موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٣

الشيخ مرتضى البروجردي

ويدفعها : أنه لا شاهد عليها فإنها دعوى غير بينة ولا مبينة وعهدتها على مدعيها بعد كونها على خلاف ظهور الكلام. وعلى تقدير تسليمها في مسألة الوطء لقرائن تقتضيه فلا نسلمها في المقام.

وإما دعوى أنّ الأحكام المتعلقة بغير البالغين تفهم ممّا ثبت في حق البالغين حيث يظهر من مثل قوله عليه‌السلام : « مروا صبيانكم بالصلاة ... » إلخ (١) الاتحاد في تمام الخصوصيات ، وأنّ الطبيعة هي تلك الطبيعة ما لم ينهض دليل على الخلاف. إذن فكل ما يعتبر في صلاة البالغين من الأجزاء والشرائط والموانع التي منها قادحية المحاذاة بين الرجل والمرأة في الموقف معتبر في الصلاة المطلوبة استحباباً من غير البالغين بمقتضى الإطلاق المقامي.

ويدفعها : أنّ هذه لعلها أغرب من سابقتها ، ضرورة أنّ مقتضى الاتحاد المزبور إلحاق صلاة غير البالغ بالبالغ في قادحية المحاذاة ، ومعنى ذلك أنّ صلاة الرجل كما أنها تبطل بمحاذاتها لصلاة المرأة وبالعكس ، فكذلك تبطل صلاة الصبي بمحاذاة صلاة المرأة ، وكذا الصبية بمحاذاة صلاة الرجل ، فانّ هذا هو قضية اتحاد صلاة غير البالغ مع البالغ في الأحكام باعتبار الإطلاق المقامي كما ادعي. وهذا شي‌ء لا نضايق منه.

وأما بطلان صلاة الرجل بمحاذاة صلاة الصبية أو صلاة المرأة بمحاذاة صلاة الصبي ، أو كل من الصبي والصبية بمحاذاة صلاة الآخر ، فلا يكاد يقتضيه الاتحاد المزبور بوجه ، ضرورة أنّ مانعية محاذاة الصبي أو الصبية لصلاة البالغ غير ثابتة ، فإنها عين الدعوى وأوّل الكلام ، فكيف يتعدى إلى غير البالغ ويحكم بثبوتها لصلاة الصبي.

إذن فالأقوى هو الصحة في الصور الثلاث المزبورة واختصاص البطلان بما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥.

١٢١

[١٣٤٥] مسألة ٢٧ : الظاهر عدم الفرق أيضاً بين النافلة والفريضة (١).

[١٣٤٦] مسألة ٢٨ : الحكم المذكور مختص بحال الاختيار ففي الضيق (١) والاضطرار لا مانع ولا كراهة (٢).

______________________________________________________

(١) إذ مضافاً إلى أصالة الاتحاد بينهما في الأحكام ما لم يثبت خلافه كما تكرر في مطاوي هذا الشرح ، يقتضيه الإطلاق في غير واحد من نصوص الباب فلاحظ.

(٢) أما ارتفاع الكراهة ، فلأجل أنّ الخطاب التنزيهي مرجعه إلى الإيعاز إلى وجود منقصة وحزازة في الفرد المنهي عنه تستوجب في العبادات تقليل الثواب ، والإرشاد إلى اختيار فرد آخر أفضل وأكمل ، إما واجد لمزايا أو عارٍ على الأقل عن هذه النقيصة ، فان الطبيعة بالإضافة إلى الخصوصيات التي تكتنف بها الأفراد مختلفة ، ومن ثم تنقسم إلى المكروهة والمستحبة والمباحة حسب اختلافها نقصاً أو كمالاً.

ومن الواضح جدّاً أنّ الإرشاد المزبور متفرّع على قدرة المكلف على اختيار ما يشاء من تلك الأفراد ، أمّا لو انحصرت الطبيعة في الفرد الأوّل مثلاً كما لو كان محبوساً في الحمام بحيث دار أمره بين ترك الصلاة رأساً أو الإتيان بها في هذا المكان ، فلا موقع حينئذ للالتزام بمرجوحيته واتصافه بالكراهة كما لا يخفى.

وأما ارتفاع المانعية ، فلافتراض انحصار الطبيعة في الفرد المقترن بالمانع بحيث دار الأمر بين تركها رأساً أو الإتيان بها مقرونة به ، وحيث إنَّ الصلاة لا تسقط بحال ، لم يكن بدّ من اختيار الثاني كما هو الشأن في كل جزء أو شرط أو مانع اضطر إلى الإخلال به ، فإنه يرفع اليد عنه بمقتضى الدليل الثانوي حسبما عرفت.

__________________

(١) بأن لا يتمكن من إدراك ركعة واحدة واجدة للشرائط.

١٢٢

نعم إذا كان الوقت واسعاً يؤخر أحدهما صلاته (١) والأولى تأخير المرأة صلاتها (٢).

______________________________________________________

ثم لا يخفى أنّ المراد من الضيق في المقام عدم التمكن من إدراك ركعة واحدة جامعة للشرائط في الوقت ، فانّ ذلك هو مقتضى ملاحظة التوسعة المستفادة من حديث من أدرك حسبما تكرّرت الإشارة إليه في مطاوي هذا الشرح ، فلو تمكن من إدراك ركعة كذلك وبنينا على المانعية أخّر صلاته لإدراكها.

(١) وجوباً أو ندباً ، حذراً عن المانعية أو الكراهة حسب المبنيين في المسألة.

(٢) لصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصليان جميعاً؟ قال : لا ، ولكن يصلي الرجل فإذا فرغ صلّت المرأة » (١) المؤيدة برواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل والمرأة يصليان معاً في المحمل ، قال : لا ، ولكن يصلي الرجل وتصلي المرأة بعده » (٢).

ولعل في الصحيحة نوع دلالة على ما استقويناه من عدم الفرق في البطلان بالمحاذاة بين السابقة واللاحقة ، إذ الظاهر أنه عليه‌السلام بصدد بيان وظيفة كل من الرجل والمرأة ، ومن ثم حكم عليه‌السلام بعدم اقتران الصلاتين في شي‌ء من أجزائهما ، فلا يكفي شروع اللاحقة بعد الشروع في السابقة ، بل لا بدّ وأن تكون بعد الفراغ منها كي يحكم حينئذ بصحة الصلاتين ، وإلاّ فلا يصح شي‌ء منهما فتدبر جيداً.

وكيف ما كان ، فظاهرها وجوب التقديم ، ولكنّ الوجوب التعبدي غير محتمل كما لا يخفى ، وكذلك الشرطي ، للقطع بعدم دخله في صحة صلاة الآخر ، ومن ثم لو عصى الرجل فترك صلاته رأساً أو أخّرها إلى آخر‌

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٤ / أبواب مكان المصلي ب ٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ١٣٢ / أبواب مكان المصلي ب ١٠ ح ٢.

١٢٣

[١٣٤٧] مسألة ٢٩ : إذا كان الرجل يصلي وبحذائه أو قدّامه امرأة من غير أن تكون مشغولة بالصلاة ، لا كراهة ولا إشكال ، وكذا العكس ، فالاحتياط أو الكراهة مختص بصورة اشتغالهما بالصلاة (١).

[١٣٤٨] مسألة ٣٠ : الأحوط ترك الفريضة على سطح الكعبة وفي جوفها (١) اختياراً ولا بأس بالنافلة. بل يستحب أن يصلي فيها قبال كل ركن ركعتين. وكذا لا بأس بالفريضة في حال الضرورة. وإذا صلى على سطحها فاللازم أن يكون قباله في جميع حالاته شي‌ء من فضائها ويصلى قائماً (٢) والقول بأنه يصلي مستلقياً متوجهاً إلى البيت المعمور ، أو يصلي مضطجعاً ضعيف (٢).

______________________________________________________

الوقت صحت صلاة المرأة بلا إشكال.

مضافاً إلى التصريح بجواز تقديم المرأة في صحيحة ابن أبي يعفور قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أُصلي والمرأة إلى جنبي ( جانبي ) وهي تصلي ، قال : لا ، إلاّ أن تقدّم هي أو أنت ... » إلخ (١) بعد وضوح إرادة التقدم بحسب الزمان دون المكان ، لمنعها عن المحاذاة في الموقف ، فضلاً عن التقدم ، فلا جرم تحمل الصحيحة المزبورة على الأولوية.

(١) بلا إشكال فيه وفي عكسه ، وقد دلّ على الأول جملة من النصوص المتقدمة التي منها قوله عليه‌السلام في ذيل صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة آنفاً : « ... ولا بأس أن تصلي وهي بحذاك جالسة أو قائمة » (٢).

وعلى الثاني بل عليهما معاً صحيحة ابن مسلم الواردة في المرأة تزامل الرجل في المحمل ، وقد تقدمت قبل ذلك.

(٢) يقع الكلام تارة في الصلاة على سطح الكعبة ، وأُخرى في جوفها‌

__________________

(١) وإن كان الأظهر جواز فعلها في جوفها مع الركوع والسجود.

(٢) والأولى أن يجمع بينها وبين الصلاة مستلقياً.

(١) ، (٢) الوسائل ٥ : ١٢٤ / أبواب مكان المصلي ب ٥ ح ٥.

١٢٤

فهنا مقامان :

أما المقام الأوّل : فالصواب ما صنعه في المتن من الاحتياط المطلق في التجنب عنه. وذلك لا لما رواه الصدوق في حديث المناهي : « قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصلاة على ظهر الكعبة » (١) لضعف طريق الصدوق إلى شعيب بن واقد الواقع في السند. مضافاً إلى جهالة شعيب نفسه. ولا لما رواه الكليني بإسناده عن عبد السلام بن صالح عن الرضا عليه‌السلام « في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة ، قال : إن قام لم يكن له قبلة ، ولكن يستلقي على قفاه ويفتح عينيه إلى السماء ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور » (٢) لضعف سندها أيضاً. مضافاً إلى شذوذها بل ودعوى الإجماع على خلافها.

بل لأجل خروج هذا الموقف عن منصرف النصوص الآمرة بالتوجه نحو القبلة الشريفة الواردة في الكتاب والسنة ، فانّ المنسبق من التوجه المزبور مغايرة موقف المتوجه مع ما يتوجه إليه ، المنوط بكونه خارج البنية المشرّفة لكي يتمكن من التوجه نحوها والالتفات إليها ، فلا يصدق على الواقف على سطح الكعبة أنّه متوجه شطر المسجد الحرام إما جزماً أو لا أقل انصرافاً. ألا ترى أنّ من كان على سطح الغرفة وقيل له توجه إليها ، يرى نفسه عاجزاً عن الامتثال ما لم يخرج عنها ويستقبلها من مكان آخر. إذن يتعين عليه الخروج من الكعبة والصلاة في موضع آخر.

نعم ، لو اضطر إلى الصلاة على سطحها ، كما لو لم يتمكن من النزول وقد ضاق الوقت صلى حينئذ قائماً راكعاً وساجداً ، فإنّ ذلك غاية وسعه ، وإن كان الأولى ضم صلاة أُخرى مستلقياً متّجها إلى البيت المعمور رعاية للنص المزبور.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٠ / أبواب القبلة ب ١٩ ح ١ ، الفقيه ٤ : ٥ / ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٠ / أبواب القبلة ب ١٩ ح ٢ ، الكافي ٣ : ٣٩٢ / ٢١.

١٢٥

وأما المقام الثاني : فبالنظر إلى الإطلاقات يجري ما مرّ ، لمشاركة الجوف مع السطح في انصرافها عنه ، فكما لا يتحقق التوجه إلى القبلة بحسب الصدق العرفي لمن صلى على سطحها حسبما عرفت ، فكذلك لا يتحقق لدى من صلى في جوفها بمناط واحد.

وأما بالنظر إلى الروايات ، فقد دلّ بعضها على المنع ، والبعض الآخر على الجواز ، ومقتضى الجمع العرفي الحمل على الكراهة.

ففي صحيح محمد بن مسلم المروي في الكافي والتهذيب عن أحدهما عليهما‌السلام « قال : لا تصلّ المكتوبة في الكعبة » (١).

وفي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا تصلّ المكتوبة في جوف الكعبة ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدخل الكعبة في حج ولا عمرة ، ولكنه دخلها في الفتح فتح مكة وصلى ركعتين بين العمودين ومعه أُسامة بن زيد » (٢).

وظاهرهما البطلان ، إلاّ أنّ بإزائهما موثق يونس بن يعقوب قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام حضرت الصلاة المكتوبة وأنا في الكعبة أفأُصلي فيها؟ قال : صلّ » (٣).

وقد حملها الشيخ على الضرورة ، والأُوليين على غيرها (٤) ، وبذلك جمع بينهما. ولكنه كما ترى ، إذ مع أنه جمع تبرعي عارٍ عن الشاهد بل من الحمل على الفرد النادر ، مخالف للظاهر جدّاً ، فإنّ المنسبق منها السؤال عن الصلاة جوف الكعبة أوّل الوقت ، وحينما حضرت المكتوبة ، فهي ناظرة إلى البدار حال الاختيار ، فالحمل على صورة الاضطرار كالمحبوس في تمام الوقت بعيد‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٣٦ / أبواب القبلة ب ١٧ ح ١ ، الكافي ٣ : ٣٩١ / ١٨ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ / ١٥٦٤.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٣٧ / أبواب القبلة ب ١٧ ح ٣ ، ٦.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٣٧ / أبواب القبلة ب ١٧ ح ٣ ، ٦.

(٤) الاستبصار ١ : ٢٩٩.

١٢٦

عن سياقها غايته.

فالإنصاف : تعيّن الجمع بينهما بالحمل على الكراهة ، وحينئذ فان ثبتت الملازمة بين الجوف والسطح في الجواز وعدمه ، نظراً إلى عدم الانفكاك بين الفوق والتحت من حيثية الاستقبال كما ادعي ، حكم بجواز الصلاة على السطح أيضاً ، وإلاّ كما هو الأقوى لعدم نهوض برهان عليها ، ولا مانع من التفكيك (١) بعد مساعدة الدليل ، فلا جرم يفترق المقام عما سبق بالمنع هناك والالتزام بالجواز هنا عن كراهة حسبما عرفت.

ثم إنّ في المقام روايات أُخر.

منها : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام « قال : لا تصلح صلاة المكتوبة في جوف الكعبة » (٢) فان قلنا بظهور « لا يصلح » في الكراهة ، كانت شاهدة للجمع الذي اخترناه. وإن قلنا بظهوره في الجامع بينها وبين الحرمة كما لعلّه الأظهر ، لحقت طبعاً بالنصوص المانعة وحملت على الكراهة ، فهي إمّا ظاهرة في الكراهة أو محمولة عليها.

ومنها : روايته الأُخرى عن أحدهما عليهما‌السلام : « تصلح الصلاة المكتوبة في جوف الكعبة » (٣) وهي لو تمّت سنداً لدلت على الجواز ، ولكنها لا تتم ، حيث إنّ المذكور في التهذيب (٤) « أبي جميلة » (٥) بدلاً عن « ابن جبلة » ‌

__________________

(١) لا يخفى أنّ الترخيص في الصلاة في جوف الكعبة لم يكن تخصيصاً في أدلة اعتبار الاستقبال ، بل بياناً لتحققه في هذا المضمار وكفايته بهذا المقدار ، وحيث إنّ الواجب استقبال الفضاء الذي حلّت فيه الكعبة الشريفة دون البنية نفسها ، سواء أكان موقف المصلي مساوياً لها في العلوّ والانخفاض أم لا ، فمقتضاه الجواز على سطحها أيضاً بمناط واحد.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٣٧ / أبواب القبلة ب ١٧ ح ٤.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٣٧ / أبواب القبلة ب ١٧ ح ٥.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٨٣ / ١٥٩٧.

(٥) ولكنه بقرينة الراوي والمروي عنه تحريف قطعاً ، فإنّ الذي يروي عنه الطاطري ويروي هو عن العلاء ليس إلا عبد الله بن جبلة لا أبا جميلة ، فما في الوسائل هو المتعيّن.

١٢٧

كما في الوسائل ، وهو المفضل بن صالح الضعيف جدّاً.

على أنّها رويت في بعض النسخ « لا تصلح » بدلاً عن « تصلح » ، وصاحب الوسائل وإن رجّح النسخة الخالية عن النفي ، نظراً لمطابقتها مع النسخة التي قوبلت بخط الشيخ ، لكن يؤيّد الأُخرى وجوده في روايته الاولى كما عرفت ، ومن البعيد جدّاً رواية المتناقضين مع اتحاد الراوي والمروي عنه.

وكيف ما كان فضعف سندها يغنينا عن البحث عن متنها.

ومنها : رواية محمد بن عبد الله بن مروان قال : « رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة فلم يمكنه الخروج من الكعبة ، قال : ليستلق على قفاه ويصلي إيماء » (١) ولكنها ضعيفة السند ، فإنّ أحمد بن الحسين المذكور في السند مردد بين الضعيف وهو ابن سعيد بن عثمان وبين الثقة (٢) ولكن طريق الشيخ إليه ضعيف ، فلا يمكن التعويل عليها على كل حال.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٣٨ / أبواب القبلة ب ١٧ ح ٧.

(٢) على أن الراوي بنفسه مجهول الحال.

١٢٨

فصل

في مسجد الجبهة من مكان المصلي

يشترط فيه مضافاً إلى طهارته أن يكون من الأرض أو ما أنبتته (١).

______________________________________________________

(١) أما اشتراط الطهارة فسيجي‌ء الكلام حوله في مبحث السجود عند تعرض الماتن له (١) إن شاء الله تعالى.

وأما كونه من الأرض أو ما أنبتته فلا خلاف بين المسلمين في جواز السجود عليهما ، نعم يشترط ذلك في المسجد عند الخاصة ، فلا يجوز السجود على غيرهما إجماعاً ، بل نسب ذلك إلى دين الإمامية خلافاً للعامة (٢). والمستند بعد الإجماع عدة نصوص مستفيضة وفيها المعتبرة :

منها : صحيحة هشام بن الحكم « أنه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعما لا يجوز ، قال : السجود لا يجوز إلا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أُكل أو لبس. فقال له : جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال : لأنّ السجود خضوع لله ( عزَّ وجلَّ ) فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس ، لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عبادة الله ( عزَّ وجلَّ ) فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها » (٣) ونحوها غيرها فلاحظ.

__________________

(١) قبل المسألة [١٦٠٩] التاسع من واجبات السجود.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٢٣٢.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٤٣ / أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ١.

١٢٩

غير المأكول والملبوس (١).

______________________________________________________

(١) فلا يجوز السجود عليهما بلا خلاف ، بل إجماعاً كما ادعاه غير واحد ، ويقتضيه غير واحد من النصوص المعتبرة التي منها صحيحة هشام المتقدمة.

نعم ، ورد في بعض النصوص جواز السجود على القطن والكتان ، وبعد ملاحظة انحصار الملبوس مما أنبتته الأرض فيهما إلاّ نادراً يكاد يلحق بالعدم كالمتخذ من الخوص ونحوه ، فلا محالة تقع المعارضة بين هذه النصوص وبين الروايات المتقدمة المانعة عن السجود على الملبوس ، فلا بد من العلاج. وهذه النصوص ثلاثة :

أحدها : خبر ياسر الخادم قال : « مرّ بي أبو الحسن عليه‌السلام وأنا أُصلّي على الطبري وقد ألقيت عليه شيئاً أسجد عليه ، فقال لي : ما لك لا تسجد عليه ، أليس هو من نبات الأرض » (١).

الثانية : رواية داود الصرمي قال : « سألت أبا الحسن الثالث عليه‌السلام : هل يجوز السجود على القطن والكتّان من غير تقية؟ فقال : جائز » (٢).

الثالثة : رواية الصنعاني قال : « كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عن السجود على القطن والكتّان من غير تقية ولا ضرورة ، فكتب إليَّ : ذلك جائز » (٣).

لكن الرواية الأولى مضافاً إلى ضعف سندها من جهة ياسر لعدم ثبوت وثاقته (٤) قاصرة الدلالة ، لعدم وضوح المراد من الطبري ، وإن قيل إنه ثوب منسوب إلى طبرستان مأخوذ من القطن أو الكتّان (٥) ، لكنه لم يثبت ، ولعله شبه الحصير ونحوه ، والمسلّم أنه شي‌ء منسوب إلى تلك البلدة.

والرواية الأخيرة ضعيفة السند من جهة الصنعاني فإنه مهمل.

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ٥ : ٣٤٨ / أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ٥ ، ٦ ، ٧.

(٤) لكنه من رجال تفسير القمي ، لاحظ المعجم ٢١ : ٩ / ١٣٤٣٨.

(٥) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٦.

١٣٠

والعمدة إنّما هي الرواية الثانية ، فإن الصرمي وإن لم يوثّق في كتب الرجال ، لكنه مذكور في أسانيد كامل الزيارات. فالرواية موثقة (١) وقد جمع بينها وبين الروايات المتقدمة بالحمل على الكراهة.

لكنه كما ترى لا مسرح له في مثل المقام مما ورد النفي والإثبات على موضوع واحد بلسان الجواز وعدمه ، وإنما يتجه فيما إذا كان أحد الدليلين ظاهراً في المنع ، والآخر نصّاً في الجواز أو أظهر منه ، فيرفع اليد عن الظهور بنصوصية الآخر أو أظهريته ، كما إذا ورد النهي عن شي‌ء وورد الترخيص في ارتكابه ، كقوله : لا تفعل كذا مع قوله : لا بأس في الإتيان به.

وأما في المقام فالدلالتان على حد سواء ظهوراً أو صراحة ، وقد دلت هذه الرواية على الجواز صريحاً ، والروايات المتقدمة على عدم الجواز كذلك ، ومثلهما يعدّان متعارضين لدى العرف ، وليس أحدهما أظهر من الآخر ، فالحمل على الكراهة في مثله ليس من الجمع العرفي في شي‌ء كما لا يخفى.

فالمتعيّن هو الرجوع إلى المرجّح السندي بعد امتناع الجمع الدلالي ، وحيث إنّ تلك الروايات مضافاً إلى أشهريتها وأكثريتها مخالفة للعامة وهذه موافقة لهم ، فلتحمل هذه على التقية لا سيّما في مثل الرواية الأخيرة المشتملة على المكاتبة التي هي أقرب إلى التقية ، ولا ينافيه تصريح الراوي بقوله : من غير تقية ، فإنّ فرض عدم التقية من قبل الراوي لا يؤثّر في تشخيص وظيفة الإمام عليه‌السلام من إلقاء الحكم بنحو التقية لو رأى عليه‌السلام تمامية موازينها ، فإنه عليه‌السلام أعرف بوظيفته.

ثم إنه ربما يجمع بين الطائفتين بوجهين آخرين :

أحدهما : ما عن الشيخ قدس‌سره من حمل أخبار الجواز على الضرورة (٢).

__________________

(١) حسب الرأي السابق ، وقد عدل ( دام ظله ) عنه أخيراً.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٠٨.

١٣١

وفيه : ما لا يخفى ، فإنه مضافاً إلى كونه جمعاً تبرعياً لا شاهد عليه ينافيه التقييد بعدم الضرورة في نفس الأخبار كما في خبر الصنعاني المتقدم ، ومن البعيد جدّاً إعراض الامام عليه‌السلام عن بيان حكم عدم الضرورة الذي فرضه السائل والتعرض لحكم الضرورة.

ثانيهما : حمل أخبار الجواز على مادة اللباس وهي القطن والكتّان قبل الغزل والنسج ، وأخبار المنع على ما بعدهما المتصف باللباس فعلاً ، ويجعل الشاهد على هذا الجمع رواية تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام في حديث « قال : وكل شي‌ء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه ولا السجود ، إلاّ ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل أن يصير مغزولاً ، فإذا صار غزلاً فلا تجوز الصلاة عليه إلاّ في حال ضرورة » (١).

وفيه : أنّ الرواية ضعيفة السند بالإرسال ، فلا تصلح شاهدة للجمع. على أنّ أخبار المنع في نفسها آبية عن هذا الحمل ، فإنّ ما أكل أو لبس استثناء عن نبات الأرض ، فلا بد من صدق عنوان النبات عليه رعاية لاتصال الاستثناء الذي هو الظاهر منه ، ولا يتحقق ذلك إلاّ قبل معالجته بالنسج أو الطبخ ، وإلاّ فبعد العلاج لا يصدق عليه نبات الأرض وإنما هو شي‌ء متخذ منه مع مباينته معه فعلاً ، فلا يكون الاستثناء متصلاً ، ومرجع ذلك إلى إرادة القابلية مما أُكل أو لبس ، فكما أنّ الحنطة مثلاً لا يجوز السجود عليها لكونها من نبات الأرض القابل للأكل وإن لم يكن مأكولاً فعلاً ، فكذا القطن فإنه قابل للبس بحسب طبعه وإن لم يكن كذلك فعلاً إلاّ بالعلاج من غزل ونسج.

نعم ، لو ورد في دليلٍ المنعُ عن السجود على الملبوس ، وفي دليل آخر جواز السجود على القطن ، أمكن الجمع المزبور بالحمل على ما قبل النسج وما‌

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٤٦ / أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ١١ ، تحف العقول : ٣٣٨.

١٣٢

نعم يجوز على القرطاس أيضاً (١).

______________________________________________________

بعده ، لكن قرينة الاستثناء في المقام مانعة عن ذلك كما عرفت.

ويؤيد ما ذكرناه : التعبير عن المستثنى بما أُكل أو لبس بصيغة الماضي دون المضارع الدالة على تحققه خارجاً ، فانّ ما أكل قد انعدم ، فلا موضوع له كي يسجد عليه ، فيكشف عن أنّ المراد ما أكله الناس خارجاً أو لبسه بعد إعمال العلاج ، لكونه بحسب طبعه قابلاً لذلك قبال ما يكون فاقداً لهذه القابلية من سائر أنواع نبات الأرض ، فيكون مصداقه نفس القطن أو الكتّان قبل اتصافهما بالملبوسية ، فتتحقق المعارضة لا محالة بينها وبين ما دل على الجواز ، فهذا الجمع أيضاً يتلو سوابقه في الضعف.

فلا مناص من اختيار ما ذكرناه في استقرار المعارضة بين الطائفتين ولزوم الرجوع إلى المرجّح السندي ، وقد عرفت أنّ مقتضاه حمل أخبار الجواز على التقية.

(١) الكلام هنا يقع من جهتين : إحداهما : في أصل جواز السجود على القرطاس ولو في الجملة.

ثانيتهما : في جواز السجود عليه حتى إذا كان متخذاً ممّا لا يصح السجود عليه في جنسه من قطن أو صوف أو حرير ونحوها.

أما الجهة الأُولى : فالظاهر عدم الخلاف في الجواز ، بل عليه الإجماع في كثير من الكلمات ، وتشهد له جملة من النصوص المتضمنة لقول المعصوم عليه‌السلام أو فعله :

منها : صحيحة صفوان الجمال قال : « رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام في المحمل يسجد على القرطاس وأكثر ذلك يومئ إيماءً » (١).

وصحيحة علي بن مهزيار قال : « سأل داود بن فرقد أبا الحسن ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٥٥ / أبواب ما يسجد عليه ب ٧ ح ١.

١٣٣

السلام ) عن القراطيس والكواغذ المكتوبة عليها ، هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب : يجوز » (١).

وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنه كره أن يسجد على قرطاس عليه كتابة » (٢). قوله عليه‌السلام : « يسجد » في الصحيحة الأخيرة يمكن أن يكون بالبناء للمعلوم أو للمجهول ، وعلى أيّ حال فهي لا تعارض ما قبلها ، فإنّ الكراهة في لسان الأخبار وإن كانت أعم من المصطلحة ، لإطلاقها على الحرام أيضاً ، كما ورد أن علياً عليه‌السلام كان يكره بيع المثل بالمثل مع الزيادة أي الربا ـ (٣) لكن المراد بها في المقام هي الكراهة المصطلحة بقرينة الصحيحة السابقة المصرّحة بالجواز المتحد موردها مع هذه الصحيحة ، فغاية ما هناك أن يلتزم بالكراهة في خصوص القرطاس الذي عليه كتابة.

وأما الجهة الثانية : فقد تعرّض لها الماتن قدس‌سره في المسألة الثانية والعشرين الآتية ، لكنّا نقدّمها هنا للمناسبة.

فنقول الأقوال في المسألة ثلاثة :

جواز السجود على القرطاس مطلقاً.

وتقييده بالمتخذ من النبات ، فلا يجوز على ما اتخذ من الصوف أو الحرير.

وتقييد النبات بما كان من جنس ما يصح السجود عليه كالحشيش ونحوه ، فلا يجوز على ما كانت مادّته القطن أو الكتان ، إلاّ إذا قلنا بجواز السجود عليهما اختياراً.

ومنشأ الخلاف الاختلاف في مدلول الأخبار وهي النصوص المتقدمة من حيث السعة والضيق والدلالة على الإطلاق وعدمها.

أما صحيحة صفوان فهي قضية في واقعة وحكاية فعل مجمل العنوان ، فلا‌

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٥٥ / أبواب ما يسجد عليه ب ٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٥٦ / أبواب ما يسجد عليه ب ٧ ح ٣.

(٣) لم نعثر عليه.

١٣٤

دلالة فيها على الإطلاق بلا ارتياب.

وأما صحيحة علي بن مهزيار فقد رواها في الوسائل بعدّة طرق كلها معتبرة والجميع تنتهي إلى داود بن فرقد عن ابي الحسن موسى عليه‌السلام فإنّ أبا يزيد كنية فرقد ، فما نقله عن الشيخ (١) بإسناده عن داود بن يزيد سهو إما من قلم الشيخ أو النسّاخ ، والصواب أبو يزيد كما في طريق الصدوق (٢) كما أنّ كلمة « الثالث » المذكورة في طريق الصدوق عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام غلط ، لأنّ داود بن فرقد من أصحاب الكاظم عليه‌السلام وروى عن الصادق عليه‌السلام أيضاً ، فكيف يمكن روايته عن أبي الحسن الثالث وهو الهادي عليه‌السلام فذكره مستدرك ، والصواب ( أبي الحسن ) المراد به الكاظم عليه‌السلام كما نبّه عليه المعلّق.

هذا من حيث السند ، وأما فقه الحديث فالكواغذ المكتوبة إما عطف بيان على القراطيس ، أو من عطف الخاص على العام ، وعلى أيّ حال فهي تدل على الجواز في القرطاس الذي لم يكتب عليه. أما على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فبالتقرير تارة وبالفحوى اخرى كما لا يخفى ، وكيف كان فمقتضى الإطلاق الناشئ من ترك الاستفصال عدم الفرق في القرطاس بين ما اتخدت مادته من نبات الأرض أو من غيره كالصوف والحرير فضلاً عن كون النبات مما يصح السجود عليه وعدمه.

وأما صحيحة جميل فبعد حمل الكراهة فيها على المصطلحة كما سبق ، فهي تدل على الجواز في القرطاس الذي ليست عليه كتابة بالفحوى ، ومقتضى الإطلاق شمول الحكم للقرطاس بأقسامه ، سواء أكان ( يسجد ) بالبناء للمعلوم أو للمجهول ، وإن كان الأمر على الثاني أظهر.

هذا وربما يناقش في دلالة النصوص على الإطلاق.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٣٥ / ٩٢٩.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٦ / ٨٣٠.

١٣٥

أما الصحيحة الأُولى ، فلما مرّ وهو في محله كما عرفت. وأما الصحيحتان الأخيرتان ، فلأنهما لم تردا في مقام بيان تشريع السجود على القرطاس حتى ينعقد الإطلاق ، بل النظر فيهما مقصور على عدم مانعية الكتابة عن السجود على ما يصح السجود عليه من أنواع القرطاس ، فليس الامام عليه‌السلام إلا بصدد الذب عما تخيّله السائل من مانعية الكتابة ، وأنّه لا فرق بين المكتوب وغير المكتوب فيما يصح السجود عليه ، وأما أنّ مصداق ما يصح أيّ شي‌ء فلم يكن عليه‌السلام في مقام بيانه كي يتمسك بإطلاق كلامه.

وعليه فلا بد من الاقتصار على المقدار المتيقن ، رعاية لما دلّ على المنع عن السجود على غير الأرض ونبتها ، وحينئذ فان منعنا عن السجود على القطن والكتان اختياراً اختص الحكم بالمتخذ من نبات غيرهما كالحشيش ونحوه ، وإلا عمّهما أيضاً. وعلى أيّ حال فلا يشمل الحكم ما اتخذ من غير النبات كالصوف والحرير فضلاً عن الشمول لمطلق النبت وإن لم يصح السجود عليه.

وفيه أوّلاً : أنه لا ينبغي الريب في خروج القرطاس عن حقيقة ما اتخذ منه كائناً ما كان واستحالته إلى حقيقة أُخرى ، فهو بالفعل مباين مع مادته في نظر العرف وموجود آخر في قبالها لا يصدق عليه الأرض ولا نباتها ، وإن كانت المادة متخذة منها ، فلا وجه لمراعاة كونها مما يصح السجود عليه بعد تغيّر الصورة النوعية وتبدلها إلى حقيقة أُخرى ، ألا ترى أنّه لو صنع من قرطاس متخذ من الحرير ثوب فإنه يجوز لبسه والصلاة فيه ، لعدم كونه عرفاً من مصاديق الحرير.

على أن حمل هذه النصوص الواردة في القرطاس على المتخذ مما يصح السجود عليه ، حمل على الفرد النادر بعد ملاحظة المنع عن السجود على القطن والكتّان كما هو الأقوى على ما عرفت ، فانّ الغالب صنعه منهما دون مثل الحشيش ونحوه الذي هو فرد نادر.

١٣٦

مضافاً إلى لزوم اللغوية في هذه الأخبار ، لتعذر الاطلاع غالباً على مادة القرطاس ، وأنّها مما يصح السجود عليه أم لا ، إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة ومهرة الفن غير المتيسر لأغلب الناس ، مع أنّ من أجزائه النورة التي لا يجوز السجود عليها بعد الطبخ عند المشهور ، وعليه فلا مناص من الإغضاء عن المادة وملاحظة حاله الفعلي ، وحيث إنّه بالفعل لا يعدّ من الأرض ولا من نبتها كما عرفت ، وقد دلت الأخبار على جواز السجود عليه كما مرّ ، فلا مناص من الالتزام بالتخصيص فيما دل على المنع عن السجود على غير الأرض ونباتها ، والالتزام باستثناء القرطاس عن الأدلة المانعة ، لكونه أخص منها مطلقاً ، وحيث لا دليل على تقييده بنوع خاص فيتمسك بالإطلاق في دليل التخصيص.

وثانياً : مع الغض عما ذكر وتسليم عدم الاستحالة نقول : إنّ النسبة بين دليل الجواز وما دل على المنع عن السجود على غير الأرض ونباتها عموم (١) من وجه ، لافتراق الأوّل في القرطاس المتخذ من مثل الحشيش ونحوه ، وافتراق الثاني في غير القرطاس مما لم يكن من الأرض ونبتها ، ومادة الاجتماع هو القرطاس المتخذ من غير الأرض ونبتها كالمتخذ من الصوف أو الحرير ، فيتعارضان فيها ، لكن الترجيح مع الأوّل ، أعني دليل جواز السجود على القرطاس ، إذ لا يلزم منه محذور عدا الالتزام بالتخصيص في الأدلة المانعة عن السجود على غير الأرض ونباتها ، بخلاف العكس ، إذ يلزم من تقديم الثاني وهي الأدلة المانعة المحذور وهو إلغاء عنوان القرطاسية ، وعدم دخله بخصوصه في ثبوت الحكم ، إذ العبرة حينئذ في الجواز بكون ما يسجد عليه من الأرض أو نباتها ، سواء أكان قرطاساً أم غيره ، مع أنّ ظاهر النصوص أن للقرطاس‌

__________________

(١) هذا مبني على أن يكون لدليل الجواز عموم أو إطلاق ، والمفروض أنّ المناقش ينكر ذلك ويرى أنه عليه‌السلام لم يكن في مقام البيان لينعقد الإطلاق فلاحظ.

١٣٧

بعنوانه موضوعية للحكم ، ولهذا الوصف العنواني مدخل في الجواز ، وقد تقرّر في محلّه أنّ العامين من وجه إذا لزم من تقديم أحدهما على الآخر محذور دون العكس قدّم الثاني (١).

ونظيره تقديم ما دلّ على أن كل طائر يطير بجناحيه فلا بأس ببوله وخرئه (٢) على قوله : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (٣) ، فإن النسبة بينهما وإن كانت عموماً من وجه ، إلا أنّ الترجيح مع الأوّل ، إذ لو قدّم الثاني لزم إلغاء عنوان الطيران المخالف لظهور دليل اعتباره كما لا يخفى.

مع أنّه يلزم من تقديم الأدلة المانعة محذور آخر وهو حمل دليل الجواز على الفرد النادر ، بل لغويته من جهة تعذّر الاطلاع غالباً على مادة القرطاس وما اتخذ منه كما أشرنا إليهما آنفاً فلاحظ.

وثالثاً : مع الغض عن جميع ذلك وتسليم استقرار المعارضة من دون مرجّح ، فالمرجع بعد التساقط أصالة البراءة عن تقييد المسجد بعدم كونه قرطاساً متخذاً مما لا يصح السجود عليه ، فانّ المتيقن من التقييد عدم جواز السجود على غير الأرض ونبتها في غير القرطاس ، وأمّا فيه فشك في أصل التكليف يدفع بالبراءة كما هو الشأن في كل ما دار الأمر فيه بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولا مجال للرجوع إلى عموم عدم جواز السجود على غير الأرض ونباتها ، لابتلائه بالمعارض في خصوص القرطاس كما هو ظاهر.

فتحصل : أنّ الأقوى جواز السجود على القرطاس مطلقاً ، وإن كان الأحوط عدم السجود على المتخذ من غير النبات ، وأحوط منه اعتبار كون النبات مما يصح السجود عليه.

__________________

(١) مصباح الأصول ٣ : ٢٦٥.

(٢) ورد مضمونه في الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

١٣٨

فلا يصح على ما خرج عن اسم الأرض كالمعادن مثل الذهب والفضة والعقيق والفيروزج (١) والقير والزفت ونحوها (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في جهات :

الاولى : في تأسيس الأصل وأنّه إذا شك في جواز السجود على شي‌ء فهل أنّ مقتضى الأصل العملي هو الجواز إلا أن يثبت كونه مما لا يصح السجود عليه ، أو أنّ مقتضى الأصل عدم الجواز إلا أن يثبت خلافه؟

فنقول : قد تفرض الشبهة مفهومية من جهة إجمال اللفظ وتردده بين الأقل والأكثر ، لعدم العلم بحدود المعنى المراد من اللفظ من حيث السعة والضيق مع العلم بحال الموجود الخارجي وعدم الشك فيه ، نظير الترديد في مفهوم الماء وأنّه هل هو معنى عام ينطبق على ماء الزاج والكبريت ، أو أنّ خصوصية أُخذت فيه أوجبت ضيق المعنى بحيث لا تنطبق عليهما.

وأخرى : تفرض الشبهة مصداقية ، للجهل بما هو الموجود في الخارج مع العلم بحدود المعنى وعدم الترديد في المراد من اللفظ.

أما القسم الأوّل : كما لو شككنا في مفهوم الأرض الموضوع لوجوب السجود عليها ، وأنّ ما وُضع له اللفظ هل هو معنى عام بحيث يصدق على المعدن كالذهب والفضة ونحوهما ، أو أنّ المعنى ضيّق لاعتبار خصوصية فيه تمنع عن الصدق عليه.

والظاهر أنّ المرجع حينئذ أصالة البراءة عن اعتبار تلك الخصوصية ، لكون الشك حينئذ عائداً إلى مقام الجعل ، إذ نشك في حدوث التكليف زائداً على المقدار المتيقن ، فان المتيقن منه وجوب السجود على الجامع بين الفرد المشكوك كالمعدن ومتيقن الأرضية كالتراب ، وأما تقييد الواجب بخصوصية اخرى تمنع عن صدقه على المعدن فهو من أصله مشكوك ،

__________________

(١) على الأحوط ، والأظهر جواز السجود عليهما وعلى ما شاكلهما من الأحجار الكريمة.

١٣٩

للشك في دخله في مفهوم اللفظ ومسمّاه فيدفع التقييد بأصالة البراءة كما هو الشأن في كل واجب مردد بين الأقل والأكثر. وإن شئت فقل : إنّ الأفراد المتيقن عدم كونها من الأرض نقطع بعدم صحة السجود عليها ، وأنّ الواجب قد اعتبر مقيداً بعدمها ، وأمّا الفرد المشكوك فلا علم بالتقييد بعدمه ، والأصل البراءة.

وبالجملة : ما أُريد من اللفظ دائر بين الإطلاق والتقييد والمعنى الوسيع والضيّق ، لتردده بين ما لا ينطبق على المعدن مثلاً وبين ما يشمله ، ولا علم لنا إلا بالأعم ، أعني الجامع الصالح انطباقه عليهما ، لكونه الأقل المتيقن إرادته ، فإنّه الأخف مئونة ، وأمّا الزائد عليه ، أعني لحاظ الخصوصية وتقيد المأمور به بما يمتنع صدقه على الفرد المشكوك وهو المعدن ، فحيث إنه يحتاج إلى عناية خاصة ومئونة زائدة ، فنشك في تقيد الجعل به زائداً على المقدار المتقين ، والأصل عدمه. وهذا هو الشأن في كل مفهوم مجمل مردد بين الأقل والأكثر ، كمفهومي الفسق والغناء ونحوهما.

فلا يصغي إلى ما يقال : من أنّا علمنا بوجوب السجود على الأرض ، ولا يحصل العلم بالفراغ إلا بالسجود على متيقن الأرضية ، فلا يجزئ على الفرد المشكوك ، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية عملاً بقاعدة الاشتغال.

إذ فيه : أنّ المعلوم وجوبه ليس نفس المفهوم كي يشك في تحققه في الخارج ، وإنّما المعلوم وجوب السجود على ما أُريد من لفظ الأرض ، وحيث إنّ المراد منه مردد بين الأقل والأكثر ، فلا علم بالوجوب إلا بالنسبة إلى الجامع كما عرفت ، وأمّا تقيّده بما يمنع عن انطباقه على المعدن مثلاً ، فهو تكليف زائد يشك في حدوثه من أوّل الأمر ، فالشك راجع إلى مقام الجعل ، والمرجع فيه البراءة ، لا إلى مقام الامتثال كي يرجع إلى الاشتغال.

وأما في القسم الثاني : أعني الشبهة المصداقية ، كما لو شك أنّ الموجود‌

١٤٠