موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٣

الشيخ مرتضى البروجردي

باقياً ، فلو ارتفع كما لو أدى الوارث الدين من مال آخر أو تبرّع به شخص آخر أو أبرأه الغريم بحيث فرغت ذمة الميت عن الدين انتقل المال حينئذ بأجمعه إلى الوارث.

ويترتب على القول الأول جواز تصرف الوارث في العين لو رضي به ذو الحق ، فإنه تصرف في ملك نفسه ، غايته متعلق لحق الغير والمفروض إذنه في ذلك ، فلا يشمله عموم المنع عن التصرف في ملك الغير لعدم الموضوع له. وهذا بخلاف القول الثاني فإنه لا يجوز التصرف فيه وإن أذن به من له الحق ، إذ المفروض بقاؤه على ملك الميت فهو من التصرف في ملك الغير الممنوع عنه لا من التصرف في ملكه المتعلق لحق الغير كي يعتبر إذنه كما كان كذلك على القول الأول ، فلا بد من الاستئذان من المالك وهو الميت ، وحيث لا يمكن ، يستأذن من وليّه وهو الحاكم ، فالعبرة بإذنه لا بإذن الغريم.

هذا ، والظاهر من الماتن اختياره القول الأول لتجويزه التصرف في العين لو رضي به الديان الذي هو من لوازم هذا القول كما عرفت.

وحينئذ فيتوجه عليه أوّلاً : أنه لا وجه لتخصيص ذلك بالدين غير المستغرق كما صنعه قدس‌سره في المتن ، بل لازمه تجويز التصرف حتى في المستغرق لو رضي به الديان ، إذ المفروض بناء على هذا القول الذي استظهرنا اختياره من الماتن انتقال التركة بأجمعها إلى الوارث فهي ملك لهم ، غايته أنه متعلق لحق الغير ، فلو أذن جاز التصرف لوجود المقتضي وعدم المانع ، ولا مدخل للاستغراق وعدمه في ذلك كما لا يخفى.

وثانياً : أنه لا حاجة إلى الاذن حتى في المستغرق فضلاً عن غيره ، فان الممنوع إنما هو مزاحمة حق الغرماء التي لا تتحقق إلا بتصرف يوجب إعدام الموضوع وإفناء متعلق الحق كإتلافه الحقيقي أو الاعتباري ، مثل إحراقه أو إعتاقه أو وقفه ونحوها مما لا يبقى معه مجال لإعمال الحق ، وأما مجرّد التصرف كالصلاة واللبس ونحوهما مما لا يزاحم الحق ، فلا وجه لمنعه بعد كونه تصرفاً‌

٤١

في ملك المتصرف ، كما ذكرنا نظير ذلك في حق الرهانة ، بل لم نستبعد هناك التصرف بمثل البيع أيضاً فضلاً عن الصلاة ونحوها فراجع ولاحظ (١).

وعلى الجملة : بعد البناء على انتقال التركة بأجمعها إلى الورثة وأنه ليس في البين عدا تعلق حق الغير بها كما في العين المرهونة ، فاللازم رعاية للحق عدم جواز مزاحمته لا عدم جواز التصرف في متعلقه وبينهما عموم من وجه ، فالتصرف غير المزاحم لا دليل على حرمته بعد عدم كونه تصرفاً في ملك الغير ، فلا حاجة إلى الاستئذان وإن استغرق الدين كما لا يخفى.

ويتوجه على ما ذكرناه مما يترتب على القول الثاني من عدم جواز تصرف الوارث في التركة وإن أذن به الغريم لكونه من التصرف في ملك الغير ، وهو الميت الذي لا يفرق فيه بين المشترك وغيره أنّ ذلك إنما يستقيم لو كان الاشتراك الحاصل بين الوارث والميت من قبيل الإشاعة في العين بحيث يكون للميت ملك مشاع بنسبة حصته سارٍ في التركة ، فيكون كل جزء منها مشتركاً بينهما لا يجوز التصرف لأحدهما بدون رضا الآخر ، إلا أنّ هذا المبنى غير سديد ، إذ لازمه أنه لو تلف بعض التركة تلفاً غير مضمون على الوارث أي لم يكن مستنداً إليه كتلف سماوي من حرق ونحوه يكون التالف محسوباً عليه وعلى الميت بنسبة الاشتراك ، كما هو الحال في كل شريكين ، حيث إنّ الربح لهما والتاوي عليهما ، فلو كانت التركة ألفاً والدين مائة وقد تلف منها خمسمائة ، فاللازم أن لا يملك الميت حينئذ إلا خمسين ، فلا يعطى الديان أكثر من ذلك ، مع أنه باطل جزماً ولا قائل به ، فان التلف يحسب حينئذ على بقية التركة ولا ينقص عن الدين شي‌ء اتفاقاً ، فيكشف ذلك عن أنّ الشركة الحاصلة بينهما ليست بنحو الإشاعة ، بل الصواب أنها بنحو الكلي في المعيّن (٢). فمقدار مائة‌

__________________

(١) ص ٩ ، وراجع مصباح الفقاهة ٥ : ٢٣٨.

(٢) كونه على هذا النحو إنما يتجه فيما إذا كان الدين من جنس التركة ، ومن ثم التزم

٤٢

دينار مثلاً يملكه الميت من مجموع التركة ، لا أنه شريك مع الوارث في كل جزء منها بنسبة دينه كما هو مقتضى الإشاعة ، ومن الواضح أنّ من باع صاعاً من الصبرة بنحو الكلي في المعيّن دون الإشاعة فله التصرف في تلك الصبرة إلى أن يبقى منها مقدار ما ينطبق عليه الكلي أعني الصاع من دون حاجة إلى الاستئذان من المشتري كما يحتاج إليه لو باعه إياه مشاعاً فإنه تصرف في ملكه لا في ملك الغير. نعم بعد بلوغ ذلك الحد حيث إن الكلي ينطبق على الباقي حينئذ قهراً فيستقر فيه الحق ولا يجوز التصرف فيه.

وعليه فيجوز في المقام التصرف للورّاث بمقدار يبقى معه ملك الميت من دون حاجة إلى الاستئذان لا من الغرماء ولا من الحاكم الشرعي كما لا يخفى.

هذا ، والأظهر من القولين المتقدمين (١) هو الثاني منهما ، أعني عدم الانتقال وبقاء مقدار الدين على ملك الميت ، فإنه بعد معقوليته في مقام الثبوت بداهة أن الملكية من الأُمور الاعتبارية ولا مانع من اعتبار العقلاء إياها حتى بالإضافة إلى الجماد فيما إذا ترتب أثر على هذا الاعتبار ، ومن هنا تعتبر مالكية المسجد أو الكعبة أو الجهة ونحوها ، ومنها الميت الذي لا يقصر عنها ، فلا يلزم من عدم الانتقال إلى الوارث بقاء الملك بلا مالك. على أنّ ذلك مقتضى الاستصحاب ، للشك في انقطاع العلاقة الملكية الأبدية الثابتة حال الحياة بمجرد الموت فيما عدا المتيقن منه.

أنّ ذلك مقتضى ظواهر الأدلة في مقام الإثبات من الآيات والروايات ، قال تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٢) وظاهره كما ترى أنّ مرتبة‌

__________________

( دام ظله ) في باب الزكاة ( العروة ٢ : ١١٣ / ٢٦٨٨ ) بأن الشركة فيه من قبيل الشركة في المالية لا الكلي في المعين. إلا أن يقال : إنّ الدين حينئذ هو كلي المالية المقدرة والمتحققة في المعيّن الخارجي.

(١) في ص ٤٠.

(٢) النساء ٤ : ١١.

٤٣

[١٣٣٣] مسألة ١٥ : إذا مات وعليه دين مستغرق للتركة لا يجوز للورثة ولا لغيرهم التصرف في تركته قبل أداء الدين ، بل وكذا في الدين غير المستغرق ، إلا إذا علم رضا الديان (١) ، بأن كان الدين قليلاً والتركة كثيرة والورثة بانين على أداء الدين غير متسامحين ، وإلا فيشكل حتى الصلاة في داره ، ولا فرق في ذلك بين الورثة وغيرهم ، وكذا إذا لم يكن عليه دين ولكن كان بعض الورثة قاصراً أو غائباً أو نحو ذلك (١).

______________________________________________________

الإرث متأخرة عنهما ، فلا يورث إلا ما زاد عليهما ، ولا ينتقل إلى الوارث إلا المقدار الفاضل منهما. فهذا التعبير الوارد في الآية نظير ما ورد من أن الخمس بعد المئونة ، فكما أنّ المئونة لا تحسب من الخمس فكذا الدين والوصية لا يحسبان من الميراث.

وأما النصوص : فقد تضمن غير واحد منها الترتيب في مصرف التركة وأنه يبدأ أوّلاً بالتجهيز من الكفن والدفن ، ثم بعده الدين ثم الوصية ، ثم الميراث (١). ومفادها المطابق للآية المباركة أنّ موضوع الإرث هو ما يتركه الميت بعد إخراج هذه الأُمور ، فلا ينتقل إلى الوارث إلا ما زاد عليها ، فلا منافاة بينها وبين عموم ما تركه الميت من حق أو مال فلوارثه كما لا يخفى ، لتخصيص العموم بهذه الأدلة.

(١) قد ظهر من جميع ما ذكرناه الفرق بين التصرف في حق الديان وبين التصرف في ملك القاصر أو الغائب ، فإن الملكية في الأول على سبيل الكلي في المعيّن الذي لا يحتاج التصرف معه إلى الاستئذان ، بخلاف الثاني فإن المال حينئذ مشترك بين جميع الورثة ومنهم القاصر أو الغائب بنحو الإشاعة ، فلا‌

__________________

(١) الظاهر كفاية البناء على أداء الدين من غير مسامحة في جواز التصرف بلا حاجة إلى إحراز رضا الديّان.

(١) الوسائل ١٩ : ٣٢٩ / كتاب الوصايا ب ٢٨.

٤٤

[١٣٣٤] مسألة ١٦ : لا يجوز التصرف حتّى الصلاة في ملك الغير إلا بإذنه الصريح أو الفحوى أو شاهد الحال والأوّل : كأن يقول : أذنت لك بالتصرف في داري بالصلاة فقط ، أو بالصلاة وغيرها (١).

والظاهر عدم اشتراط حصول العلم برضاه ، بل يكفي الظن (١) الحاصل بالقول المزبور ، لأن ظواهر الألفاظ معتبرة عند العقلاء.

والثاني : كأن يأذن في التصرف بالقيام والقعود والنوم والأكل من ماله ، ففي الصلاة بالأولى يكون راضياً ، وهذا أيضاً يكفي فيه الظن على الظاهر ، لأنه مستند إلى ظاهر اللفظ إذا استفيد منه عرفاً ، وإلا فلا بد من العلم بالرضا ، بل الأحوط اعتبار العلم مطلقاً.

والثالث : كأن يكون هناك قرائن وشواهد تدل على رضاه كالمضائف المفتوحة الأبواب والحمّامات والخانات ونحو ذلك ، ولا بدّ في هذا القسم من حصول القطع (٢) بالرضا ، لعدم استناد الاذن في هذا القسم إلى اللفظ ولا دليل على حجية الظن غير الحاصل منه.

______________________________________________________

يجوز التصرف من أحدهم إلا بإذن الآخرين ، لعموم المنع من التصرف في ملك الغير بغير إذنه الشامل للمشترك وغيره كما مرّ غير مرّة ، وعليه فلا بد من الاستئذان منهما ، وحيث لا يمكن فيجب الرجوع إلى الحاكم الشرعي الذي هو ولي عليهما.

(١) تفصيل الكلام يستدعي البحث في جهات :

الاولى : هل المناط في جواز التصرف في ملك الغير هو مجرد الرضا الباطني وطيب نفسه به ، أو أنّ العبرة بإبراز ذلك بإذن ونحوه كما هو المعتبر في باب‌

__________________

(١) لعلّه أراد به الظن النوعي ، وإلاّ فالظن الشخصي لا اعتبار به وجوداً وعدماً وكذا الحال فيما بعده.

(٢) وفي حكمه الاطمئنان به.

٤٥

المعاملات بلا ارتياب ، ومن هنا لا تحصل الإجازة في العقد الفضولي إلا بإبراز المالك رضاه به وإمضاء العقد بما يدل عليه من قول أو فعل؟

الأقوى هو الأول ، ويدلّ عليه بعد السيرة الشرعية ، بل بناء العقلاء كافة الممضى لدى الشارع بعدم الردع على جواز التصرف في مال الغير بمجرد العلم برضاه وإن لم يصدر منه إذن في الخارج كما لا يخفى ، قوله عليه‌السلام في موثقة سماعة : « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه » (١) والتقييد بالإسلام لمكان الاهتمام بشأنه ، وإلا فالحكم يعمّه والكافر الذمي مع قيامه بشرائط الذمة.

وكيف كان ، فقد أنيطت حلية المال وجواز التصرف فيه بمجرد طيب النفس ، سواء أُبرز ذلك بمثل الإذن أم لا بمقتضى الإطلاق. وتؤيدها رواية تحف العقول (٢) المشتملة على هذا المضمون وإن كانت ضعيفة السند.

نعم ، بإزائها التوقيع المروي عن الاحتجاج : « لا يجوز التصرف في مال الغير إلا بإذنه » (٣) الظاهر في اعتبار الاذن وعدم جواز التصرف بدونه وإن تحقق الطيب.

لكن التوقيع لا يصلح للمعارضة مع الموثق ، إذ مضافاً إلى ضعف سنده كما لا يخفى ، لا دلالة فيه على اعتبار الإذن بما هو كذلك ، بحيث يكون لهذا العنوان مدخلية في جواز التصرف ، بل المتبادر منه عرفاً بمناسبة الحكم والموضوع أنّ أخذه بعناية الطريقية وكونه كاشفاً نوعاً عن الرضا الباطني الذي هو مناط الجواز ، فهو مأخوذ في موضوع الدليل على سبيل الطريقية دون الموضوعية ، نظير التبين المعلّق عليه الإمساك في آية الصوم (٤) ، حيث إنّ الموضوع لوجوب‌

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ٣ ، تحف العقول : ٣٤.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٥٥٩ / ٣٥١ ( نقل بالمضمون ).

(٤) البقرة ٢ : ١٨٧.

٤٦

الإمساك هو طلوع الفجر واقعاً ، والتبين طريق إليه لا أنه هو الموضوع.

هذا مع أنه على تقدير تسليم المعارضة فحيث إنها بالإطلاق والنسبة عموم من وجه ، حيث دل الموثق على إناطة الحل بالطيب سواء قارنه الاذن أم لا ، ودل التوقيع على المنع عن التصرف مع عدم الاذن سواء كان معه طيب أم لا ، فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي التصرف مع الطيب من دون إذن ، فإنه يجوز على الأول ويحرم على الثاني ، وبما أنّ المعارضة بالإطلاق كما عرفت فيسقطان ويرجع إلى بناء العقلاء القائم على جواز التصرف بمجرد العلم بالرضا من دون مدخلية للاذن كما مرّ.

الجهة الثانية : هل المدار في الجواز على الرضا الحاصل بالفعل أو يكفي الرضا التقديري ، بمعنى أنّ الطيب والرضا كامن في نفس المالك قطعاً إلا أنه غير متصف به فعلاً لأجل عدم التفاته إلى الموضوع ، لكونه نائماً أو غافلاً أو غائباً فلا واسطة بينه وبين الرضا الفعلي عدا الالتفات والتوجه إلى الموضوع؟

الظاهر هو الثاني ، إذ لو لم ندّع شمول الطيب في الموثق بمناسبة الحكم والموضوع للطيب التقديري بهذا المعنى كما لا يبعد وإن كانت الألفاظ في غير المقام منصرفة إلى المعاني الفعلية دون التقديرية ، يكفينا في ذلك ملاحظة بناء العقلاء والسيرة الشرعية القائمة على الجواز في مثل ذلك بلا إشكال ، فإن الأخ يدخل دار أخيه والصديق دار صديقه أو أحد أقاربه ممن يقطع برضاه مع الالتفات فيتصرف فيه كيف يشاء وهو نائم أو غافل أو غائب ولا ينتظر صدور الاذن منه والتفاته إلى الموضوع كي يتحقق منه الرضا فعلاً كما هو ظاهر.

نعم ، الظاهر عدم كفاية الرضا التقديري بالمعنى الآخر وهو عدم تمامية مبادئ الرضا فعلاً بحيث يحتاج إلى مقدمة أُخرى زائداً على مجرد الالتفات كسؤال المتصرف ، فلو كان المتصرف قاطعاً برضا المالك على تقدير السؤال والاستئذان ولم يقطع به بدونه لم يجز التصرف حينئذ لعدم تمامية مبادئ الرضا‌

٤٧

الفعلي ودخل الاستئذان في تحقّقه. فمثل هذا التقدير الذي يتخلل بين المقدّر والمقدّر عليه شي‌ء آخر وراء الالتفات الى الموضوع لا دليل على كفايته في جواز التصرّف ، فلا يقاس ذلك على الرضا التقديري بالمعنى الأوّل كما لا يخفى.

ونحوه ما إذا كان في التصرف مصلحة للمالك ولم يعلم بها فلم يأذن ، بحيث لو كان عالماً بها لإذن ورضي بالتصرّف ، فمثله أيضاً لا يجدي لكون العلم بالصلاح من مبادئ فعلية الرضا كالاستئذان في المثال المتقدم ، ولا دليل على كفاية الرضا التقديري بهذا المعنى كما عرفت.

الجهة الثالثة : إذا كان تصرف واحد مصداقاً لرضا المالك وكراهته الفعليين بعنوانين فعورض أحدهما بالآخر ، فانّ هذا أمر ممكن في نفسه إذا كان المالك جاهلاً بانطباق أحد العنوانين ، كما لو منع عن دخول زيد في الدار لاعتقاد أنه عدوّه وهو في الواقع أبوه مثلاً وهو راضٍ بدخول الأب ، أو بالعكس بأن إذن باعتقاد أنه أبوه وفي الواقع عدوّه وهو كاره لدخول العدوّ ، فهل يحكم حينئذ بجواز الدخول في كلتا الصورتين فلا يلزم على الداخل في الصورة الأُولى إعلام المالك بأنه أبوه كي يتحقق منه الرضا الفعلي بشخصه ، أو يفصّل بين الصورتين فيخص الجواز بالثانية دون الاولى عملاً بما صدر منه من الاذن أو المنع؟

الأقوى هو الأول ، فإن المناط في جواز التصرف هو الرضا والطيب كما تضمّنه موثق سماعة على ما عرفت ، ولا عبرة بالإذن عدا كونه كاشفاً وطريقاً إليه.

وعليه ، فالمالك وإن لم يصدر منه في الصورة الأُولى إذن ، بل هو كاره بالفعل حسب اعتقاده ، لكنه راضٍ بالفعل أيضاً بدخول أبيه ، غير أنّه جاهل بانطباق هذا العنوان على زيد الداخل ، بحيث لو علم به والتفت إلى الانطباق لرضي بدخوله وتحقق منه الطيب بالنسبة إليه ، ونتيجة ذلك أنه راض بدخول زيد برضا تقديري بحيث لا يتوسّط بينه وبين الرضا الفعلي عدا التفاته إلى‌

٤٨

الانطباق ، وقد مرّ آنفاً أنه يكفي في حلية التصرف الرضا التقديري بهذا المعنى ولا يتوقف على فعلية الرضا. ومقتضى إطلاق الموثق أن حصول الرضا فعلاً أو تقديراً في الجملة أي ولو بعنوان ما كافٍ في جواز التصرف ، سواء قارنته كراهة من جهة أُخرى وبعنوان آخر أم لا.

وفي المقام وإن اجتمع الرضا التقديري مع الكراهة الفعلية ، لكن الكراهة بما هي ليست موضوعاً للحكم كي تقع المعارضة أو المزاحمة بين حكمها وحكم الرضا ، وإنما الموضوع الرضا وعدمه كما تضمنه الموثق بعقده السلبي والإيجابي ، فالطيب موضوع لحلية التصرف كما أنّ عدمه موضوع للحرمة ، وبما أنّ الموضوع هو الطيب والرضا في الجملة وبنحو الموجبة الجزئية ، أي بأيّ عنوان كان بمقتضى الإطلاق كما عرفت ، فيكون الموضوع للحرمة التي تكفّلها الموثق بعقده السلبي هو عدم الرضا رأساً ، فإنّ نقيض الموجبة الجزئية سالبة كلية ، ومن الواضح عدم صدق هذا الموضوع في المقام بعد تحقق الرضا في الجملة كما هو المفروض فلا تعارض.

وبالجملة : العبرة بالرضا الأعم من التقديري وهو حاصل هنا ، وليس المقام من الرضا التقديري بالمعنى الآخر كالجهل بكون التصرف مصلحة له الذي منعنا عن اعتباره ، لوضوح الفرق بينهما ، فان العلم بالصلاح من مبادئ تحقق الرضا كالسؤال الذي مرّ التمثيل به ، فبدونه لم يتحقق الرضا أصلاً. وأما في المقام فالرضا بالعنوان متحقق فعلاً ، غايته أنّ المالك جاهل بالانطباق وغير ملتفت إليه ، فيكون من الرضا التقديري بالمعنى الأول الذي عرفت اعتباره وإلحاقه بالرضا الفعلي (١).

__________________

(١) لا يخفى خفاء الفرق بين المثالين ، إذ في صورة الجهل بالصلاح أيضاً يمكن أن يقال : إنّ المالك راضٍ بعنوان التصرف الذي فيه صلاحه وجاهل بالانطباق كرضاه بدخول الأب في الدار مع جهله بالانطباق فالرضا التقديري فيهما على حد سواء.

٤٩

هذا ، مع ان السيرة قائمة على جواز التصرف في المقام ، فيدخل الممنوع أو غير المأذون بعد كونه أباه أو أخاه أو صديقه ونحوهم ممن يقطع برضا المالك على تقدير معرفته ، ولا يعدّ ذلك ظلماً وتعدّياً عليه كما لا يخفى.

ومما ذكرناه يظهر الحال في الصورة الثانية ، فإنّ الاذن في التصرف يكشف عن طيب نفسه ورضاه وإن كان ذلك لاعتقاد أنه الصديق ، فيصدق معه الرضا ولو في الجملة ، فيشمله عموم الموثق. بل إنّ شمول الموثق لهذه الصورة أظهر ، كما أنّ قيام السيرة وبناء العقلاء هنا أوضح ، بحيث لا يكاد يتطرقه الإنكار ، فإن الإنسان ربما يدعو جماعة لضيافته باعتقاد أنهم أصدقاؤه وأحبّاؤه ، وقد يكون فيهم منافق وهو من أعدى عدوّه بحيث لو علم به المالك لطرده ولم يرض بتصرفه ، مع أنه يجوز للمنافق التصرف بلا إشكال ولا يلام عليه لدى العقلاء بعد الاذن الصريح من المالك كما هو ظاهر.

الجهة الرابعة : في الكاشف عن الرضا وما يتحقق به الإذن الذي هو طريق إليه وهي أُمور ثلاثة كما تعرض لها في المتن :

أحدها : الإذن الصريح ، ولا ريب في كشفه نوعاً عن الرضا وحجيته ببناء العقلاء كما هو الشأن في كل لفظ ظاهر في معناه ، ومعه لا يعتبر العلم بالرضا ، بل ولا الظن الشخصي به ، بل ولا يقدح الظن بالخلاف ، وإنما القادح العلم به لاستقرار بناء العقلاء الذي هو المدار في حجية الظهور على الأخذ به في جميع تلك الفروض ما عدا الأخير كما قرّر في الأُصول (١).

__________________

وقد راجعناه دام ظله في ذلك فأفاد : أنّ عنوان ما فيه الصلاح من الجهات التعليلية الدخيلة في ملاك الحكم ، فهو بوجوده العلمي من المبادي الواقعة في سلسلة علل الرضا ، فلا يكون بنفسه متعلقاً للرضا ، وهذا بخلاف عنوان الأب أو الصديق الذي هو حيثية تقييدية ويتعلق الرضا به بنفسه بعد استكمال المبادئ وعدم قصور فيها. على أنه لم يعهد رضا الملاّك بكل تصرف فيه الصلاح بصورة عامة ، فإنه قد لا يرغب فيه فلا يكون ذلك مسوّغاً للتصرف بحيث يرفع به اليد عن عموم سلطنة الناس على أموالهم ، فتدبر جيداً.

(١) مصباح الأصول ٢ : ١١٧.

٥٠

وما أُفيد في المتن من كفاية الظن الحاصل بالقول ، إن أراد به اعتبار الظن الشخصي فهو في حيّز المنع كما عرفت ، وإن أراد به الظن النوعي والكاشفية بحسب النوع المجامع حتى مع الظن الشخصي بالخلاف كما هو ظاهر العبارة بقرينة التعليل المذكور في الذيل فنعم الوفاق.

الثاني : الفحوى ، وقد مثّل لها في المتن بالإذن في التصرف بالقيام والقعود والنوم والأكل من ماله الدال على الاذن في الصلاة بطريق أولى.

أقول : الفحوى عبارة عن استتباع دلالة اللفظ على معنى دلالته على معنى آخر بالأولوية بحيث يكون المعنى الآخر مستفاداً من حاق اللفظ بطريق أولى من دون ضم قرينة خارجية ، وهذا كما في قوله تعالى ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) (١) فان هذا الكلام وما يرادفه من سائر اللغات لو القي على كل عارف باللغة يستفيد منه أنّ هذا أقل مراتب الإيذاء ، وأنّ النهي عنه يدل بنفسه على النهي عن سائر مراتب الإيذاء من الشتم والضرب ونحوهما بطريق أولى.

وهذا الضابط كما ترى غير منطبق على المثال ، ضرورة أنّ الاذن في القيام والقعود بما هو إذن لا يستتبع الاذن في الصلاة ولا يستلزمه فضلاً عن أن يكون ذلك بالأولوية ، فإن الآذن قد يكون كافراً أو بدوياً لا يرضى بالصلاة في محله لتشؤمه وتطيره بها كما يُحكى عن بعضهم ، فمجرد الاذن في سائر التصرفات لا يدل على الاذن في الصلاة إلا بعد ضم قرينة خارجية كالعلم بكون الآذن مسلماً خيّراً لا يعتقد بتلك الأوهام ، فيخرج عن كون الدلالة مستندة إلى حاق اللفظ كما هو المناط في صدق الفحوى على ما عرفت.

والأولى التمثيل بما إذا أذن المالك في إتلاف العين حقيقة ، كإراقة الماء أو إحراق الفرش أو هدم الدار ، أو حكماً كبيعها مع كون الثمن للمأذون ، فإن الإذن في الإتلاف الحقيقي أو الحكمي بحيث يكون اختيار العين بيد المأذون يدل‌

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٢٣.

٥١

بنفسه على الاذن بما دونه من سائر التصرفات من الوضوء أو الصلاة بطريق أولى.

وكيف كان ، فالمدار في هذا القسم على استفادة الإذن عرفاً من ظاهر اللفظ وهي تتحقق في موارد :

منها : الفحوى كما عرفت.

ومنها : الملازمة العقلية بين المأذون فيه وبين شي‌ء آخر بحيث لا يكاد يتخلف عنه لتوقفه عليه ، كما لو أذن في التوضي من حوض داره مثلاً ، فإنه إذن في المشي داخل الدار إلى أن يصل إلى الحوض ، لتوقفه عليه عقلاً ، فهو من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، ولا يعتبر في مثله الالتفات التفصيلي إلى الملازمة فضلاً عن إذن آخر باللازم ، لكفاية الالتفات الارتكازي بعد ثبوت الملازمة العقلية الدائمية.

نعم ، لو كانت الملازمة اتفاقية كما لو أذن في التوضي من الحب وكان واقعاً خارج الدار فاتفق نقله إلى الداخل ، حيث إن التوضي من الحب فعلاً وإن توقف على الدخول إلا أنه توقف اتفاقي لم يكن كذلك حال الأمر كما في المثال الأول ، ففي مثله لا يكفي الإذن السابق ، بل لا بد من التفات المالك إلى الملازمة تفصيلاً وإذن جديد باللازم كما لا يخفى.

ونظيره : ما لو أذن لشخص بشراء متاع له فاتفق عدم وجوده في البلد ، فتوقف الشراء على السفر إلى بلد آخر ، فإنّ الإذن الأول لا يكون إذناً في السفر كي يكون الآمر ضامناً لمصارفه ، بل يحتاج إلى الالتفات إلى الملازمة وإصدار إذن جديد.

ومنها : الملازمات العادية التي تعدّ عرفاً من شؤون المأذون فيه ولوازمه ، وإن لم تكن كذلك عقلاً بحيث يستفيد العرف من الاذن به الاذن بها ، كما لو أذن المالك بالسكنى في داره ، فان العرف يستفيد من هذا الإذن الاذن في التخلي والمنام والأكل ونحوها من اللوازم العادية ، وإن كانت السكونة بما هي لا‌

٥٢

تتوقف على شي‌ء من ذلك عقلاً ، لإمكان إيقاعها خارج الدار ، فنفس كون الشي‌ء من اللوازم العادية كاف في استكشاف الرضا ، فيكون بمثابة الملازمة العقلية الدائمية في كفاية الالتفات الإجمالي الارتكازي إلى التلازم وعدم الافتقار إلى الالتفات التفصيلي ، فضلاً عن الحاجة إلى إصدار إذن آخر باللازم.

وأما الصلاة في الدار فليست هي بنفسها من شؤون نفس السكنى ولوازمها العادية بحيث يكون الاذن بها مستفاداً من الاذن بها عرفاً كما في التخلي والمنام ، بل يحتاج إلى القطع بالرضا من شاهد حال ونحوه من قرينة حالية أو مقالية كما عرفت ، بخلاف سائر التصرفات المستفادة من نفس الإذن الأول ، فإنها لا تتوقف على القطع بل ولا الظن الشخصي كما لا يخفى.

فتحصل : أنّ التمثيل الذي ذكره في المتن ليس من مصاديق هذا القسم بشقوقه التي بيناها.

الثالث : شاهد الحال ، بأن تكون هناك قرائن وشواهد تدل على رضا المالك وطيب نفسه.

وتفصيل الكلام في المقام : أنه ربما يصدر عن المالك فعل يبرز عن رضاه الباطني بتصرف خاص بحيث يكون طريقاً مجعولاً وأمارة نوعية وحكاية عملية ، وهذا كفتح الحمامي باب الحمام ، فإنه بمثابة الإذن العام لكل من يريد الاستحمام ، ولا شك حينئذ في صحة الاعتماد على ذاك المبرز من دون حاجة إلى تحصيل العلم بالرضا ، لاستقرار بناء العقلاء بمقتضى التعهد الوضعي على كشف ما في الضمير بمطلق المبرز فعلاً كان أم لفظاً ، ومن هنا قلنا بصحة المعاطاة لعدم الفرق في إبراز الإنشاء بين الفعل والقول.

وبالجملة : فمثل هذا الفعل ملحق بالاذن اللفظي الصريح في الكشف عما في الضمير ، أعني الرضا بالتصرف الذي أُعدّ اللفظ أو الفعل كاشفاً عنه نوعاً.

وأما التصرف الآخر الخارج عن نطاق هذه الكاشفية كإرادة الصلاة في الحمام زائداً على الاستحمام ، فان عدّ ذلك من اللوازم العادية بحيث يستفيد‌

٥٣

العرف الاذن فيه من نفس الإذن الأول ، لما يرى أنه من شؤونه وتوابعه كما هو كذلك في المثال فهو ملحق بالقسم السابق ، أعني استكشاف الاذن بمعونة الفهم العرفي من باب الملازمة العادية ، فلا يعتبر معه العلم بالرضا أيضاً ، كما عرفت سابقا ، ولعل فتح المضائف من هذا القبيل.

وإن لم يكن كذلك كما في فتح مجالس التعازي حيث لم يظهر منه إلا الاذن في الحضور لاستماع التعزية ، وليست الصلاة من لوازمه العادية ، فإن كانت هناك قرائن وشواهد توجب العلم برضا المالك فلا إشكال ، لعدم اعتبار الإذن إلا من حيث كونه طريقاً لاستكشاف الرضا ، والمفروض إحرازه ولو من طريق آخر.

إنما الإشكال فيما إذا لم توجب تلك الشواهد أكثر من الظن ، فان فيه خلافاً بين الأعلام ، فذهب جمع كثير إلى اعتبار العلم في شاهد الحال فلا يعوّل عليه بدونه ، واختار آخرون الاكتفاء بمطلق الظن ، بل قيل بجواز الصلاة في كل موضع لا يتضرر المالك ، وكان المتعارف عدم المضايقة في أمثاله ما لم تكن هناك أمارة على الكراهة.

وصاحب الحدائق (١) بعد أن أسند الاكتفاء بالظن إلى المشهور أيّده بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » (٢) بدعوى أنّ المناسب لسعة الامتنان الاكتفاء بمجرد الظن.

وهذا كما ترى ، ضرورة أنّ الرواية ليست إلا بصدد بيان الحكم الطبيعي ، وأنّ كل أرض فهو صالح في نفسه لإيقاع الصلاة فيه ، وأنّ الله تعالى وسّع على هذه الأُمة المرحومة ولم يضيّق عليهم بالإلزام بإيقاعها في مكان خاص ، كما كان كذلك في بعض الأُمم السالفة ، وليست في مقام بيان الحكم الفعلي كي يستفاد منه إلغاء شرطية الإباحة أو الطهارة ، كما يفصح عنه عطف الطهور على المسجد ، إذ لا إشكال في اعتبارهما في طهورية الأرض ، فكذا في مسجديته.

__________________

(١) الحدائق ٧ : ١٧٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٠ / أبواب التيمم ب ٧ ح ٢.

٥٤

هذا ، واستدل في المستند على كفاية الظن بالرضا في جواز التصرف في ملك الغير مطلقاً بموافقته للأصل السليم عن الدليل على خلافه.

قال ما ملخصه : أنّ مقتضى الأصل جواز التصرف في كل شي‌ء ما لم يعلم بكراهة المالك ، ففرض الشك فضلاً عن الظن بالرضا محكوم بالجواز بمقتضى الأصل ، بل قد صرح قدس‌سره في طي كلماته أنّه لولا قيام الإجماع على عدم جواز التصرف بمجرد الاحتمال والشك في الرضا لقلنا بالجواز حينئذ عملاً بمقتضى الأصل السليم عن المعارض.

وأما صورة الظن الحاصل من شهادة الحال فهي باقية تحت الأصل ، لعدم المخرج ، لانحصاره في الإجماع والأخبار ، وشي‌ء منهما لم يثبت ، أما الإجماع فلاختصاصه بصورة الشك ولا إجماع مع الظن ، كيف وقد ادعى صاحب الحدائق أن المشهور حينئذ هو الجواز كما تقدم وأما الأخبار فهي ضعيفة سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو ، فان التوقيع ضعيف السند ، وكذا رواية محمد بن زيد الطبري : « لا يحل مال إلا من وجه أحله الله » (١) مضافاً إلى قصور الدلالة ، لعدم العلم بمتعلق عدم الحلية ، ومن الجائز أن يراد به الإتلاف دون مطلق التصرفات.

ومنه يظهر ضعف دلالة الموثق : « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه » (٢) لما عرفت من احتمال أن يكون المقدّر خصوص التصرفات المتلفة لا مطلقها.

ثم ذكر قدس‌سره في ذيل كلامه : أنّ هذا كله في غير الصلاة ، وأما هي وما يضاهيها فيجوز التصرف بمثلها لكل أحد في كل مال ، ولا يؤثّر فيه منع المالك بعد عدم تضرره بها ، إذ لا يمنع العقل من جواز الاستناد أو وضع اليد أو الرجل في ملك الغير ، فإنها كالاستظلال بظلّ جداره والاستضاءة بنور‌

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٣٨ / أبواب الأنفال ب ٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١.

٥٥

سراجه ، فهي ليست من التصرفات الممنوعة الموقوفة على إجازة الملاّك ، لقصور الأدلة عن الشمول لها (١). انتهى.

وفي كلامه قدس‌سره مواقع للنظر لا تخلو عن الغرابة مع ما هو عليه من الدقة والتحقيق ، بل لم نكن نترقب صدورها من مثله.

أما ما أفاده قدس‌سره أخيراً من إنكار صدق التصرف الممنوع على الصلاة في ملك الغير بغير رضاه ، وأنه مجرد استناد لا يمنع عنه العقل ما لم يتضرر به المالك ، فهو عجيب ، ضرورة أنّ الكون في ملك الغير والاستناد والاعتماد على مملوكه من دون رضاه من أظهر مصاديق التصرف وأوضح أنحاء المزاحمة مع سلطان الغير الذي يستقل العقل بقبحه ، وأنه بمجرده ظلم وتعد عليه سواء تضرّر به أم لا ، لعدم كون التضرر مناطاً في قبح التصرف المزبور كي يدور مداره قطعاً ، وإلا لجاز الدخول والمكث بغير رضاه والأكل والشرب من مال المتصرف والمقام مدة مديدة إذا فرض عدم تضرر المالك بها وإن كان كارهاً لها. وكل ذلك كما ترى لا يلتزم به المتفقّه فضلاً عن الفقيه.

نعم ، الاعتماد على ملك الغير مع كون المعتمد خارجه كالاتكاء من خارج الدار على الجدار جائز بلا إشكال ، لقيام السيرة القطعية العمليّة واستقرار بناء العقلاء على جوازه.

وأما قياس المقام بالاستظلال والاستضاءة كما صنعه قدس‌سره فهو مع فارق واضح ، بداهة أنّهما انتفاع بحت ولا دليل على حرمته بمجرده ، وأما المقام فهو من مصاديق التصرف كما عرفت.

وأما ما أفاده قدس‌سره من أنّ مقتضى الأصل جواز التصرف في مال الغير ، فهو من غرائب الكلام بعد استقلال العقل واتفاق أرباب الملل والنحل على قبحه ومنعه كما اعترف هو قدس‌سره به في صدر كلامه ، فإنه تعد وطغيان عليه وتصرف في سلطانه ولا ريب في بطلانه ما لم يثبت رضاه ، فليس‌

__________________

(١) المستند ٤ : ٤٠٣ ، ٤٠٦.

٥٦

[١٣٣٥] مسألة ١٧ : تجوز الصلاة في الأراضي المتسعة اتساعاً عظيماً بحيث يتعذر أو يتعسر على الناس اجتنابها وإن لم يكن إذن من ملاّكها ، بل وإن كان فيهم الصغار والمجانين (١) ، بل لا يبعد ذلك وإن علم كراهة الملاّك (٢) ، وإن كان الأحوط التجنب حينئذ مع الإمكان (١).

______________________________________________________

مقتضى الأصل هو الجواز حتى نحتاج إلى المخرج ، فتتطرق المناقشة فيه من حيث قصور الأخبار سنداً أو دلالة ، بل مقتضى الأصل هو المنع ، والجواز يحتاج الى الدليل ، فبدونه يحكم بالمنع عملاً باستصحاب عدم الرضا كما لا يخفى.

وأما ما أفاده قدس‌سره من المناقشة في دلالة الموثق باحتمال كون المتعلق خصوص الإتلاف ، فهو أيضاً يتلو سوابقه في الضعف ، فان إسناد عدم الحل إلى المال حيث لا يمكن ، لكونه عيناً خارجية فلا مناص من كون المتعلق محذوفاً ، وقد تقرّر أن حذف المتعلق يفيد العموم ، فجميع التصرفات المناسبة للمال المتلفة منها وغيرها متعلقة للمنع بمقتضى الإطلاق ، بعد عدم قرينة على التعيين كما هو ظاهر.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه : أنّ الأقوى اعتبار القطع في شاهد الحال وما في حكمه ، من قيام أمارة معتبرة كبيّنة ونحوها ، وأما الظن بمجرده الذي لم يقم دليل على اعتباره فهو ملحق بالشك وقد عرفت آنفاً أنّ الحكم في صورة الشك المنع عملاً بالاستصحاب.

(١) المعتمد في المسألة بعد وضوح خلوّها عن النص الخاص إنما هي السيرة القطعية العملية القائمة من المتشرعة حتى المبالين بالدين على التصرف في مثل هذه الأراضي ، وكذا الأنهار الكبيرة بالصلاة والتوضي وغيرهما من‌

__________________

(١) فيه إشكال بل منع.

(٢) الظاهر عدم الجواز في هذه الصورة.

٥٧

أنحاء التصرفات وإن لم يعلم برضا الملاّك ، فيتصرفون ولا يستأذنون ، ولا ريب في اتصال هذه السيرة بزمن المعصومين عليهم‌السلام وإمضائها لديهم بعدم الردع ، إذ لو كانت حادثة لنقل تأريخها كما لا يخفى.

وهذا كله لا غبار عليه ، إنما الكلام في أنه هل يستكشف من السيرة إلغاء الشارع اعتبار رضا الملاّك في هذه الموارد ، فيكون ذلك بمنزلة التخصيص في دليل عدم جواز التصرف في ملك الغير بغير إذنه لصدور الإذن حينئذ من المالك الحقيقي وهو الشارع ، نظير التصرف في موارد حق المارة؟ أو أنّ السيرة قائمة على إحراز رضا الملاك من شاهد الحال وهو اتساع الأراضي وتركها بلا حيطان ، أو ترك أبوابها مفتوحة من دون حاجز ومانع ، فانّ ذلك كله كاشف نوعاً عن إذنه وطيب نفسه ، وإلا لما تركها كذلك ، وقد أمضى الشارع هذه الكاشفية بعدم الردع عنها؟

وبعبارة اخرى : هل السيرة قائمة على الحكم الواقعي وهو سقوط اعتبار رضا المالك حينئذ ، أو الظاهري وهو إحراز رضاه من تلك الشواهد؟

فعلى الأول يجوز التصرف حتى مع العلم بكراهة المالك ، لعدم العبرة بكراهته ورضاه بعد صدور الاذن من المالك الحقيقي.

وعلى الثاني لا يجوز لسقوط الحكم الظاهري مع العلم بالخلاف.

الظاهر هو الثاني فإنّ السيرة لا لسان لها كي يعرف وجهها ويستكشف أنها على النحو الأول بعد ما كان المتيقن منها هو الثاني ، بل إنّا لم نعهد متديناً واحداً فضلاً عن كثيرين فضلاً عن البلوغ من الشيوع حد السيرة العملية يُقدم على تلك التصرفات حتى بعد العلم بكراهة الملاك.

فما أفاده في المتن من عدم استبعاد الجواز في هذه الصورة غير ظاهر بل ممنوع.

ثم إن الماتن عمّم الحكم لما إذا كان فيهم الصغار والمجانين وهذا وجيه مع الشك ، لاستقرار السيرة من المتشرعة على الاقتحام في تلك التصرفات من‌

٥٨

دون تفتيش وتحقيق عن حال المالك وأنه صغير أو كبير ، أو حال الملاّك وأنّ فيهم الصغار والمجانين أم لا ، فلا يعتنون بهذا الاحتمال ، بل يأخذون بظاهر الحال من كونه بالغاً عاقلاً.

وكذا مع العلم فيما إذا كان هناك ولي إجباري من أب أو جدّ ، إذ العبرة حينئذ باستكشاف رضا الولي فيحرز بعين ما كان يحرز به لو كان الولي هو المالك ، أعني السيرة القائمة على الاعتناء بشاهد الحال من عدم بناء الجدران أو فتح البيبان الكاشف عن فسح المجال وإطلاق السراح للمتصرفين كما مرّ.

وقد ذكرنا في محله (١) عدم لزوم مراعاة الغبطة في تصرفات مثل هذا الولي التي منها اذنه للغير ، بل يكفي خلوّها عن المفسدة ولا تلزم وجود المصلحة. وبالجملة : العبرة برضا من كان مالكاً للتصرف ، سواء أكان مالكاً للعين أيضاً أم لا.

وأما إذا كان له ولي اختياري كحاكم الشرع فيشكل الحال ، لعدم الاعتبار حينئذ بمجرد رضا الولي كي يستكشف بما ذكر ، بل لا بد من مراعاة الغبطة وكون التصرف صلاحاً للمولّى عليه ، على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) كما ذكرنا في محله فلا يجوز التصرف حتى مع العلم برضا الولي فضلاً عن إحرازه بشاهد الحال ونحوه ، لعدم كون تلك التصرفات بصلاحهم وإن لم تكن بفسادهم أيضاً. مع أنا لم نعهد ثبوت السيرة من متدين واحد فضلاً عن المتدينين على الاقتحام والإقدام في التصرف في مثل هذا الحال كما لا يخفى.

ومنه يظهر الإشكال في صورة الشك في كون الولي اختيارياً أو إجبارياً ، بعد العلم بوجود القصّر من الصغار أو المجانين ، لرجوعه إلى الشك في كفاية‌

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٥ : ٢٤.

(٢) الأنعام ٦ : ١٥٢.

٥٩

[١٣٣٦] مسألة ١٨ : تجوز الصلاة في بيوت من تضمنت الآية جواز الأكل فيها (١) بلا إذن مع عدم العلم بالكراهة كالأب والأُم والأخ والعم والخال والعمة والخالة ومن ملك الشخص مفتاح بيته والصديق ،

______________________________________________________

مجرد الرضا ، ومقتضى الأصل حينئذ عدم الجواز كما لا يخفى.

ثم إن الماتن خصّ الحكم بصورة التعذر أو التعسر في الاجتناب ، فإن أراد به العسر والحرج الشخصيين فلا شك أنّ السيرة التي هي مدرك الحكم كما عرفت أوسع من ذلك ، وكذا إن أراد النوعيين ، لعدم دوران الحكم مدار العسر والحرج كي يتبع صدقهما ، بل المدار على السيرة العملية ، وربما تثبت حتى مع انتفائهما ، كما لو كان خارج البلد في أوائل تلك الأراضي ، فان العود إلى البلد وإقامة الصلاة فيه لا عسر فيه حتى نوعاً ، فالتقييد المزبور في غير محله على أيّ تقدير.

(١) أما نفس الأكل فلا إشكال في جوازه بنص الآية المباركة (١) وأما غيره من سائر التصرفات كالصلاة والتوضي والمشي ونحوها فبالفحوى ، إذ لو جاز الأكل الذي هو تصرف متلف فغير المتلف بطريق أولى ، بل إن نفس الاذن في الأكل من بيوت هؤلاء إذن في مقدماته المتوقف عليها من الدخول والمكث والمشي ونحوها من باب الملازمة العقلية كما لا يخفى.

هذا ، وحيث إن الترخيص الثابت من الشارع في المقام ليس تخصيصاً واقعياً في دليل المنع عن التصرف في مال الغير بغير إذنه بالضرورة ، بل هو بمناط الإمضاء لما يقتضيه ظاهر الحال من رضا الملاّك بالأكل وما دونه من التصرفات ، فيختص الحكم بما إذا لم يعلم بالكراهة ، فمعه لا يجوز لفقد الرضا بعد النهي الصريح ، وحجية الطريق الظاهري منوطة بعدم انكشاف الخلاف. مضافاً إلى الإجماع بل الضرورة على عدم الجواز حينئذ الكاشف عما ذكرناه‌

__________________

(١) النور ٢٤ : ٦١.

٦٠