصحيحة عبد الله بن‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٩٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ٦ : ٩٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٣ ح ٥.

(٣) المزمل ٧٣ : ٢٠.

(٤) التهذيب ٢ : ٩٧ / ٣٦٥.

(٥) وقد دلّ بعض النصوص على جواز ذلك في هذه الحالة ، راجع الوسائل ٨ : ٣٦٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٣.

(٦) الإسراء ١٧ : ١١٠.

٤٠٤

[١٥٢١] مسألة ٢٩ : من لا يكون حافظاً للحمد والسورة يجوز أن يقرأ في المصحف ، بل يجوز ذلك للقادر الحافظ أيضاً على الأقوى (١).

______________________________________________________

سنان وغيرهما (١) وهذا ممّا لا إشكال فيه ، وحيث إنّ ظاهر النهي الإرشاد إلى المانعية فالظاهر البطلان كما أُفيد في المتن.

(١) أمّا مع العجز فلا إشكال في الجواز حتى مع التمكن من الائتمام ، لإطلاق الأدلة كما هو ظاهر ، بل لا خلاف فيه وعليه الإجماع في كثير من الكلمات ، إنّما الكلام في جواز ذلك مع القدرة والتمكن من القراءة عن ظهر القلب كما يتفق كثيراً أنّ المصلي ربما يحب أن يقرأ سورة طويلة لا يحفظها مع تمكنه من قراءة طبيعي السورة عن ظهر القلب ، فعن غير واحد هو الجواز أيضاً لإطلاق الأدلّة.

وذهب جمع آخرون إلى المنع ويستدل له بوجوه :

الأول : دعوى الانصراف. وفيه : ما لا يخفى بل هو ممنوع جدّاً ، فإنّ القراءة من المصحف أيضاً مصداق للقراءة ، ولذا لو قرأ الخطيب خطبة من كتاب نهج البلاغة ، أو رواية من كتاب الوسائل ، أو قصيدة مكتوبة يتحقق في الجميع عنوان القراءة ، ويصدق الامتثال لو كان مأموراً بشي‌ء ممّا ذكر ، إذ لا يعتبر في مفهومها ظهر القلب بلا إشكال.

الثاني : التأسي بالنبي والمعصومين : إذ لم يعهد عنهم القراءة في الصلاة من المصحف. وفيه : مضافاً إلى ضعف دليل التأسي ، وأنّ فعلهم لا يكشف عن الوجوب كما مرّ غير مرّة ، أنّهم : حافظون للقرآن ومستغنون عن القراءة في المصحف فلا يقاس بهم غيرهم.

الثالث : قاعدة الاشتغال للشك في الامتثال لو قرأ عن المصحف ، والاشتغال‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٩٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٣ ح ٢ ، ٣.

٤٠٥

اليقيني يستدعي الفراغ كذلك ، ولا يحصل إلاّ بالقراءة عن ظهر القلب.

وفيه : مضافاً إلى أنّه لا مجال للتمسّك بالأصل بعد إطلاق الدليل ، أنّ مقتضاه البراءة ، للشك في حدوث تكليف زائد كما هو الشأن في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطي.

الرابع : خبر ابن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل والمرأة يضع المصحف أمامه ينظر فيه ويقرأ ويصلي ، قال : لا يعتد بتلك الصلاة » (١). وفيه : أنّ الدلالة وإن كانت تامة لكنه ضعيف السند بعبد الله بن الحسن ، وليست في المقام شهرة على المنع حتى يدعى انجباره بالعمل لو سلّم كبرى الانجبار ، فلا يمكن الاستدلال به.

الخامس : أنّ القراءة من المصحف مكروه إجماعاً ، ولا شي‌ء من المكروه بواجب لتضاد الأحكام بأسرها.

ويردّه أوّلاً : أنّ المكروه إنّما هو النظر في المصحف لكونه شاغلاً ومانعاً عن حضور القلب في الصلاة لا نفس القراءة وإن استلزمته ، فاختلف مورد الوجوب عن الكراهة ولم يردا على محل واحد.

وثانياً : لو سلّم كراهة القراءة نفسها فلا ينافي ذلك اتصافها بوقوعها مصداقاً للواجب ، لعدم تعلق الوجوب بشخص تلك القراءة حتى تتحقق المنافاة ، بل الواجب طبيعي القراءة الجامع بين كونها في المصحف أو عن ظهر القلب ، ولا مانع من انطباق الطبيعي على الفرد المكروه ، إذ كل مكروه فهو مرخّص فيه غايته أن يكون فرداً مرجوحاً وثوابه أقل من غيره ، كما هو الحال في سائر العبادات المكروهة.

فلا منافاة بين وجوب الطبيعي وكراهة الفرد ، وإنّما التنافي بينه وبين حرمته‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٠٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤١ ح ٢.

٤٠٦

إذ مقتضى إطلاق الأوّل الترخيص في التطبيق حتى على هذا الفرد ، ومقتضى الثاني عدمه ، فلا مناص في مثله عن الالتزام بالتخصيص ، وأنّ دائرة المأمور به مقيدة بعدم انطباقها على هذا الفرد ، وهذا بخلاف المكروه لما عرفت من اشتماله على الترخيص فلا ينافي الإطلاق.

السادس : خبر عبد الله بن أوفى « إنّ رجلاً سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي لا أستطيع أن أحفظ شيئاً من القرآن فماذا أصنع؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : قل سبحان الله والحمد لله » (١) فلو جازت القراءة من المصحف لأمره بذلك.

ولا يخفى أنّ هذا من أردأ أنحاء الاستدلال ، إذ فيه : أوّلاً : أنّ الرواية عامية ولم ترد عن طرقنا فهي ضعيفة السند. وثانياً : أنّ موردها ليست القراءة في الصلاة التي هي محل الكلام ، بل قراءة مطلق القرآن ، فهي أجنبية عمّا نحن فيه.

وثالثاً : أنّ موردها صورة الاضطرار ، ويجوز فيها القراءة في المصحف إجماعاً.

ورابعاً : أنّ سياقها يشهد أنّ السائل عامّي محض لا يستطيع القراءة في المصحف فلا يمكن أمره بذلك ، فلا يقاس عليه من يتمكن منها الذي هو محل الكلام.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا : أنّ الأقوى هو جواز القراءة في المصحف حتى مع الاختيار ، لإطلاق أدلة القراءة وعدم نهوض ما يوجب التقييد.

هذا ، وربما يستدل للجواز برواية الحسن بن زياد الصيقل قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في الرجل يصلي وهو ينظر في المصحف يقرأ فيه يضع السراج قريباً منه؟ فقال : لا بأس بذلك » (٢).

__________________

(١) سنن البيهقي ٢ : ٣٨١ ، سنن أبي داود ١ : ٢٢٠ / ٨٣٢.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤١ ح ١.

٤٠٧

كما يجوز له اتباع من يلقّنه آية فآية (١) لكن الأحوط اعتبار عدم القدرة على الحفظ وعلى الائتمام.

[١٥٢٢] مسألة ٣٠ : إذا كان في لسانه آفة لا يمكنه التلفظ يقرأ في نفسه ولو توهماً (*) ، والأحوط تحريك لسانه بما يتوهمه (٢).

______________________________________________________

لكنها ضعيفة السند وإن عبّر عنها بالمصححة في بعض الكلمات ، فانّ الحسن ابن زياد الصيقل لم يوثق. نعم ، ورد في أسانيد كامل الزيارات الحسن بن زياد ولم يعلم أنّ المراد به الصيقل (١) ، بل الظاهر أنّ المراد به الضبيّ مولى بني ضبة المعبّر عنه بالطائي أيضاً ، فإنّه المعروف الذي له كتاب دون الصيقل ، ولا أقل من الشك فلم يثبت توثيقه ، فلا يمكن الاعتماد عليها حتى يجمع بينها وبين خبر علي بن جعفر المتقدم في الوجه الرابع بالحمل على الكراهة كما قيل ، لضعفهما معاً كما عرفت.

(١) كما مرّ في التكبير ، فإنّ القدرة المعتبرة في التكليف إنّما هي القدرة الحاصلة في ظرف العمل ولو تدريجاً ، ولا يعتبر فعلية القدرة على المجموع قبل الشروع ، فيجوز متابعة الملقّن وإن تمكن من الحفظ والائتمام.

(٢) إذا كان المصلي قادراً على القراءة الصحيحة فلا كلام ، وأمّا إذا كان عاجزاً ففروضه ثلاثة : إذ قد يكون عاجزاً عن القراءة الصحيحة فيأتي بها ملحونة كما في الفأفاء والتمتام ونحوهما ممّن لا يتمكن من تأدية الحروف عن مخارجها ، كأن يبدل الراء ياءً ، أو كان أعجمياً غريباً عن اللغة العربية فيبدل‌

__________________

(*) على الأحوط.

(١) ولكن الرجل على التقديرين لم يكن من مشايخ ابن قولويه بلا واسطة فلا يشمله التوثيق.

٤٠٨

الضاد زاء مثلاً ولا يستطيع أن يتعلم ، وقد يكون عاجزاً عن القراءة رأساً وهذا تارة يكون لمانع ذاتي كما في الأخرس ، وأُخرى لمانع عرضي كمن به آفة في لسانه.

أمّا القسم الأوّل : فلا شك أنّ وظيفته الإتيان بما يتمكن من القراءة وما يتيسر له ، فانّ هذه هي قراءته ، و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) ، وتدل عليه موثقة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنّ الرجل الأعجمي من أُمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربيته » (١) وقد بنينا أخيراً على العمل بروايات السكوني واعتبارها ، لأنّه موثق بتوثيق الشيخ وإن كان عاميا ، والنوفلي الراوي عنه موجود في أسانيد كامل الزيارات وتفسير القمي.

وتؤيّده : معتبرة مسعدة بن صدقة قال : « سمعتُ جعفر بن محمد عليه‌السلام يقول : إنّك قد ترى من المحرم (٢) من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح وكذلك الأخرس في القراءة في الصلاة والتشهد وما أشبه ذلك فهذا بمنزلة العجم والمحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح » (٣).

وهل يجب عليه الائتمام مع التمكن منه؟ الظاهر لا ، لأنّ وظيفته ذلك ، وهي منه بمنزلة القراءة الصحيحة من الفصيح فيشمله إطلاق قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة « الصلوات فريضة وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها ولكنها سنّة » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٢٢١ / أبواب قراءة القرآن ب ٣٠ ح ٤.

(٢) يقال أعرابي محرم : جافٍ لم يخالط الحضر. أقرب الموارد [ ١ : ١٨٥ ].

(٣) الوسائل ٦ : ١٣٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥٩ ح ٢.

(٤) الوسائل ٨ : ٢٨٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ١ ح ٢.

٤٠٩

وأمّا القسم الثاني : وهو العاجز رأساً لمانع ذاتي كالأخرس ، فالمشهور كما في المتن أنّه يحرّك لسانه ويشير بيده على حذو تفهيم سائر مقاصده ، بل إنّ هذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، وتدل عليه موثقة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : تلبية الأخرس وتشهده وقراءته القرآن في الصلاة ، تحريك لسانه وإشارته بإصبعه » (١) ، وتؤيّده معتبرة مسعدة بن صدقة المتقدمة.

إنّما الكلام في أنّه يشير إلى أيّ شي‌ء ، فانّ المعاني لا يلزم قصدها أو التوجه إليها حتى في المختار ، فانّ كثيراً من الناس بل أكثرهم يصلّون ولا يدرون ما يقولون ، أو لا يلتفتون ، فقصد المعنى غير معتبر قطعاً حتى تجب الإشارة إليه.

وأمّا الألفاظ ، فقد يقال بامتناع إشارة الأخرس إليها ، إذ هو لكونه أصم لملازمة الخرس للصم لم يسمع الألفاظ منذ عمره وطيلة حياته ، فكيف يشير إليها وهو لا يعرفها ، فهو بالنسبة إلى الألفاظ كالأعمى بالنسبة إلى الألوان.

لكن الظاهر أنّه يشير إلى اللفظ ، إذ هو يعلم ولو إجمالاً أنّه يخرج من الناس نوع صوت في مقام تفهيم مقاصدهم ، لما يراه من تحريك اللسان والشفتين وسائر الملابسات كما يخرج عن نفسه أيضاً ، وإن كان من نفسه مهملاً ، فيشير إلى تلك الأصوات والألفاظ عند القراءة كما في غيرها فتدبر جيداً.

وأمّا آلة الإشارة ففي المتن كغيره من سائر كلمات القوم أنّها اليد ، والمذكور في النص الإصبع ، والظاهر أنّهما متلازمان ومآلهما واحد ، فإنّ الإصبع جزء من اليد فلو أشار به يصدق أنّه أشار بيده كالعكس فلا فرق بين الأمرين.

وممّا ذكرنا تعرف عدم وجوب الائتمام عليه ، لأنّ هذه هي قراءته وهي منه بمنزلة الصحيح من الفصيح. مضافاً إلى إطلاق النص المعيّن للوظيفة الفعلية.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٣٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥٩ ح ١.

٤١٠

وأمّا القسم الثالث : وهو العاجز عن القراءة لمانع عارضي كمن في لسانه آفة ، فقد ذكر في المتن تبعاً لجمع أنّه يقرأ في نفسه ولو توهّماً مثل حديث النفس ، وهذا بخصوصه لم يرد في شي‌ء من الأخبار ، لكن صاحب الجواهر قدس‌سره (١) استدلّ له تارة : بصحيحة علي بن جعفر المتقدمة : « سألته عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته ويحرّك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه؟ قال : لا بأس أن لا يحرّك لسانه يتوهم توهّماً » (٢).

وقد أسلفنا الكلام حولها وأنّه لا بدّ من رد علمها إلى أهله ، حيث إنّ ظاهرها المختار وهو على خلاف الكتاب والسنة ، وتقدّم (٣) ما عن الشيخ من حملها على الائتمام خلف المخالف ، وعرفت أنّ هذا وإن كان بعيداً جدّاً ، لكنه لا بأس به حذراً من الطرح. وعلى كل حال فهي أجنبية عن محل الكلام كما لا يخفى.

وأُخرى : بخبره الآخر المروي عن قرب الاسناد (٤) لكنه مضافاً إلى ضعف سنده بعبد الله بن الحسن أجنبي عن المقام أيضاً ولا شاهد على حمله عليه.

وثالثة : بمرسل محمد بن أبي حمزة « قال : يجزئك من القراءة معهم مثل حديث النفس » (٥) لكنها مضافاً إلى ضعفها بالإرسال كالصريح في الائتمام خلف المخالف لقوله عليه‌السلام « معهم » ، فهي أيضاً أجنبية عن المقام.

وعلى الجملة : فليس في البين نص يعتمد عليه ، وحينئذ فان قلنا بأنّ الأخرس بمفهومه شامل لمحل الكلام ، وأنّه عبارة عن مطلق من لم يتمكن من التكلّم وإن‌

__________________

(١) الجواهر ٩ : ٣١٧.

(٢) الوسائل ٦ : ٩٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٣ ح ٥.

(٣) في ص ٤٠٤.

(٤) الوسائل ٦ : ١٢٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥٢ ح ٤ ، قرب الاسناد : ٢٠٣ / ٧٨٥.

(٥) الوسائل ٦ : ١٢٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥٢ ح ٣.

٤١١

[١٥٢٣] مسألة ٣١ : الأخرس يحرّك لسانه ويشير بيده إلى ألفاظ القراءة بقدرها (١).

[١٥٢٤] مسألة ٣٢ : من لا يحسن القراءة يجب عليه التعلم (*) (٢) وإن كان متمكناً من الائتمام ، وكذا يجب تعلم سائر أجزاء الصلاة ،

______________________________________________________

كان لجهة عارضية ، فيشمله حكمه لكونه من مصاديقه حينئذ ، وإلاّ كما لعله الأقوى لانصرافه إلى المانع الذاتي كالعمى ، فكما أنّ الأعمى لا يصدق على من لا يبصر فعلاً لعارض موقّت مع قبوله للعلاج ، فكذا الأخرس فإنّه ينصرف عمن طرأ عارض موقّت على لسانه يزول بالعلاج فالظاهر أيضاً كذلك ، فإنّه وإن خرج عنه موضوعاً لكنه داخل حكماً ، إذ مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ الخرس لا خصوصية له وإنّما أُخذ في لسان الدليل باعتبار أنّه لا يتمكن من التكلم ، فهو الموضوع في الحقيقة والأخرس من أحد مصاديقه ، فيعمّ الحكم لمثل المقام أيضاً. فالأقوى أنّ وظيفته هي وظيفة الأخرس ، لكن الأحوط أن يضمّ معها ما في المتن من القراءة في النفس ولو توهّماً فيحرّك لسانه بما يتوهّمه لذهاب جماعة إليه.

(١) قد ظهر حالها ممّا مرّ فلاحظ.

(٢) إن قلنا بأنّ التعلم واجب نفسي كما اختاره المحقق الأردبيلي (١) قدس‌سره أخذاً بظواهر بعض النصوص كقوله « طلب العلم فريضة » (٢) ونحوه ، فلا إشكال في الوجوب. وأمّا إذا أنكرنا ذلك وبنينا على أنّ الوجوب طريقي تحفّظاً على الأحكام الواقعية كما هو الصحيح ، ويشهد له ما ورد من أنّ العبد يؤتى به‌

__________________

(*) لا وجه لوجوبه مع التمكن من الصلاة الصحيحة بالائتمام.

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

(٢) الكافي ١ : ٣٠ / ٢.

٤١٢

فان ضاق الوقت مع كونه قادراً على التعلم فالأحوط الائتمام إن تمكّن منه (*) (١).

______________________________________________________

يوم القيامة فيقال هلاّ عملت؟ فيقول : ما علمت ، فيقال هلاّ تعلّمت؟ ... إلخ (١) فلا دليل على وجوب التعلم في المقام حتى مع التمكن من الائتمام ، فإنّه أيضاً طريق يوصل إلى الواقع ، والمفروض أنّ التعلم لا خصوصية له عدا الإيصال وعدم الإخلال بالواقع ، فمع الأمن منه لا يجب التعلم ، ومن هنا ذكرنا وذكر الماتن أيضاً في أوائل الكتاب في مبحث التقليد أنّ من يعلم أنّه لا يبتلى بمسائل الشك لا يجب عليه تعلم أحكامه (٢).

(١) تفصيل الكلام في المقام : أنّه قد يفرض أنّ المكلف عاجز عن التعلم فلا يقدر عليه ، لقصور فيه إمّا ذاتاً أو عرضاً كضيق الوقت أو لأنّه أسلم في مكان لا يجد من يعلّمه من بيداء أو محبس ونحوهما ، وقد يفرض قدرته عليه غير أنّه فرّط وقصّر في التعلم إلى أن ضاق الوقت فأصبح عاجزاً بسوء اختياره.

أمّا العاجز القاصر ، فلا شك في سقوط القراءة عنه فإنّه تكليف بما لا يطاق وأنّ الوظيفة حينئذ تنتقل إلى البدل وسيأتي الكلام عليه.

وهل يجب عليه الائتمام حينئذ إن تمكن منه؟ لا ينبغي الإشكال في العدم والظاهر أنّه لا قائل به أيضاً ، ووجهه ظاهر ، أمّا بناءً على أنّ الائتمام مسقط للقراءة كما هو الصحيح لا أنّه عدل للواجب التخييري فالأمر واضح ، لأنّه‌

__________________

(*) بل الأقوى ذلك فيما إذا كان متمكناً من التعلّم قبلاً كما هو المفروض.

(١) ورد هذا المضمون في رواية معتبرة أخرجها في البحار ٢ : ٢٩ عن أمالي المفيد وفي ص ١٨٠ عن قبس المصباح ، وأوردها في تفسير البرهان ٢ : ٤٩٢ عن أمالي الشيخ الطوسي.

(٢) شرح العروة ١ : ٢٥٢.

٤١٣

غير مأمور بالقراءة رأساً لمكان العجز فلا تكليف بها حتى يحتاج إلى المسقط ولزوم الإتيان بالمسقط في حد نفسه لا دليل عليه.

وأمّا على المبنى الآخر ، فكذلك أخذاً بإطلاق أدلة البدلية كما ستعرف قريباً إن شاء الله تعالى ، من أنّ الوظيفة حينئذ تنتقل إلى التكبير والتسبيح أو الإتيان بالميسور ، أو قراءة غير الفاتحة من سور القرآن ، فانّ مقتضى الإطلاق في تلك الأدلة عدم الفرق بين صورتي التمكن من الائتمام وعدمه ، ومن البيّن أنّ عدل الائتمام هو مطلق الفرادى الأعم من المشتملة على القراءة أو على بدلها ، لا خصوص الاولى.

مضافاً إلى إطلاق قوله عليه‌السلام : « الصلوات فريضة وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلّها ولكنّها سنّة » (١) فانّ مقتضاه استحباب الجماعة مطلقاً خرج عنه ما ثبت وجوبها فيه كالجمعة فيبقى الباقي ومنه المقام تحت الإطلاق. ومع الغض عن الإطلاقين المزبورين فاحتمال وجوب الجماعة أو اشتراطها منفي بأصالة البراءة كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ الائتمام غير واجب حتى على القول بالوجوب التخييري.

وأمّا العاجز المقصّر الذي ترك التعلم مع قدرته عليه عالماً عامداً حتى ضاق الوقت ، فالكلام فيه يقع في مقامين ، أحدهما : ما إذا لم يتمكن من الائتمام. وثانيهما : مع التمكن منه.

أمّا المقام الأوّل ، فقد ذهب بعضهم إلى سقوط الأداء حينئذ وتعيّن القضاء ، إذ الواجب هي الصلاة عن قراءة صحيحة وكان متمكناً منها وضيّعها على نفسه بتقصيره في التعلم بسوء اختياره ، ولا دليل على الانتقال إلى البدل ، لاختصاص أدلّة البدلية بالعاجز القاصر وانصرافها عن المقصّر ، كما لا دليل على الاجتزاء بالناقص بقاعدة الميسور لعدم تماميتها ، فلا مناص عن الالتزام بسقوط الصلاة‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٨٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ١ ح ٢.

٤١٤

والانتقال إلى القضاء.

وذكر المحقق الهمداني قدس‌سره (١) في بعض موارد الاضطرار : أنّ القاعدة تقتضي ذلك ، أي سقوط الأداء في كافة التفويتات الاختيارية ، فلو أراق الماء عمداً فقد فوّت على نفسه الصلاة الاختيارية ، ولا دليل في مثله على الانتقال إلى التيمم ، لانصراف دليل البدل إلى العجز القهري لا الاختياري العمدي ، نعم مقتضى دليل عدم سقوط الصلاة بحال لزوم الانتقال إلى البدل وبذلك يخرج عن مقتضى القاعدة ، غير أنّه قد تردد في شمول هذا الدليل لمثل المقام من جهة التشكيك في مفاده ، لاحتمال أن يراد بالحالة الحالات الطارئة على المكلّف بحسب طبعه من مرض أو سفر ونحوهما دون حال العصيان ، فمن الجائز أن لا يشمل حال التفويت الاختياري ، ومن هنا ذكر أنّ الأحوط في أمثال المقام الجمع بين الأداء والقضاء عملاً بالعلم الإجمالي.

وهذا القول أعني سقوط الأداء وجيه لولا قيام الدليل على عدم سقوط الصلاة بحال ، فإنّه وإن لم يرد بلفظة في دليل معتبر لكن مضمونه مستفاد ممّا ورد في أخبار المستحاضة كقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة « ولا تدع الصلاة بحال » (٢) للقطع بعدم خصوصية للمستحاضة في هذا الحكم ، ولا ينبغي الريب في شمول الحال لمثل المقام فإنّه من جملة الأحوال ، والتشكيك المزبور لم نعرف له وجهاً صحيحاً ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق بعد صدق اسم الصلاة على الفاقد للقراءة ، لعدم تقوّمها بأكثر من الركوع والسجود والطهور.

فالمتعيّن هو الأداء فقط دون القضاء ، إذ لا ينتهي الأمر إليه بعد تعيّن الوظيفة في الوقت ، المانع من صدق الفوت الذي هو موضوع القضاء ، ودون الجمع ، إذ لا تصل النوبة إلى العلم الإجمالي كما هو ظاهر.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٢٧٨ السطر ١٠.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

٤١٥

وأمّا المقام الثاني : فهل يجب الائتمام مع التمكن منه؟

يقع الكلام تارة في الوجوب التكليفي ، وأُخرى في الوجوب الوضعي.

أمّا الأوّل : فقد احتاط فيه في المتن وإن لم يصرّح بالتكليفي وقد جزم قدس‌سره به في أوائل أحكام الجماعة ، حيث ذكر أنّها مستحبة لكنها تجب في موارد وعدّ المقام فيها.

وربما يقال : بعدم الوجوب ، استناداً إلى أصالة البراءة ، بناءً على أنّ الائتمام مسقط كما هو الصحيح لا أنّه عدل للواجب التخييري ، فإنّ الأمر بالقراءة ساقط ولو بالتعذر المستند إلى التقصير ، وإيجاب المسقط يحتاج إلى الدليل وحيث لا دليل فيدفع بأصالة البراءة ، ويقتصر على المقدار الممكن.

وربما يستدل عليه أيضاً : بصحيحة عبد الله بن سنان قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ، ألا ترى لو أنّ رجلاً دخل في الإسلام لا يحسن أن يقرأ القرآن أجزأه أن يكبّر ويسبّح ويصلي » (١) حيث إنّ مقتضى إطلاقها أنّ غير المتمكن من القراءة يجزئه التسبيح وإن كان متمكناً من الائتمام ، فيظهر أنّ القراءة ليست من المقوّمات وإنّما المقوّم للصلاة الركوع والسجود كما صرّح بهما في صدر الصحيحة ، وكذا الطهور كما يظهر من بعض الأخبار.

والجواب : أمّا عن الصحيحة ، فبأنّ القراءة وإن لم تكن مقوّمة لكنها من أجزاء الصلاة وواجبة مع التمكن بلا إشكال ، لقوله عليه‌السلام « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (٢) ، والمفروض في المقام التمكن من تعلمها فتجب لا محالة ، غير أنّ المكلف فوّتها على نفسه بتقصيره وسوء اختياره فكيف تشمله هذه الصحيحة‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣ ح ١.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ١٩٦ / ٢ ، المستدرك ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥.

٤١٦

التي موردها العاجز القاصر الذي لا يقدر على التعلم كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : « لو أنّ رجلاً دخل في الإسلام ... » إلخ حيث إنّ المنسبق منه أنّ عدم إحسانه للقراءة لكونه جديد عهد بالإسلام فمنصرفه العجز القصوري الذي هو أجنبي عن محل الكلام.

وأمّا عن الأصل ، ففيه : أنّ البراءة غير جارية في المقام ، إذ موردها الشك في التكليف ، ولا شك أنّه كان مكلفاً بالصلاة مع القراءة لفرض قدرته على التعلم ، فهو مستحق للعقاب على تفويته الاختياري جزماً. نعم ، في وسعه دفع العقاب بالائتمام ، إذ لم يفت عنه حينئذ شي‌ء ، فلا جرم يستقل به العقل فراراً عن العقاب المقطوع استحقاقه لا المحتمل ، لما عرفت من أنّه كان قادراً ولم يتعلّم بسوء اختياره إلى أن ضاق الوقت ، فهو يعاقب لا محالة على تركه للمرتبة الراقية والصلاة الاختيارية.

وعلى الجملة : فالائتمام وإن لم يكن واجباً في نفسه شرعاً بعد فرض كونه مسقطاً لا عدلاً للواجب التخييري كما هو مبنى الكلام ، إلاّ أنّ العقل يستقل بوجوبه دفعاً للعقاب المقطوع استحقاقه ، ومعه كيف يسوغ تركه رأساً استناداً إلى أصالة البراءة.

فتحصّل : أنّ وجوب الائتمام تكليفاً ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.

وأمّا الثاني : فالظاهر عدمه ، لأصالة البراءة عن تقيّدها به ، فإنّه قيد زائد يشك في اعتباره في المأمور به فيدفع بالأصل ، بناءً على ما هو الصحيح من الرجوع إلى البراءة في الأقل والأكثر الارتباطي ، فلو لم يأتم صحّت صلاته وإن كان آثماً ، ومن الواضح عدم المنافاة بين الوجوب تكليفاً وعدمه وضعاً ، فالمقام نظير ما لو نذر أن يأتي بالفريضة جماعة ، فلو حنث وصلى منفرداً صحت صلاته وإن كان عاصياً.

٤١٧

[١٥٢٥] مسألة ٣٣ : مَن لا يقدر إلاّ على الملحون أو تبديل بعض الحروف ولا يستطيع أن يتعلم أجزأه ذلك ولا يجب عليه الائتمام ، وإن كان أحوط وكذا الأخرس لا يجب عليه الائتمام (١).

[١٥٢٦] مسألة ٣٤ : القادر على التعلّم إذا ضاق وقته قرأ من الفاتحة ما تعلّم ، وقرأ من سائر القرآن (*) عوض البقيّة ، والأحوط مع ذلك تكرار ما يعلمه بقدر البقية ، وإذا لم يعلم منها شيئاً قرأ من سائر القرآن بعدد آيات الفاتحة (**) بمقدار حروفها (٢).

______________________________________________________

(١) تقدّم (١) الكلام في هذه المسألة مستقصى فلا حاجة إلى الإعادة فلاحظ.

(٢) المشهور أنّ مَن لم يتعلّم القراءة إلى أن ضاق الوقت سواء أكان قادراً على التعلم فقصّر أم كان قاصراً قرأ من الفاتحة ما تيسر ، فان عجز عنها بأن لم يتعلم شيئاً منها قرأ من سائر القرآن ، فان عجز عن ذلك أيضاً كبّر وسبّح.

وظاهر المحقق في الشرائع (٢) إلغاء الترتيب ، وأنّه بعد العجز عن الفاتحة يتخيّر بين قراءة سائر القرآن وبين التسبيح.

وهذا مضافاً إلى أنه لا قائل به عدا ما ينقل عن الشيخ في موضع من المبسوط (٣) فهو قول شاذ لا يعبأ به لا دليل عليه ، بل الدليل قائم على خلافه كما ستعرف ، هذا.

__________________

(*) على الأحوط الأولى ، ولا يجب عليه تكرار ما تعلّم.

(**) على الأحوط فيه وفيما بعده.

(١) في ص ٤١٣.

(٢) الشرائع ١ : ٩٨.

(٣) المبسوط ١ : ١٠٧.

٤١٨

وقد استدلّ على المشهور من اعتبار الترتيب المزبور بوجوه كلها ضعيفة ، ما عدا صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (١) حيث أُنيط فيها إجزاء التكبير والتسبيح بالعجز عن قراءة القرآن لا عن خصوص الفاتحة ، فالانتقال إلى الذكر متفرع على العجز عن طبيعي القراءة ، ولازم ذلك هو الترتيب والطولية فيسقط التخيير.

ويؤيّدها قوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (٢) ، وما في خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام من أنّ العلة في قراءة القرآن في الصلاة لئلاّ يكون القرآن مهجوراً ، والعلة في اختصاص الفاتحة بالوجوب لاشتمالها على جوامع الكلم (٣) حيث يظهر منه تعدد المطلوب ، فاذا فات المطلوب الأرقى بقي المطلوب الأدنى بحاله ، فوجب قراءة غير الفاتحة من سائر القرآن مهما أمكن رعاية لأدنى المطلوبين ، لكن العمدة ما ذكرناه من الصحيحة ، إذ في هذين الوجهين ما لا يخفى وسنشير إليه فلا يصلحان إلاّ للتأييد.

هذا إذا لم يتمكن من الفاتحة أصلاً ، وأمّا إذا تمكن من بعضها ، فان كان المقدور هو معظم الفاتحة فلم يرد النقص إلاّ على مقدار يسير منها كربعها بل وثلثها ، بحيث صدق على الباقي عنوان الفاتحة ، فلا إشكال في وجوب الإتيان به ووجهه ظاهر ، وأمّا إذا كان الفائت مقداراً معتنى به كالنصف أو الثلثين ، بحيث لم يصدق على المقدور عنوان الفاتحة ، فقد استدلّ على وجوب قراءته حينئذ بوجوه ضعيفة كقاعدة الميسور ، وما لا يدرك ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم » (٤) ، والاستصحاب ، والكل كما ترى.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣ ح ١.

(٢) المزمل ٧٣ : ٢٠.

(٣) الوسائل ٦ : ٣٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٣.

(٤) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨.

٤١٩

والعمدة الاستدلال عليه بأحد وجهين :

أحدهما : تسالم الأصحاب واتفاقهم على ذلك بحيث لم ينقل الخلاف عن أحد.

ثانيهما : صحيحة ابن سنان المتقدمة بضميمة العلم الخارجي بتقدم الفاتحة على غيرها من سائر القرآن في الصلاة ، فإنّ مقتضى الصحيحة أنّ التسبيح إنّما يجزئ بعد العجز عن طبيعي القرآن ، غير المتحقق في المقام بعد تمكنه من بعض الفاتحة ، فإنّه مصداق للقرآن كما هو ظاهر ، فلا تصل النوبة إلى التسبيح ، وحيث إنّا نقطع من الخارج أنّ الفاتحة مقدمة على بقية سور القرآن في القراءة المعتبرة في الصلاة ولذا تتقدم على ما عداها لدى الاختيار ، فلا نحتمل تقدم غيرها أو التخيير بينها وبين الفاتحة ولو بعضها في المقام. فالصحيحة بضميمة هذا العلم الخارجي تنتج وجوب الإتيان بالفاتحة بالمقدار الممكن.

وهل يجب التعويض حينئذ عن الباقي؟ فيه خلاف نسب إلى المشهور الوجوب واستدلّ عليه بأُمور :

أحدها : قاعدة الاشتغال ، إذ لا جزم بفراغ الذمة عن عهدة التكليف المقطوع إلاّ بالتعويض.

والجواب : عنه ظاهر ، فإنّه من موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطي والصحيح أنّه مجرى البراءة دون الاشتغال.

ثانيها : قوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (١) وظاهر الأمر الوجوب.

وفيه أوّلاً : أنّ الآية المباركة غير ناظرة إلى حال الصلاة ، بل هي مطلقة ومعلوم أنّ الأمر حينئذ محمول على الاستحباب.

وثانياً : على تقدير كونها ناظرة إلى الصلاة ومختصة بها ، فليس المراد كل ما‌

__________________

(١) المزمل ٧٣ : ٢٠.

٤٢٠