موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وأمّا ما ذكره في المتن من استحباب أن يثني رجليه حين الركوع ، وهو افتراش الرجلين تحت الفخذين ، فتشهد له الحسنة المتقدمة.

وأمّا ما ذكره من استحباب التورّك حال التشهد وما بين السجدتين فلم يرد به نص بلفظه ، نعم ورد مضمونه في صحيحة زرارة « قال : وإذا قعدت في تشهّدك فألصق ركبتيك بالأرض وفرّج بينهما شيئاً ، وليكن ظاهر قدمك اليسرى على الأرض ، وظاهر قدمك اليمنى على باطن قدمك اليسرى ، وأليتاك على الأرض وأطراف إبهامك اليمنى على الأرض » (١).

لكنّه كما ترى مختص بحال التشهّد ، فلا دليل على التعدِّي إلى ما بين السجدتين (٢) ، فالأظهر فيه وكذا في جلسة الاستراحة التربع عملاً بإطلاق الحسنة المتقدمة فلاحظ.

ثم إنّ الماتن تعرّض لجملة من المستحبات حال القيام أكثرها مذكورة في صحيحة حماد وزرارة (٣) الواردتين في كيفية الصلاة ، وبعضها لا دليل عليها سوى روايات مرسلة أو ضعيفة لا يهمّنا التعرض لها ، لسهولة الخطب في باب المستحبات ، وكفاية الإتيان بها بقصد الرجاء ، والله العالِم.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٦١ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ٣.

(٢) بل ورد ذلك في صحيحة حماد [ المروية في الوسائل ٥ : ٤٥٩ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١ ] صريحاً فلاحظ.

(٣) الوسائل ٥ : ٤٥٩ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١ ، ٣.

٢٦١

فصل في القراءة

يجب في صلاة الصبح والركعتين الأولتين من سائر الفرائض قراءة سورة الحمد (١).

______________________________________________________

(١) لا إشكال كما لا خلاف من أحد من المسلمين في وجوب قراءة القرآن في ركعتي الفجر ، وكذا في الركعتين الأولتين من سائر الفرائض الثلاثية والرباعية كما أُشير إليه في الكتاب العزيز بقوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (١) الظاهر في الوجوب بعد الاتفاق على عدم الوجوب في غيرها.

كما لا خلاف أيضاً في تعين تلك القراءة في سورة الحمد خاصة وقد قام عليه الإجماع والتسالم ، بل إنّ نقله مستفيض ، بل متواتر من الأصحاب ، بل من سائر فرق المسلمين ، إذ لم ينقل فيه خلاف معتدّ به ، بل لعله يعدّ من الواضحات والضروريات التي لا يعتريها شوب الاشكال.

وتدل عليه أيضاً : سيرة المتشرعة بل المسلمين ، فانّ المعهود منهم والمتعارف بينهم خلفاً عن سلف الالتزام بقراءة فاتحة الكتاب في الصلوات. وهذه السيرة والالتزام منهم وإن لم تدل بمجرّدها على الوجوب ، لجواز الالتزام والمواظبة على بعض المستحبات في الصلاة ، كالتزام الخاصة وجريان سيرتهم على القنوت فيها ، فإنّ السيرة عمل خارجي لا لسان له ، إلاّ أنّها بعد ضمّها بطائفة من الروايات المصرّحة ببطلان الصلاة الفاقدة للقراءة وإن لم يصرّح فيها بخصوص الحمد تدل على الوجوب ، فتلك تفسّر المراد من القراءة في‌

__________________

(١) المزمّل ٧٣ : ٢٠.

٢٦٢

هذه وهذه تكشف عن أنّ ما قامت عليه السيرة واجب ، فيعتضد إحداهما بالأُخرى.

على أنّ بعضها مصرّحة بالحمد وببطلان الصلاة بتركها ، كصحيحة محمد بن مسلم وموثقة سماعة الآتيتين ، وإليك بعض تلك النصوص :

فمنها : صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إنّ الله تبارك وتعالى فرض الركوع والسجود والقراءة سنّة ، فمن ترك القراءة متعمداً أعاد الصلاة ، ومن نسي فلا شي‌ء عليه » وعن محمد بن مسلم مثله ، إلاّ أنّه قال : « ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته ولا شي‌ء عليه » (١).

ومنها : صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عمّن ترك قراءة القرآن ما حاله؟ قال : إن كان متعمداً فلا صلاة له ، وإن كان نسي فلا بأس » (٢). فهذه الأخبار تدل على وجوب القراءة وهي تنصرف إلى المتعارف المعهود التي هي فاتحة الكتاب كما عرفت.

وتدل عليه أيضاً : الأخبار المصرّحة بوجوب قراءة الحمد خاصة وهي كثيرة.

منها : صحيحة حماد الواردة في بيان كيفية الصلاة بضميمة قوله عليه‌السلام في الذيل : « يا حمّاد هكذا صلّ » (٣) الظاهر في الوجوب.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته ، قال : لا صلاة له إلاّ أن يقرأ بها في‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٧ ح ١ ، ٢.

(٢) الوسائل ٦ : ٨٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٧ ح ٥.

(٣) الوسائل ٥ : ٤٥٩ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١.

٢٦٣

وسورة كاملة (*) غيرها بعدها (١).

______________________________________________________

جهر أو إخفات » (١) وهي وإن لم يصرح فيها بموضع القراءة ، لكنه معلوم من الخارج بالإجماع والضرورة والسيرة ، بل وصحيحة حماد كما مرّ.

ومنها : موثقة سماعة قال : « سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فينسى فاتحة الكتاب ، قال : فليقل أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم إنّ الله هو السميع العليم ثم ليقرأها ما دام لم يركع ، فإنه لا صلاة له حتى يقرأ بها في جهر أو إخفات فإنّه إذا ركع أجزأه إن شاء الله تعالى » (٢) ، ونحوها غيرها ، وهي كثيرة وإن كان أسانيد جملة منها لا تخلو من الضعف ، وفيما ذكرناه كفاية.

(١) على المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً كما في الجواهر (٣) ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ، بل نسبته إلى المذهب.

وعن جملة من القدماء منهم الديلمي عدم الوجوب (٤) ، وقواه من المتأخرين صاحب المدارك (٥) ، وتبعه بعض من تأخر عنه ، وإن كان القول بالوجوب بين المتأخرين أكثر وأشهر ، بل لعله من المتسالم عليه في الأعصار المتأخرة. وكيف ما كان ، فالمتبع هو الدليل.

وقد استدلّ على الوجوب بطائفة من الأخبار :

__________________

(*) على الأحوط.

(١) الوسائل ٦ : ٨٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٧ ح ٤.

(٢) الوسائل ٦ : ٨٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٨ ح ٢.

(٣) الجواهر ٩ : ٣٣١.

(٤) المراسم : ٦٩.

(٥) المدارك ٣ : ٣٤٧.

٢٦٤

منها : صحيحة عبيد الله بن علي الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأولتين إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئاً » (١) فانّ مفهومها ثبوت البأس وعدم جواز الاقتصار على فاتحة الكتاب عند الاختيار وعدم الاستعجال ، بل لا بدّ من ضمّ السورة معها.

ونوقش فيها : بأنّ هذا اللسان من البيان أعني تعليق الحكم على عدم العجلة ممّا يناسب الاستحباب جدّاً ، كما ورد نظيره في ترك الأذان من الأخبار المتضمّنة للأمر بالأذان والإقامة مع جواز الاقتصار على الثانية إذا بادر أمراً يخاف فوته ، كما في رواية أبي بصير وغيرها ممّا تقدّمت في محلها (٢).

وفيه : أنّ ظاهر الأمر المستفاد من مفهوم الشرط هو الوجوب في كلا المقامين وإنّما يرفع اليد عنه ويحمل على الاستحباب في باب الأذان لقيام الدليل الخارجي على جواز تركه كما تقدم في محله (٣). وحيث إنّ ذاك الدليل مفقود في المقام فلا مناص من الأخذ بظاهر الأمر.

وأضعف من ذلك : ما عن صاحب الحدائق ، من دعوى أنّ ثبوت البأس أعم من التحريم (٤). إذ فيه : أنّ البأس لغة هو الشدة (٥) المناسبة للمنع ، فهو ظاهر في الحرمة وعدم الجواز. كما أنّ عدم البأس ظاهر في الجواز ولا ينبغي التشكيك في ذلك.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢ ح ٢.

(٢) شرح العروة ١٣ : ٢٦٥.

(٣) شرح العروة ١٣ : ٢٤٢.

(٤) الحدائق ٨ : ١٢٢.

(٥) الصحاح ٣ : ٩٠٦ ، مجمع البحرين ٤ : ٥٠.

٢٦٥

فالإنصاف : أنّ دلالة الصحيحة على الوجوب تامة. نعم ، يستفاد منها أنّ وجوب السورة ليس على حذو سائر الأجزاء ، بل هي دونها في الاهتمام والعناية بشأنها ولذا يسقط وجوبها بمجرّد الاستعجال العرفي لأمر دنيوي أو أُخروي ولا يناط ذلك بالبلوغ حدّ الضرر أو العسر والحرج كما في سائر الواجبات وهذا المعنى غير قابل للإنكار كما تشهد به سائر الأخبار ، لكنه لا ينافي أصل الوجوب ولزوم الإتيان بها عند عدم الاستعجال ، وإن كانت مرتبته ضعيفة كما لا يخفى.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها ، ويجوز للصحيح في قضاء صلاة التطوّع بالليل والنهار » (١). فانّ التقييد بالمريض يدل على عدم جواز الاقتصار على الفاتحة في حال الصحة.

وأُورد عليه : بأنّ مفهوم الوصف ليس بحجة ، ومن الجائز أن تكون النكتة في التعرض للمريض بخصوصه عدم تأكد الاستحباب في حقه.

ويندفع : بما حققناه في الأُصول (٢) من ثبوت المفهوم له لا بالمعنى المصطلح أعني الانتفاء عند الانتفاء ، بل بمعنى عدم كون الطبيعي على إطلاقه وسريانه موضوعاً للحكم ، وإلاّ كان التقييد لغواً محضاً ، وعليه فتدل الصحيحة بمقتضى المفهوم على أنّ الموضوع لجواز الاقتصار على الفاتحة ليس هو مطلق المكلّفين وأنّ السورة واجبة على بعضهم في الجملة وهو المطلوب ، إذ لا ندعي وجوبها على الإطلاق ، ولذا ذكرنا آنفاً سقوطها لدى الاستعجال.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٣٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥٥ ح ١.

(٢) الذي حققه ( دام ظله ) في الأُصول حسما ضبطناه عنه وأثبته في المحاضرات ج ٥ ص ١٢٧ هو اختصاص المفهوم بالوصف المعتمد على الموصوف دون غير المعتمد كما في المقام ، فإنّه ملحق باللقب وخارج عن محل الكلام.

٢٦٦

ويؤيد ذلك أعني عدم الوجوب على الإطلاق والسقوط في بعض الأحوال ما في ذيل الصحيحة من جواز الاقتصار على الفاتحة أيضاً للصحيح في قضاء صلاة التطوع ... إلخ ، أي في النوافل الليلية والنهارية ، والمراد بالقضاء معناه اللغوي ، أعني مطلق الإتيان بالشي‌ء دون المعنى المصطلح ، فانّ سقوط وجوب السورة عن النوافل تعم الأداء والقضاء كما هو ظاهر.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : من غلط في سورة فليقرأ قل هو الله أحد ثم ليركع » (١) فإنّها لو لم تجب لجاز له الاقتصار على السورة المغلوط فيها فيكتفي بما أتى به ويترك الباقي ، ولم يكن وجه للأمر بقراءة سورة أُخرى ، الظاهر في الوجوب.

ونوقش : بأن تقييد السورة المعدول إليها بالتوحيد آية الاستحباب لعدم وجوبها بخصوصها قطعاً فيكون المراد انّ السورة الأُخرى تجزئ عن التي غلط فيها من غير دلالة لها على الوجوب بوجه.

وفيه : أنّ العدول من سورة غير التوحيد والجحد إلى أُخرى جائز مطلقاً ما لم يبلغ النصف ، وأمّا إذا تجاوزه فلا يجوز إلاّ إلى التوحيد بمقتضى هذه الصحيحة ، فغاية ما هناك تقييدها بصورة التجاوز عن النصف ، فيتجه التقييد بالتوحيد حينئذ ويجب العدول إليها خاصة ، عملاً بظاهر الأمر.

ومنها : صحيحة منصور بن حازم قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تقرأ في المكتوبة بأقل من سورة ولا بأكثر » (٢) فإنّ النهي عن الأقل ظاهر في وجوب السورة الكاملة.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١١٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٦ : ٤٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ٢.

٢٦٧

وناقش فيها صاحب المدارك (١) سنداً تارة ، ودلالة اخرى. أمّا السند فبمحمد ابن عبد الحميد إذ لم يرد فيه توثيق ، وأمّا الدلالة ، فلأنّ النهي قد تعلّق بالتبعيض والقران وحيث قد ثبت من الخارج جواز القرآن فالنهي بالإضافة إليه تنزيهي لا محالة فيكون الحال كذلك في التبعيض ، وإلاّ لزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى وهو غير جائز ، فغاية ما هناك كراهتهما ، وهذا لا يقتضي إلاّ استحباب السورة الواحدة الكاملة لا وجوبها.

والجواب : أمّا عن السند فبما أفاده صاحب الحدائق قدس‌سره (٢) وقد أجاد ، وحاصله : أنّ الطعن في السند غفلة نشأت عن الاقتصار على ملاحظة عبارة العلاّمة في الخلاصة التي هي عين عبارة النجاشي مع تقطيع ، بحيث لو لوحظت عبارة النجاشي لارتفعت الشبهة الناشئة عن التقطيع ، فإنّ العلاّمة قال هكذا : محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين انتهى (٣).

وظاهر هذه العبارة رجوع التوثيق إلى الأب دون الابن ، كما نبّه عليه الشهيد في تعليقته (٤) ، مع أنّ هذه العبارة بعينها مأخوذة عن النجاشي بإضافة قوله بعد ذلك بلا فصل : له كتاب النوادر ... إلخ (٥) ، فإنّ مرجع الضمير المجرور هو محمد أعني الابن الذي هو المقصود بالترجمة ، حيث إنّ النجاشي لا يعنون إلاّ من له كتاب ، وعليه فوحدة السياق تقضي بأن يكون مرجع الضمير في قوله وكان ثقة ، هو الابن أيضاً ، فإنّ التفكيك بين المرجعين خارج عن أُسلوب الكلام كما‌

__________________

(١) المدارك ٣ : ٣٥٠.

(٢) الحدائق ٨ : ١١٩.

(٣) الخلاصة : ٢٥٧ / ٨٨٢.

(٤) تعليقة الشهيد الثاني على الخلاصة : ٧٣.

(٥) رجال النجاشي : ٣٣٩ / ٩٠٦.

٢٦٨

لا يخفى على الأعلام. فقوله : روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام جملة معترضة ، وكم لها نظير في عبارات النجاشي.

وبالجملة : فتقطيع العلامة في النقل هو الذي أوقع صاحب المدارك وقبله الشهيد قدس‌سره في الاشتباه ، مع أنّ عبارة النجاشي كالصريحة في رجوع التوثيق إلى الابن (١) كما عرفت ، فالمناقشة من حيث السند ساقطة.

وأمّا عن الدلالة ، فعلى فرض تسليم كراهة القرآن بين السورتين وعدم حرمته مع أنّه محل الكلام ، إنّما يتم ما ذكره بناءً على أن تكون الحرمة والكراهة وكذا الوجوب والاستحباب ، معنيين مختلفين للّفظ لغة ، وأمّا بناءً على ما هو التحقيق كما بيّناه في الأُصول (٢) من عدم استعمال صيغة النهي وكذا الأمر إلاّ في معنى واحد ، وإنّما تستفاد الخصوصية من حكم العقل المنتزع من الاقتران بالترخيص في الفعل أو الترك وعدمه ، فلا مجال للإشكال أصلاً ، إذ النهي حينئذ لم يستعمل إلاّ في معنى واحد وهو طلب الترك ، وقد اقترن ذلك بالترخيص في الفعل من الخارج بالإضافة إلى القرآن ، ولم يقترن بالنسبة إلى التبعيض فالالتزام بكراهة الأوّل وحرمة الثاني لا يستلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد بوجه.

__________________

(١) هكذا أفاده ( دام ظله ) في بحثه الشريف. ولكنه اختار في المعجم ١٠ : ٢٩٧ / ٦٢٨٣ رجوع التوثيق إلى الأب مستظهراً ذلك من العطف بالواو في قوله « وكان ثقة إلخ » إذ لا جملة تامة قبل ذلك إلاّ جملة « روى عبد الحميد إلخ » فلا بدّ وإن يكون عطفاً عليها. فلا توثيق للابن ، وإن كان هو أيضاً موثقاً عنده لكونه من رجال كامل الزيارات كما صرح به في المعجم ١٧ : ٢٢١ / ١١٠٥٥ غير انّه ( دام ظله ) عدل عنه أخيراً لبنائه على اختصاص التوثيق بمشايخ ابن قولويه بلا واسطة ، فبحسب النتيجة تصبح الرواية ضعيفة.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٣١.

٢٦٩

وقد يناقش في دلالة الصحيحة أيضاً : بأنّ النهي عن التبعيض لا يستدعي وجوب قراءة السورة ، بل غايته أنّه على تقدير الشروع فيها لا يجعلها ناقصة بل يتمها ، كما لا يقارن بين سورتين ، فهي ناظرة إلى المنع عن قراءة بعض السورة ، وأين هذا من وجوب الإتيان بالسورة الذي هو محل الكلام.

وهي كما ترى في غاية الضعف ، ضرورة أنّه على تقدير عدم وجوب السورة فقراءة بعضها غير محرّمة قطعاً ، كيف وقراءة القرآن مندوب في جميع الأحوال. فلا يحتمل المنع عن قراءة البعض (١) بما هي كذلك إلاّ من جهة الإخلال بقراءة السورة الكاملة المستلزم لوجوبها ، فالنهي عن التبعيض في قوة الأمر بقراءة السورة الكاملة ، بل هو ظاهر فيه عرفاً كما لا يخفى.

فالإنصاف : أنّ هذه الصحيحة قوية السند ظاهرة الدلالة على الوجوب.

ومنها : صحيحة زرارة الواردة في المأموم المسبوق بركعتين قال عليه‌السلام فيها : « إن أدرك من الظهر أو من العصر أو من العشاء ركعتين وفاتته ركعتان قرأ في كل ركعة ممّا أدرك خلف إمام في نفسه بأُم الكتاب وسورة ، فان لم يدرك السورة تامة أجزأته أُمّ الكتاب ... » إلخ (٢).

فإنّ الأمر بقراءة السورة مع الفاتحة ظاهر في الوجوب ، نعم لا نضايق من أنّها سيقت لدفع توهم ضمان الإمام عن المأموم مطلقاً حتى المسبوق ، وأنّ‌

__________________

(١) نعم ، لا يحتمل المنع تحريماً ، وأمّا تنزيهاً فلا دافع لاحتماله بعد تعلق النهي به في لسان الدليل. وبالجملة : النهي عن الأقل كما يحتمل أن يكون كناية عن لزوم الإتيان بسورة كاملة حسبما أفاده ( دام ظلّه ) كذلك يمكن أن يكون محمولاً على الكراهة بالمعنى المناسب للعبادة ، بل قد يعضده عطف النهي عن الأكثر المحمول عنده ( دام ظله ) عليها ، فيكون محصّل الصحيحة كراهة كل من القرآن والتبعيض.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٨٨ / أبواب صلاة الجماعة ب ٤٧ ح ٤.

٢٧٠

الضمان خاص بالأولتين دون الأخيرتين ، لكنه لا ينافي ورود الأمر في مقام التشريع وظهوره في الوجوب كما ذكرناه. فلا وجه لدعوى وروده في مقام إبقاء مشروعية القراءة على ما هي عليه من الوجوب والاستحباب كما لا يخفى فتأمّل.

هذه جملة الروايات التي يمكن الاستدلال بها على الوجوب. وقد عرفت أنّها قوية سنداً ودلالة.

وهناك روايات اخرى استدل بها عليه مع أنّها غير صالحة للاستدلال للخدش في السند أو الدلالة على سبيل منع الخلو.

فمنها : صحيحة معاوية بن عمّار قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا قمت للصلاة أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب؟ قال : نعم ، قلت : فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم مع السورة؟ قال : نعم » (١).

وفيه : أنّها واردة في مقام بيان الوجوب الشرطي ، أعني جزئية البسملة للسورة كجزئيتها للفاتحة. وليست في مقام بيان وجوب السورة بعد الفاتحة ولذا لم يصرح فيها بخصوص الفريضة ، مع اختصاص الحكم بها وعدم وجوبها في النافلة بلا إشكال ، بل قد عرفت سقوطها عن الفريضة أيضاً في موارد الاستعجال.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن الرجل يقرأ السورتين في الركعة ، فقال : لا ، لكل ركعة سورة » (٢).

وقد رواها في الجواهر (٣) عن العلاء ، وهو اشتباه منه أو من النسّاخ ، فانّ‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٦ : ٤٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ٣.

(٣) الجواهر ٩ : ٣٣٤.

٢٧١

علاء لم يرو بلا واسطة إلاّ عن الصادق عليه‌السلام دون الباقر إلاّ بواسطة محمد بن مسلم ، وهذه الرواية مروية عن أحدهما عليهما‌السلام فكلمة عن محمد بن مسلم ساقطة عن القلم جزماً وكيف كان ، فهذه أيضاً قاصرة الدلالة فإنّها ناظرة إلى المنع عن القرآن ، وأنّه لم تشرع لكل ركعة إلاّ سورة واحدة وأما أنّ التشريع بنحو الوجوب أو الاستحباب فليست الرواية بصدده.

ومنها : صحيحة محمد بن إسماعيل قال : « سألته : قلت أكون في طريق مكة فننزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب أيصلى المكتوبة على الأرض فيقرأ أم الكتاب وحدها ، أم يصلى على الراحلة فيقرأ فاتحة الكتاب والسورة؟ قال : إذا خفت فصلّ على الراحلة المكتوبة وغيرها ، وإذا قرأت الحمد والسورة أحبّ إليّ ، ولا أرى بالذي فعلت بأساً » (١).

تقريب الاستدلال : ما حكاه في الوسائل عن بعض المحققين ، من أنّه لولا وجوب السورة لما جاز لأجله ترك الواجب من القيام وغيره ، إذ الواجب لا يزاحمه المستحب ، فمع دوران الأمر بين ترك القيام وبين ترك السورة كما هو مفروض الخبر كان المتعين هو الثاني ، دون التخيير الذي تضمنته الصحيحة فالحكم بالتخيير لا يستقيم إلاّ مع وجوب السورة.

وفيه : أنّها على خلاف المطلوب أدلّ ، لما عرفت من أنّ السورة على تقدير وجوبها ليست على حد سائر الواجبات ، بل تسقط بأدنى شي‌ء حتى مجرّد الاستعجال العرفي ، فمثلها لا تصلح للمزاحمة مع القيام الذي هو ركن ، أو دخيل في الركن ، وكذا الاستقبال والاستقرار حيث يلزم الإخلال بكل ذلك غالباً لو صلّى راكباً.

وعليه فلا يمكن حمل الرواية على فرض الدوران بين الصلاة على المحمل‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ١.

٢٧٢

الفاقدة للقيام وما ذكر ، وبين الصلاة على الأرض الفاقدة لمجرّد السورة ، إذ حينئذ يتعين الثاني ، ولا مجال للتخيير بالضرورة.

بل إنّ مفاد الصحيحة كما لعلّه الظاهر منها إنّك إذا خفت فصلّ على الراحلة ، وإن لم تخف فعلى الأرض ، كل ذلك على سبيل التعيين ، وعلى التقديرين فالصلاة مع السورة أحب إليّ ، ولا أرى بالذي فعلته من ترك السورة بأساً ، وهذا كله كما ترى كالصريح في الاستحباب.

ومنها : رواية يحيى بن أبي عمران قال : « كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرّحمن الرّحيم في صلاته وحده في أُمّ الكتاب ، فلما صار إلى غير أُمّ الكتاب من السورة تركها؟ فقال العباسي أو العياشي كما في بعض النسخ ليس بذلك بأس ، فكتب بخطه : يعيدها مرتين ( أي كرر لفظة يعيدها مرّتين ) على رغم أنفه يعني العباسي » (١) ورواها في الكافي (٢) والتهذيب والجواهر (٣) عن يحيى بن عمران لا أبي عمران. وعلى التقديرين الرجل مجهول ، والرواية ضعيفة السند.

وأمّا من حيث الدلالة فهي ظاهرة في الوجوب ، إذ الأمر بإعادة الصلاة الكاشف عن بطلانها لا وجه له إلاّ الإخلال بالسورة المأمور بها من أجل فقدها لجزئها وهي البسملة ، فلولا وجوب السورة لما اتجه الأمر بإعادة الصلاة.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١١ ح ٦.

(٢) الموجود في الكافي [ ٣ : ٣١٣ / ٢ ] بطبعتيه : يحيى بن أبي عمران ، وما في التهذيب [ ٢ : ٦٩ / ٢٥٢ ] من حذف كلمة « أبي » سقط من قلم الشيخ أو النسّاخ ، كما نبّه ( دام ظله ) عليه في المعجم ٢١ : ٣٠ / ١٣٤٧٣ ، والرجل ثقة ، لكونه من رواة تفسير علي ابن إبراهيم. أذن فالرواية معتبرة وظاهرة الدلالة ، فينبغي ذكرها في عداد الطائفة السابقة.

(٣) الجواهر ٩ : ٣٣٤.

٢٧٣

ونوقش فيها : بأنّ مرجع الضمير في قوله عليه‌السلام « يعيدها » هي السورة دون الصلاة ، والمراد بيان جزئية البسملة للسورة ، وأنّ الفاقدة للبسملة لا تجزئ عن السورة المأمور بها ، سواء أكان الأمر وجوبياً أم استحبابياً.

وفيه : أنّ عود الضمير إلى السورة بعيد غايته ومخالف للظاهر جدّاً ، فانّ المسئول عنه قضية خارجية استفتى عنها العباسي أوّلاً ثم الإمام عليه‌السلام فحكم بخلافه ، وكل ذلك بطبيعة الحال بعد فراغ المصلي عن صلاته ، لا حين الاشتغال بها كي يتجه الأمر بإعادة السورة خاصة ، فلا يمكن التدارك بعد فرض وجود الخلل لترك البسملة عن السورة عمداً إلاّ بإعادة الصلاة رأساً كما لا يخفى. ومنه تعرف ضعف احتمال عود الضمير إلى البسملة.

وبالجملة : فالدلالة ظاهرة غير أنّ السند ضعيف كما عرفت ، فلا تصلح للاستدلال.

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا افتتحت صلاتك بقل هو الله أحد وأنت تريد أن تقرأ بغيرها فامض فيها ولا ترجع إلاّ أن تكون في يوم الجمعة فإنّك ترجع إلى الجمعة والمنافقين منها » (١) فإنّ الأمر بالمضي ظاهر في وجوب الإتيان بالسورة.

وفيه : أنّها في مقام بيان عدم جواز العدول من التوحيد إلى سورة أُخرى في غير يوم الجمعة ، لا في مقام بيان وجوب السورة ، بل إنّ هذا الحكم ثابت حتى لو كانت مستحبة ، وأنّه لو شرع في التوحيد لا يجوز له العدول إلى غيرها فالأمر بالمضي كناية عن عدم العدول لا عن أصل الوجوب كما لا يخفى.

ومنها : غير ذلك ممّا هو ضعيف سنداً أو دلالة ، فلا حاجة للتعرض إليها. والعمدة منها ما ذكرناه أوّلاً مما كانت قوية سنداً ودلالة.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٥٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٦٩ ح ٢.

٢٧٤

وبإزائها روايات اخرى دلّت على عدم الوجوب وهي على طائفتين إحداهما : ما دلّت على جواز الاقتصار على الحمد وعدم وجوب ضم السورة معه. والثانية : ما دلّت على جواز التبعيض في السورة فيكفي بعضها ، ولا يجب الإتيان بسورة كاملة.

وهذه الطائفة بمجردها لا تدل على عدم الوجوب ، لجواز القول بأصل الوجوب في الجملة ، وإن جاز التبعيض فلا تدل على جواز ترك القراءة رأساً إلاّ أن يتمم الاستدلال بها بما ادعاه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) من الإجماع على عدم الفصل وإنّ من قال بالوجوب يرى عدم جواز التبعيض ، كما أنّ القائل بالجواز يرى عدم الوجوب ، فالقول بوجوب السورة وجواز التبعيض خرق للإجماع المركب ، وحينئذ فجواز التبعيض الذي تضمنته هذه النصوص يستلزم جواز ترك السورة رأساً فيصح الاستدلال بها.

أمّا الطائفة الأُولى : فمنها صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : إنّ فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة » (٢). ونحوها صحيحة الحلبي عنه عليه‌السلام « قال : إنّ فاتحة الكتاب تجزئ وحدها في الفريضة » (٣).

هذا ، وربّما تحمل الصحيحتان على صورة الاستعجال والضرورة ، جمعاً بينهما وبين صحيحة أُخرى للحلبي وقد تقدّمت (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأولتين إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوف شيئاً » (٥). فإنّ النسبة بين مفهوم هذه‌

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٣١٨.

(٢) الوسائل ٦ : ٣٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢ ح ١ ، ٣.

(٣) الوسائل ٦ : ٣٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢ ح ١ ، ٣.

(٤) في ص ٢٦٥.

(٥) الوسائل ٦ : ٤٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢ ح ٢.

٢٧٥

الصحيحة وتينك الصحيحتين نسبة الخاص إلى العام ، فيقيد إطلاقهما بهذه وتحملان على صورة العجلة والضرورة.

وهذا كما ترى لا يمكن المساعدة عليه وإن ذكره جمع من الأكابر منهم المحقق الهمداني (١) وغيره ، إذ ليس هو في المقام من الجمع العرفي في شي‌ء ، ضرورة أنّ حمل المطلق على المقيد إنّما يصح فيما إذا أمكن إرادته منه وجاز صرف الإطلاق إليه ، لا في مثل المقام ممّا يشبه الحمل على الفرد النادر ، فانّ موارد الاستعجال والخوف (٢) قليلة جدّاً ، فكيف يمكن إرادتها من الإطلاق.

وبالجملة : ظاهر الصحيحتين أنّ الإمام عليه‌السلام في مقام بيان وظيفة المصلي بحسب طبعه الأوّلي ، لا بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية ، وإلاّ فبملاحظتها ربما تسقط الحمد أيضاً كما في ضيق الوقت ، أو عدم التمكن من التعلم ونحو ذلك ، فلا وجه لقصر النظر في ذلك على السورة فقط ، فهما كالصريح في جواز الاقتصار على الحمد وحده حتى في حال الاختيار ، فلا مناص من حمل البأس في مفهوم هذه الصحيحة على الكراهة ، إذ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهوره في المنع ، وبين ارتكاب التقييد في الأولتين بالحمل على الضرورة والعجلة ، ولا ريب أنّ الأوّل أولى ، لوجود المحذور في الثاني وعدم كونه من الجمع العرفي كما عرفت ، فاستدلال صاحب المدارك (٣) بهاتين الصحيحتين على عدم الوجوب في محله.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٢٨٧ السطر ١٧.

(٢) إذا أُضيف إليهما المريض كما هو مورد النص وعمّم الحكم لمطلق المريض وإن لم تشق عليه قراءة السورة كما سيصرح به سيدنا الأُستاذ ( دام ظله ) في التعليق الآتي خرج الحمل المزبور عن الندرة.

(٣) المدارك ٣ : ٣٤٨.

٢٧٦

وقد يجمع بينهما أيضاً : بالحمل على التقية ، لموافقتهما لمذهب العامة (١).

وفيه : أنّ الترجيح بمخالفة العامة فرع استقرار المعارضة ، ولا تعارض بعد إمكان الجمع الدلالي (٢) والتوفيق العرفي بالحمل على الاستحباب كما عرفت ، فلا تصل النوبة إلى الحمل على التقية.

وقد يقال أيضاً : بأنّهما مخالفتان للإجماع ، فتطرحان لعدم كونهما حجة حينئذ فلا تصلحان للمعارضة مع هذه الصحيحة.

ويدفعه : أنّ جمعاً من القدماء وجملة من المتأخرين ذهبوا إلى عدم وجوب السورة كما مرّ وستعرف ، ومعه كيف يمكن دعوى الإجماع.

فالإنصاف : أنّ دلالة الصحيحتين على عدم الوجوب كسندهما قوية.

ومنها : صحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة في أدلّة القائلين بالوجوب (٣) وقد عرفت أنّها على عدم الوجوب أدلّ ، وأنّ ما حكاه صاحب الوسائل عن بعض المحققين في الدلالة على الوجوب غير صحيح ، لعدم صلاحية السورة للمزاحمة مع القيام عند الدوران ، بل مفاد الصحيحة أنّه يصلي على الراحلة مع الخوف ، وإلاّ فعلى الأرض ، وعلى التقديرين فالصلاة مع السورة أحب ، والتعبير بكلمة « أحب » كالصريح في الاستحباب كما مرّ (٤).

__________________

(١) المجموع ٣ : ٣٨٨.

(٢) ضابط هذا الجمع على ما تكرر منه ( دام ظله ) كون الدليلين بحيث لو اجتمعا في لسان واحد وأُلقيا على العرف لم يبق أهله متحيّراً ، بل جعل أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر ، كما في قوله : افعل مع قوله : لا بأس بتركه ، وليس المقام كذلك ، فانّ مفاد أحد الدليلين ثبوت البأس والآخر نفيه ، وهما متهافتان عرفاً ، على أنّ نتيجة هذا الجمع كراهة الاقتصار على الحمد لا استحباب السورة.

(٣) الوسائل ٦ : ٤٣ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ١.

(٤) في ص ٢٧٢.

٢٧٧

وأمّا الطائفة الثانية : فهي عدة نصوص فيها المعتبرة وغيرها.

فمنها : صحيحة علي بن يقطين في حديث قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن تبعيض السورة ، فقال : أكره ولا بأس به في النافلة » (١) دلّت على جواز التبعيض ، لا لظهور لفظ الكراهة في المعنى المصطلح ، فإنّه اصطلاح حادث عند الفقهاء وغير معهود في لسان الأخبار ، ولم يستعمل فيها إلاّ في المعنى اللغوي أعني المرجوحية المطلقة الظاهرة في التحريم لولا قيام الدليل على الجواز ، بل من جهة إسناد الكراهة إلى نفسه بصيغة المتكلم ، ومقابلته لنفي البأس عنه في النافلة ، فإنّه ظاهر في الكراهة الشخصية ، وأنّه عليه‌السلام يجتنب عن ذلك لا أنّ الحكم كذلك في الشريعة المقدسة ، وإلاّ لقال عليه‌السلام بدل « أكره » لا ، فإنّه أخصر وأظهر ، فالعدول عنه إلى هذه الكلمة ظاهر فيما ذكرناه من إرادة الكراهة الشخصية المساوقة للمعنى الاصطلاحي الملازم للجواز كما لا يخفى. نعم ، لو كان التعبير هكذا « يكره » أو « مكروه » كان ظاهراً في التحريم.

ومنها : مرسلة أبان بن عثمان عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته هل تقسم السورة في ركعتين؟ قال : نعم ، اقسمها كيف شئت » (٢) والدلالة ظاهرة غير أنّها ضعيفة السند بالإرسال.

ومنها : صحيحة سعد الأشعري عن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل قرأ في ركعة الحمد ونصف سورة هل يجزئه في الثانية أن لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟ فقال : يقرأ الحمد ثم يقرأ ما بقي من السورة » (٣).

ومنها : صحيحة زرارة قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام رجل قرأ‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ٤.

(٢) الوسائل ٦ : ٤٤ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ٥.

(٣) الوسائل ٦ : ٤٥ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ٦.

٢٧٨

سورة في ركعة فغلط ، أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته ، أو يدع تلك السورة ويتحول منها إلى غيرها؟ فقال : كل ذلك لا بأس به وإن قرأ آية واحدة فشاء أن يركع بها ركع » (١).

ومنها : صحيحة إسماعيل بن فضل قال : « صلى بنا أبو عبد الله عليه‌السلام أو أبو جعفر عليه‌السلام فقرأ بفاتحة الكتاب وآخر سورة المائدة فلمّا سلّم التفت إلينا فقال : أما إنّي أردت أن أُعلّمكم » (٢).

وقد حملها المحقق الهمداني على إرادة تعليم كيفية التقية (٣) ، وهو كما ترى ساقط جدّاً ، ضرورة عدم احتياج التقية إلى التعليم ، بل يكتفى بمجرّد البيان وأنّ السورة ساقطة لدى التقيّة ، والمجوّز للتبعيض على تقدير وجوب السورة الكاملة إنّما هو نفس التقيّة وواقعها لا تعليمها كما لا يخفى ، فلا ينبغي الترديد في ظهور الصحيحة في إرادة تعليم الوظيفة الواقعية من جواز ترك السورة الكاملة في الصلاة ، وهو وإن كان مرجوحاً ومكروهاً في نفسه ، إلاّ أنّ في التعليم مصلحة غالبة على هذه المنقصة تتدارك بها ، بل يكون راجحاً حينئذ وقد صدرت نظائر ذلك عن الأئمة : كثيراً كما لا يخفى.

ومنها : رواية سليمان بن أبي عبد الله قال : « صليت خلف أبي جعفر عليه‌السلام فقرأ بفاتحة الكتاب وآي من البقرة فجاء أبي فسئل فقال : يا بنيّ إنّما صنع ذا ليفقّهكم ويعلّمكم » (٤) لكنها ضعيفة السند ويجري فيها ما سبق آنفاً من الحمل على التقيّة مع جوابه.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٥ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ٧.

(٢) الوسائل ٦ : ٤٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥ ح ١.

(٣) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٢٨٨ السطر ١.

(٤) الوسائل ٦ : ٤٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥ ح ٣.

٢٧٩

ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل عن السورة أيصلي بها الرجل في ركعتين من الفريضة؟ قال : نعم ، إذا كانت ست آيات قرأ بالنصف منها في الركعة الأُولى ، والنصف الآخر في الركعة الثانية » (١) وهي وإن كانت ضعيفة السند أيضاً ، لكنّها ظاهرة الدلالة على المطلوب.

ومنها : رواية عمر بن يزيد قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أيقرأ الرجل السورة الواحدة في الركعتين من الفريضة؟ قال : لا بأس إذا كانت أكثر من ثلاث آيات » (٢).

وحملها على إرادة التكرّر من جنس واحد بأن يأتي بفردين من سورة واحدة في ركعتين خلاف الظاهر جدّاً ، بل هو مناف للتقييد بأكثر من ثلاث آيات ، إذ لا يظهر وجه للتقييد على هذا التقدير كما لا يخفى ، بل المراد توزيع السورة الواحدة بقراءة بعضها في الركعة الأُولى ، والباقي في الثانية ، فهي بحسب المدلول تطابق الرواية السابقة.

ومنها : صحيحة الحلبي والكناني وأبي بصير كلّهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يقرأ في المكتوبة بنصف السورة ثم ينسى فيأخذ في أُخرى حتى يفرغ منها ثم يذكر قبل أن يركع ، قال : يركع ولا يضره » (٣) فإنّها ناظرة إلى من شرع في سورة ثم في أثنائها انتقل غفلة إلى سورة اخرى ، إمّا لمشابهة بعض آيات السورتين كما قد يتفق كثيراً أو لغير ذلك ، فقرأ الصدر من سورة والذيل من سورة أُخرى ثم تذكر ذلك قبل الركوع ، فحكمه عليه‌السلام بالركوع وأنّه لا يضرّه ، مع أنّه لم يقرأ سورة تامّة يدل على جواز التبعيض‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ٦ : ٤٧ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٦ ح ٣.

(٣) الوسائل ٦ : ١٠١ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣٦ ح ٤.

٢٨٠