موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وأمّا إلحاق ليلة الجمعة ، فلم يظهر له وجه أصلاً بعد وضوح عدم صدق اليوم على الليلة.

فاتضح أنّ الأقوى ما عليه المشهور من اختصاص الحكم بصلاة الجمعة وظهرها.

الجهة الثالثة : هل يختص الحكم بجواز العدول إلى الجمعة والمنافقين بما إذا لم يتجاوز النصف ، فبعد التجاوز لا يجوز العدول إليهما كما لا يجوز إلى غيرهما ، أو يعمّ الحكم صورة التجاوز أيضاً؟

يقع الكلام تارة في العدول عن غير الجحد والتوحيد ، وأُخرى في العدول عنهما.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ التحديد بعدم تجاوز النصف لم ينهض عليه دليل معتبر عدا الإجماع ، وهو لو تمّ دليل لبيّ يقتصر على المتيقن منه ، وهو العدول إلى غير الجمعة والمنافقين ، وأمّا فيهما فلم يعلم بتحققه ، ولو سلّم قيام دليل لفظي معتبر عليه وكان له إطلاق ، أو بنينا على التحديد بالثلثين كما نطق به موثق عبيد المتقدم (١) واختاره كاشف الغطاء ، وعرفت أنّه الأقوى ، فالنسبة بين هذه الموثقة أو ذاك الدليل اللفظي لو كان ، وبين ما دل على جواز العدول إلى الجمعة والمنافقين من الروايات المتقدمة عموم من وجه ، إذ مقتضى إطلاق الأوّل المنع عن العدول بعد تجاوز النصف أو بعد بلوغ الثلثين إلى أيّ سورة سواء أكانت الجمعة والمنافقين أم غيرهما ،

ومقتضى إطلاق الثاني جواز العدول إليهما سواء أكان قبل تجاوز النصف أو الثلثين أم بعدهما ، فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي العدول إلى السورتين بعد تجاوز النصف أو الثلثين ، وبعد التساقط يرجع إلى الأصل أو عموم ما دلّ على‌

__________________

(١) في ص ٣٤٩.

٣٦١

جواز الرجوع من كل سورة إلى غيرها ، وبذلك يثبت الجواز. وأمّا الاستحباب فيكفي فيه إطلاق ما دلّ على أنّه لا ينبغي ترك الجمعة والمنافقين في يوم الجمعة كما تقدم (١) في صحيحة زرارة الطويلة.

وأمّا الثاني : أعني العدول عن الجحد والتوحيد ، فالظاهر أيضاً ثبوته على الإطلاق ، لإطلاق ما دلّ على جواز العدول عنهما إلى الجمعة والمنافقين من الروايات المتقدمة ، فإنّه يشمل النصف والثلثين وغيرهما ، إذ لم يرد هنا تحديد بل كان المنع ذاتياً غير مختص بحد معيّن ، فإطلاق دليل المخصص الدال على جواز العدول منهما إليهما هو المحكّم.

فظهر أنّ الأقوى جواز العدول إلى الجمعة والمنافقين مطلقاً ، من غير فرق بين الجحد والتوحيد وغيرهما ، ولا بين تجاوز النصف أو الثلثين وعدمهما. نعم في رواية الفقه الرضوي التحديد بالنصف (٢) ، لكنّها ليست بحجة كما مرّ غير مرّة.

الجهة الرابعة : هل يختص الحكم بجواز العدول من الجحد والتوحيد وكذا من غيرهما وإن جاوز الثلثين إلى سورة الجمعة والمنافقين بصورة النسيان ، فاذا شرع فيها عامداً لا يجوز العدول إليهما ، أو يعمّ صورة العمد أيضاً؟

فيه خلاف وإشكال ، وقد احتاط في المتن بتخصيص الحكم بالأُولى.

ووجه الاشكال : أنّ الروايات المانعة عن العدول على طائفتين ، فبعضها وهي الأكثر موردها الناسي كصحيحة عمرو بن أبي نصر وعلي بن جعفر وغيرهما (٣) والبعض الآخر وهي صحيحة الحلبي (٤) موردها العمد لقوله « ثم بدا له » وأمّا‌

__________________

(١) في ص ٣٥٩.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٣٠.

(٣) الوسائل ٦ : ٩٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٥ ، ح ١ ، ٣.

(٤) الوسائل ٦ : ٩٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٥ ح ٢.

٣٦٢

[١٥٠٩] مسألة ١٧ : الأحوط عدم العدول من الجمعة والمنافقين إلى غيرهما في يوم الجمعة وإن لم يبلغ النصف (١).

______________________________________________________

الروايات المسوّغة للعدول إلى الجمعة والمنافقين فهي بأجمعها مختصّة بالنسيان فتخصص الطائفة الاولى من الروايات المانعة. وأمّا الطائفة الثانية فهي سليمة عن المخصص ، فيؤخذ بإطلاق المنع فيها.

ولكن الظاهر شمول الحكم لصورة العمد أيضاً ، فإنّ الروايات المجوّزة أيضاً على طائفتين ، إذ فيها ما له إطلاق يشمل العامد ، وهي صحيحة علي بن جعفر (١) فإنّها صحيحة السند كما مرّ ، والمذكور فيها عنوان الأخذ الشامل للعمد والنسيان فتكون هذه مقيّدة لجميع الأخبار السابقة المانعة عن العدول ، إذ النسبة بينها وبين مجموع تلك الأخبار نسبة الخاص إلى العام ، لأنّ مفادها عدم جواز العدول في العمد والنسيان إلى أيّ سورة ، ومفاد هذه الصحيحة الجواز فيهما إلى خصوص الجمعة والمنافقين ، فتقيّد تلك بهذه ، ونتيجته شمول الحكم لصورتي العمد والنسيان كما ذكرنا.

(١) هذا لم يرد في شي‌ء من النصوص غير ما عن كتاب دعائم الإسلام (٢) المصرّح بعدم جواز العدول عنهما وليس بحجة ، وليست هناك شهرة ينجبر بها الضعف على القول به ، لأنّ المسألة خلافية ، فلم يبق إلاّ الوجه الاستحساني وهو أنّ جواز العدول عن الجحد والتوحيد إليهما مع كونه ممنوعاً في نفسه يكشف عن أهميتهما بالنسبة إليهما وشدة العناية والمحافظة على قراءتهما أكثر ممّا روعي في التوحيد والجحد ، فاذا لم يجز العدول عنهما لم يجز في الجمعة والمنافقين‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٥٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٦٩ ح ٤.

(٢) المستدرك ٤ : ٢٢١ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ١ ، دعائم الإسلام ١ : ١٦١.

٣٦٣

[١٥١٠] مسألة ١٨ : يجوز العدول من سورة إلى أُخرى في النوافل مطلقاً وإن بلغ النصف (*) (١).

______________________________________________________

بطريق أولى ، إلاّ أنّ هذه الأولوية ليست بقطعية لعدم العلم بملاكات الأحكام ومجرّد الاستحسان لا يصلح أن يكون مدركاً لحكم شرعي على سبيل البتّ والجزم. فالأقوى هو الجواز وإن كان الاحتياط حسناً على كل حال.

(١) إذا استندنا في المنع عن العدول إلى الإجماع ، فغير خفي أنّه دليل لبي لا إطلاق له حتى يشمل النوافل ، فتبقى تحت المطلقات أو أصالة الجواز.

وأمّا إذا استندنا إلى الأدلة اللفظية من الروايات الضعيفة كمرسلة الذكرى أو الفقه الرضوي المانعة عن العدول بعد تجاوز النصف ، أو إلى موثقة عبيد المانعة عنه بعد الثلثين ، فتلكم الروايات مطلقة تعمّ الفرائض والنوافل ، ولكن الظاهر انصرافها إلى الأُولى ، لأنّ العدول الذي تضمنته هذه النصوص جوازاً ومنعاً فيما قبل الحد وبعده معناه تبديل الامتثال بالامتثال وعدمه كما مرّ ، وأنّه يجوز التبديل قبل بلوغ الحد من النصف أو الثلثين ، ولا يجوز بعد البلوغ.

وعليه فهي ناظرة إلى الصلاة التي تقرّرت فيها سورة واحدة حتى يحكم بجواز تبديلها بامتثال آخر أو بعدم الجواز ، وهي ليست إلاّ الفرائض التي لا يجوز فيها القرآن لقوله عليه‌السلام : « لا تقرأ في المكتوبة بأقل من سورة ولا بأكثر » (١) وأمّا النوافل فلم تكن السورة المقررة فيها ولو استحباباً محدودة بحد ، ولا مقيدة بالوحدة ، لاختصاص القرآن الممنوع حرمة أو كراهة بغيرها ، بل كل ما أتى‌

__________________

(*) الأحوط الإتيان بالمعدول إليه بقصد القربة المطلقة.

(١) الوسائل ٦ : ٤٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ٢.

٣٦٤

[١٥١١] مسألة ١٩ : يجوز مع الضرورة العدول بعد بلوغ النصف (١) حتى في الجحد والتوحيد ، كما إذا نسي بعض السورة ، أو خاف فوت الوقت بإتمامها ، أو كان هناك مانع آخر ،

______________________________________________________

به من السورة فهي الوظيفة الفعلية ، لا أنّ الامتثال مختص بالوجود الأوّل حتى يكون العدول عنها من تبديل الامتثال بالامتثال ، بل هو بنفسه مصداق للامتثال. فبهذه القرينة تنصرف تلك الأخبار إلى الفرائض ولا تعمّ النوافل فتبقى تحت أصالة الجواز ، فتدبر جيداً.

(١) مراده قدس‌سره بالجواز المعنى الأعم المقابل للحرمة والمجامع للوجوب لا المعنى الأخص المساوق للإباحة ، لوضوح أنّ العدول في الموارد التي يذكرها واجب ، وليس بمباح.

وكيف كان ، فبعد ما فرغ عن حكم العدول وأنّه غير جائز بعد تجاوز النصف ، استثنى عن ذلك مورد الاضطرار والعجز بحيث لا يمكنه إتمام السورة التي شرع فيها ، وهو قد يكون تكوينياً كما لو نسي بعض السورة ، أو تشريعياً كما لو خاف فوت الوقت بإتمامها ، فإنّه يجوز العدول حينئذ ولو عن الجحد والتوحيد أو بعد تجاوز النصف أو الثلثين ، بل يجب بناءً على وجوب السورة الكاملة ، وذلك لقصور شمول دليل المنع لمثل المقام ، لاختصاصه بما إذا تمكن من إتمام السورة ، حيث إنّ ظاهره وجوب الإتمام المختص بصورة التمكن ، والمفروض عجزه عن ذلك تكويناً أو تشريعاً ، فيبقى العدول حينئذ تحت أصالة الجواز.

وهذا ظاهر لا إشكال فيه ، إذ طروء العجز والعذر يكشف عن عدم تعلق الأمر بهذه السورة من الأوّل ، فلا يعدّ ذلك من تبديل الامتثال.

٣٦٥

ومن ذلك ما لو نذر أن يقرأ سورة معيّنة (١) في صلاته فنسي وقرأ غيرها فانّ الظاهر جواز العدول (*) وإن كان بعد بلوغ النصف ، أو كان ما شرع فيه الجحد أو التوحيد.

______________________________________________________

(١) عدّ قدس‌سره من موارد العذر التشريعي ما لو نذر قراءة سورة معيّنة في صلاته ثم غفل وشرع في سورة أُخرى ، فإنّه يجوز له العدول عنها وإن كانت هي الجحد أو التوحيد ، أو بعد تجاوز النصف في غيرهما ، فيعدل عنها إلى السورة المنذورة ، لعدم التمكن من إتمام ما شرع ، لاستلزامه ترك الوفاء بالنذر الممنوع شرعاً.

وليعلم أنّ محل الكلام ما لو تعلق النذر بالأمر الوجودي ، وهو قراءة سورة معيّنة كما ذكرنا ، وأمّا إذا كان متعلقه أمراً عدميا كنذر أن لا يقرأ سورة أُخرى غير ما عيّن ، فهو خارج عن محل الكلام ، لبطلان مثل هذا النذر في نفسه ولو لم يكن مزاحماً بحكم آخر ، ضرورة اعتبار الرجحان في متعلّق النذر ، ولا رجحان في ترك قراءة سائر السور ، سيّما إذا لوحظ معها مثل التوحيد التي تستحب قراءتها مطلقاً ، أو بعض السور كهل أتى ، والأعلى ، والغاشية التي يستحب قراءتها بخصوصها في بعض الأيام ، وفي بعض الصلوات.

فمحل الكلام والذي ينظر إليه في المتن إنّما هو القسم الأوّل بلا ريب ، إذ الكلام إنّما هو في النذر الصحيح المنعقد في حد نفسه مع قطع النظر عن الابتلاء بالمزاحم ، ولا شك في صحة نذر أن يقرأ سورة معيّنة في صلاته ، لرجحانها وإن كان غيرها أرجح منها ، إذ لا يعتبر في صحة النذر إلاّ رجحان المتعلق في نفسه‌

__________________

(*) فيه إشكال بل منع ، والأظهر جواز القطع وإعادة الصلاة مع السورة المنذورة ، والأحوط أن تكون الإعادة بعد العدول والإتمام.

٣٦٦

لا أن لا يكون شي‌ء أرجح منه ، ومن هنا ترى صحة نذر زيارة مسلم عليه‌السلام ليلة عرفة لرجحانها ، وإن كانت زيارة الحسين عليه‌السلام في هذه الليلة أفضل.

وقد يقال في محل الكلام : بجواز ترك السورة المنذورة وقراءة غيرها حتى اختياراً ، إذ ليست فيه مخالفة للنذر ، فانّ نذر قراءتها كان مشروطاً باشتغال الذمّة بالسورة كما هو مقتضى تقييدها بالصلاة ، ومعلوم أنّ النذر المشروط بشرط لا يقتضي حفظ شرطه ، بل له إعدامه ليرتفع موضوع الوفاء ، فله تفويت الشرط بتفريغ ذمته عن السورة الواجبة في الصلاة بقراءة سورة أُخرى غير المنذورة فلا يبقى موضوع لوجوب الوفاء.

وهذا كما ترى من غرائب الكلام ، ضرورة أنّ الشرط هو اشتغال الذمة الذي يكفي في تحققه الاشتغال آناً ما وقد تحقق بالشروع (١) في الصلاة جزماً فالشرط حاصل والنذر معه نافذ لفعلية المشروط بفعلية شرطه ، ومعه كيف يسوغ له التفويت المؤدي إلى مخالفة النذر ، وهذا نظير ما لو نذر أن يدفع زكاته لزيد مهما اشتغلت ذمته بها ، فإنّه لا إشكال في حصول الحنث لو دفعها إلى عمرو ، مع أنّ الموضوع حينئذ غير باقٍ ، لعدم اشتغال ذمته بالزكاة بعد الدفع المزبور ، إلى غير ذلك من النظائر التي لا تخفى ممّا لا يمكن الالتزام فيها بما ذكر. والسرّ أنّ شرط التكليف وإن لم يجب تحصيله أو التحفظ عليه ، لكنه لا يجوز تفويته بعد حصوله وفعلية التكليف كما هو ظاهر.

ومما ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره هذا القائل من التخيير بين الإتمام والعدول لو قرأ غير المنذورة نسياناً وكان مما يجوز العدول عنه كغير الجحد والتوحيد قبل بلوغ النصف ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، بل يجب عليه العدول وفاءً بالنذر‌

__________________

(١) بل قبله أيضاً إذ لا يناط الاشتغال بالشروع فتدبر.

٣٦٧

لنفوذه بعد حصول شرطه.

وكيف ما كان ، فاذا نذر قراءة سورة معيّنة في صلاته فشرع في أُخرى نسياناً وتذكّر بعد تجاوز النصف على المشهور ، أو بعد تجاوز الثلثين على المختار ، أو كان ما شرع فيه التوحيد أو الجحد ، فقد ذكر الماتن قدس‌سره أنّه يجوز أي يجب العدول حينئذ ، لعدم شمول دليل حرمة العدول للمقام ، لاختصاصه بما إذا كان قادراً على الإتمام ، ولا قدرة عليه شرعاً بعد وجوب الوفاء بالنذر المقتضي للإتيان بالسورة المنذورة.

وما أفاده قدس‌سره وجيه لو شمل دليل الوفاء لمثل المقام لكنه غير شامل وهذا النذر باطل في نفسه كما اعترف به غير واحد من الأعلام ، والوجه في ذلك : ما ذكرناه في الأُصول (١) في بحث التزاحم في مسألة الترتب من أنّ أمثال المقام وإن كان داخلاً في باب التزاحم فيتزاحم وجوب الوفاء بالنذر مع حرمة العدول ، لكن الترجيح مع الثاني ، لقصور دليل النذر عن مزاحمة حكم من الأحكام ، لاشتراط نفوذه بأن لا يكون محللاً للحرام ، أو محرّماً للحلال فلا يتغير من أجله حكم من الأحكام.

ومن هنا ذكرنا أنّ في كل مورد وقع التزاحم بين الوفاء بالنذر وبين واجب آخر كان مشروطاً بالقدرة عقلاً قدّم الثاني ، إذ القدرة مأخوذة في الأوّل في لسان الدليل ، فهي معتبرة فيه شرعاً ، والقدرة العقلية مقدّمة على الشرعية لإطلاق دليلها الموجب للعجز عن الآخر. وبذلك ينكشف عدم انعقاد النذر من أوّل الأمر فيحرم عليه العدول في المقام عملاً بإطلاق دليله السليم عن المزاحم.

ولكن التحقيق : أنّ ما ذكر إنّما يتم فيما إذا كان متعلق النذر الصلاة الشخصية وأمّا إذا كان متعلقه طبيعي الصلاة كما هو كذلك غالباً ، فلا موجب لرفع اليد‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٢٥١.

٣٦٨

عن عموم دليل الوفاء بالنذر ، إذ يمكن امتثاله برفع اليد عن هذه الصلاة وإعادتها مع السورة المنذورة ، لعدم تعلق النذر بهذه الصلاة بخصوصها حسب الفرض. وهذا لا محذور فيه ، إذ لا يصادم حكماً من الأحكام عدا حرمة قطع الصلاة على القول بها ، لكنّها لو سلّمت فهي غير شاملة للمقام ، إذ لا دليل معتبر عليها إلاّ الإجماع وهو دليل لبّي يقتصر على المتيقن منه الذي هو غير ما نحن فيه وما يضاهيه كما لو نذر زيارة الأمير عليه‌السلام مثلاً في ساعة معيّنة ، فنسي وشرع في الصلاة في تلك الساعة ، فإنّه لا ينبغي الإشكال في جواز القطع ، بل وجوبه والوفاء بنذره ، لما عرفت من عدم شمول الإجماع على حرمة القطع لمثل ذلك.

فالأقوى : نفوذ النذر في المقام ، فيقطع صلاته ويعيدها مع السورة المنذورة ولكن الأحوط حذراً عن احتمال (١) حرمة القطع ضم ما ذكرناه إلى ما أفاده‌

__________________

(١) ولكنّه معارض باحتمال حرمة العدول الشامل إطلاق دليلها للمقام من غير مزاحم حسب اعترافه ( دام ظله ) بل إنّ هذا الاحتمال أولى بالمراعاة بعد أن كان دليل حرمة القطع لبيا يحتمل عدم شموله للمقام رأساً. وبالجملة : الأمر دائر بين العدول والإتمام والقطع. لا سبيل للأوّل لإطلاق دليل حرمته ، ولا الثاني لكونه مفوّتاً للوفاء بالنذر ، فيتعيّن الثالث.

ومنه تعرف تعذر الاحتياط في المقام ، ولا محيص من القطع والاستئناف مع السورة المنذورة ، فما في بحثه الشريف تبعاً لتعليقته الأنيقة من حصول الاحتياط بالعدول والإعادة غير واضح كالتعبير في التعليقة بقوله ( دام ظله ) : والأظهر جواز القطع ، إلاّ أن يريد به الجواز بالمعنى الأعم المجامع للوجوب ، ثم إنه بناءً على ما يراه ( دام بقاؤه ) من جواز القرآن بين السورتين ، يمكن التخلص بإتمام السورة ثم تعقيبها بالسورة المنذورة وبذلك يكون قد وفى بنذره ولم يرتكب العدول المحرّم ، إلاّ أن يكون متعلق نذره في مفروض المسألة الإتيان بها مصداقاً لطبيعي السورة الواجب عليه في الصلاة ، المنطبق طبعاً على السورة الأُولى ، هذا.

٣٦٩

[١٥١٢] مسألة ٢٠ : يجب على الرجال الجهر بالقراءة في الصبح والركعتين الأولتين من المغرب والعشاء ، ويجب الإخفات في الظهر والعصر في غير يوم الجمعة ، وأما فيه فيستحب الجهر في صلاة الجمعة ، بل في الظهر أيضاً على الأقوى (١).

______________________________________________________

في المتن ، فيتم صلاته بعد العدول ثم يعيدها مع السورة المنذورة.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر : فساد الاحتمال الثالث الذي ذكر في المقام ، من رفع اليد عن كل من دليلي وجوب الوفاء بالنذر وحرمة العدول ، لتساقط الدليلين المتزاحمين بعد عدم ترجيح في البين ، ونتيجة ذلك هو التخيير بين العدول وعدمه.

إذ فيه : أنّ النذر لو كان متعلقاً بالشخص فهو في نفسه منحل ، لقصور دليله عن الشمول للمقام كما عرفت ، فالمتعيّن العمل بإطلاق الدليل الآخر وإن كان متعلقاً بالطبيعي كما ذكرنا أنه الغالب ، فالمتعيّن الأخذ بإطلاق كلا الدليلين لعدم تزاحم في البين ، فلا يعدل ، بل يقطع ويعيدها بتلك السورة ، فاحتمال التخيير ساقط على التقديرين.

(١) المشهور بين الأصحاب وجوب الجهر على الرجال في صلاة الغداة ، وفي الركعتين الأولتين من صلاة المغرب والعشاء ، ووجوب الإخفات في ثالثة المغرب وفي الركعتين الأخيرتين من كل رباعية. بل عن الخلاف الإجماع عليه (١) ، ولم‌

__________________

ويمكن أن يُقال : بابتناء الاشكال على أن تكون حرمة العدول تكليفية كحرمة القطع ، وأمّا إذا كانت وضعيّة محضة كما لعله الظاهر من أخبار الباب بمعنى عدم صحة الصلاة بغير تلك السورة وأنّها المتعيّنة للجزئية ، فلا إشكال فلاحظ وتدبر.

(١) الخلاف ١ : ٣٣٢ ، ٣٧٢.

٣٧٠

ينسب الخلاف إلاّ إلى السيد المرتضى (١) وابن الجنيد قدس‌سرهما (٢) فذهبا إلى استحباب الجهر وعدم وجوبه ، بل صرّح السيد المرتضى بتأكد الاستحباب للأمر بالإعادة لو أخل به في بعض الأخبار ، واختاره من المتأخرين صاحب المدارك (٣) وتبعه السبزواري (٤) ، ومال إليه بعض آخر. ومحل الكلام هو الرجال وأمّا النساء فسيأتي حكمها.

واستدل للمشهور بوجوه كلها ضعيفة ما عدا صحيحتين لزرارة سنذكرهما.

فمنها : السيرة الجارية على مراعاة الجهر في الموارد المذكورة المتصلة بزمان المعصومين : ولا بدّ من التأسي بهم.

وفيه : أنّ السيرة كفعل المعصومين : لا يدل على الوجوب بل غايته الرجحان. وأمّا دليل التأسي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « صلّوا كما رأيتموني أُصلِّي » (٥) فلم يثبت من طرقنا ، مضافاً إلى النقاش في الدلالة كما مرّ مراراً.

ومنها : رواية الفضل بن شاذان الواردة في علة الجهر في بعض الصلوات من أنّها في أوقات مظلمة فيجهر ليعلم المارّ أنّ هناك جماعة (٦).

وفيه : أنّها واردة في مقام حكم آخر ، فلا تدل على وجوب الجهر أو استحبابه بالمعنى الاصطلاحي المبحوث عنه في المقام كما لا يخفى.

__________________

(١) حكاه عنه في المعتبر ٢ : ١٧٦.

(٢) حكاه عنه في المختلف ٢ : ١٧٠.

(٣) المدارك ٣ : ٣٥٨.

(٤) الذخيرة : ٢٧٤ السطر ٢٢.

(٥) صحيح البخاري ١ : ١٦٢ ، السنن الكبرى ٣ : ١٢٠.

(٦) الوسائل ٦ : ٨٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ١.

٣٧١

ومنها : رواية يحيى بن أكثم القاضي « أنّه سأل أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام عن صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة وهي من صلوات النهار ، وإنما يجهر في صلاة الليل ، فقال : لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغلس بها فقرّبها من الليل » (١).

وفيه : أيضاً عدم الدلالة على الوجوب ، فانّ كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغلس بها أعم من ذلك.

ومنها : غيرها من عدة روايات لا تخلو عن الخدش في السند أو الدلالة على سبيل منع الخلو.

والعمدة في المقام صحيحتان لزرارة : إحداهما : عن أبي جعفر عليه‌السلام « عن رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه فقال : أيّ ذلك فعل متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شي‌ء عليه وقد تمت صلاته » (٢) ، وقد رواها كل من الصدوق والشيخ بسند صحيح عن حريز عن زرارة (٣).

والأُخرى : ما رواه الشيخ أيضاً بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت له رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي الجهر فيه ، أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، وترك القراءة فيما ينبغي القراءة فيه ، أو قرأ فيما لا ينبغي القراءة فيه ، فقال : أيّ ذلك فعل ناسياً أو ساهياً فلا شي‌ء عليه » (٤) وقد دلّت الاولى منطوقاً والثانية مفهوماً على وجوب الجهر والإخفات في الجملة.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٢٧ / ١٠٠٣ ، التهذيب ٢ : ١٦٢ / ٦٣٥.

(٤) الوسائل ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٧.

٣٧٢

وهاتان هما العمدة في مدرك المشهور مؤيداً ببعض الأخبار ممّا تقدم وغيره.

وبإزائهما صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى قال : « سألته عن الرجل يصلي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه أن لا يجهر؟ قال : إن شاء جهر وإن شاء لم يفعل » (١).

وقد استدل بها صاحب المدارك (٢) على عدم الوجوب ، وبها رفع اليد عن الصحيحتين المتقدمتين وحملهما على الاستحباب ، وقال أنّها أظهر سنداً ودلالة فلا وجه لحملها على التقية ، بل مقتضى الجمع العرفي بينها وبين تينك الصحيحتين الحمل على الاستحباب كما اختاره المرتضى قدس‌سره.

وأجاب عنها المتأخرون : بإعراض الأصحاب عنها ، فليست بحجة في نفسها حتى تصلح للمعارضة. وهذا الجواب كما ترى لا يتم على مسلكنا من عدم قادحية الاعراض.

فيبقى الكلام في وجه الجمع بعد البناء على حجيتها في نفسها ، وهل ذلك بالحمل على الاستحباب كما صنعه صاحب المدارك؟

الظاهر لا ، لتضمن الصحيحتين المتقدمتين الأمر بالإعادة منطوقاً ، ومفهوماً على وجه وقد ذكرنا غير مرّة أنّه ليس حكماً تكليفياً وإنّما هو إرشاد إلى الفساد وعدم سقوط الأمر الأوّل ، فوجوب الإعادة بحكم العقل ، وواضح أنّه لا معنى لاستحباب الفساد. فالصحيحتان غير قابلتين للحمل على الاستحباب بل هما كالصريح في الوجوب.

ومن ذلك تعرف أنّ ما ذكره في المدارك من أنّ صحيحة علي بن جعفر أقوى دلالة غير واضح. بل هما متكافئتان في ميزان الدلالة فكما أنّ هذه‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٥ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ٦.

(٢) المدارك ٣ : ٣٥٧.

٣٧٣

صريحة في الجواز ، فكذلك هما صريحتان في الوجوب كما عرفت.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّها أقوى سنداً فلم يتضح وجهه أيضاً ، وقد اعتذر عنه في الحدائق بأنّه لم يلاحظ إلاّ طريق الشيخ وهو كما ذكره ، ولم يقف على طريق الصدوق الذي هو في أعلى مراتب الصحة (١).

وفيه : أنّ طريق الشيخ إلى حريز أيضاً صحيح كطريق الصدوق ، فالإنصاف أنّهما متكافئتان سنداً ودلالة ، فالأقوائية ممنوعة مطلقاً ، فهذا الجمع ساقط.

فلا بدّ من ملاحظة الترجيح بعد استقرار المعارضة وامتناع الجمع الدلالي وحيث إنّ صحيحة علي بن جعفر موافقة للعامة ، لأنّهم لا يرون وجوب الجهر أبداً (٢) ، فلا مناص من حملها على التقية كما صنعه الشيخ (٣) فتطرح ويكون الترجيح مع تينك الصحيحتين المخالفتين للعامّة ، فيتعيّن العمل بهما كما عليه المشهور.

وأمّا ما ذكره في المدارك من ترجيح صحيحة علي بن جعفر لموافقتها مع الأصل والكتاب فلم يظهر وجهه. أمّا الأصل فهو وإن كان يقتضي الجواز لكنه لا أثر له بعد قيام الدليل على الوجوب ، وهما الصحيحتان بل الصحاح الثلاث باعتبار رواية إحداهما بطريقين كما عرفت. على أنّ موافقة الأصل ليست من المرجحات ، فإنّ الأصل مرجع لا مرجّح كما ذكر في محله.

وأمّا الكتاب فليس فيه ما يرتبط بالمقام عدا قوله تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (٤) وإذ من الضروري عدم خلوّ القراءة‌

__________________

(١) الحدائق ٨ : ١٣١.

(٢) المجموع ٣ : ٣٨٩ ، مغني المحتاج ١ : ١٦٢.

(٣) التهذيب ٢ : ١٦٢.

(٤) الإسراء ١٧ : ١١٠.

٣٧٤

عن الجهر أو الإخفات ، وعدم ثبوت الواسطة بينهما حتى يؤمر بها وينهى عنهما فهذه قرينة قطعية مضافاً إلى الروايات الواردة في تفسير الآية المباركة على أنّ المراد عدم الإفراط في الجهر كالمؤذّن ، وعدم التفريط في الإخفات بحيث يكون مجرد تحريك الشفتين ولا يسمع حتى نفسه ما يقول ، فلا دلالة في الآية على حكم الجهر والإخفات وجوباً أو جوازاً ، فلا ينافي ذلك وجوب الجهر في بعض الموارد إذا ثبت من الخارج.

وكيف كان ، فمقتضى قواعد الترجيح في المقام ليس إلاّ الحمل على التقية كما عرفت.

نعم ، ربما يناقش في دلالة الصحيحتين كما عن صاحب الذخيرة (١) من وجهين :

أحدهما : أنّ المروي في بعض النسخ « نقص » بالصاد المهملة ، الدال على نقصان الثواب الملازم للاستحباب لا « نقض » كي يقتضي البطلان.

ثانيهما : أنّ كلمة « ينبغي » ظاهرة في الاستحباب ولا تناسب الوجوب وكلاهما ليس بشي‌ء ، أما الأوّل فيردّه أوّلاً : أنّ الموجود في جميع كتب الروايات كما قيل (٢) « نقض » بالضاد المعجمة ، ولم ينقل « نقص » إلاّ عن بعض الكتب الفقهية ولا اعتبار بالرواية ما لم تؤخذ من مصدرها من كتب الحديث.

__________________

(١) انظر الذخيرة : ٢٧٤ السطر ٢٢.

(٢) لكنه معارض بما عن منتقى الجمان ٢ : ١٢ من أنّه لم ينقل ضبطها بالمعجمة ، وكيف ما كان ، فقد ذكر في هامش الاستبصار ج ١ ص ٣١٣ طبع نجف أنّ في بعض نسخ الكتاب « نقص » بالمهملة ، وفي البحار ٨٢ : ٧٧ بعد نقل صحيحة زرارة عن الصدوق قال : وفي بعض النسخ « نقص » بالمهملة ، وفي بعضها بالمعجمة ، وظاهر كلامه اختلاف نسخ الفقيه في ذلك.

ومنه تعرف أنّ المهملة منقولة عن بعض نسخ الكتب الحديثية أيضاً ، ولا تختص بالفقهية كما أُفيد في المتن.

٣٧٥

وثانياً : لو سلّم فلا تضر بالدلالة ، إذ النقص في مقابل التمام المذكور في ذيل الصحيحة ، فمعناه البطلان كما يدل عليه قوله : « وعليه الإعادة ».

وأمّا الثاني ففيه أوّلاً : أنّ كلمة لا ينبغي ظاهرة في عدم الجواز ، وأنّه لا يتيسر كما ذكرناه مراراً ، فإنّه الموافق لمعناه اللغوي ، والاستعمالات القرآنية وغيرها على ذلك كما في قوله تعالى ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) (١) أي لا يتيسر لها ، لا أنّه لا يليق.

وثانياً : مع الغض عن ذلك فهذه الكلمة واقعة في كلام السائل والاستدلال إنّما هو بكلام الإمام عليه‌السلام المصرّح بأنّ عليه الإعادة الظاهرة في البطلان.

والمتحصل من جميع ما قدمناه : لزوم العمل بالصحيحتين ، وحمل صحيحة ابن جعفر على التقية. هذا مع تسليم دلالة هذه الصحيحة وإلاّ فللمناقشة فيها مجال ، نظراً إلى أنّ الظاهر من قوله « يصلي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة » أنّ المفروض في مورد السؤال أنّ القراءة جهرية ، إمّا على وجه الوجوب أو الاستحباب ، وعلى أيّ تقدير فكون القراءة جهرية أمر مفروض مفروغ عنه ومع هذا فأيّ معنى لقوله ، هل عليه أن لا يجهر ، فإنّه لا موقع لهذا السؤال بعد ذاك الفرض. فلا مناص من أن يكون السؤال ناظراً إلى غير القراءة من سائر الأذكار كالتشهد وذكر الركوع والسجود ونحوهما ، وأنّه هل يجب عليه أن لا يجهر في هذه الأذكار في صلاة يجهر منها بالقراءة أو لا؟

وعليه فالصحيحة أجنبية عمّا نحن فيه بالكلية ، فلا موضوع للمعارضة كي يتصدى للعلاج فليتأمل.

ويؤيد ما ذكرناه : أنّ لعلي بن جعفر نفسه رواية أُخرى سأل فيها عن حكم هذه الأذكار من حيث الجهر والإخفات ، فإنّه يقرب دعوى كون السؤال في‌

__________________

(١) يس ٣٦ : ٤٠.

٣٧٦

هذه الصحيحة أيضاً مسوقاً لذلك ، قال : « سألته عن الرجل هل يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت؟ قال : إن شاء جهر وإن شاء لم يجهر » (١) ورواها أيضاً في الباب العشرين من أبواب القنوت الحديث الثاني (٢) ، لكن بتبديل كلمة « هل » بكلمة « إن » وهو غلط.

ونحوه أيضاً : صحيحة علي بن يقطين قال : « سألت أبا الحسن الماضي عليه‌السلام عن الرجل هل يصلح له أن يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت ، فقال : إن شاء جهر وإن شاء لم يجهر » (٣). وقد ذكر في الجواهر (٤) هذا المتن وأسنده إلى علي بن جعفر مع أنّه لابن يقطين ، والمتن السابق لعلي بن جعفر كما ذكرناه ، فألحق أحد المتنين بالسند الآخر وهذه غفلة منه قدس‌سره نشأت من ذكر الخبرين متوالياً في الوسائل ، وكيف كان فالمطلب واحد والأمر سهل.

وأمّا ما قيل في صحيحة علي بن جعفر السابقة من أنّ بعض النسخ (٥) « هل له أن لا يجهر » لا « هل عليه » ، فيتجه السؤال ويندفع الاشكال ، ففيه : أنّها مرويّة في جميع كتب الحديث بلفظ « عليه » لا « له » ولم تنقل كذلك إلاّ عن بعض الكتب الفقهية ولا عبرة بها. على أنّه لا أقل من احتمال ذلك ، فتسقط عن الاستدلال وصلاحية المعارضة لعدم العلم بصحة النسخة.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٣٢ / أبواب الركوع ب ٢٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٦ : ٢٩٠ / أبواب القنوت ب ٢٠ ح ٢ ، ١.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٩٠ / أبواب القنوت ب ٢٠ ح ٢ ، ١.

(٤) الجواهر ٩ : ٣٦٩.

(٥) وهناك نسختان أُخريان ، إحداهما : ما في قرب الإسناد [ ٢٠٥ / ٧٩٦ ] وهي « هل عليه أن يجهر » بحذف لا. ثانيهما : ما عن بعض نسخ الاستبصار على ما في جامع الأحاديث ٥ : ٣٤٠ / ٧٩٢٨ وفيها « هل يجوز عليه أن لا يجهر ». وبناءً عليهما فالسؤال والجواب منسجمان والمعنى واضح ولا إشكال.

٣٧٧

وأمّا ما يقال من احتمال قراءة همزة أن في قوله « هل عليه ان لا يجهر » مكسورة والمعنى هل عليه شي‌ء إن لم يجهر بالقراءة ، فعجيب ، أوّلاً : أنّ لازمه تقدير كلمة شي‌ء ، والتقدير على خلاف الأصل. وثانياً : أنّ اللازم حينئذ ذكر كلمة « لم » الجازمة بدل « لا » النافية كما لا يخفى (١).

وثالثاً : أنّ الجواب على هذا لا يطابق السؤال ، فإنّ اللازم حينئذ أن يجيب بقوله : لا ، أي لا شي‌ء عليه ، الذي هو مصب السؤال على الفرض ، لا أن يجيب بقوله : إن شاء جهر وإن شاء لم يفعل ، لعدم كونه متعلقاً للسؤال.

وكيف ما كان ، فالقراءة المذكورة لا ينبغي احتمالها ، والمتعيّن قراءة الهمزة مفتوحة ، وهي محمولة على المعنى الذي ذكرناه فلا معارضة ، ومع التسليم فهي محمولة على التقية كما عرفت ، فالأقوى ما عليه المشهور من وجوب الجهر.

إنّما الكلام في مصداق ما يجهر فيه وأنّه يجب في أيّ صلاة من الصلوات اليومية ، وفي أيّ مورد من الصلاة ، وكذا الحال في الإخفات فإنّ إثبات ذلك بحسب الروايات لا يخلو عن الإشكال.

أما من حيث المورد فقد ورد التصريح بالقراءة في رواية محمد بن عمران ويحيى بن أكثم وغيرهما (٢) إلاّ أنّهما لأجل ضعف السند لا تصلحان للاستدلال والانجبار لا نقول به. نعم ، تدل عليه صحيحة زرارة الثانية وصحيحة علي بن جعفر المتقدمة (٣) ، وبعض روايات باب الجمعة والجماعة كصحيحة الحلبي : « إذا‌

__________________

(١) لكنه ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى ( إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ) [ التوبة ٩ : ٤٠ ] وقوله تعالى ( إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ ) [ الأنفال ٨ : ٧٣ ].

(٢) الوسائل ٦ : ٨٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ٢ ، ٣.

(٣) في ص ٣٧٢ ، ٣٧٣.

٣٧٨

صليت خلف إمام تأتم به فلا تقرأ خلفه ، سمعت قراءته أم لم تسمع ، إلاّ أن تكون صلاة تجهر فيها بالقراءة » (١) ، وصحيحة علي بن يقطين (٢) ، وغيرهما مؤيداً بالروايات الضعاف المتقدمة ، فإنّه يظهر منها المفروغية عن ثبوت الجهر بالقراءة.

وهل يختص ذلك بالركعتين الأوّلتين ، أو يعم الأخيرتين لو اختار القراءة فيهما؟ سيجي‌ء الكلام عليها عند تعرض الماتن لها في فصل مستقل إن شاء الله تعالى (٣).

وأمّا بقيّة الأذكار غير القراءة ، فمقتضى الأصل الجواز ، لعدم الدليل على وجوب الجهر فيها أو الإخفات. مضافاً إلى التصريح بالتخيير في صحيحتي علي ابن جعفر وعلي بن يقطين المتقدمتين (٤) ، والتسليم وإن لم يذكر فيهما ، فانّ المذكور هو التشهد ، وذكر الركوع والسجود والقنوت ، لكنه ملحق بها قطعاً فانّ الظاهر منها أنّ ذكر هذه الأُمور من باب المثال كما لا يخفى. على أنّه لم يقع في شي‌ء ممّا ذكر خلاف ولا إشكال ، هذا كله من حيث المورد.

وأمّا من حيث تعيين الصلاة ، فلم يرد التصريح في شي‌ء من الأخبار.

نعم ، تدل عليه السيرة القطعية المتصلة إلى زمن المعصومين : الجارية على الجهر بالقراءة في صلاة الغداة والمغرب والعشاء ، والإخفات في الظهرين ، وبذلك يتعين موضوع الروايات من قوله فيها : « جهر فيما لا ينبغي » أو « أخفت فيما لا ينبغي » (٥) ، ويفسّر المراد منهما ، وأنّ الصلوات كانت على نوعين :

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٨ : ٣٥٥ / أبواب الجماعة ب ٣١ ح ١ ، ١١.

(٣) في ص ٤٨١.

(٤) في ص ٣٧٦ ، ٣٧٧.

(٥) الوسائل ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦.

٣٧٩

يجهر في بعض ويخفت في بعض ، كما هو المتعارف اليوم ، وليس هذا استدلالاً بتلك الصحيحة لتعيين المورد ، فانّ المورد مستفاد من السيرة التي أُشير إليها في هذه الصحيحة ، والحكم وهو الوجوب مستفاد منها كما مرّ.

نعم ، يستفاد وجوب الإخفات في الظهر من غير يوم الجمعة من بعض أخبار الجمعة الآتية. ويؤيّد الحكم عدّة روايات متضمنة لتعيين الصلوات ممّا اشتمل على الجهر والإخفات ، كرواية محمد بن عمران ( حمران ) ، ويحيى بن أكثم وغيرهما (١) لكنها لضعف أسانيدها لا تصلح إلاّ للتأييد.

بقي الكلام في صلاة الجمعة وظهرها.

أمّا صلاة الجمعة ، فقد ادعى غير واحد من الأعلام قيام الإجماع على استحباب الإجهار في قراءتها ، وتشهد له جملة من النصوص كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث في الجمعة « قال : والقراءة فيها بالجهر » (٢). وصحيح عمر بن يزيد « قال : ليقعد قعدة بين الخطبتين ويجهر بالقراءة » (٣) وصحيح العرزمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا أدركت الإمام يوم الجمعة وقد سبقك بركعة فأضف إليها ركعة أُخرى واجهر فيها » (٤) وغيرها وظاهرها كما ترى هو الوجوب ، غير أنّهم حملوها على الاستحباب بقرينة الإجماع المدعى في كلمات الأصحاب كما عرفت.

نعم ، ناقش صاحب الجواهر قدس‌سره (٥) في قيام الإجماع على الاستحباب حيث لم يوجد تصريح بالندب في كلمات من تقدم على المحقق فلا يبعد أن يكون مرادهم مطلق الرجحان القابل للحمل على الوجوب في قبال وجوب الإخفات‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ٢ ، ٣.

(٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ٦ : ١٦٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٣ ح ٢ ، ٤ ، ٥.

(٥) الجواهر ١١ : ١٣٣.

٣٨٠